إنكار حديث “الجساسة”
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد اتفق على صحة “حديث الجساسة” جمع كبير من علماء الأمة، فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، كما أخرجه غيره من أصحاب السنن والمسانيد.
وقد روى هذا الحديث – غير فاطمة بنت قيس – أبو هريرة، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم، كما أن الإمام الشعبي لم ينفرد بروايته عنها، فلقد تابعه في ذلك أبو سلمة، ويحيى بن يعمر وغيرهما.
2) لقد اتفق جل العلماء من الفقهاء والمحدثين على توثيق الإمام الشعبي والثناء عليه ثناء بالغا، لدرجة أنهم اعتبروا مرسله عن الصحابة صحيحا، لأنه سمع عن كثير منهم.
3) لقد شهد بفضل تميم الداري – رضي الله عنه – وصلاحه وتقواه الصحابة – رضي الله عنهم – ومن جاء بعدهم؛ مما ينفي عنه مظنة الكذب والدس في الدين.
4) مما لا شك فيه أن حديث الجساسة من أمور الغيب التي هي أصل من أصول الدين، والنبي – صلى الله عليه وسلم – معصوم من تصديق الكاذب فيها.
التفصيل:
أولا. حديث الجساسة حديث صحيح، فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، كما رواه أصحاب السنن والمسانيد بطرق أخرى غير طريق الشعبي:
لقد أورد الإمام مسلم في صحيحه حديثا ذاع واشتهر بحديث الجساسة، والذي رواه من طريق الحسين بن ذكوان، عن ابن بريدة قال: «حدثني عامر بن شراحيل الشعبي، شعب همدان؛ أنه سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، وكانت من المهاجرات الأول؛ فقال: “حدثيني حديثا سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا تسنديه إلى أحد غيره، فقالت: لئن شئت لأفعلن، فقال لها: أجل، حدثيني. فقالت: نكحت ابن المغيرة… إلى أن قالت: فخرجت إلى المسجد. فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة. ولكن جمعتكم؛ لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفئوا[2] إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم! انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال: لما سمت لنا رجلا فرقنا[3] منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم[4]، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعا، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل بيسان، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك ألا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر[5]، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني؛ إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي – كلتاهما – كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتا[6] يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته[7] في المنبر: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة – يعني المدينة – ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم. فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه، وعن المدينة ومكة. ألا إنه في بحر الشام، أو بحر اليمن، لا، بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، وأومأ بيده إلى المشرق. قالت: فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[8].
ويكفي للحكم بصحة الحديث وروده في صحيح مسلم؛ الذي أجمعت الأمة على صحة كل ما ورد فيه، يقول الشيخ أحمد شاكر: “الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، أو ممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر – أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف”[9].
بالإضافة إلى ذلك فلم يتفرد الشعبي برواية حديث الجساسة، بل قد تابعه في روايته أبو سلمة في روايات كثيرة، من ذلك ما أورده أبو داود في سننه، قال: “حدثنا النفيلي، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس: «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخر العشاء الآخرة ذات ليلة ثم خرج فقال…»[10] الحديث.
وإضافة لما سبق فقد روى الحديث – غير فاطمة بنت قيس – أبو هريرة وعائشة وجابر رضي الله عنهم.
يقول الحافظ ابن حجر: “وقد توهم بعضهم أنه غريب – يقصد حديث الجساسة – فرده، وليس كذلك؛ فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر، أما أبو هريرة فأخرجه أحمد من رواية عامر الشعبي عن المحرز بن أبي هريرة عن أبيه بطوله… وأما حديث عائشة فهو في الرواية المذكورة عن الشعبي قال: “ثم لقيت القاسم بن محمد، فقال: أشهد على عائشة حدثتني بما حدثتك فاطمة بنت قيس”[11][12]، وأما حديث جابر فأخرجه أبو يعلى الموصلي بسنده قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر قال: قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم على المنبر، فقال:… “[13] وذكر الحديث.
وبالإضافة لما سبق فقد ذكر أهل العلم حديث الجساسة في كتبهم، بل وحكموا عليه بالصحة، ومن ذلك ما يلي:
قال ابن الأثير في “أسد الغابة” عن تميم بن أوس: “حدث عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – حديث الجساسة، وهو حديث صحيح”[14].
وقال ابن عبد البر في الاستذكار: “ثابت صحيح من جهة الإسناد والنقل”[15].
