إنكار حديث إيذاء بني إسرائيل لموسى عليه السلام
وجها إبطال الشبهة:
1) إن حديث إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – حديث صحيح، بل في أعلى درجات الصحة؛ فقد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وكذا رواه أصحاب السنن بأسانيد صحاح، وإنه لمن الثابت أن الذي اتهم موسى – عليه السلام – بالسحر هو فرعون وملؤه، وقد كانت معجزة انقلاب العصا حية تأييدا لموسى في دعوته إياهم، وبراءة له مما اتهموه به من السحر.
أما بنو إسرائيل فقد كان إيذاؤهم لموسى – عليه السلام – بعد أن آمنوا به، وبعد أن نجاهم الله من القوم الظالمين، فاتهموه في خلقته وجسده، وتقولوا عليه الكذب والضلال، فبرأه الله مما قالوا بهذه الطريقة، التي هي أنسب ما يكون لطبيعة بني إسرائيل ولعقولهم المادية المتمردة.
2) إن الله – عز وجل – أخبر في كتابه – على الإجمال – أن بني إسرائيل قد آذوا موسى عليه السلام، ولم يبين على نحو من التفصيل نوع هذا الإيذاء وحقيقته، ثم جاء النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين هذا المجمل وفصله، ووضح أن إيذاء بني إسرائيل لموسى كان بهذا القول، والاتهام في جسده وخلقته، بما أوحاه الله إليه في هذا.
التفصيل:
أولا. حديث إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – في أعلى درجات الصحة، واستدلالاتهم باطلة فاسدة:
لا مجال للطعن في حديث إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – وتبرئة الله له؛ فالحديث في أعلى درجات الصحة؛ لرواية الشيخين له في صحيحيهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – فقد أخرجه البخاري في صحيحه من طريق الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن موسى كان رجلا حييا ستيرا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا، فذلك قوله: )يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)(»[1].
وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة – رضي الله عنه – حيث أخرجه البخاري[2]، ومسلم[3]، وأحمد[4]، وابن حبان[5]، من طريق معمر بن راشد عن همام بن منبه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده. فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربا، فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالعصا”.
ومما سبق يتأكد لنا أن حديث إيذاء بني إسرائيل لموسى، وتبرئة الله – عز وجل – له ثابت في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، فلا وجه للطعن أو التشكيك؟!
أما الكلام عن متن الحديث وما يثار حوله من شبهات، فموضوعنا في السطور التالية.
إن الآيات القرآنية التي تحدثت عن بني إسرائيل، وعن قصة موسى – عليه السلام – مع قومه – كثيرة، بل إنها أكثر القصص ورودا في القرآن الكريم، حيث ذكرت في مواضع متفرقة متعددة مطولة وغير مطولة[6].
لقد أرسل الله – عز وجل – موسى – عليه السلام – إلى فرعون وقومه؛ ليخلص بني إسرائيل من العذاب الأليم، وقد أيده الله بالمعجزات والآيات والحجج القاطعات، فقد امتد فرعون في طغيانه وجبروته، فأخذ يذبح أبناء بني إسرائيل، ويذيقهم العذاب الأليم، وفوق ذلك ادعى أنه الرب الأعلى! جاء موسى لفرعون يدعوه إلى عبادة الله وحده، ولزوم طاعته، وأن يرسل معه بني إسرائيل، ويخلصهم من العذاب والهوان.
وإذا ضربنا صفحا عن ذكر أحداث قصة موسى – عليه السلام – مع فرعون منذ طفولته، وهروبه من فرعون وملئه بعد أن قتل منهم نفسا، وما قضاه من أحداث في أهل مدين، ثم اختيار الله له، وإرساله إلى فرعون، وصولا إلى مرادنا من قص هذه القصة، وهو لقاء موسى – عليه السلام – مع فرعون، وبيان معجزة انقلاب العصا حية، واتهام موسى بالسحر.
إذا من الذي اتهم موسى بأنه ساحر؛ وإلى من وجهت معجزة انقلاب العصا حية، وغيرها من المعجزات؟!
