إسناد صفات النقص إلى الله عز وجل
وجوه إبطال الشبهة:
1) ثبت لله – عز وجل – جميع صفات الكمال، فهو غني عن خلقه، وهم فقراء إليه، لا تزيد عبادتهم في ملكه شيئا، ولا تنقص معصيتهم منه شيئا.
2) تصور صفات الأعراض البشرية لله تعالى تصور وثني ساذج للإله.
3) التطاول على الله – عز وجل – برمية بالبخل – عز وجل – قول ساذج لا يصدر عن عقل سليم.
التفصيل:
أولا. ثبوت الكمال لله – عز وجل – وافتقار المخلوقات إليه:
إن أكمل عقيدة عرفها دين، وأكمل عقيدة عرفها عقل هي العقيدة الإسلامية في الله تعالى، فهو – عز وجل – منزه عن مشابهة شىء من خلقه في ذاته وفي صفاته، فلا هو يشبه خلقه فيما يتصف به، ولا خلقه يشبهونه، والخلق كلهم محتاجون إليه، وهو غني عنهم جميعا.
وهذا معنى قوله تعالى: )الصمد( أي: الكامل في صفاته، الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فكلمة )الصمد( كلمة جامعة لجميع صفات الكمال لله، وجامعة لجميع صفات النقص في المخلوقات، وأنها محتاجة إلى الله عز وجل [1]، كما قال سبحانه: )يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (15)( (فاطر).
والله – عز وجل – ما أمر المكلفين بعبادته لحاجته إليهم، ولكنه أمرهم بعبادته لحاجتهم إليه، ولعلمه تعالى أنهم لو تركوا عبادته وطاعته سيضلون الطريق، وسيعبدون من دونه ما لا ينفع ولا يضر، وستتشعب بهم طرق الضلالات، وهذا ما يشهد به الواقع ويؤيده التاريخ.
فالذين يتركون عبادة الله وطاعته ويعبدون إلها غيره أو معه يعيشون في ظلمات الحيرة، ويتخبطون في دياجير[2] التيه والضلال، وقد نفى الله حاجته إلى الخلق فقال: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)( (الذاريات).
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا» الحديث[3].
فالله تبارك وتعالى لا تنفعه طاعتنا، ولا تضره معصيتنا، قال الله تعالى: )إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم( (الزمر: 7). والله تبارك وتعالى لا يستفيد من عذابنا: )ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم( (النساء: 147).
فإذا كان الله – عز وجل – غني عن عباده، لا تنفعه عبادتهم وطاعتهم ولا تضره معصيتهم، فكيف نصف الله – عز وجل – بما وصفه به هؤلاء من صفات النقص؟
إن بالإنسان حاجة إلى الاعتقاد، كجوع المعدة إلى الطعام، فإما أن يسد حاجته في اعتقاد صحيح عن طريق الإيمان بالله الواحد الذي يستحق وحده العبادة؛ لتفرده بالخلق والتدبير، وهو سبحانه بعبادة العباد له يعطيهم ولا يأخذ منهم، ويحررهم من عبادة غيره ممن سخره الله تعالى له، وهو عبد مربوب مثله، والإنسان بطبيعته إن لم يلجأ إلى الله – عز وجل – بالتوحيد والعبادة، فإنه يلجأ إلى سد حاجته من الاعتقاد في معبودات فاسدة ليست أهلا لأن تعبد، قال تعالى: )ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم( (يونس: 18).
إن سجدة واحدة لله تعالى وحده تحرر صاحبها من آلاف السجدات لغيره، فالله تعالى وحده الذي يعبد؛ لأنه وحده – دون سواه – المستحق للعبادة، وطاعة غيره فيها نفع من المطيع للمطاع، وطاعته سبحانه وحده فيها النفع – كل النفع – للمطيع، فهي تنفعه في الدنيا والآخرة.
ثانيا. تصور صفات الأعراض البشرية لله تعالى ما هو إلا تصور وثني ساذج للإله:
هذه النظرة لله تعالى تعتمد فيها الثقافة الغربية على روايات الكتاب المقدس، ففي أسفار العهد القديم تتكرر هذه الأوصاف للإله، بل إن هذه الأسفار – كما ينقل – صفات المخلوقين بكل ما فيها من نقائص إلى الإله؛ فإنها في المقابل لا تتورع عن أن تجعل من بعض الخلق آلهة، ولا مانع في هذه الأسفار من أن يكون الأنبياء صناعا لأصنام.
فهذا الخلط بين الإله وصفات الألوهية بكل كمالها، وبين الخلق وصفات المخلوقين بما فيها من نقائص انعكس على تصور المؤمنين بهذه الأسفار للإله الحق.
يضاف إلى ذلك عامل آخر، وهو إرث الحضارة الغربية من الثقافة اليونانية التي تمتلئ بالوثنية والتعدد في الآلهة، وأنهم أشبه ما يكونون بحكام المقاطعات الذين يتصارعون على التوسع، ويتنافسون على ابتلاع كل ما في يد الآخر.
