إنكار حديث الذبابة
وجها إبطال الشبهة:
1) إن حديث الذبابة صحيح سندا ومتنا، فقد رواه جمع من أئمة الحديث (البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي)، بأسانيد قوية صحيحة، ولم يعرف لأحد من نقاد الحديث وأئمته طعنا في سنده، أما من ناحية المتن فلا إشكال فيه؛ لأن الله تعالى كثيرا ما خلق الداء والدواء في حيوان واحد كالحية والنحلة وغيرهما.
2) الحديث موافق للعقل السليم والفكر القويم؛ إذ أكدت الدراسات الطبية صحة ما قرره الحديث، وزيف هذه الشبهة، حين بينت أن في الذباب مضاد حيوي يسمى (جاسفين) استخرجه العالمان الإنجليزيان “آرنشتين وكوك”، والعالم السويسري “وليوس”، كما أن هناك عدة أبحاث علمية في هذا الصدد تؤكد جميعها أن ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- سبق علمي، ودلالة إعجاز تؤكد صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. حديث الذبابة صحيح سندا ومتنا:
إن حديث الذبابة صحيح سندا ومتنا، أما من ناحية السند فقد رواه جمع من أئمة الحديث بأسانيد قوية صحيحة، وهذه هي روايات الحديث:
رواية الإمام البخاري من طريقين:
الأولى: قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال قال: حدثني عقبة بن مسلم قال: أخبرني عبيد بن حنين قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال النبيصلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء، والأخرى شفاء»[1].
الثانية: قال البخاري: حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عتبة بن مسلم مولى بني تميم عن عبيد بن حنين مولى بني زريق عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء»[2].
رواية الإمام أحمد:
روى الإمام أحمد في مسنده قال: “حدثنا يحيى – وهو ابن سعيد القطان – حدثنا ابن أبي ذئب قال: حدثني سعيد بن خالد عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه[3]»[4].
وقال أحمد: حدثنا يزيد – هو ابن هارون – حدثنا ابن أبي ذئب، «عن سعيد بن خالد قال: دخلت على أبي سلمة فأتانا بزبد وكتلة: فسقط ذباب في الطعام، فجعل أبو سلمة يمقله فيه بإصبعه، فقلت: يا خال، ما تصنع؟ فقال: إن أبا سعيد الخدري حدثني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن أحد جناحي الذباب سم، والآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه، فإنه يقدم السم، ويؤخر الشفاء»[5].
رواية أبي داود:
روى الإمام أبو داود في سننه قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: أخبرنا بشر – يعني ابن المفضل – عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله»[6].
رواية النسائي:
روى الإمام النسائي في سننه قال: أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد بن خالد، عن أبي سلمة، حدثني أبو سعيد – يعني الخدري – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:«إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله»[7].
رواية ابن ماجه:
روى الإمام ابن ماجه الحديث في سننه من طريقتين الأولى: قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن أبي سلمة، حدثني أبو سعيد – أي الخدري – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «في أحد جناحي الذباب سم، وفي الآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه فيه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء»[8].
الثانية: قال: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مسلم بن خالد عن عتبة بن مسلم، عن عبيد بن حنين عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا وقع الذباب في شرابكم فليغمسه فيه ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء»[9].
رواية الدارمي:
روى الإمام الدارمي في سننه قال: أخبرنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا سليمان بن بلال، عن عتبة بن مسلم عن عبيد بن حنين أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء»[10].
ومن الروايات السابقة يلاحظ أن الحديث لا شبهة في سنده، ذلك أن الحديث قد رواه أبو هريرة وأبو سعيد الخدري – رضي الله عنهما، وقد ذكر الشيخ الألباني أن الحديث رواه كذلك أنس بن مالك -رضي الله عنه- وهو من رواية البزار ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في “الأوسط”، كما في “مجمع الزوائد” (5/ 38)، وابن أبي خيثمة في “تاريخه الكبير”، قال الحافظ: وإسناده صحيح، كما في “نيل الأوطار” (1/ 55).
