إنكار أصالة التشريع الإسلامي وثبوته
وجوه إبطال الشبهة:
1) يتسم التشريع الإسلامي بالأصالة والثبوت، يتحقق من ذلك المتأمل في تشريعاته وأحكامه، والمقارن بينه وبين التشريعات الوضعية.
2) قضايا التشريع الإسلامي ليست صنفا واحدا بل أصناف متنوعة، منها: الثابت الذي لا يقبل التجدد أو التطور لورود النص القطعي فيه، ومنها المتطور الذي يقبل الاجتهاد والقياس ومراعاة المصلحة.
3) تطور تشريع العهد المدني عن العهد المكي؛ لأن العهد المكي كان عهد تربية للمؤمنين على عقيدة التوحيد وضبط النفس والتجرد والصبر والاحتمال، بينما كان العهد المدني عهد إقامة الدولة الإسلامية، وما تستلزمه من مقاومة وقتال وتشريعات تنظم المجتمع الجديد، وإكمال بقية الدين، ومن ثم فلا غرابة أن يتطور التشريع حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة.
4) ليس ثمة صحة لزعم المغرضين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخذ هذه التشريعات من أهل المدينة، بل جاءهم بما يناقض عقائدهم المحرفة ويهدم الباطل من تشريعاتهم.
التفصيل:
من أميز خصائص شريعة الإسلام أنها تتصف بالأصالة الباقية، والخلود الأبدي في نصوصها ومصادرها، دون أن يتطرق إليها تحريف، أو يطرأ عليها أي تبديل أو تغيير.
فالقرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع، قد تكفل الله بحفظه وبقائه إلي يوم البعث والنشور دون أن تناله يد تحريف أو تبديل، وها هو ذا قد مضى على نزول القرآن الكريم أكثر من أربعة عشر قرنا، وما يزال – وسيبقى إن شاء الله – هو هو في لفظه ومعناه، وتجويده وأدائه؛ مصداقا لقوله عزوجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر) [1].
ولقد شهد لأصالة هذا القرآن وخلوده الأبدي على مدى الأجيال منصفون من رجالات الغرب، ومن هؤلاء البروفيسور رينولد نيكلسون؛ حيث يقول في كتابه “التاريخ الأدبي للعرب”: “القرآن الكريم وثيقة إنسانية رائعة توضح بدقة سر تصرفات محمد – صلى الله عليه وسلم – في جميع أحداث حياته، حتى إننا لنجد فيه مادة فريدة لا تقبل الشك ولا الجدل، نستطيع خلالها أن نتتبع سير الإسلام منذ نشأته وظهوره في التاريخ المبكر، وهذا ما لا تجد له مثيلا في البوذية أو المسيحية، أو أي دين من الأديان القديمة”.
مع ملاحظة أن تعبير “وثيقة إنسانية” تعبير استشراقي، فالقرآن الكريم رسالة سماوية وشريعة ربانية.
والسنة النبوية التي هي المصدر الثاني من مصادر الشريعة، بل هي المبينة للقرآن الكريم، والمكملة لأنظمة الإسلام.. هذه السنة قد هيأ الله لها من يحفظها من عبث العابثين، ووضع الملفقين، ودس المغرضين[2].
وخطأ القائلين بمثل هذه الشبهة أنهم يقيسون طبيعة الشريعة، التي اكتملت – بوحي السماء – على يد صاحب الرسالة – صلى الله عليه وسلم – فلا مجال بعده لإضافة حرف إلى ما بلغ عن ربه، أو قال، أو فعل، أو أقر، يقيسون هذه الطبيعة متجاهلين اكتمال الشريعة في عصر الرسالة على طبيعة القانون الوضعي الذي نشأ – كالمجتمع البشري – بسيطا بدائيا، ثم تراكمت خبراته، وتفرعت أبوابه، وتعقدت مسائله بمرور الزمن وتتابع الأجيال، ومن هذا المنطلق فإنهم ينعتون الشريعة بعدم الأصالة والثبوت، وبالقابلية للإضافات والزيادات على مر العصور بوسائل؛ كالإجماع، والاجتهاد، والقياس ونحو ذلك.
وحول أصالة التشريع الإسلامي وثبوته وكماله يحدثنا القانوني الفقيه عبد القادر عودة – رحمه الله – فيقول: “ينشأ القانون الوضعي في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلا محدود القواعد، ثم يتطور بتطور الجماعة فتزداد قواعده وتتسامى نظرياته، كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وآدابها.
ثم يقارن بين نشأة القانون الوضعي والشريعة، فيقول:
القانون الوضعي؛ كالوليد ينشأ صغيرا ضعيفا، ثم ينمو ويقوى شيئا فشيئا حتى يبلغ أشده، وهو يسرع في التطور والنمو والسمو، كلما تطورت الجماعة التي يحكمها، وأخذت بحظ من الرقي والسمو، ويبطئ في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور.
فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون الوضعي، وتصيغه على الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها، وهو تابع لها وتقدمه مرتبط بتقدمها.
وعلماء القانون الوضعي حين يتحدثون عن النشأة الأولى للقانون يقولون: إنه بدأ يتكون مع تكون الأسرة والقبيلة، وإن كلمة رب الأسرة كانت قانون الأسرة، وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون القبيلة، وإن القانون ظل يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، وإن عادات كل أسرة كانت لا تتفق مع عادات غيرها من الأسر، وتقاليد كل قبيلة لم تكن مماثلة لتقاليد غيرها من القبائل.
