إنكار أحاديث نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد تعددت آيات القرآن الكريم التي تثبت نزول عيسى ابن مريم – عليه السلام – آخر الزمان، وأن الله رفعه إليه حيا، وأما الأحاديث التي جاءت بذلك فهي صحيحة متواترة، قال بتواترها أعلام الحديث؛ كابن كثير، والمباركفوري، والشوكاني، والغماري، والكشميري، وأحمد شاكر، والألباني، وقد جاوزت الأحاديث في ذلك سبعين حديثا، فوجب تصديقها.
2) لا تعارض مطلقا بين قوله تعالى: )إني متوفيك ورافعك إلي( وبين القول بنزول عيسى عليه السلام؛ لأن المعنى: إن رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، وقوله تعالى: )فلما توفيتني(؛ أي: لـما رفعتني إلى السماء، وأما قوله تعالى: )وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد(؛ أي: قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشر، وعيسى – عليه السلام – مهما طال عمره فسوف يموت.
3) لا تعارض ألبتة بين أحاديث نزول عيسى – عليه السلام – وكون النبي – صلى الله عليه وسلم – خاتم النبيين؛ فقد دلت هذه الأحاديث صراحة على نزوله حكما مقسطا يحكم بشريعة الإسلام، وليس نبيا.
التفصيل:
أولا. الأحاديث الواردة في نزول عيسى – عليه السلام – متواترة، وقد أشار القرآن إلى نزوله في أكثر من موضع:
لقد جاء في نزول عيسى – عليه السلام – أكثر من خمسين حديثا مرفوعا، أكثرها من الصحاح. منها ما ورد في الصحيحين باتفاق، ومنها ما ورد في صحيح البخاري، ومنها ما ورد في صحيح مسلم، ومنها ما أخرجه أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم وغيرها.
فمن الأحاديث التي أخرجها الشيخان في صحيحيهما: ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد»[1].
قال النووي في شرحه: قوله صلى الله عليه وسلم: «فيكم» أي: في هذه الأمة، وإن كان خطابا لبعضها ممن لا يدرك نزوله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «حكما» أي: ينزل حاكما بهذه الشريعة، لا ينزل نبيا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ويضع الجزية» فالصواب في معناه أنه لا يقبلها، ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل… وعلى هذا قد يقال: هذا خلاف حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي، إذا بذل الجزية وجب قبولها، ولم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام. وجوابه: أن هذا الحكم ليس بمستمر إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل عيسى – عليه السلام – وقد أخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الأحاديث الصحيحة بنسخه، وليس – عليه السلام – هو الناسخ، بل نبينا – صلى الله عليه وسلم – هو المبين للنسخ، فإن عيسى يحكم بشرعنا. فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم” [2].
وروى البخاري أن أبا هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»[3].
وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم – عليه السلام – فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة»[4].
وأخرج مسلم – أيضا – في حديث طويل في الفتن عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «أراني ليلة عند الكعبة، فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال، له لمة[5] كأحسن ما أنت راء من اللمم. قد رجلها[6] فهي تقطر ماء، متكئا على رجلين – أو على عواتق رجلين – يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟ فقيل: هذا المسيح ابن مريم…»[7] الحديث.
وليس هذا فحسب، بل لقد حدد – صلى الله عليه وسلم – في أحاديثه المكان الذي سينزل فيه عيسى – عليه السلام – ويقتل الدجال.
من ذلك ما رواه النواس بن سمعان أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ذكر الدجال فقال: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم… إلى أن قال: ثم ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيدركه عند باب لد فيقتله»[8].
هذه بعض الأحاديث الصحيحة في نزول عيسى – عليه السلام – آخر الزمان، وهناك غيرها العديد من الأحاديث الصحيحة أيضا.
يقول الإمام الشوكاني: وقد ورد في نزول عيسى – عليه السلام – من الأحاديث تسعة وعشرون حديثا، ثم سردها، وقال بعد ذلك: وجميع ما سقناه بالغ حد المتواتر كما لا يخفي على من له فضل اطلاع[9].
“قال القاضي – رحمه الله تعالى: نزول عيسىـ عليه السلام – وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته”[10].