وإذن فقد ورثت الثقافة الغربية في جانب الألوهية انحرافين كبيرين، أحدهما – يعود إلى التصورات الإغريقية الشعبية عن الآلهة، أو هذه التصورات ذاتها بعد أن صقلت بعبارات فلسفية، والثاني – تراث العهدين القديم والجديد، والإله فيهما يتعب ويستريح، ولا يستأني في أوامره فتبدو له البدوات فيندم، ثم يبكي حتى ترمد عيناه وتعوده الملائكة، وقد يصادفه بعض خلقه فيصرعه.
ثم جاءت النصرانية فتقربت – بعد اضطهاد طويل – إلى الوثنيين في رومة بضرب من المساهلات والمسامحة في جانب العقيدة، حتى لقد قيل: إن رومة لم تتنصر وإنما النصرانية ترومت، أي هي التي ورثت عقائد رومة.
وهذا التراث المضطرب الذي ورثه الغربيون يمثل دافعا قويا لمذاهب الإلحاد والتنكر للقيم الدينية، وهو – كذلك – دافع قوي للمسلمين المعاصرين لأن يتقدموا بدينهم وتصورهم الاعتقادي بديلا عن ذلك التراث الغربي، وهاديا للحضارة الحديثة.
ثالثا. إذا كان الله – تعالى عما يقولون علوا كبيرا – بخيلا، فما هذا العيش الطيب الذي نحن فيه منذ خلق الله السماوات والأرض؟
ادعاء أن الله – عز وجل – بخيل قول قديم قالته اليهود للنبي – صلى الله عليه وسلم – ويظهر أنهم قالوه ساخرين من دعوة الإسلام على الصدقة، وإلا فلا يتصور أن يقال هذا على سبيل الجد، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: )بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء( (المائدة: 64)، والبسط ضده القبض، والبسط دلالة على الكرم، والله سبحانه هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من نعمة بخلقه إلا منه وحده: )وما بكم من نعمة فمن الله( (النحل: ٥٣) الذي أوجد كل شىء مما يحتاج إليه خلقه في جميع الأحوال كما قال تعالى: )وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها( (إبراهيم: 34).
وإن تضييق الله – عز وجل – على بعض عباده ليس أمارة على مقته وبغضه، وإنما هو ابتلاء وامتحان منه – عز وجل – لينظر عباده وكيف يصنعون، والنظر السديد على مثل هذا التضييق إنما يكون بملاحظة الفاعل الحكيم، وإذن لأدراك القلب حكمة ما هو فيه من رقة حال وطمأنينة.
وهذا الاتهام لرب العالمين والتطاول عليه تعالى كما يظهر جرأة صاحبه على خالقه، يظهر كذلك ضيق أفقه، وقلة عقله وتفكيره. فهل ضاق كرم الله تعالى بأحد من خلقه إنسان، أو حيوان، أو نبات؟ فالشمس ترسل أشعتها للكون كله والهواء يستنشقه جميع خلقه، والماء في متناول الجميع لا تمطر السماء للأغنياء وتترك الفقراء، وقل ما شئت من مظاهر نعم الله على الخلق جميعا، فإنك لن تصل إلى نهاية.
فما أكثر عطاء الله لخلقه، وما أسبغ نعمه عليهم، وما أضيق هذا التفكير الساذج.
الخلاصة:
- لله – عز وجل – كل صفات الكمال، ولا يوصف الله عز وجل بصفة نقـص واحــدة: )ليــس كمثلــه شيء وهـو السميـع البصيـر (11)( (الشورى)، أمر عباده بطاعته وتوحيده، وهو غني عنهم، وسهل ومهد لهم الأرض، وأمرهم بالسعي فيها، وأسبغ عليهم نعما ظاهرة وباطنه، وترك لهم الخيار بين الشكر والكفر، والضلالة والهدى، ودعاهم إلى الهدى والشكر حماية لأنفسهم ونفعا لها، ونجاة لها من المهالك، فإنه لا تنفعه طاعة عباده، ولا تضره معصيتهم.
- ويده ملأى سحاء الليل والنهار، أرأيت ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، هل نقص ذلك مما عنده، فهو سبحانه لم يزل غنيا عن خلقه، وخلقه دائما فقراء إليه: )يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (15)( (فاطر).
(*) حتى الملائكة تسأل، رحلة إلى الإسلام في أمريكا، جيفر لانغ، ترجمة: منذر العبسي، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2001م. العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع، د. أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغيبي، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1998م.
[1]. شرح العقيدة الواسطية، محمد صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الرياض، ط3، 1416هـ، ج1، ص161، 162.
[2]. الدياجير: جمع ديجور، وهو شدة الظلمة.
[3]. أخرجـه مسلـم في صحيحـه، كتـاب البـر والصلـة والآداب، بــاب تحريـم الظلــم (6737).