والدولة حين بدأت تتكون وحدت العادات والتقاليد، وجعلت منها قانونا ملزما لجميع الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاق الدولة، ولكن قانون كل دولة لم يكن يتفق في الغالب مع قوانين الدول الأخرى، وظل هذا الخلاف حتى بدأت المرحلة الأخيرة من التطور القانوني في أعقاب القرن الثامن عشر على هدي النظريات الفلسفية، والعلمية، والاجتماعية، فتطور القانون الوضعي من ذلك الوقت حتى الآن تطورا عظيما، وأصبح قائما على نظريات لم يكن لها وجود في العهود السابقة، وأساس هذه النظريات الحديثة العدالة، والمساواة، والرحمة، والإنسانية.
وقد أدى شيوع هذه النظريات في العالم إلى توحيد معظم القواعد القانونية في كثير من دول العالم، ولكن بقي لكل دولة قانونها الذي يختلف عن غيره من القوانين في كثير من الدقائق والتفاصيل.
هذه هي خلاصة لنشأة القانون وتطوره والمراحل التي مر بها، تبين بجلاء أن القانون حين نشأ كان شيئا يختلف كل الاختلاف عن القانون الآن. وأنه ظل يتغير ويتطور حتى وصل إلى شكله الحالي، وأنه لم يصل إلى ما هو عليه الآن إلا بعد تطور طويل بطيء استمر آلاف السنين.
أما الشريعة؛ فإن الشريعة الإسلامية لم تنشأ هذه النشأة، ولم تسر في هذا الطريق، فلم تكن الشريعة قواعد قليلة ثم كثرت، ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت، ولا نظريات أولية ثم تهذبت.
ولم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية، ثم سايرت تطورها ونمت بنموها، وإنما ولدت شابة مكتملة، ونزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة جامعة مانعة، لا ترى فيها عوجا، ولا تشهد فيها نقصا، أنزلها الله تعالى من سمائه على قلب رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – في فترة قصيرة لا تجاوز المدة اللازمة لنزولها، فقد بدأت ببعثة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وانتهت بوفاته، أو يوم قال الله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).
ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون دولة، وإنما جاءت للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين، على اختلاف مشاربهم، وتباين عاداتهم وتقاليدهم، وتاريخهم، فهي شريعة كل أسرة، وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة؛ بل هي الشريعة العالية التي استطاع علماء القانون الوضعي أن يتخيلوها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يوجدوها.
وقد جاءت الشريعة كاملة لا نقص فيها، جامعة تحكم كل حالة، مانعة لا تخرج عن حكمها حالة، شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول؛ فهي تنظم الأحوال الشخصية والمعاملات، وكل ما يتعلق بالأفراد، وتنظم شئون الحكم والإدارة والسياسة، وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة، كما تنظم علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر في الحرب والسلم. ولم تأت الشريعة لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، وإنما هي شريعة كل وقت، وشريعة كل عصر وشريعة الزمن كله حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد صيغت الشريعة بحيث لا يؤثر عليها مرور الزمن، ولا يبلي جدتها، ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة، ونظرياتها الأساسية، فجاءت نصوصها من العموم والمرونة، بحيث تحكم كل حالة جديدة، ولو لم يكن في الإمكان توقعها، ومن ثم كانت نصوص الشريعة غير قابلة للتغير والتبديل، كما تتغير نصوص القوانين الوضعية وتتبدل.
وأساس الفرق بين الشريعة والقانون هو أن الشريعة من عند الله عزوجل، وهو يقول: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: 64)، وهو عالم الغيب القادر على أن يضع للناس نصوصا تبقى صالحة على مر الزمان، أما القوانين فمن وضع البشر، وتوضع بقدر ما يسد حاجتهم الوقتية، وبقدر قصور البشر عن معرفة الغيب، تأتي النصوص القانونية التي يضعونها قاصرة عن حكم ما لم يتوقعوه.
ولقد جاءت الشريعة من يوم نزولها بأحدث النظريات التي وصل إليها أخيرا القانون الوضعي مع أن القانون أقدم من الشريعة – ويقصد الشريعة الإسلامية – بل جاءت الشريعة من يوم نزولها بأكثر مما وصل إليه القانون الوضعي، وحسبنا أن نعرف أن كل ما يتمنى رجال القانون اليوم أن يتحقق من المبادئ موجود في الشريعة من يوم نزولها. ثم يخرج الدكتور عودة بعد هذه المقارنة بين الشريعة والقانون بنتيجة مؤداها أنه:
لا مماثلة بين الشريعة والقانون:
يوضح ذلك قائلا: “ونستطيع بعد أن استعرضنا نشأة القانون ونشأة الشريعة أن نقول بحق: إن الشريعة لا تماثل القانون ولا تساويه، ولا يصح أن تقاس به، وإن طبيعة الشريعة تختلف تماما عن طبيعة القانون، ولو كانت طبيعة الشريعة من طبيعة القانون الوضعي لما جاءت على الشكل الذي جاءت به، وعلى الوصف الذي أسلفنا، ولوجب أن تأتي شريعة أولية، ثم تأخذ طريق القانون في التطور مع الجماعة، وما كان يمكن أن تأتي بالنظريات الحديثة التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيرا، بل ما كان يمكن أن تصل إلى مثل هذه النظريات إلا بعد أن تعرفها القوانين وبعد مرور آلاف السنين.