إن الأمر الواضح تمام الوضوح لمن يتناول القرآن الكريم بالقراءة المجردة، هو أن موسى – عليه السلام – قد جاء بمعجزة العصا مواجهة لفرعون وطغيانه، وتأييدا لصدقه، وتوكيد دعوته، وأن الذي اتهمه بالسحر فعلا هو فرعون نفسه، وكانت المعجزة الحقيقية في انقلاب العصا حية هائلة هي براءته من هذا الاتهام الذي ألصقه فرعون به. وتأكيدا لنبوته، وتصديقا لرسالته. والآيات القرآنية في ذلك كثيرة جدا، نذكر منها ما يأتي:
قال تعالى: )وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى (18) قال ألقها يا موسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20)( (طه).
وقال تعالى: )وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون (10)( (النمل).
وقال تعالى: )وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (31) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين (32)( (القصص).
وقال تعالى: )ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (75) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون (77)( (يونس).
وقال تعالى: )ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا (101)( (الإسراء).
وقال تعالى: )فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى (47)( (طه).
وقال تعالى حكاية عن فرعون: )ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى (56) قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57) فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى (58)( (طه).
وقال تعالى حكاية عن فرعون وموسى عليه السلام: )قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال أولو جئتك بشيء مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33) قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35)( (الشعراء).
آيات كثيرة في هذا السياق القرآني البليغ حول قصة موسى – عليه السلام – وفرعون، تدل دلالة قاطعة – لا مرية فيها ولا شك – على أن موسى – عليه السلام – قد أرسله الله – عز وجل – إلى فرعون وملئه؛ لدعوتهم إلى عبادة الله وحده، ولهدايته إلى طريق الرشاد، وقد أيده في سبيل ذلك بالمعجزات الخارقة، والآيات العظيمة الباهرة.
وكانت أعظم هذه الآيات التي جاء بها موسى – عليه السلام – فرعون، هي آية انقلاب العصا حية عظيمة تبتلع كل ما أمامها، فهذا هو البرهان الذي قدمه موسى لفرعون دلالة على صدقه وتأكيدا لدعوته، وعلى هذا فإن انقلاب العصا حية معجزة، جاء بها موسى – عليه السلام – إلى فرعون وملئه ليثبت بها صدق قوله ويقين دعوته ورسالته، وليخلص بها بني إسرائيل من العذاب الأليم.
وما إن حدثت هذه المعجزة أمام فرعون وبهت أمامها، وطاش عقله بهولها، خرج بدعوته الماجنة وقولته الكاذبة واتهامه الأثيم، وقال: إن هذا لساحر عليم! اتهم موسى بالسحر، وأنه بلغ درجة الغاية والإتقان في هذه الصنعة، التي كان لها الذيوع والانتشار في أهل مصر وقصر الفرعون، فأراد معارضة المعجزات والآيات بصناعة السحر وإفك الساحرين، ولكن لا يفلح الساحر حيث أتى.
يثبت من هذا أن الذي اتهم موسى بالسحر ابتداء هو فرعون الطاغية، وهو الذي فجر هذه الدعوى الكاذبة على موسى وهارون، وقد ثبتت المعجزة وانتصر الحق، وآمن السحرة لموسى، وكانت العصا برهانا قاطعا منجيا ومبرئا لموسى مما اتهمه به فرعون، ودليلا قاطعا على نبوته، وصدق دعوته.
نخلص من ذلك إلى أن الذي اتهم موسى بالسحر المبين، والذي ووجه بمعجزة انقلاب العصا حية هو فرعون ليس أكثر، وما لبني إسرائيل يد في هذا.
إذا ما انتهى الحديث بنا عن حلقات الصراع بين موسى – عليه السلام – وفرعون، وما ثبت من معجزات بينهما، حتى انتصر موسى – عليه السلام – بفضل الله، وهلك فرعون ومن معه، هنا تبدأ حلقات الصراع الفعلية بين موسى وبني إسرائيل.
إذا كان فرعون وقومه قد اتهموا موسى بالسحر، وبرأه الله منهم بمعجزاته وآياته، ونصره عليهم، فإن بني إسرائيل اتهموا موسى – عليه السلام – بأمور أخر، وأشياء كثيرة.