وقال العظيم أبادي: “تواترت الأخبار عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في نزول عيسى ابن مريم – عليه السلام – من السماء بجسده العنصري إلى الأرض عند قرب الساعة، وهذا هو مذهب أهل السنة”[11].
وذكر ابن حجر أن أبا الحسن الخسعي قال: “تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة وأن عيسى يصلي خلفه”[12].
وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – معلقا على أحاديث نزول عيسى عليه السلام: “فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من رواية أبي هريرة وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص، وأبي أمامة، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن حارثة، وأبي شريحة، وحذيفة بن أسيد – رضي الله عنهم – وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه، من أنه بالشام، بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح”[13]
وقال الغماري: “وقد ثبت القول بنزول عيسىـ عليه السلام – عن غير واحد من الصحابة والتابعين وأتباعهم، والأئمة والعلماء من سائر المذاهب على مر الزمان إلى وقتنا هذا، وقد تواتر هذا تواترا لا شك فيه بحيث لا يصح أن ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ كالقاديانية ومن نحا نحوهم؛ لأنه نقل بطريق جمع عن جمع حتى استقر في كتب السنة التي وصلت إلينا تواترا بتلقي جيل عن جيل”.
وممن جمع الأحاديث في نزول عيسى – عليه السلام – الشيخ محمد أنور شاه الكشميري في كتابه”التصريح بما تواتر في نزول المسيح “فذكر أكثر من سبعين حديثا[14].
وقال الشيح أحمد شاكر: “نزول عيسى – عليه السلام – في آخر الزمان مما لم يختلف فيه المسلمون؛ لورود الأخبار المتواترة الصحاح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك… وهذا معلوم من الدين بالضرورة لا يؤمن من أنكره”[15].
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: اعلم أن أحاديث الدجال، ونزول عيسى – عليه السلام – متواترة، يجب الإيمان بها، ولا تغتر بمن يدعي فيها أنها أحاديث آحاد فإنهم جهال بهذا العلم، وليس فيهم من تتبع طرقها، ولو فعل لوجدها متواترة، كما شهد بذلك أئمة هذا العلم؛ كالحافظ ابن حجر وغيره، ومن المؤسف حقا أن يتجرأ البعض على الكلام فيما ليس من اختصاصهم لا سيما والأمر دين وعقيدة[16].
فدل ذلك على أن الأحاديث التي أخبرت بنزول عيسى – عليه السلام – آخر الزمان أحاديث متواترة وليست آحاد – مع العلم أن أحاديث الآحاد إن صحت وجب تصديقها؛ لذلك فهي تفيد اليقين لا الظن، وبهذا فلا حجة لهم في ردها؛ إذ لا يخفى على كل منصف أن نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض حكما مقسطا بذاته الشريفة ثابت بالأحاديث الصحيحة.
هذا عن نزول عيسى ابن مريم آخر الزمان في الأحاديث، أما الزعم أن القرآن لم يذكر هذا الأمر فهو زعم باطل، فقد دلت الآيات القرآنية دلالة صريحة على نزول عيسى – عليه السلام – ومن هذه الآيات قوله تعالى: )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159)( (النساء).
وقد نقل ابن كثير عن الطبري ترجيحه لأولى الأقوال في تفسير هذه الآية: “وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى – عليه السلام – إلا آمن به قبل موت عيسى – عليه السلام – ثم علق ابن كثير قائلا: ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه”[17].
والآية بذلك صريحة في أن عيسى – عليه السلام – حي وقت نزول آية النساء هذه، فهل يعقل أن يموت بعدها، ولم يتحقق ما أخبرت به الآية بعد؟!
وقوله تعالى عن عيسى عليه السلام: )ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46)( (آل عمران).
قال الطبري: “قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهل”[18].
“وقال أبو العباس: كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال: )إني عبد الله( (مريم: ٣) (وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء، أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل، فيقول لهم: “إني عبد الله “كما قال في المهد، فهاتان آيتان وحجتان”[19].
وقال تعالى بعد ذكره عيسى عليه السلام: )وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61)( (الزخرف).
ذكر ابن كثير في تفسيره: أن المراد بذلك نزول عيسى – عليه السلام – قبل يوم القيامة.
ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى: “وإنه لعلم للساعة” بفتح العين واللام؛ أي: أمارة ودليل على وقوع الساعة.
قال مجاهد: )وإنه لعلم للساعة( (الزخرف: ٦١) أي: آية للساعة خروج عيسى ابن مريم – عليه السلام – قبل يوم القيامة.
وهكذا روي عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي العالية، وأبي مالك وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك وغيرهم” [20].
“فهذه الآيات الكريمة والنصوص الصحيحة الثابتة المتواترة عن رسول – صلى الله عليه وسلم – تدل دلالة قاطعة على نزول عيسى ابن مريمـ صلى الله عليه وسلم – من السماء إلى الأرض عند قرب الساعة، ولا ينكر نزوله إلا ضال مضل، معاند للشرع، مخالف لكتاب الله وسنة رسوله، واتفاق أهل السنة”[21].
ثانيا. لا تعارض بين نصوص القرآن والقول بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام:
الذي عليه جل المحققين من أهل التفسير أن عيسى – عليه السلام – لم يمت، بل رفعه الله إليه حيا، وهذا لا يعارض قوله تعالى: )إني متوفيك ورافعك إلي(.
قال القرطبي في تفسيرها: “والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس، وقاله الضحاك”[22].
ونقل القرطبي – أيضا – عن جماعة من أهل المعاني – منهم الضحاك والفراء – أن القول في الآية “على التقديم والتأخير؛ لأن الواو لا توجب الرتبة – أي الترتيب – والمعنى: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيـك بعـد أن تنـزل مـن السمـاء؛ كقولــه: )ولولا كلمة سبقـت مـن ربـك لكـان لزامـا وأجـل مسمـى (129)( (طه)، والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما[23].
وقال صالح بن فوزان: فهذا دليل على أنه لم يعن بذلك الموت.
إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين، فإن الله يقبض أرواحهم، ويعرج بها إلى السماء، فعلم أن ليس في ذلك خاصية، وكذلك قوله: )ومطهرك من الذين كفروا( (آل عمران: 55) ولو كان قد فارقت روحه جسده؛ لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء أو غيره من الأنبياء.
وقد قال تعالى في آية أخرى: )وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه( (النساء).
فقوله هنا: )بل رفعه الله إليه( يبين أنه رفع ببدنه وروحه، كما ثبت في الصحيح أنه ينزل ببدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال: وما قتلوه وما صلبوه بل مات.
ولذا قال بعض العلماء: )إني متوفيك( (آل عمران: ٥٥) أي: قابضك، أي: قابض روحك وبدنك، يقال: توفيت الحساب واستوفيته، ولفظ التوفي لا يقتضي توفي الروح دون البدن ولا توفيهما جميعا إلا بقرينة منفصلة[24].
وقد يراد به توفي النوم، كقوله تعالى: )الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجـل مسمـى إن فـي ذلك لآيـات لقـوم يتفكـرون (42)( (الزمر)، وقوله تعالى: )وهو الذي يتوفاكم بالليل( (الأنعام: ٦٠) [25].
وعلى أي حال، فإن الترجيح في الآية لغير توفي الموت، وهو ما عليه جماهير المفسرين.
ومن ثم، فإن قوله تعالى في الآية الأخرى: )فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم( (المائدة: ١١٧)، ليس المراد منه توفي الموت، وإنما المراد: فلما رفعتني إلى السماء حيا[26]، “وهذا قول جمهور العلماء”[27].
قال الحسن: الوفاة في كتاب الله – عز وجل – على ثلاثة أوجه: وفاة الموت، وذلك قوله تعالى: )الله يتوفى الأنفس حين موتها( (الزمر: ٤٢)؛ يعني وقت انقضاء أجلها، ووفاة النوم؛ قال الله تعالى: )وهو الذي يتوفاكم بالليل( (الأنعام:٦٠)؛يعني الذي ينيمكم. ووفاة الرفع، قال الله تعالى: )يا عيسى إني متوفيك( (آل عمران: ٥٥)” [28].