ومن اليسير على أي منصف استعرض تاريخ القانون والشريعة الاسلامية، أن يتبين الاختلافات المتعددة بين الشريعة، والقانون، والمميزات الكثيرة التي تميز الشريعة عن القانون؛ حيث تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافا أساسيا؛ بأن القانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل، أو ما نسميه “بالتطور”، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة أو جدت حالات لم تكن منتظرة. فالقانون ناقص دائما ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان.
أما الشريعة فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله، وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير، بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال؛ حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر – عزوجل – ألا تغير ولا تبدل حيث قال: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: 64)؛ لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل، مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان.. وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية مايأتي:
- أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.
- أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر – في وقت أو عصر ما – عن مستوى الجماعة.
والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع السماوية والوضعية؛ فقواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها جاءت عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.
ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من أربعة عشر قرنا تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطورا كبيرا، واستحدث من العلوم والمخترعات، ما لم يكن يخطر على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة لتتلاءم مع الحالات الجديدة، والظروف الجديدة، بحيث انقطعت العلاقة بين القواعد القانونية الوضعية التي نطبقها اليوم، وبين القواعد القانونية الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل، ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم حاجاتهم وسدها، وأقرب إلى طبائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.
ويؤكد الفقيه عبد القادر عودة على أن المسلمين الأوائل آمنوا وحسن إيمانهم فمكن الله لهم في الأرض، وإن الذي مكن لهم – على قلتهم وضعفهم – قادر أن يمكن لنا في الأرض، إذا آمنا وحسن إيماننا، ذلك وعد الله لعباده في قوله سبحانه وتعالى: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم( (النور: ٥٥)، وذلك وعده لمن اتبع كتابه وتمسك بشريعته حيث يقول عزوجل: )قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)( (المائدة) [3].
ثانيا. قضايا التشريع الإسلامي ليست ثابتة، بل منها الثابت والمتطور والمتجدد:
من أعظم خصائص الشريعة الإسلامية، ومن أبرز مزاياها أنها جمعت بين الثبات والتطور، وبين الإجمال والتفصيل، وبين القديم والجديد؛ لتستوعب بخصيصتها هذه حاجات الزمن، وتواكب – بمزيتها تلك – حضارات العصور، ويتحدث د. عبد الله ناصح علوان عن ذلك، فيقول: تنقسم الأحكام التشريعية ثلاثة أقسام، هي:
- مسائل تشريعية ثابتة لا تقبل التجديد ولا التطور؛ فهذه المسائل التي وردت فيها نصوص قطعية وأحكام تفصيلية، وهذه الأحكام لا مجال للاجتهاد فيها ألبتة؛ كمسائل العقيدة، وأركان الإيمان، وأحكام العبادات، ومسائل الحدود، وحرمة الزنا، والربا، والخمر، والميسر، وقتل النفس… إلى غير ذلك، فهذه النصوص أحكام ثابتة لا يدخلها الاجتهاد، ولا تخضع للتطور الزمني[4].
وكل من يريد أن يبدل فيها، أو يجتهد في تطويرها يكون هادما للشريعة، ومحاربا لله وللرسول، وخالعا من عنقه ربقة الإسلام.
وبناء على هذا يقول علماء الأصول: “لا مجال للاجتهاد في مورد النص”.
ولا يعيب الشريعة شيئا أن يشرع الله – عزوجل – هذه الأحكام الثوابت لكونها تحقق المصلحة للفرد والمجتمع في كل العصور والأمصار، فلا وجه أبدا لتطويرها لأن شارعها العليم الخبير؛ فهو الأعلم بما يحقق لعباده من مصالح، ويدرأ عنهم من مفاسد )والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232)( (البقرة).
- القضايا التشريعية الخاضعة للتطور؛ هي القضايا المستجدة التي لم يرد فيها نص صريح من كتاب أو سنة، فهذه القضايا خاضعة للاجتهاد الزمني، حيث يحكم لها أو عليها علماء راسخون متخصصون، متسمون بالورع والتقوى، ومتصفون بالذكاء، وسعة الاطلاع، وملكة الاجتهاد.. فيصدرون أحكامهم بما يحقق وجه المصلحة، وما يتلاءم مع التطور الحضاري، والتقدم العلمي؛ كبيان حكم الإسلام في الضمانات التقاعدية للموظف والعامل، وفي تعويضات التسريح وفي التعويض العائلي، وفي التكافل الاجتماعي.
فهذه المسائل وما كان على شاكلتها تحتاج إلى نخبة من أهل الفقه والاختصاص ليقرروا حكم الإسلام فيها على ضوء المصلحة والتطور، وروح الشريعة ومقاصدها العامة شريطة ألا تتعارض مع نص صريح، أو تخرج عن القاعدة العامة، أو تتجاوز هذا الإطار المحدد لها.
وبناء على هذا يقول علماء الأصول: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”.
- أما القضايا التشريعية القابلة للتجديد: فهي المبادئ والقواعد التي لها ارتباط وثيق بالمعاملات المالية، والشئون القضائية، والنظم الاقتصادية، والقضايا الإدارية والدستورية، فهذه المعاملات والقضايا مما يتجدد فيها مصالح الناس، ومما تدور مع الاجتهاد في كل زمان ومكان.
ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة:
- القرآن الكريم في الأمور القضائية نص بوضوح على قاعدة العدل: )وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: ٥٨).
فقاعدة العدل التي نصت عليها الآية الكريمة قاعدة كلية ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير، ويجب العمل بها في كل زمان ومكان، ولكن وسائل تطبيق قاعدة العدل متروكة للزمن المتطور والحياة المتجددة. فتطبيق قاعدة العدل قد يكون في محكمة واحدة، أو بتعدد المحاكم، أو بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية… فهذا كله متروك لأهل الحل والعقد، بل متروك للإصلاح من تجارب البشرية.