ولا نريد تفصيلا في موقف بني إسرائيل مع نبيهم موسى – عليه السلام – إلا بما يفيد حديثنا ويثبت قولنا في رد هذا الادعاء، ودفع الشبهة عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن الذي اتهم موسى – عليه السلام – بالسحر، وكانت المعجزة دحضا لفريته، وإبطالا لقولته، هو فرعون عليه من الله اللعنات المتتابعات، أما بنو إسرائيل فكان لهم زعم آخر، واتهام مخالف بعد إيمانهم، ونجاتهم من فرعون وملئه، ورحيلهم مع موسى إلى الأرض المقدسة، فقد وقع منهم الإيذاء، والاتهام لنبيهم الكريم بأكثر من صورة وفي أكثر من موقف، وقد بين القرآن الكريم كثيرا من هذا.
إن الذي يتلو القرآن الكريم ويتدبر حديثه عن علاقة اليهود بنبيهم يجده يكثر من الحديث عن إرهاق الإسرائيليين أو اليهود لموسى – عليه السلام – موسى الذي أرسله الله إليهم فأنقذهم من ظلم فرعون، نجده – أيضا – يجأر إلى الله من إيذاء اليهود له، قال تعالى: )وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين (5)( (الصف)، ونجد القرآن الكريم يقرر أن اليهود قد آذوا موسى عليه السلام، ونهى الله صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يكونوا كالجيل الذين كانوا مع موسى، إذ آذوه فبرأه الله من طول ألسنتهم وشكوكهم واتهامهم له. قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)((الأحزاب).
نعم: إن صور الإيذاء التي تعرض لها رسول الله موسى – عليه السلام – كثيرة، منها ما هو جسمي، ومنها ما هو دعوي، ومنها ما هو متعلق بالعقيدة، ومنها ما هو متعلق بالشريعة، ومنها ما هو متعلق بالسلوك[7].
وهذا هو حال بني إسرائيل مع أنبياء الله جميعا، لم يحفظوا لنبي حرمة، ولم يوفوا له بعهد، بل تقولوا عليهم، وآذوهم، وقتلوهم، أليس من الحماقة، وسوء الظن، وانقلاب الفطر، وضيق العقول، أن يتهم هؤلاء القوم الفاسقون نبيهم بما لا يرضى من القول، ويتعجبون من حياء النبي موسى – عليه السلام – وتستره، فلم يكتفوا بفساد فطرتهم، واغتسالهم عرايا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض، بل اتهموا موسى – عليه السلام – بالبرص والآدر؛ “وهو انتفاخ الخصية”، وبالعيوب الجسدية، ولم يرجعوا ذلك إلى أخلاقه وإيمانه، وإنما لفساد أخلاقهم ظنوا به السوء، وتقولوا عليه التهم والافتراءات، ولهذه الطبيعة المتمردة، والفطر المنتكسة جاءت براءة النبي موسى – عليه السلام – في ثوب المعجزة الحسية، التي هي أقطع الطرق للإيمان والتصديق، موافقة لعقول الأشرار.
وعلى هذا فإن دفاع الله – عز وجل – عن موسى – عليه السلام – قد خرج على طريقة خرق العادة، تماما كالعديد من خوارق العادات التي صاحبت نبوة موسى – عليه السلام – لتكون بينة كبرى تنضم إلى جميع البينات التي تثبت أن موسى إنما اصطنعه ربه لنفسه، وصنعه على عينه، فالله – سبحانه وتعالى – الذي جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام، والجبال تؤوب مع داود عليه السلام، وألان له الحديد، هو الذي أمر الحجر بأن يفر بملابس موسى – عليه السلام – ليرد عنه أذى قومه، وحكمته في ذلك – سبحانه وتعالى – أن بني إسرائيل مجتمع مادي، لا يصدق إلا ما يراه عيانا بيانا، فالله – سبحانه وتعالى – بعد ما نجاهم من فرعون، وأظهر لهم دلائل نبوة موسى – عليه السلام – بنصره على السحرة، وشق لهم في البحر طريقا يبسا بين جبلين من الماء مع احتفاظ الماء بسيولته، وفجر لهم من الحجر اثنتا عشرة عينا على عدد بطون بني إسرائيل، بعد كل هذه الآيات والمعجزات قالوا: لن نؤمن حتى نرى الله جهرة، فهل يعقل أن قوما كهؤلاء يمكن لهم أن يقتنعوا برؤية منامية – مثلا – على براءة موسى[8]؟!