وأما الآية الثالثة التي استدل بها على نفي أحاديث نزول عيسى – عليه السلام – آخر الزمان لزعمهم أنها تدل على موته، وهي قوله تعالى: )وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34)( (الأنبياء)، فإنها لا تدل على موت عيسى – عليه السلام – أو أنه لا ينزل آخر الزمان، إذ المراد منها: “أن الكفار كانوا يقدرون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سيموت فيشمتون به في قولهم: )نتربص به ريب المنون (30)( (الطور)، فنفى الله عنه الشماتة بهذه الآية، )أفإن مت فهم الخالدون (34)( أي: قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشر، لا أنت ولا هم”[29].
وعليه، فلو كانت هذه الآية تدل على موت عيسى – عليه السلام – لكانت الآيتان السابقتان أولى بهذا، فهما قد صرحا بلفظ التوفي لكن على التأويل، فلما امتنع هذا دل دلالة واضحة على أن هذه الآية لا تدل بحال على موت عيسى – عليه السلام – قبل نزوله آخر الزمان، فضلا عن أن الخطاب فيها عام.
ومن ثم، فالقول بأن أحاديث نزول عيسى – عليه السلام – تعارض القرآن هو قول باطل يخالف القرآن الكريم الذي أشار في العديد من آياته إلى نزول عيسى – عليه السلام – كما بينا سابقا.
ثالثا. لا تعارض بين أحاديث نزول عيسى – عليه السلام – وكون محمد خاتم النبيين، ولا نبي بعده:
لا تعارض بين الأحاديث التي قالت بنزول عيسى ابن مريم آخر الزمان وبين الآيات والأحاديث التي أكدت أن محمداـ صلى الله عليه وسلم – خاتم النبيين والمرسلين، وأنه لا نبي بعده أبدا؛ إذ إن عيسىـ عليه السلام – سوف ينزل حكما عدلا، يحكم بشريعة الإسلام، وليس نبيا مرسلا، بل ويصلي خلف إمام من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو المهدي المنتنظر.
وقد رد القاضي عياض على من أنكر أحاديث نزول عيسى – عليه السلام – من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم – لزعمهم أنها تعارض قوله تعالى: )وخاتم النبيين( (الأحزاب:٤٠)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي»[30]، فقال: هذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسىـ عليه السلام – أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت الأحاديث أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا، ويحيي من أمور شرعنا مـا هجـره الناس [31].
قال الحافظ ابن حجر: قال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى إماما لوقع في النفس إشكال، ولقيل: أتراه تقدم نائبا أو مبتدئا شرعا، فصلى مأموما لئلا يتدنس بغبار الشبهة في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي»[32].
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه سوف ينزل حكما مقسطا، يصلي خلف إمام من هذه الأمة – وهو المهدي المنتظر – تكرمة لها، فقد روي عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم – عليه السلام – فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة»[33].
ففي هذا الحديث دلالة صريحة على أنه سوف ينزل حكما لا نبيا، وبذلك فإن نزوله لا يتعارض مع الآيات والأحاديث التي أكدت أنه لا نبي بعد محمد – صلى الله عليه وسلم – وأنه خاتم النبيين والمرسلين، وعليه فقد انعقد الإجماع على نزول عيسى عليه السلام.
“قال السفاريني في شرح عقيدته: نزول المسيح عيسى ابن مريم – عليه السلام – ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ومن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد الإجماع على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية”[34].
فهل بعد هذا البيان الشافي الكافي يحق لمدع أن يرد أحاديث نزول عيسى – عليه السلام – آخر الزمان، والتي ثبت تواترها، أو أن يزعم تعارضها مع الآية الكريمة: “وخاتم النبين”، وحديث: “لا نبي بعدي”؟!
الخلاصة:
- أجمع علماء الأمة على تواتر الأحاديث الواردة في نزول عيسى – عليه السلام – آخر الزمان، فقد جاء في نزوله أكثر من سبعين حديثا، أكثرها من الصحاح، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية, ويفيض المال، حتى لا يقبله أحد».
- لقد أشار القرآن الكريم في العديد من آياته إلى نزول عيسى – عليه السلام – من ذلك قوله تعالى: )وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61)( (الزخرف)، قال جمهور المفسرين: المراد بذلك نزول عيسى – عليه السلام – قبل يوم القيامة، ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى: “وإنه لعلم للساعة” – بفتح العين واللام – أي: أمارة ودليل على قرب الساعة.