فمقصد الشريعة الأول تطبيق مبدأ العدل، فليكن التطبيق بأية وسيلة وبأية صورة ارتآها أهل الحل والعقد، وبأي تنظيم أو إطار أشار إليه المختصون في هذا المجال، ما دامت المحاكم تطبق قاعدة العدل، وتحقق مصلحة المساواة بالنسبة للجميع.
- والقرآن الكريم في أمور المعاملات نص بوضوح على قاعدة الإيفـاء بالعقـود، فقال تعالـى:) ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود( (المائدة: 1).
فقاعدة الوفاء بالعقود التي نصت عليها الآية قاعدة كلية ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير، بل يجب العمل بها في كل زمان ومكان، ولكن الفقهاء اجتهدوا فيما يراد بالعقود هل تقتصر على العقود التي أقر الشرع اسما لها؛ كعقد البيع، والهبة، والإجارة، والزواج… أم تشمل العقود التي استحدثت فيما بعد؛ كعقد الاستصناع، والتعهدات، والمقاولات، والتأمينات الاجتماعية.
فذهب أكثر الفقهاء إلى أن اللفظ في الآية عام يشمل كل عقد أقر الشرع تسميته أو استحدث فيما بعد إلا عقدا أحل حراما، أو حرم حلالا.
وبناء على أن اللفظ في الآية عام يشمل كل عقد، نشأت في الفقه الإسلامي عقود جديدة كثيرة في عصور مختلفة، وسماها الفقهاء بأسماء خاصة كعقد الإجارتين، وعقد التحكير في الأموال الموقوفة، ولا بد من إيضاح لمفهوم هذين العقدين الأخيرين[5]:
فعقد الإجارتين: هو أن يتفق المشرف على الوقف مع شخص على أن يدفع مبلغا يكفي لتعمير عقار الوقف المبني المتوهن عند عجز الوقف عن التعمير على أن يكون لدافع المال حق السكنى الدائمة في هذا العقار بأجر سنوي ضئيل.
وعقد التحكير[6]: هو الاتفاق على إعطاء أرض الوقف الخالية لشخص لقاء مبلغ يقارب قيمتها باسم أجرة معجلة ليكون له عليها حق القرار الدائم ويتصرف فيها بالبناء والغرس وغيرهما كتصرف المالكين للأرض، ويترتب عليه أيضا أجر سنوي ضئيل.
هذا في الاستنباط الاجتهادي فيما يجد من عقود كما دلت عليها آية: )أوفوا بالعقود( (المائدة: 1).
أما عن وسائل تطبيق قاعدة الوفاء بالعقود فتركها الإسلام للزمن المتطور، والحياة المتجددة، فتطبيق هذه القاعدة، وتنظيمها، وتسجيلها، وتوثيقها، وضمان حقوق أصحابها، هذه الأمور كلها تركها الإسلام لأهل الحل والعقد، بل تركها للأصلح من تجارب البشرية، فمقصد الشريعة الأول – تطبيق مبدأ “الوفاء بالعقود”، فليكن التطبيق بأية وسيلة، وبأية صورة ارتآها أهل الاختصاص سواء كان تسجيل العقد في دائرة، أو كان على صورتين يحتفظ كل من المتعاقدين بصورة منه، أو كان قائما على الإشهاد موثقا بكاتب عدل، أو غير ذلك.
- والقرآن الكريم في الشئون الدستورية نص بوضوح على قاعدة الشورى: )وأمرهم شورى بينهم( (الشورى: 38).
فقاعدة الشورى التي نصت عليها الآية قاعدة كلية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، بل يجب العمل بها في كل زمان ومكان، ولكن وسائل تطبيق قاعدة الشورى متروك للزمن، فتطبيق قاعدة الشورى في مجلس استشاري يضم النخبة من أهل الرأي والاختصاص، أو في مجلس انتخابي ينتخبه الشعب، أو انتقاء مجالس وزارية من أهل الخبرة والاختصاص، أو انتخاب مجالس محلية لكل مقاطعة أو بلد، فهذا كله متروك للأصلح من تجارب البشرية.
فمقصد الشريعة الأول تطبيق قاعدة الشورى، فليكن التطبيق بأية وسيلة كانت، وبأية صورة أو هيئة ارتآها أهل الحل والعقد ما دامت الدول برئيسها وهيئة الحكم فيها تطبق قاعدة الشورى.
ومثل ذلك:
o مبدأ إعداد القوة في قوله تعالى: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة( (الأنفال: 60).
o ومبدأ تنظيم الدين في قوله تعالى: )إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه( (البقرة: 282)، إلى غير ذلك من هذه المبادئ والقواعد التي نصت عليها شريعة الإ سلام[7].
تلكم أهم اللمحات الخاصة بالتطور والثبات في مبادئ الشريعة، وهي بهذا المعنى جمعت بين القديم والجديد، والأساسيات الثابتة والتطوير، وهذا يعني أنها بهذه الخصيصة تفي بحاجات الزمن المتطور، وتواكب حضارات البشر المتجددة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثالثا. تطور تشريع العهد المدني عن العهد المكي:
ويبرز هذا التطور وسببه من خلال مقارنة يسيرة بين طبيعة العهدين وما يتطلبه كل منها من تشريعات:
- العهد المكي: إن أبرز سمات هذا العهد، هي تربية المؤمنين على ضبط النفس، والتجرد والصبر والاحتمال، وهو عمل كبير، وجهاد شاق، قام به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفق منهج القرآن، فربى جماعة كانت هي الأساس الذي قام عليه مجتمع المدينة، وجيش الإسلام الجديد.