ونخلص مما سبق إلى أن حديث الجساسة صحيح لا مطعن فيه ولا مغمز؛ فقد رواه غير الشعبي عن فاطمة بنت قيس – أبو سلمة ويحيى بن يعمر، كما رواه غير فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر رضي الله عنهم، والحديث أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو يعلى وأصحاب السنن.
ثانيا. توثيق علماء الحديث للشعبي والثناء عليه:
لقد اتفق جل العلماء – من المحدثين والفقهاء – على توثيق الإمام الشعبي والثناء عليه:
فقد أورد ابن سعد في طبقاته: “عن مكحول قال: ما رأيت أحدا أعلم بسنة ماضية من الشعبي”[16].
وذكره أبو نعيم الأصفهاني في “الحلية” فقال:
“حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا علي بن مسهر عن أشعب بن سوار، عن ابن سيرين، قال: قدمت الكوفة وللشعبي حلقة عظيمة، وأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومئذ كثير…
وعن عاصم بن سليمان، قال: ما رأيت أحدا أعلم بحديث أهل الكوفة والبصرة والحجاز والآفاق من الشعبي”[17].
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: قال ابن عينية: “علماء الناس ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه”[18].
وقد قال الحافظ المزي في تهذيبه: “قال أشعث بن سوار: نعى لنا الحسن الشعبي، فقال: كان والله كبير العلم، عظيم الحلم، قديم السلم، من الإسلام بمكان…
وقال سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول: ما رأيت أفقه من الشعبي.
وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، وأبو زرعة، وغير واحد: الشعبي ثقة.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: إذا حدث الشعبي عن رجل فسماه، فهو ثقة يحتج بحديثه.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: سمع من ثمانية وأربعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم… ومرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحا”[19].
وذكره الذهبي في (السير) فقال: الشعبي: عامر بن شراحبيل بن عبد بن ذي كبار؛ قيل[20] من أقيال اليمن، الإمام، علامة العصر.
وقال عنه أيضا: سمع من عدة من كبراء الصحابة، وحدث عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وعدي بن حاتم، وأسامة بن زيد، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعائشة، وجابر بن سمرة، وابن عمر…”[21] ذكر منهم خمسين، ومنهم فاطمة بنت قيس التي روت حديث الجساسة.
“قال علي بن القاسم عن أبي بكر الهذلي قال لي ابن سيرين: الزم الشعبي، فلقد رأيته يستفتى وأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متوافرون…
وذكر ابن فضيل، عن ابن شبرمة: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلي يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي… وقال ابن عيينة، عن داود بن أبي هند، قال: ما جالست أحدا أعلم من الشعبي…
وقال أبو عاصم، عن ابن عون قال: كان الشعبي إذا جاءه شيء اتقاه”[22]، وهذا يدل على مدى تحريه ودقته البالغة.
وقد ساق الحافظ ابن حجر في “تهذيب التهذيب” نقولا كثيرة للعلماء في توثيق الشعبي، منها قول أبي إسحاق الحبال: كان واحد زمانه في فنون العلم[23].
وعليه فقد تأكد لنا بعد سوق كل هذه الأقوال لأهل العلم والحديث في بيان علم الشعبي ومكانته المرموقة في مجال الرواية وغيرها من فنون العلم المتعددة – بطلان ما يدعيه هؤلاء المغرضون في شأنه.
ثالثا. مكانة تميم الداري – رضي الله عنه – الدينية بين الصحابة:
لقد شهد بفضل تميم الداري – رضي الله عنه – وصلاحه وتقواه الصحابة y ومن جاء بعدهم:
فقد ذكر ابن سعد في طبقاته، قال: “أخبرنا عفان بن مسلم قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: أخبرنا عاصم الأحول، قال: حدثنا محمد بن سيرين قال: كان تميم الداري يقرأ القرآن في ركعة”.
وقال أيضا: “أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا خالج الحزاء، عن أبي قلابة، قال: كان تميم الداري يختم القرآن في سبع ليال”[24].
وذكر الحافظ المزي في “تهذيب الكمال”: “روى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – حديث الجساسة، وهي منقبة شريفة جدا، ويدخل ذلك في رواية الأكابر عن الأصاغر”[25].
قال الحافظ ابن حجر في “الإصابة” في ترجمة تميم رضي الله عنه: “مشهور في الصحابة، كان نصرانيا وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي – صلى الله عليه وسلم – قصة الجساسة والدجال، فحدث النبي – صلى الله عليه وسلم – عنه بذلك، وعد ذلك من مناقبه”.