ومن الآيات التي نصت على ذلك قولـه تعالـى: )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنـن به قبل موتـه ويـوم القيامـة يكـون عليهـم شهيـدا (159)( (النساء(، أي لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى إلا آمن به قبل موت عيسى – عليه السلام – وأيضا قوله تعالى: )ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46)( (آل عمران)، أي: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل.
- لا تعارض بين أحاديث نزول عيسى – عليه السلام – آخر الزمان والقرآن الكريم، ففي قوله تعالى: )إني متوفيك ورافعك إلي( (آل عمران:٥٥)، قد ذكر جمهور المفسرين أن المراد بالتوفي – هنا – ليس الموت، وإنما هو رفع عيسى – عليه السلام – حيا إلى السماء، وقال البعض: المراد بالتوفي: النوم، كقوله تعالى: )وهو الذي يتوفاكم بالليل( (الأنعام:٦٠)، وقال بعضهم: الآية على التقديم والتأخير، والمعنى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء؛ لأن الواو لا توجب الرتبة. وأما قوله تعالى: )فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم( (المائدة: ١١٧)، فإن المراد: فلما رفعتني إلى السماء حيا، وهو قول الجمهور.
- أما قوله تعالى: )وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34)( (الأنبياء) فإنه لا يدل من قريب أو بعيد على نفي أحاديث نزول عيسى – عليه السلام – فضلا عن أن الخطاب في الآية عام.
(*)ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2009م. الإسلام وصياح الديك، جواد عفانة، دار جواد، الأردن، ط1، 1427هـ/ 2006م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: البيوع، باب: قتل الخنزير، (4/ 483)، رقم (2222). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم حكمـا بشريعـة نبينـا محمـد صلـى الله عليـه وسلـم، (2/ 579)، رقم (382).
[2]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (2/ 581).
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام،(6/ 566)، رقم (3449).
[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،(2/ 580)، رقم (388).
[5]. اللمة: الشعر المتدلي الذي جاوز شحمة الأذنين.
[6]. رجلها: سرحها بمشط مع ماء أو غيره.
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (، (6/ 550)، رقم (3439، 3440). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، (2/ 624)، رقم (418).
[8]. صحيح، أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الملاحم، باب: خروج الدجال، (11/ 299)، رقم (4311). صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4321).
[9]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (11/ 308) بتصرف.
[10]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/4047، 4048).
[11]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (11/ 307).
[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (6/ 569).
[13]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400 هـ/ 1980م، (1/ 582، 583).
[14]. عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام، الغماري، ص 12، نقلا عن: أشراط الساعة، عبد الله بن سليمان العقيلي، وزارة الشئوون الإسلامية والأوقاف والدعوة، السعودية، ط1، 1422هـ، ص159
[15]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، هامش (6/ 460).
[16]. انظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة، الألباني، دار الراية، الرياض، ط3، 1409هـ، ص79.
[17]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400 هـ/ 1980م، (1/ 577).
[18]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (6/ 420).
[19]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م،(4/90).
[20]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400 هـ/ 1980م، (4/ 132).
[21]. عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (11/ 312).
[22] . الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 100).
[23]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 99) بتصرف.
[24]. إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، د. صالح الفوزان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1423هـ/ 2002م، ص11.
[25]. انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400 هـ/ 1980م، (1/ 366).
[26]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/ 376، 377) بتصرف يسير.
[27]. التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة السعادة، القاهرة، ط2، 1407هـ/ 1986م، (4/ 459).
[28]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/ 377).
[29]. تفسير اللباب، ابن عادل، (11/ 290). وانظر: معالم التنزيل، البغوي، تحقيق: محمد عبد الله النمر وآخرين، دار طيبة، الرياض، ط2، 1417هـ/ 1997م، (5/ 318).
[30]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، (6/571)، رقم (3455). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول،(7/ 2906)، رقم (4691).
[31]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 4048) بتصرف.
[32]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (6/ 570) بتصرف يسير.
[33]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، (2/ 580)، رقم (388).
[34]. إقامة البرهان في الرد على من أنكر خروج المهدي والدجال، حمود بن عبد الله التويجري، ص13.