هذا العهد هو عهد بناء الجماعة المسلمة، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة والدعوة، وتكوين النواة القوية الصلبة لجيش يجاهد في سبيل الله، وتربية الأسرة المؤمنة الفاهمة، التي تسند ظهر المجاهدين، وتؤمن بالبذل والشهادة، وتؤدي رسالتها في المجتمع، فلا تتلفها خسارة الأنفس والأموال.
إن ذلك كله لا بد أن يتم قبل تكوين الدولة وخوض معارك القتال، وذلك ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو سر عظمة مجتمع المدينة، وسر ما رواه التاريخ عن الرعيل الأول في السلم والحرب على السواء[8].
- العهد المدني: انصرفت الجهود خلال العصر المكي إلى بناء الإنسان المسلم، وإنضاج الشخصية الإيمانية، فلما تم ذلك تحولت تلك الجهود في أثناء العصر المدني إلى بناء المجتمع المسلم والدولةبسواعد المسلمين.
ذلك أن الإسلام دين ودولة، دنيا وآخرة، فما إن استقر بالرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين المقام في المدينة المنورة، وصارت قاعدة لهم، حتى شرعت الجماعة المسلمة في بناء دولتها وترسيخ أركانها عبر خطوات عديدة، منها:
- بناء المسجد:
فللمسجد في الإسلام رسالة مهمة تعدو كونه دار عبادة ومحل طقوس وشعائر. ويبين لنا د. محمد سعيد رمضان البوطي هذا فيقول: “ولا غرو، ولا عجب فإن إقامة المسجد أول وأهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي، وذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ، والتماسك بالتزام النظام الإسلامي وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه.
إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين، ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد، فما لم يتلاق المسلمون يوميا على مرات متعددة في بيت من بيوت الله، وقد تساقطت مما بينهم فوارق الجاه، والمال، والاعتبار، لا يمكن لروح التآلف والتآخي أن تؤلف بينهم”[9].
- المؤاخاة بين المسلمين:
فمن البديهي أن الدولة المبتغاة يجب أن تكون قوية الأركان وأن تكون الأمة المنشودة عزيزة الجانب، إذن لا بد أن تتألف من مجتمعات مستقرة متينة الأواصر بين أفرادها ووحداتها المختلفة، غير متنافرة ولا متباعدة، ولا مشققة اللحمة متقطعة الروابط؛ ولهذا سارع – صلى الله عليه وسلم – إلى المؤاخاة بين الأنصار أصحاب دار الهجرة، ومن هاجر إليهم من إخوانهم ليواسوهم بأموالهم وأنفسهم عما خلفوه وراءهم من المال، والوطن، والأهل، والولد لتتم الألفة وينخرط المجاهدون في المجتمع الجديد غير مستشعرين غربة ولا نفرة.
- وضع الدستور (صحيفة المدينة):
فقد ضمت المدينة بعد الهجرة طوائف شتى، فبالإضافة إلى المسلمين وجد المشركون من العرب، كما كانت تسكنها قبائل عدة من اليهود، كبني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، فكان لا بد من وضع معاهدة تكون بمثابة دستور ينظم العلاقة بين هذه الطوائف، ويحدد لكل حقوقه وواجباته. وهي ما عرفت بوثيقة المدينة، وهي من أهم لبنات تأسيس الدولة بها.
- تشريع القتال والجهاد:
بعد الهجرة إلى المدينة تحول حال المسلمين من ضعف إلى قوة، ومن فقر إلى غنى، ومن ذل وهوان إلى كرامة وعزة، فبدأ عهد جديد للإسلام، حيث أصبح له دولة ورجال يدافعون عنه، فبدأ المجتمع الإسلامي الجديد يحس بالهدوء والأمن والاستقرار، ولكن ما كانت قريش لتترك الإسلام والمسلمين، فقد اعتبرت انتقال الدعوة إلى المدينة خطرا كبيرا على تجارتها في طريقها إلى الشام، وخطرا كبيرا على سلطانها بانتشار الإسلام، فلا غرو أن يتوقع المسلمون مهاجمتها للمدينة في أي وقت، فشرع القتال لدفع العدوان وتحرير المستضعفين، ونظم القرآن قواعده وآدابه[10].
- بناء الجيش:
إذ لا بد لكل دعوة من قوة تحميها حتى وإن كانت دعوة حق لا باطل؛ لأن البشر ليسوا جميعا مثاليين، وإنما فيهم الخير والشر، ومن ثم فإن حزب الشر لا بد سيقف في وجه دعوة الحق، يقاومها ويصدها عن المضي في سبيلها، ويحاول بكل سبيل إعاقتها، فلا بد إذن من القوة لحماية الحق وإزاحة العوائق والطواغيت، وتخلية الطريق أمامه؛ لينساب مجرى نهر الدعوة انسيابا طبيعيا فيميل إليها من يرغب فيها، ويميل عنها من يرغب عنها، دون تهديد أو إكراه في الحالتين، من هنا بادر الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى إعداد أصحابه للجهاد في سبيل نشر الدعوة، بعد أن أذن له بالقتال، فبدأ في إرسال السرايا وتجييش الجيوش للغزوات.