وتأسيسا على ما سبق فإن لهذا الأمر فوائد وحكما كثيرة منها:
- أنه عندما يرى بنو إسرائيل موسى – عليه السلام – عريانا أمامهم سيصدقون أنه ما به عيب، وفي هذا دفع للأذى.
- لم يطلب الله – عز وجل – من سيدنا موسى – عليه السلام – أن يذهب إلى بني إسرائيل، ثم يخلع ملابسه أمامهم؛ لأن في هذا عيب يؤخذ عليه كنبي، وإنما جاء عن طريق تدبير رائع، بأن يأخذ الحجر الثوب، ثم يجري موسى – عليه السلام – وراء الحجر، فيراه بنو إسرائيل بطريقة لا تقدح فيه، فيوقنوا ببراءته.
- أن الضرر الناتج عن سير موسى – عليه السلام – عريانا وراء الحجر من أجل الحصول على ملابسه ليستر بها عورته، أقل من الضرر الناتج عن اتهامه بالآدر أو البرص.
وذلك لأن الأنبياء والرسل هم القادة في أممهم، والزعماء بين أقوامهم، وهذا يقتضي بالضرورة أن يكون القائد أو الزعيم مخالطا لأفراد أمته قريبا منهم، ولو أصيب أحد الأنبياء بمرض كالبرص – وهو مرض معد ينتقل من جلد إلى جلد بالمماسة والملاقاة – لانفض الناس من حوله، ولتركوا رسالته التي هي كنه حياته ومحور وجوده، ناهيك عن ضياع مكانته الاجتماعية بين الناس[9].
من أجل هذا كان حقا على الله تعالى أن يحفظ أنبياءه ورسله من كل ما يحاك ضدهم، وهذا ما حدث بالفعل مع موسى – عليه السلام – عندما اتهم بوجود عيب خلقي في جسده، فيسخر الله تعالى له حجرا يأخذ ثوبه وهو يغتسل ليسير به إلى قومه، هو يحاول أن يلحق به فلا يستطيع، حتى رآه قومه وهو عريان، فأيقنوا ببراءته، وقالوا: والله ما بموسى من بأس، وهذا الدفاع من الله – عز وجل – يعد خارقا للعادة، وهو الذي يتناسب مع طبيعة بني إسرائيل في كونهم لا يصدقون – ألبتة – إلا الأشياء المادية التي يرونها بأعينهم، ولو كانت هناك وسيلة أخرى في الدفاع غير هذه – ليس فيها كشف للعورة وتؤدي إلى إظهار البراءة – لاستخدمها الله عز وجل، وقد علم الله تعالى أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الوحيد للدفاع عن نبيه، ولكن مثيري الشبهة قوم لا يعقلون.
وأما ما جاء عن نداء موسى – عليه السلام – للحجر، وقوله: «ثوبي حجر»! فلعلمه – عليه السلام – بأن الحجر يسمعه، ولفعله فعل من يعقل، وهذا الأمر خاص بالأنبياء، وقد ثبت في السنة النبوية سماع النبي – صلى الله عليه وسلم – للحجر والكلام معه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان»[10].
وعن جابر بن سمرة – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن»[11].
وإن قال قائل: كيف يضرب موسى الحجر مع أن الحجر مأمور؟
يجيب على هذا التساؤل الإمام النووي، فيقول: “يجوز أن يكون أراد موسى – عليه السلام – بضرب الحجر إظهار معجزة لقومه بأثر الضرب في الحجر”[12].
ويحتمل أنه أوحي إليه أن يضربه لإظهار المعجزة، وقد أشار الحافظ ابن حجر في الفتح إلى الاحتمال الأول[13].