ثم نقل عن أبي نعيم أنه قال: كان راهب أهل فلسطين، وعابد أهل فلسطين، وهو أول من أسرج السراج في المسجد… وكان كثير التهجد بالليل، قام ليلة بآية حتى أصبح، وهي قوله تعالى: )أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم( (الجاثية: ٢١)[26].
ومن مناقبه ما ذكره في “الإصابة” أيضا قال: “أخرج البغوي من طريق الجريري، عن أبي العلاء، عن معاوية بن حرمل: قدمت على عمر فقلت: يا أمير المؤمنين، تائب من قبل أن يقدر علي، فقال: من أنت؟ فقلت: معاوية بن حرمل، ختن مسيلمة – أي صهره – قال: اذهب فانزل على خير أهل المدينة، قال: فنزلت على تميم الداري، فبينا نحن نتحدث إذ خرجت نار بالحرة، فجاء عمر إلى تميم فقال: يا تميم اخرج، فقال: وما أنا؟ وما تخشى أن يبلغ من أمري؟ فصغر نفسه، ثم قام فحاشها حتى أدخلها الباب الذي خرجت منه، ثم اقتحم في أثرها، ثم خرج فلم تضره”[27].
ومما لا شك فيه أن لعمر بن الخطاب مكانة عالية ومعرفة بالرجال عظيمة، فهو العبقري الملهم المحدث الذي لا يخفى عليه حال تميم ومنزلته من الصلاح والاستقامة والإخلاص، وهو القائل: “لست بالخب[28]، والخب لا يخدعني”، فكيف تتقبل العقول أن يرمى مثل هذا بالكذب والدس والإفساد في الدين؟![29].
وذكر الزركلي في “الأعلام” بعض فضائله، ومنها قوله: “روي له البخاري ومسلم ثمانية عشر حديثا”[30]، وهذا يدل على ثقته عندهما، فلو كان متهما بشيء ما رووا عنه.
ومن ثم فقولهم: إن الحديث من مسيحيات الصحابي تميم الداري قول باطل لا يصح، كما أنه لا يستند إلى دليل يدعمه؛ فضلا عن أن الصحابي تميم الداري قد أسلم وحسن إسلامه، وشهد له كثير من الصحابة بالفضل والصلاح والتقوى.
فهل يعقل بعد هذا كله أن يتهم هذا الصحابي الجليل التقي بالكذب والدس وإثارة الفتن في الدين؟!!
رابعا. حديث الجساسة من أمور الغيب التي عصم النبي – صلى الله عليه وسلم – من تصديق الكاذب فيها:
مما لا شك فيه أن حديث الجساسة والدجال من أمور الدين الغيبية، وليس من أمور الدنيا – كما يدعي مثيرو الشبهة – يقول الدكتور أبو شهبة: “قد حدث به – يعني حديث الجساسة – النبي – صلى الله عليه وسلم – على المنبر في جمع من الصحابة، واعتبره موافقا لما كان يحدثهم به عن المسيح الدجال وغيره من أشراط الساعة الكبرى، فكيف يكون هذا من أشراط الساعة ولا يكون من أمور الدين؟!” [31].
وهم يتساءلون كيف يكون هذا أمرا غيبيا وقد علمه تميم؟!
وللإجابة عن هذا يقول المعلمي اليماني: والحكمة في كشف الله تعالى لتميم وأصحابه عما كشف لهم عنه أن يخبروا بذلك، فيكون موافقا لما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يخبر به، فيزداد المسلمون وثوقا به، وهذا بين في الحديث، إذ قال النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذكره لتميم: «وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال… ثم قال: ألا هل كنت حدثتكم بذلك؟. فقال الناس: نعم. فقال: فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه، وعن المدينة ومكة»[32][33].
وفي هذا رد على قولهم: أن هذا الحديث لا يدخل تحت السنة التقريرية.
قال الحافظ ابن حجر في “الفتح”: ” وقد اتفقوا على تقرير النبي – صلى الله عليه وسلم – لما يفعل بحضرته، أو يقال ويطلع عليه بغير إنكار دال على الجواز، لأن العصمة تنفي عنه ما يتحمل في حق غيره مما يترتب عليه الإنكار فلا يقر على باطل”[34].
وبهذا يتبين أن حديث الجساسة أو الدجال من أمور الدين الغيبية، وهذه الأمور يعصم الأنبياء عن تصديق الكاذب فيها، فلو كان هذا الحديث كاذبا لما سكت الوحي عن بيان الحق فيما أخبر به، كما حدث في كثير من الأحيان حينما كان المنافقون وأضرابهم يقولون خلاف ما يبطنون فينزل الوحي فاضحا لهم ومبينا كذبهم[35].
وهذا يدفعنا إلى أن ننفي عنه – صلى الله عليه وسلم – الافتراء بأنه كثيرا ما كان يصدق المنافقين والكفار في أحاديثهم.
يقول المعلمي اليماني: “لم يثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صدق كاذبا”[36]، ويؤكد هذا قوله تعالى: )ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)((التوبة).
قال الألوسي في تفسيرها: “إن المراد أنه – صلى الله عليه وسلم – يسمع قول المؤمنين الخلص ويصدقهم، ولا يصدق المنافقين وإن سمع قولهم”[37].
وبهذا تدفع شبه المغرضين، وتبقى الأحاديث النبوية الصحيحة نائية عن أي تحريف أو تشكيك.
الخلاصة:
- إن حديث الجساسة حديث صحيح، أجمع على صحته علماء الحديث وأئمته، فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، كما رواه غيره بطرق أخرى غير طريق الإمام الشعبي، كطريق أبي سلمة، ويحيى بن يعمر، كما رواه غير فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر رضي الله عنهم.
- الإمام الشعبي ثقة في نفسه، ذو مكانة علمية وفضل عظيم، شهد له بذلك جمع كبير من علماء عصره، أمثال: ابن عمر ويحيى بن معين، وأبي زرعة، وغيرهم.
- إن تميم الداري – رضي الله عنه – صحابي جليل عدله الله في كتابه كجميع الصحابة والنبي – صلى الله عليه وسلم – في سننه، وشهد بفضله وصلاحه وتقواه الصحابة – رضي الله عنهم – ومن جاء بعدهم، مما ينفي عنه مظنة الكذب والدس في الدين، وبذلك يبطل قولهم: “إن الحديث من مسيحيات تميم الداري”.
- إن حديث الجساسة من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها؛ لأنها أصل من أصول الدين، ونبينا – صلى الله عليه وسلم – معصوم من تصديق الكاذب في ذلك؛ فهو – صلى الله عليه وسلم – لم يصدق كاذبا قط.
(*) دفاع عن السنة، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م. رياض الجنة في الرد على المدرسة العقلية ومنكري السنة، د. سيد حسين العفاني، دار العفاني، مصر، 1426هـ/ 2006م. موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف، شفيق بن عبد الله شقير، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م.
[1] . سميت بذلك لتجسسها ونقلها الأخبار للدجال.
[2] . أرفئوا: التجئوا.
[3] . فرقنا منها: خفنا منها.
[4] . اغتلم: هاج، وجاوز حده.
[5] . زغر: هي بلدة في الجانب القبلي من الشام.
[6] . صلتا: أي: مسلولا.
[7] . المخصرة: ما يتوكأ عليها كالعصا ونحوها، وقضيب يشار به في أثناء الخطابة والكلام.
[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجساسة، (9/4 044)، رقم (7252).
[9]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد شاكر، دار التراث، القاهرة، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص29.
[10]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الملاحم، باب: في خبر الجساسة، (10/ 315)، رقم (4315). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4325).
[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، رقم (27145). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح بطرقه.
[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (13/ 340).
[13]. حسن: أخرجه أبو يعلى في مسنده، تابع مسند جابر، (4/ 119)، برقم (2164). وقال حسين سليم أسد في تعليقه على مسند أبي يعلى: رجاله رجال الصحيح.
[14]. أسد الغابة، ابن الأثير، دار الفكر، بيروت، د. ت، (1/ 256).
[15]. الاستذكار، ابن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م، (8/ 333).
[16]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: د. علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، د. ت، (8/ 372).
[17]. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصفهاني، دار الفكر، بيروت، د. ت، (4/ 310).
[18]. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، د. ت، بيروت، (12/ 229).
[19]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (14/ 34، 35).
[20]. القيل: لقب يقال للملك من ملوك حمير.
[21]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هــ، 1990م، (4/ 294: 296).
[22]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هــ، 1990م، (4/ 300، 303).
[23]. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، ط1، 1404هـ/ 1984م، (5/ 60).
[24]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: د. علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (6/ 256).
[25]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (4/ 327).
[26]. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، (1/ 368) بتصرف يسير.
[27]. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، (6/ 302).
[28]. الخب: المخادع.
[29]. دفاع عن السنة، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص84.
[30]. الأعلام، الزركلي، (2/ 87).
[31]. دفاع عن السنة، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص83.
[32]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجساسة، (9/ 4044: 4046)، رقم (7525).
[33]. الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص 136.
[34]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (13/ 335).
[35]. دفاع عن السنة، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص84 بتصرف.
[36]. الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص135.
[37]. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، (10/ 127).