- تشريع الزكاة:
بعد أن ترسخت العقيدة في صدور المسلمين، وبعد أن ثبتوا على إيمانهم، وقد نجحوا في اختبار التجرد والصبر والاحتمال، وبعد أن استقروا في المدينة، وبعد أن امتلكوا مالا، وأصبحت لهم تجارة، وفاض المال وكثر، فرض الله – عزوجل – عليهم الزكاة؛ تطهيرا لنفوسهم من أنجاس الذنوب، وتزكية لأخلاقهم بخلق الجود والكرم، وترك الشح، والضن بالمال. فالزكاة تنقي النفس من أشد الأمراض وأسوئها وهو داء الشح، كما أنها تعالج داء الحقد والحسد في نفس الفقير[11].
- تشريع الحج:
لقد شرع الحج – أيضا – بعد الاستقرار في المدينة، وإقامة الدولة، وبعد أن شعر المسلمون بالأمن والأمان، وبعد أن بدءوا في السعي في الدنيا، وشغلتهم أموالهم وأهلوهم، فرض الحج؛ لإعادة قلب المسلمين إلى الصفاء والنقاء، والاطمئنان بذكر الله عزوجل وفي الحج يتحكم الإنسان في جوارحه ومشاعره وشهواته ونزواته، فيتدرب على الامتناع عن الحلال توصلا إلى الكف عن الشبهات والحرام، كما أن الحج يسهم مع العبادات الأخرى في تخلق المسلم بالكرم، والجود فهو يبذل مالا كثيرا ابتغاء مرضاة الله تعالى[12].
إن هذا المجتمع الإسلامي المركب المنظم في المدينة يختلف في طبيعته وظروفه عن أحوال الجماعة المسلمة البسيطة بمكة، ولأجل تنظيم ظروف هذا المجتمع الجديد والدولة الوليدة نزلت تعاليم سماوية بقواعد شرعية جديدة مختلفة عما نزل بمكة في ملامحها وأهدافها، ومن هنا جاء التمايز التشريعي الإسلامي بين العهدين المكي والمدني، فهي شريعة واحدة أصيلة تترسخ قواعدها، وتتكامل أركانها على مر سني العهد النبوي حتى تتم بتمامه، فلا تتبدل أصولها بعد صاحب الرسالة ولا تتغير ولا تزيد، ولا تنقص، وليس كما زعم الزاعمون أنها شريعة مقلدة غير أصيلة، متقلبة متغيرة غير ثابتة ولا راسخة، تزيد وتنقص مع الزمان!
رابعا. تشريعات العهد المدني غير متأثرة بأهل المدينة ولا مأخوذة عنهم، بل اقتضتها ظروف المرحلة المدنية:
وللإبانة عن وجه الحق في علة تباين التشريع في العهد المدني وتطوره عنه في العهد المكي، نورد هنا رأي اثنين من أعلام المتخصصين في علوم القرآن، يقول الشيخ الزرقاني: “يقولون: إن القسم المكي خلا من التشريع والأحكام، بينما القسم المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام. وذلك يدل على أن القرآن من وضع محمد وتأليفه، تبعا لتأثره بالوسط الذي يعيش فيه، فهو حين كان بمكة بين الأميين، جاء قرآنه المكي خاليا من العلوم والمعارف العالية، ولما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين، جاء قرآنه المدني مليئا بتلك العلوم والمعارف العالية، وننقض هذا الكلام بما يأتي:
- أن القسم المكي لم يخل جملة من التشريع والأحكام، بل عرض لها وجاء عليها، ولكن بطريقة إجمالية، فإن مقاصد الشريعة الكلية خمسة: حفظ الدين. حفظ النفس. حفظ العقل. حفظ النسل. حفظ المال، وقد تحدث القسم المكي عنها إجمالا.
واقرأ إن شئت قوله – عزوجل – في سورة الأنعام المكية: )قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم( (الأنعام: 151)، إلى تمام ثلاث آيات بعدها، جمعت الوصايا العشر لهذه المقاصد الخمسة، ولا يخفى عليك أن آيات العقائد في القسم المكي ظاهرة واضحة، وكثيرة شائعة، ليست من موضوع الاشتباه، ولا يختلف اثنان في أنها أكثر من مثيلاتها في السور المدنية بأضعاف الأضعاف.
- أن كثرة التفاصيل في تشريع الأحكام بالمدينة، ليس نتيجة لما زعموه، إنما هو أمر لا بد منه في سياسة الأمم وتربية الشعوب، وهداية الخلق؛ ذلك أن الطفرة حليفة الخيبة والفشل، والتدرج حليف التوفيق والنجاح، وتقديم الأهم على المهم واجب في نظر الحكمة، لهذا بدأ الله عباده في مكة بما هو أهم، بدأهم بإصلاح القلوب، وتطهيرها من الشرك والوثنية، وتقويمها بعقائد الإيمان الصحيح، والتوحيد الواضح، حتى إذا استقاموا على هذا المبدأ القويم، وشعروا بمسئولية البعث والجزاء، وتقررت فيهم هذه العقائد الراشدة، فمنعهم عن أقبح العادات وأرذل الأخلاق.
وقادهم إلى أصول الآداب وفضائل العادات، ثم كلفهم ما لا بد منه من أمهات العبادات – وهذا ما كان في مكة – ولما مرنوا على ذلك، وتهيأت نفوسهم للترقي والكمال، وكانوا وقتئذ قد هاجروا إلى المدينة، جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام، وأتم عليهم نعمته ببيان دقائق الدين وقوانين الإسلام.