وخلاصة القول: أن الحديث الوارد في إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – باتهامهم له بعيوب خلقية كالبرص والآدر – هو حديث صحيح ثابت، وأن ادعاء الطاعنين برد هذا الحديث بحجة أن ذلك مخالف لما جاء في القرآن الكريم من أن إيذاء بني إسرائيل له كان باتهامه بالسحر، وليس باتهامه بعيوب خلقية – هو ادعاء باطل؛ لفساد استدلالهم، فالذي اتهم موسى – عليه السلام – بالسحر هو فرعون وملؤه، أما بنو إسرائيل فقد اتهموه بوجود عيوب خلقية في جسده.
ودعواهم أن هذا الحديث مردود؛ لاستنكارهم أن يتخذ الله مثل هذا الأسلوب في الدفاع عن موسى – فهو أوهى من سابقه؛ لأن تلك الطريقة هي الأنسب مع هؤلاء القوم الذين لا يؤمنون إلا بالأشياء الحسية المادية، ولأن الضرر الناتج عن سير موسى عريانا وراء الحجر من أجل الحصول على ملابسه ليستر بها عورته – أقل من الضرر الناتج عن اتهامه بالآدر أو البرص، وعليه فالحديث صحيح سندا ومتنا ولا مطعن فيه.
ثانيا. إخبار الله – عز وجل – عن إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام -، وتبرئة الله – عز وجل – له، وإن جاء مجملا إلا أن السنة النبوية قد بينت هذا المجمل:
إذا كان القرآن الكريم لم يحدد نوع الإيذاء الذي وقع من بني إسرائيل لسيدنا موسى عليه السلام – الوارد في الآية – وجاء الأمر فيه مجملا؛ فإن السنة، وهي ضرب من الوحي، قد بينت هذا المجمل، وأوضحت أن إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – كان باتهامهم إياه بعيب خلقي في جسده، وهذا الأمر لا غضاضة فيه، فإن السنة مبينة للقرآن، ومفصلة لمجمله، وموضحة لغامضة.
وقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم – معنى قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها(، فذكر القصة التي وردت في الحديث.
ولقد اقتدى النبي – صلى الله عليه وسلم – من ذكر الله له نبأ موسى وإيذاء بني إسرائيل، فكان – صلى الله عليه وسلم – إذا أوذي يقول: «يرحم الله موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»[14].
وعليه فإن ما قيل من أن إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – هو اتهامه بالسحر فهو مخالف للعقل والنقل؛ لأن السحر والكهانة في الحضارات القديمة عامة، وفي الحضارة المصرية القديمة على وجه الخصوص – كانت من المهن المقدسة عند عامة الناس، وفي أوساط علية القوم على السواء، وأن من كان له انتماء إلى السحر، أو كان له اشتغال بالكهانة كانت له مكانته المحفوظة في الأمة، وهيبته المصونة بين الرجال، فلو كان بنو إسرائيل اتهموا موسى – عليه السلام – بالسحر؛ لما عده الناس من قبيل الإيذاء، ولما عدوه ضمن مثالب الرجال، وإنما لعل ذلك لو كان لجعل قومه ينظرون إليه بطريقة تختلف عن طريقة نظرتهم إليه حينما جاءهم وأخبرهم بأنه نبي ورسول من عند الله[15]، وأما النقل فهو عدم الدليل على صحة قول من ذهب إلى أن إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – الوارد في الآية – هو اتهامه بالسحر، فنحن نضرب صفحا عن كل ما لا دليل عليه، فليس عندنا غير حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – القائل بأن إيذاء بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – كان اتهامه بوجود عيب خلقي في جسده تفسيرا للآية الكريمة، ولو كان هناك تفسير آخر للآية لذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو أعلم الناس بالقرآن الكريم، وعليه أنزل.
وعلى هذا تذهب الحجج التي أوردها المغرضون في إنكار أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – سدى. ويرد كيدهم في نحورهم، وتبقى الحقائق ثابتة، لا تزيدها الادعاءات إلا قوة ورسوخا.
الخلاصة:
- إن حديث إيذاء بني إسرائيل – عليه السلام – وتبرئه الله – عز وجل – له حديث صحيح في أعلى درجات الصحة؛ حيث إنه ثابت في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة بطرق مختلفة.
- إن الذي اتهم موسى – عليه السلام – بالسحر والبراعة في صناعته، والذي كانت معجزة انقلاب الحية دحضا لفريته وإبطالا لقولته، هو فرعون، أما بنو إسرائيل فقد اتهموا موسى – عليه السلام – بأمور غير ذلك، فلم يتهموه بالسحر، وما كانت معجزة انقلاب العصا حية لمواجهتهم.
- لقد كان لبني إسرائيل مع أنبياء الله عامة، وموسى – عليه السلام – خاصة، مواقف عدائية، فقد قتلوا الأنبياء، وتجرءوا على حرمتهم، وعصوا أوامرهم، وآذوهم، وافتروا عليهم الكذب، وهم يعلمون، وكان مما آذوا به موسى أنهم اتهموه في جسده، وتقولوا عليه بأمراض معدية مثل البرص والآدر والآفات.
- إن دفاع الله – عز وجل – عن موسى – عليه السلام – وتبرئته من اتهامات بني إسرائيل، جاء عن طريق المعجزة الحسية التي تمثلت في تسخير الحجر بأخذ ثوب النبي موسى – عليه السلام – بعد ما نزل الماء للاغتسال، وأن يجري به حتى يستقر، بما يتناسب مع طبيعة بني إسرائيل؛ إذ إنهم لا يصدقون ألبتة إلا ما يرونه بأعينهم؛ لانغماس عقولهم في الماديات.
- لقد كانت مناداة موسى – عليه السلام – للحجر أمرا خاصا بالأنبياء وحدهم دون أحد، ولعلمه – عليه السلام – أن الحجر يسمعه، ولفعل الحجر فعل من يعقل، وأما ضربه إياه؛ فلأنه أراد إظهار معجزة لقومه، بتأثير الضرب في الحجر، فإن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة الصماء، فيالهم من قوم عادين.
- إن السنة النبوية الشريفة، جاءت موضحة لما في القرآن، ومفصلة لمجملة، ومبينة لغامضة، فإذا كان القرآن الكريم لم يحدد نوع الإيذاء الواقع على موسى – عليه السلام – في الآية الكريمة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – وضح هذا الإيذاء بشيء من التفصيل على نحو ما جاء في الحديث، وكان هذا – أيضا – بوحي من الله تعالى، فالقرآن والسنة كلاهما وحي من عند الله تعالى.
- لقد قرر المحققون من أهل العلم أن الإيذاء المراد من الآية هو ما تضمنه حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – موضوع الشبهة – وليس اتهامه بالسحر؛ فإن السحر والكهانة كانت من المهن المقدسة في الحضارات القديمة، كما أن القول به يعد اتهاما للنبي – صلى الله عليه وسلم – بالجهل، فهل يتصور عاقل أن يكون هذا هو المراد من الآية، ولم يذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو أعلم الناس بالقرآن وبمراد ربه، وعليه أنزل؟!
(*) ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: رقم (28)، (6/ 502)، رقم (4304).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الغسل، باب: من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، (1/ 458، 459)، رقم (278).
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: جواز الاغتسال عريانا في الخلوة، (2/ 898)، رقم (754).
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، (16/ 66، 67)، رقم (8158). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[5]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: التاريخ، باب: بدء الخلق، (14/ 94)، رقم (6211). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان.
[6]. انظر: قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص221.
[7]. شغب اليهود على الأنبياء، د. محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، الأردن، ط1، 1998م، ص79.
[8]. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص388.
[9]. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص386.
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كنت متخذا خليلا”، (7/ 26)، رقم (3675).
[11]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، (8/ 3410)، رقم (5829).
[12]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (2/ 899).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 505).
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليه السلام، (6/ 503)، رقم (3405). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، (4/ 161)، رقم (2408).
[15]. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص387 بتصرف.