وقد عقب الألباني على ذلك قائلا: “فقد ثبت الحديث بهذه الأسانيد الصحيحة، عن هؤلاء الصحابة الثلاثة أبي هريرة وأبي سعيد وأنس، ثبوتا لا مجال لرد ولا لتشكيك فيه[11].
أما من ناحية المتن فإن الحديث أيضا صحيح، فالله -عز وجل- قد خلق مخلوقات أخرى غير الذباب تجمع الداء والدواء، وهذا ما أثبته الطب القديم؛ إذ لاحظ أن في بعض الحشرات شفاء وضررا في آن واحد، فنحن نشتهي من النحلة عسلها وفيه شفاء كثير من الأمراض، وفيه التهلكة لعشرات الأنواع من الميكروبات والفيروسات، كما أننا في الوقت ذاته نتحاشا حشرة النحل لئلا تلسع الواحد منا، فإن في لسعها ألما، وما ذاك إلا لأنها تفرغ بعض سمومها في أجسامنا، ألا ترى أن الله -عز وجل- قد جعل في النحلة الشيء ونقيضه؟
قال الإمام ابن قتيبة في رده على الطاعنين في هذا الحديث: “إن من حمل أمر الدين على ما شاهد، فجعل البهيمة لا تقول، والطائر لا يسبح، والبقعة من بقاع الأرض لا تشكو إلى أختها، والذباب لا يعلم موضع السم وموضع الشفاء، واعترض على ما جاء في الحديث، مما لا يفهمه فقال: كيف يكون قيراط مثل أحد؟ وكيف يتكلم بيت المقدس؟ وكيف يأكل الشيطان بشماله؟ ويشرب بشماله؟ وأي شمال له؟ وكيف لقي آدم موسى -عليه السلام- حتى تنازعا في القدر، وبينهما أحقاب؟
وأين تنازعا فإنه منسلخ من الإسلام معطل غير أنه يستتر بمثل هذا وشبهه من القول واللغو والجدال، ودفع الأخبار والآثار مخالف لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولما درج عليه الخيار من صحابته والتابعون، ومن كذب ببعض ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان كمن كذب به كله.
ولو أراد أن ينتقل عن الإسلام إلى دين لا يؤمن فيه بهذا وأشباهه، لم يجد منتقلا؛ لأن اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والثنوية، يؤمنون بمثل ذلك، ويجدونه مكتوبا عندهم، وما علمت أحدا ينكر هذا إلا قوما من الدهرية، وقد اتبعهم على ذلك قوم من أهل الكلام والجهمية.
وبعد، فما ينكر من أن يكون في الذباب سم وشفاء…، وهل الذباب في ذلك إلا بمنزلة الحية؟ فإن الأطباء يذكرون أن لحمها شفاء من سمها، إذا عمل منه الترياق الأكبر، ونافع من لدغ العقارب وعض الكلاب والحمى الربع[12] والفالج واللقوة[13] والارتعاش والصرع.
وكذلك قالوا في العقرب: إنها إذا شق بطنها، ثم شدت على موضع اللسعة؛ نفعت، وإذا أحرقت فصارت رمادا، ثم سقي منها من به الحصاة نفعته، وربما لسعت المفلوج فأفاق، وتلقى في الدهن حينا، فيكون ذلك الدهن مفرقا للأورام الغليظة[14].
وها هو الخطابي يقول فيما حكاه عنه ابن حجر في “الفتح”: تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له فقال: كيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب، وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناحا على الآخر؟ وما ألجأه إلى ذلك؟
قال: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل؛ فإن كثيرا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة، وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان، وإن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحا وتؤخر آخر.
وقال ابن الجوزي: ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر، وذكر بعض حذاق الأطباء أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح له، فإذا سقط الذباب فيما يؤذيه تلقاه بسلاحه، فأمر الشارع أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء فتتقابل المادتان فيزول الضرر بإذن الله[15].
وبناء على ما سبق، فإننا نتوجه بالسؤال إلى مثيري الشبهة قائلين: ألم تستعملوا البنسلين إذا مرضتم، مع أنه مصنوع من العفن؟! وكذا الستربتومايسين؛ فإنه من طفيليات العفن وجراثيم المقابر؟[16]
فإذا كان البشر يصنعون من أشياء ضارة منافع للناس وأدوية ناجعة في الشفاء من الأمراض، فما بالكم بما خلقه رب البشروجعل فيه الداء والدواء؟!.
وعليه فإن الحديث صحيح سندا ومتنا ولا مجال للطعن فيه، كما ثبت ذلك بالعقل والنقل، وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول: )وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81)( (الإسراء).
ثانيا. الدراسات الطبية الحديثة تؤكد صحة الحديث:
إن القول بأن حديث الذبابة يخالف العقل قول فاسد – اللهم إلا من معارضته للعقول السقيمة – لأننا إذا عرضنا الأمر على العقول السليمة اتضح أن الحديث صحيح موافق للعقل والحقائق العلمية والطبية الحديثة.
فقد اتضح من النتائج العلمية لأبحاث العلماء والأطباء على أنواع كثيرة من الذباب – وجود أنواع كثيرة من البكتريا على جناحي الذباب، كما اتضح أن أكثر أنواع البكتريا شراسة هو نوع (B. cricadans) الذي يفرز مادة مضادة للحيوية لكثير من أنواع البكتريا الأخرى سواء سالبة أو موجبة الجرام، وقد لوحظ تواجد هذه البكتريا بكثافة عالية على الجناح الأيمن للذباب، كما لوحظ وجود أنواع من الفطريات التي تفرز أيضا مواد مضادة للحيوية لكثير من أنواع البكتريا، كذلك اتضحت قدرة البكتريا (B. cricadans) على قتل الأنواع الأخرى من البكتريا في زمن قصير جدا، وهي البكتريا التي تنقل العديد من الأمراض مثل: التهاب العين، الحصف (داء جلدي)، التهاب المثانة، التهاب المعدة والقولون، التهاب العظام، إصابة الجهاز البولي التناسلي، الجهاز العصبي المركزي وفساد الأطعمة وغيرها.
وإذا رجعنا إلى نص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نجده -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» فنلاحظ أن حرف الفاء في (فليغمسه) يفيد السرعة، بينما (ثم) يفيد التراخي والبطء، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بغمس الذباب بسرعة؛ لأنه يتعلق على سطح السائل لوجود التوتر السطحي، وكلمة (ثم) بعد الغمس تعطي فرصة للأنواع المفيدة من البكتريا والفطريات لكي تفرز المواد المضادة للحيوية والدواء أو الشفاء لكي تقضي على البكتريا الضارة (الداء).
ولقد ثبت أن الإنسان إذا أكل أو شرب من الإناء حينئذ؛ فإن المادة الفعالة تظل نشطة في أمعائه، لأن هذه البكتريا في حالة معايشة في أمعاء العائل، كما أنها تتحمل درجات الحرارة العالية وتأثير الإشعاع والمواد الكيمائية والبرودة؛ أي: إن الذباب لو سقط في إناء به طعام أو شراب ساخن أو بارد؛ فإن البكتريا المفيدة (الدواء) تظل نشطة وتفرز المادة الفعالة القاتلة لأنواع الميكروبات الأخرى بأقل تركيز وهو ug /ml5. أي إن (5 جم) من المادة كافية لتعقيم (1000) لتر من اللبن أو أي سائل أو طعام.
ولعل عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الأمر بغمس الذباب تتضح في ميكانيكية إفراز المادة الفعالة (الدواء) حيث إن إفراز أنواع البكتريا النافعة والفطريات لهذه الكائنات لا يتم إلا في وجود وسط، وهو هنا الطعام أو الشراب الموجود داخل الإناء، حيث يسمح هذا الوسط بأن يتقابل كل من الداء والدواء وجها لوجه بدون أية عوائق ويتم الالتحام، وحينئذ تقوم الكائنات المفيدة بالقضاء على الكائنات الضارة، ولقد وجد أن المادة الحيوية التي تقتل البكتريا سالبة أو موجبة الجرام لا تتحرر من الخلايا الفطرية إلا إذا امتصت السائل، وعند ذلك تنتفخ بواسطة خاصية الضغط الإسموزي ثم تنفجر وتطلق محتوياتها التي تعتبر كالقنابل وتقوم بالقضاء على البكتريا الضارة، وقد لوحظ أن هذه القنابل تقذف لمسافة 2 مم داخل السائل، وهي مسافة تعتبر عظيمة بالنسبة لحجم الكائنات الدقيقة[17].
وليس هذا فحسب، بل هناك مجموعة من الأبحاث والتجارب لغير المسلمين من العلماء والأطباء تثبت كلها أن في أحد جناحي الذبابة داء وفي الآخر دواء، نسوق تلك التجارب والأبحاث لا للتأكيد على صحة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسب – فنحن موقنون بصحته – ولكن إمعانا في دحض شبهة هؤلاء الزاعمين:
- في عام 1945 أعلن أكبر أستاذ في علم الفطريات وهو”لا نجيرون” أن هذا الفطر الذي يعيش دوما في بطن الذبابة على شكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة (إنزيم) قوية تحلل وتذيب من أجزاء الحشرة الحاملة للمرض.
- في عام1947 – 1950 تمكن العالمان الإنجليزيان “آدنشتين وكوك” والعالم السويسري “روليوس” من عزل مادة سموها “جافاسين” استخرجوها من فصيلة الفطور التي تعيش في الذباب، وتبين لهما أن هذه المادة مضاد حيوي تقتل جراثيم مختلفة من بينها جراثيم (غرام) السالبة والموجبة و(الدوسنتاريا والتيفود).
- وفي عام 1948 تمكن “بريان وكورتيس وهيمنغ وجيفيرس وماكجوان” من بريطانيا – من عزل مادة مضادة للحيوية أسموها “كلوتيزين” وقد عزلوها عن فطريات تنتمي إلى نفس فصيلة الفطريات التي تعيش في الذباب، وتؤثر في جراثيم (غرام) السالبة (كالتيفود والدوسنتاريا).
- وفي عام 1949 تمكن عالمان إنجليزيان هما “كومسي وفارمر” وعلماء آخرون من سويسرا هم” جرمان وروث واثلنجر وبلاتنز” من عزل مادة مضادة للحيوية أيضا أسموها “انياتين” عزلوها عن فطر ينتمي إلى فصيلة الفطر الذي يعيش في الذباب ووجدوا لها فعالية شديدة جدا، وتؤثر بقوة على جراثيم (غرام) موجب وسالب وعلى فطريات أخرى كالدوسنتاريا والتيفود والكوليرا.
- وفي عام1947 عزل” موفيتش” مواد مضادة للحيوية من مزرعة للفطريات الموجودة على نفس جسم الذبابة، فوجدها ذات مفعول قوي على الجراثيم السالبة لصبغة جرام. كالدوسنتاريا والتيفود وما يشابهها، ووجدها ذات مفعول قوي على الجراثيم المسببة لأمراض الحميات ذات الحضانة القصيرة المدة، وأن غراما واحدا من هذه المادة يمكنه أن يحفظ أكثر من (1000 لتر) من اللبن المتلوث بالجراثيم المذكورة.
ويقرر العلم الحديث أن في الذباب طفيليا له ذيفان يبيد الجراثيم ويفتك بها بشدة، وأن هذا الذيفان لا ينفصل عن جرثومة إلا بعد وصول توتره إلى درجة معينة، يكفي لبلوغها الضغط عليه بغمسه ولو في الشراب أو الطعام، وهذا ما ورد في الحديث[18].
وبعد أن أثبتنا صحة الحديث، وبيان الأطباء المعاصرين إعجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الشريف نذكر رأيا مهما للدكتور محمد أبي شهبة؛ إذ يوضح هذا الأمر، فيقول: إن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: «فليغمسه»، وفي قوله: «ثم ليطرحه» إنما هو للإرشاد والتعليم وليس على سبيل الوجوب.
وأيضا فليس في الحديث أمر بالشرب من الشراب، ولا أمر بالأكل من الطعام بعد الغمس والإخراج، بل هذا متروك لنفس كل إنسان، فمن أراد أن يأكل منه أو يشرب بعد فله ذلك، ومن عافت نفسه ذلك فلا حرج عليه في ذلك، والشيء قد يكون حلالا وتعافه النفس.
وذلك كالضب، فقد كان أكله حلالا، ومع ذلك عافته نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يأكل منه؛ لأنه لم يكن بديار قومه، ثم أليس فيما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الموحى إليه من رب العالمين ما يعتبر حفظا للمال من الإضاعة؟! بلى والله.
إن الكثيرين من الناس في البيئات الفقيرة لا يريقون الشراب ولا الطعام الذي سقط فيه الذباب، وإنما يخرجونه، ثم يشربون منه ويأكلون، ولا يرون في ذلك حرجا ولا تعافه نفوسهم؛ لأنهم لم يحصلوا على هذا الشراب أو الطعام إلا بعد الكد والتعب والعرق، وقد رأيت بعيني من يفعل ذلك، وهو راض بما صنع قرير العين بطعامه وشرابه.
ومما ينبغي أن أوضحه وأنبه إليه أننا معاشرالعلماء والمحدثين حينما ننتصر للحديث الشريف الصحيح رواية ومعنى، ليس معنى هذا أننا لانحض الناس على مقاومة الذباب، وتطهير البيوت والمنازل، والشوارع والطرقات، وعلى حماية طعامهم وشرابهم منه، كلا وحاشا.
فالإسلام دين النظافة بكل ما تحمله الكلمة من معان، ودين الوقاية من الأمراض والشرور، وقد جاء الإسلام بالطب الوقائي كما جاء بالطب العلاجي، وسبق إلى بعض ما لم يعرف ولم يتوصل إليه إلا في العصور الحديثة.
وفي النهاية نقول: لو كان هناك إنصاف في الفكر الإنساني المعاصر، لاعترفت البشرية للإسلام بالسبق العظيم في مثل هذه المسائل، وفي غيرها، فلقد تكلم -صلى الله عليه وسلم- في مسائل غاية في الأهمية، امتثلها المسلمون فاستفادوا منها، أما الذي يكتشف أمرا جزئيا يقيمون له براءات الاختراع!! ويقيمون له السبق العلمي![19]
وهكذا يتضح الأمر، ويتبين أن هذا الحديث الذي طعن فيه المغرضون يعتبر من المعجزات الدالة على صدق الرسول-صلى الله عليه وسلم- فقد ظهر فعلا أن في أحد أجزاء الذبابة داء وفي الآخر شفاء بما تحمله من المواد المضادة[20].
الخلاصة:
- من مجموع الروايات يتبين أن حديث الذبابة المطعون فيه صحيح من ناحية سنده، فقد رواه جمع من أئمة الحديث (البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي)، بأسانيد قوية صحيحة، ولم يعرف لأحد من النقاد وأئمة الحديث طعنا في سنده.
- لقد خلق الله تعالى مخلوقات عديدة غير الذباب تجمع ما بين الداء والدواء، من ذلك النحلة تنزل العسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها، وكذا الحية سمها قاتل، ولحمها يدخل في الترياق الذي يعالج به السم، وقد أثبت هذا الطب، مما يبرهن على صحة متن حديث الذباب.
- لقد أثبت العلم والطب الحديث صدق ما جاء في حديث الذباب، حيث توصل إلى أن في الذباب مادة قاتلة للميكروب، فحينما يغمس في الإناء يظهر مفعول هذه المادة حيث تقوم بإفرازات تقضي على ما يحمله الذباب من الجراثيم التي تعلق به، وفي هذا ما يجعل الحديث معجزة في موضوعه ومتنه.
- إن هذا الحديث لا يدعو إلى التقزز كما زعم هؤلاء، وإنما هو للإرشاد والتعليم وليس على سبيل الوجوب، فهو لم يأمر بالشرب من الشراب أو الأكل من الطعام بعد الغمس والإخراج، بل هذا متروك لنفس كل إنسان، فمن أراد أن يأكل منه أو يشرب بعد فله ذلك، ومن عافت نفسه فلا حرج عليه.
- وفي النهاية نقول: لو كان هناك إنصاف في الفكر الإنساني المعاصر، لاعترفت البشرية للإسلام بالسبق العظيم في مثل هذه المسائل، وبنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وإعجاز كلامه، ومن هنا ظهر أن حديث الذبابة لا يثبت الطعن فيه أمام العقل لا في سنده ولا في متنه.
(*) السنة المطهرة والتحديات، د. نور الدين عتر، دار المكتبي، ط1، 1419هـ/ 1999م. المدخل إلى السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، مصر، 1427هـ/ 2007م. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، مصر، ط1، 1409هـ/ 1989م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء، (6/ 414)، رقم (3320).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: إذا وقع الذباب في الإناء، (10/ 260، 261)، رقم (5782).
[3]. فامقلوه: فاغمسوه.
[4]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند المكثرين، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، رقم (11205). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن.
[5]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند المكثرين، مسند أبي سعيد الخدري، رقم (11661). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن.
[6]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الأطعمة، باب: في الذباب يقع في الطعام، (10/ 231)، رقم (3838). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3844).
[7]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: الذباب يقع في الإناء، رقم (4588). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (4262).
[8]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الطب، باب: يقع الذباب في الإناء، (2/ 1159)، رقم (3504). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (3504).
[9]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الطب، باب: الذباب يقع في الإناء، (2/ 1159)، رقم (3505). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (3505).
[10]. صحيح: أخرجه الدارمي في سننه، كتاب: الأطعمة، باب: الذباب يقع في الطعام، (2/ 134)، رقم (209). وقال حسين سليم أسد في تعليقه على سنن الدارمي: إسناده صحيح.
[11]. سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1399هـ/ 1979م، (1/ 60) بتصرف.
[12]. حمى الربع: هي حمى دورية تأتي يوما وتغيب ثلاثة أيام.
[13]. اللقوة: داء في الوجه يعوج منه الشدق.
[14]. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، تحقيق: سعيد محمد السناري، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص300: 301.
[15]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (10/ 263).
[16]. المدخل إلى السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، مصر، 1427هـ/ 2007م، ص403 بتصرف.
[17]. الداء والدواء في جناحي الذباب، د. مصطفى إبراهيم حسن، مقال منشور بمجلة: الإعجاز العلمي، العدد السابع والعشرين، جمادي الأولى 1427هـ، ص13، 14 بتصرف.
[18]. مجلة الأزهر، عدد رجب لسنة 1378هـ، نقلا عن: الرسول صلى الله عليه وسلم، سعيد حوى، دار السلام، القاهرة، ط2، 1410هـ/ 1990م، ص40: 42 بتصرف.
[19]. المدخل إلى السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، مصر، 1427هـ/ 2007م، ص404 بتصرف.
[20]. السنة النبوية وعلومها، د. أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، ص187.