ونظير ذلك ما تواضع عليه الناس قديما وحديثا في سياسة التعليم، من أنهم يلقنون البادئين في مراحل التعليم الأولى أخف المسائل وأوجزها، فيما يشبه قصار السور ومختصر القصص، حتى إذا تقدمت بهم السن وعظم الاستعداد تلاطم بحر التعليم وزاد – على حد قولهم – الإمداد على قدر الاستعداد.
أما ما زعموه من أن ذلك كان نتيجة لاختلاط محمد – صلى الله عليه وسلم – بأهل المدينة المستنيرين، فينقضه أن القرآن جاء ليصلح عقائد أهل الكتاب، وأخطاءهم في التشريع، وفي التحليل والتحريم، وفي الأخبار والتواريخ، فكيف يأخذ المصيب من المخطئ؟ وهل يستمد الحي حياته من ميت؟ اقرأ – إن شئت – قوله عزوجل: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا( (آل عمران: 64)، وقوله عزوجل: )يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيــم ومـا أنزلـت التــوراة والإنجيــل إلا مـن بعــده أفــلا تعقلــون (65)( (آل عمران)، وقوله عز وجل: )وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف( (المائدة: 45).
وأن ما زعموه لو كان صحيحا؛ لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم، من عرب أهل المدينة، وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة، ولكانوا هم الأحرى بهذه النبوة والرسالة، ولسبق محمدا – صلى الله عليه وسلم – إليها كثير غيره من فصحاء العرب، وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيما اختلاط.
وأن القرآن تحدى الكافة من مكيين ومدنيين، بل من جن وإنس، فلم يستطيعوا – ولن يستطيعوا – أن يجاروه، ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة، يا لها من فرية، ثم يا لها من صفاقة”[13].
ونختم بكلام بليغ عرى فيه الأستاذ محمد قطب مكامن نفوس مثيري مثل هذه الشبهة، وكشف زيف دعواهم، فقال: “كانت الفترة الممتدة في مكة فترة تربية وإعداد؛ تربية بالعقيدة، وإعداد لحمل الأمانة الكبرى التي لم تحملها أمة أخرى من قبل؛ وهي تحقيق منهج الله في واقع الأرض، والقيام في الوقت ذاته بقيادة البشرية قيادة راشدة مهتدية بنور الله عزوجل: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران: 110)، )وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( (البقرة: 143).
فأما التربية فكانت قد آتت ثمارها بالفعل في نفوس الفئة المختارة، التي رباها على عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة عشر عاما في مكة.
وحين علم الله من قلوب هذه الفئة التي تربت بـ “لا إله إلا الله” على عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين علم منها أنها تجردت لله وأخلصت له، وأصبح الله ورسوله أحب إليهما مما سواهما، عندئذ نقلها النقلة الثانية الهائلة لتقوم بدورها المطلوب. كانت النقلة الأولى نقلة العقيدة، من الأرباب المتفرقة إلى لا إله إلا الله، والنقلة الثانية كانت من فترة الابتلاء والتمحيص، والاستضعاف والتشريد إلى التمكين في الأرض والاستخلاف.
وكما كان القرآن – وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم – هو أداة النقلة الأولى من الكفر إلى الإيمان، فكذلك كان هو أداة النقلة الثانية إلى التمكين والاستخلاف. فكيف كان القرآن هو الموجه والمربي في فترة التمكين؟ وفي أي الموضوعات كان يتحدث؟
تتحدث السور المدنية عن العقيدة، ولكن حديث العقيدة هنا لا يأخذ المساحة التي كان يأخذها في السور المكية؛ لأنه هناك كان للتأسيس، وهو هنا للتذكير. لقد تأسست العقيدة بالفعل في فترة التربية العقدية في مكة، واليوم يقوم مجتمع مسلم ودولة مسلمة في المدينة تحتاج إلى تنظيمات وتشريعات، وتحتاج إلى جهاد لحمايتها من أعدائها، ثم لنشر الإسلام في الأرض فيما بعد، ومن ثم يحتل هذان الموضوعان الجديدان معظم المساحة في السور المدنية: التنظيمات والتشريعات، والجهاد في سبيل الله.
في السور المدنية نجد ربطا كاملا بين العقيدة والشريعة، يلفت النظر إليه لفتا مباشرا – كما تحمله الإشارات والتلميحات – في مثل قوله سبحانه وتعالى: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقوله سبحانه وتعالى: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)( (النساء)، وقوله سبحانه وتعالى: )ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافــون أن يحيــف الله عليهــم ورسولــه بــل أولئــك هــم الظالمــون (50) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).
ومفهوم هذه الآيات كلها أن المدلول الحقيقي للإيمان هو التحاكم إلى شريعة الله، وأن ادعاء الإيمان مع رفض التحاكم إلى شريعة الله، أو عدم التسليم لها في داخل النفس هو ادعاء كاذب مردود على أصحابه، فالمحك الحقيقي للإيمان هو تحكيم الشريعة، والتحاكم إليها، وبغير ذلك فهي دعوة كاذبة لا يؤخذ بها في الأرض ولا يؤخذ بها في السماء، ويؤكد الأستاذ محمد قطب هذا الموضوع بقوله: ما جد في العهد المدني إلا تفصيل ما أنزل الله، أما اتباع ما أنزل الله فقد كان مقررا من قبل في العهد المكي على أنه هو العقيدة، وهو معنى لا إله إلا الله.
إلا أننا في المدينة نجد موضوعين جديدين، هما:
- التشريعات والتنظيمات.
- الجهاد في سبيل الله.
فأما التشريعات والتنظيمات، فقد شملت كل جوانب الحياة الإنسانية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والخلقية، وأما الجهاد في سبيل الله، أو ما نستطيع أن نطلق عليه “معركة لا إله إلا الله”، فقد شمل الحديث عنه: تحديد أعداء لا إله إلا الله، الذين لا يرغبون في إقامة حكم الله في الأرض، ويتربصون الدوائر للقضاء على الإسلام، وهم: اليهود، والنصارى، والمشركون، والمنافقون. والأعمال التي يقومون بها لمحاولة تفريق الصف المسلم، وتعويق الدعوة، وخلخلة بناء المجتمع الإسلامي مع عناية خاصة بما نسميه بيان واجب المسلمين إزاء هذه المخططات الشريرة، من عدم موالاة اليهود والنصارى، أو المشركين والمنافقين والحذر من مؤامراتهم ضد الإسلام”[14].
وبهذا التفصيل يتبين بطلان ما أنكره بعض المشككين ويثبت – بما لا يدع مجالا للشك – أصالةالتشريع الإسلامي وثبوته، أما الاختلاف بين التشريعات، بين العهدين :المكي و المدني، فالمسألة راجعة إلى اختلاف طبيعة الفترتين ـ المكية والمدنية ـ وظروفهما، مما اقتضى مغايرة في التوجيه الرباني والإرشاد السماوي، والهدي النبوي، وليس انقلابا أو تقلبا أو تخبطا، كما افترى المفترون.
الخلاصة:
- الشريعة الإسلامية تتصف بالأصالة الباقية، والخلود الأبدي في نصوصها ومصادرها دون أن يتطرق إليها تحريف، أو يطرأ عليها أي تبديل أو تغيير، وواقعها خير شاهد.
- للقضايا التشريعية أقسام ثلاث:
o قضايا تشريعية لا تقبل التجديد ولا التطوير: وهي التي وردت فيها نصوص قطعية، وأحكام تفصيلية؛ كمسائل العقيدة، وأركان الإيمان، ومعظم أحكام العبادات وغيرها.
o قضايا تشريعية خاضعة للتطور: وهي القضايا المستجدة التي لم يرد فيها نص صريح من كتاب أو سنة.
o قضايا تشريعية قابلة للتجديد: وهي المبادئ والقواعد التي لها ارتباط وثيق بالمعاملات المالية، والشئون القضائية، والنظم الاقتصادية وغيرها.
- العهد المكي هو عهد تربية المؤمنين على عقيدة التوحيد وضبط النفس والتجرد، والصبر، والاحتمال، وهو عهد بناء الجماعة المسلمة، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة والدعوة، وتكوين النواة القومية الصلبة لجيش يجاهد في سبيل الله، وتربية الأسرة المؤمنة التي تسند ظهر المجاهدين.
- العهد المدني عهد مقاومة وجهاد؛ دفاعا عن النفس والعرض والمال والدين، وعهد دولة وتشريع؛ استعدادا لنشر دين الحق، وهداية الناس أجمعين.
- شرعت الزكاة تطهيرا للنفوس، وتزكية للأخلاق، وتنقية للنفس من أشد الأمراض وأسوئها وهو الشح، وشرع الحج لإعادة القلوب إلى الصفاء والنقاء والاطمئنان بذكر الله، وذلك بعد أن امتلك المسلمون المال، وكثر وفاض في أيديهم، وشعروا بالأمن والأمان والاستقرار، كما أن الجهاد شرع لحماية الدولة الإسلامية الناشئة، ولنشر دعوة لا إله إلا الله في الأرض.
- التشريع الإسلامي رباني المصدر، يتميز بالشمولية والصلاحية لكل زمان ومكان، وليس صحيحا ما يتوهمه المتوهمون من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخذه عن يهود المدينة؛ بل لقد جاء الإسلام بما ينقض عقائدهم الباطلة ويخالف تشريعاتهم المحرفة.
(*) في التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، مصر، 1989م.
[1]. محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص21.
[2]. محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص22 بتصرف.
[3]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، د.عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص14 وما بعدها.
[4]. محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص41، 42.
[5]. هذا الإيضاح مأخوذ من كتاب: المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقا، ص617، نقلا عن: محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص44.
[6]. الحكر: العقار المحبوس، والتحكير: الأجرة المقررة على عقار محبوس في الإجارة الطويلة ونحوها.
[7]. محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص41 وما بعدها.
[8]. الجهاد في الإسلام، محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، ص5، 6 بتصرف.
[9]. فقه السيرة النبوية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار السلام، القاهرة، ط14، 2004م، ص143، 144.
[10]. الجهاد في الإسلام، محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، ص5.
[11]. المقاصد التربوية للعبادات في الروح والأخلاق والعقل والجسد، د. صلاح سلطان، سلطان للنشر، أمريكا، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص21: 27، ص54: 58 بتصرف.
[12]. المقاصد التربوية للعبادات في الروح والأخلاق والعقل والجسد، د. صلاح سلطان، سلطان للنشر، أمريكا، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص33: 41 بتصرف.
[13]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار الباز، الرياض، ط1، 1996م، ج1، ص183 وما بعدها.
[14]. دراسات قرآنية، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط7، 1993م، ص273 وما بعدها.
أولا. يتسم التشريع الإسلامي بالأصالة والخلود في حين أن غيره يحمل في ثناياه عوامل التبديل والتغيير والتحريف والهدم: