إنكار حديث جريان الشمس وسجودها تحت العرش
وجها إبطال الشبهة:
1) إن جريان الشمس وحركتها حقيقة علمية ثابتة، لا ينزلق في إنكارها أحد، أكد هذا علماء الفلك من خلال أبحاثهم العلمية، وهذا يدل على صحة حديث النبي – صلى الله عليه وسلم _ وموافقته الاكتشافات العلمية الحديثة.
2) إن سجود الشمس تحت عرش الرحمن لا يتعارض مع جريانها وحركتها، فإن الله – عز وجل – يسجد له جميع ما في السماوات والأرض، ولكن كل خلق يسجد بالسمت الذي يناسب خلقه، ولا يلزم قياسه بالمعنى الاصطلاحي لدى البشر، فالشمس تسجد لله – عز وجل – مع جريانها بصورة لا يستنكر منها شيء.
التفصيل:
أولا. جريان الشمس وحركتها حقيقة علمية ثابتة توافق ما جاء في حديث أبي ذر السابق:
لقد كشف العلم الحديث القائم على البحث التجريبي عن بعض المعجزات والآيات العجيبة في ذلك الكون، وذلك بالمشاهدة والملاحظة والتجربة، وعندما يتأمل في تلك الاكتشافات الباهرة، فغالبا ما نرى لها أثرا أو إشارة في كتاب الله، أو سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم _ وعندما يتم البحث، وتكشف المعجزات، وتوضع النظرية المصطلح عليها بين أصحاب هذا الفن، ويوجد إشارة إلى ذلك في القرآن أو السنة، فإنه يشهد لصحة الرسالة عموما، وأنها موحاة من قبل الملك الخلاق؛ لأن بارئ الكون قد أقام رسالته على الإقناع قبل التصديق، فعندما يحدث مثل هذا في ظل ذلك البعد الزمني بين عصرنا وعصر الرسالة، يكون التصديق أوقع في القلب، وأرجى للقبول، وكذلك إذا وجدت في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم _ فإنه يؤكد صحتها سندا ومتنا؛ لأنه لمست قضيتها على أرض الواقع، فيكون مجال التصديق بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم _ أقرب إلى القلب، وذلك عندما نرى سنته قد فتتت حجاب الغيب، وأوثقت من الإيمان به في غيبه، فكيف إذا تحقق ووقع تحت الحس؟ فيكون به الهداية والتصديق.
ونحن – المسلمين – نؤمن بالصحيح الثابت من أقوال وأفعال وسنن النبي – صلى الله عليه وسلم _ كما نتحرى صحة ما أوردنا عنه – صلى الله عليه وسلم _ فإن تحقق وتأكد صحة الخبر عندنا آمنا به وسلمنا بمقتضاه.
فإذا تحققنا يقينا من صحة الخبر، تحرينا الفهم الصحيح لمقصوده – صلى الله عليه وسلم _ وتحري الفهم الصحيح مطلب شرعي، والتأمل والتفكر وحسن التدبير كلها أوامر ربانية، أتى بها القرآن الكريم، وكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي صحت عن خير الورى نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم _ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وقد طعن بعض المشككين في بعض الأحاديث بحجة أنها تخالف العقل والمألوف عند الناس، ومن تلك الأحاديث ما أخرجه الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه أن أبا ذر الغفاري – رضي الله عنه – قال: «كنت مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد عند غروب الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى: )والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)( (يس)»[1]، وقالوا: كيف يصح أن تذهب الشمس وتسجد تحت العرش، وقد علم أنها ثابتة؟
نقول: إن هذا الحديث صحيح، فقد رواه الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري، وقد روي بغير هذا اللفظ عند مسلم[2]، إذن فهو متفق عليه، وهو بذلك في أعلى درجات الصحة.
ونبدأ أولا بالرد على زعم الطاعن بأن الشمس ثابتة، فإننا لا نعرف مصدر هذه الفرية العجيبة، التي أدت به إلى الوقوع في أخطاء علمية بدهية.
ويبدو أن الطاعن قد توقف في حدود فكره، وقراءاته، ومعرفته عند القرن السابع عشر الميلادي؛ حيث كان الاعتقاد السائد لقرون طويلة: أن الأرض ثابتة، وأن الشمس تدور حولها، ثم تغير هذا الاعتقاد مع النهضة العلمية منذ القرن السابع عشر؛ لينظر العلماء وقتها إلى الشمس على أنها ثابتة، وأن الكواكب تدور حولها.
إلى هنا توقفت معارف الطاعن ولم يدر شيئا عن هذا العلم بعدها، ولكن بعد اكتشاف المجرات. وبعد الدراسات الدقيقة التي أجريت على الشمس؛ تبين أن الأمر ليس هكذا. فالشمس تسير وتتحرك وليست ثابتة، وقد كان الظن في البداية أن للشمس حركة واحدة دورانية حول مركز المجرة، ولكن تبين فيما بعد أن الشمس تتحرك باتجاه مركز المجرة أيضا، وقد تبين أيضا أن الشمس تتحرك حركة دورانية، وتتذبذب يمينا وشمالا راسمة مسارا متعرجا في الفضاء، وتسبح حول فلك محدد في المجرة، وتستغرق دورتها مائتين وست وعشرين (226) مليون سنة، وتسمى هذه المدة “بالسنة المجرية”. وهي تجري بسرعة مائتين وسبعة وعشرين (227) كيلو مترا في الثانية.
وتندفع الشمس مع النجوم المجاورة لها بنفس السرعة تقريبا مع اختلاف نسبي في حدود عشرين كيلو مترا في الثانية بين الشمس وبين النجوم المحيطة بها، كما أن هناك حركة للشمس لاحظها العلماء حديثا، وهي حركتها مع المجرة، فالعلماء يعتقدون بأن مجرتنا – مجرة درب التبانة – تسير بسرعة قدرها ستمائة كيلو مترا في الثانية، وتجرف معها جميع النجوم ومنها الشمس.
ولقد بدأ اهتمام علماء الفضاء بدراسة حركة الشمس والمجموعة الشمسية، فوجدوا أن هناك حركات أساسية للشمس، محصلتها أن الشمس تسير باتجاه محدد لتستقر فيه، ثم تكرر دورتها من جديد، وقد وجد العلماء أن أفضل تسمية لاتجاه الشمس في حركتها هو “مستقر الشمس”.
ولنتدبر معا قول الحق سبحانه وتعالى: )والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)( (يس)، وهي الآية التي تعلمها كل مسلم منذ عهد الوحي، وعرف أن الشمس تجري، وليست ثابتة كما ظن أهل العلم قديما – وكما يظن الجهلاء حتى يومنا هذا – وهي الآية المعجزة التي تحدثت عن حقيقة علمية لم يكن لأحد علم بها في زمن الوحي، إلا أن يكون وحيا من الله – عز وجل – نزل على نبيه – صلى الله عليه وسلم _ وفي الآية بيان “مستقر الشمس” وهو ما سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عنه أبا ذر الغفاري – رضي الله عنه – في الحديث الذي تقدم.
واليوم نجد العلماء يتحدثون عن حقيقة كونية جديدة، وهي ما أطلقوا عليه اسم solar apex أو “مستقر الشمس”.
ويعرف علماء الفضاء مستقر الشمس بأنه الاتجاه الذي تجري الشمس والمجموعة الشمسية نحوه، وهذا التعريف يتطابق مع التعريف القرآني للكلمة.
فالقرآن يقول: )والشمس تجري لمستقر لها( (يس:٣٨)، وفي ذلك سبق وإعجاز علمي للقرآن عندما تحدث عن جريان الشمس، وعن مستقر الشمس[3].
ولإمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي لفتة طيبة في هذا السياق يقول رحمه الله: “لكن، ما الذي يحرك هذه المجموعة الشمسية؟ وكيف تجري بهذه السرعة؟ ونحن نعلم أن الحركة تحتاج إلى طاقة تمدها، فما الطاقة التي تحرك هذه المجموعة بهذه الصورة وهذا الاستمرار؟ قالوا: إنها تجري؛ لأن الله خلقها على هيئة الحركة والجريان، لذلك تجري لا يوقفها شيء، وستظل جارية إلى أن يشاء الله، فلا يلزمها إذن طاقة تحركها، ومثال ذلك قوله تعالى: )إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده( (فاطر:٤١).
وفي علم الحركة قانون اسمه قانون العطالة[4]، وهو أن كل متحرك يظل على حركته، إلى أن توقفه، وكل ساكن يظل على سكونه إلى أن تحركه، وهذا القانون فسر لنا حركة الأقمار الصناعية، ومراكب الفضاء التي تظل متحركة لفترات طويلة.
ونتساءل: ما الفترة التي تحركها طوال هذه المدة؟ إنها تتحرك؛ لأنها وضعت في مجالها على هيئة الحركة، فتظل متحركة لا يوقفها شيء؛ لأنها فوق مجال الجاذبية. إذن فإن كل الذي احتاجته هذه الآلات من الطاقة هي طاقة الصاروخ الذي يحملها، إلى أن يعبر بها مجال الجاذبية الأرضية، أما هي فتظل دائرة بلا طاقة وبلا وقود.
ثم يذكرنا الحق – سبحانه وتعالى – بفضله في هذه الحركة، فيقول: )ذلك( (يس:٣٨) أي: ما سبق من حركة الليل والنهار وجريان الشمس )تقدير العزيز العليم (38)( (يس)، يعني: كل هذا الجريان، وكل هذه الحركة إنما هما بتقدير الله، وكلمة )العزيز( هنا مناسبة تماما، فالمعنى: أنه تعالى العزيز الذي لا تغلبه القوانين؛ لأنه – سبحانه وتعالى – خالق القوانين”[5].
ومن خلال ما سبق يتبين أن: الآية الكريمة التي شرحها حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أثبت العلم الحديث صحة دلالتهما، وأن الشمس تجري غير ثابتة، كما توهم المبطلون. وهذا ما أكده علماء الفلك في أبحاثهم العلمية، والتي صرحوا بها، وطابقوها مع ما جاء به القرآن الكريم من حركة الشمس نحو مستقرها.
ومن ناحية أخرى: فإن الاكتشافات الحديثة التي أثبتت حركة الشمس وجريانها، هي خير دلالة على صدق ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحة استدلاله بالآية عند حديثه عن جريان الشمس من ناحية، وعن سجودها تحت العرش من ناحية أخرى.
ثانيا. سجود الشمس تحت عرش الرحمن لا يتعارض مع جريانها وحركتها:
بداية، نود أن نشير إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان له هدف محدد من هذا الحديث، ويتمثل هذا الهدف في إبطال العبادات السابقة التي كانت تعتبر الشمس إلها من دون الله – عز وجل – فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعلم البشرية أن الشمس مخلوق من مخلوقات الله تعالى، تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، وتسجد له تعالى كأي مخلوق من مخلوقاته الأخرى مهما عظمت قيمتها وضخامتها وحجمها.
ثم إن السجود لله تعالى ثبت وقوعه له سبحانه من كل شيء، كما ثبت له الصلاة والتسبيح من كل شيء، فقد قال تعالى: )ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه( (النور: ٤١)، وهذا التسبيح يشبه السجود في عدم معرفة كيفيته من ناحية البشر، وإذا ثبت لنا بالنص القرآني القاطع سجود كل شيء، فلا يستغرب أن يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما تكلم عن غروب الشمس: «إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش».
والسؤال الذي أثاره المشتبه: كيف تستأذن الشمس وتسجد تحت العرش؟ ويبدو أن الطاعن قد فهم معنى السجود على أنه انحناء الأعضاء والأطراف كما يفعل البشر في سجودهم، ومن هنا استبعد أن يقع ذلك من الشمس، وبهذا يكون قد التبس عليه المعنى الاصطلاحي الذي يستعمله الفقهاء في شرحهم لكيفية السجود في الصلاة بالمعنى اللغوي، والذي هو أوسع دلالة، وأكثر معنى مما دل عليه الاصطلاح.
ومن معاني السجود في اللغة: “الخضوع”، وسجود الشمس مما يختص بها، ولا يلزم أن يكون سجود الكائنات لله – عز وجل – مثل هيئة سجود الإنسان أو حتى يشبهه؛ قال تعالى: )ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء (18)( (الحج).
قال ابن كثير: “يخبر الله تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء مما يختص به”[6].
وقال تعالى: )وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم( (الإسراء:٤٤)، وقال تعالى: )ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49)( (النحل).
وعليه فسجود الشمس مما يختص بها، ولا يلزم أن يكون سجودها كسجود الآدميين، كما أن سجودها متحقق بخضوعها لخالقها وانقيادها لأمره، وهذا هو السجود العام لكل شيء خلقه الله. كما في آية الحج السابقة.
وفي الآيات السابقة أن للشمس سجدتين:
سجود عام مستديم، وهو سجودها المذكور في آية النحل والحج مع سائر المخلوقات، وسجود خاص يتحقق عند محاذاتها لباطن العرش فتكون ساجدة تحته، وهو المذكور في الحديث، وفي كلتا الحالتين لا يلزم من سجودها أن يشابه سجود الآدميين، لمجرد الاشتراك في لفظ الفعل الدال عليه.
ومن أمثلة هذا: أن مشي الحيوان ليس كمشي الآدمي، وسباحة السمك والحوت ليست كسباحة الإنسان وهكذا، مع أنهم يشتركون في مسمى الفعل؛ وهما المشي والسباحة.
فلا يلزم أن يكون سجود الشمس مشابها لسجود البشر، وإن اتفق مسمى الفعل.
وعلى الجانب الآخر: فكما أنه يلزم من سجودنا التوقف عن الحركة لبرهة من الزمن، وهو الاطمئنان الذي هو ركن في الصلاة، فإنه لا يلزم بالمقابل أن يتوقف جريان الشمس؛ لتحقيق صفة السجود؛ لأننا رأينا دلالة عموم لفظ السجود من آيتي الحج والنحل، ومن شواهد لغة العرب على أن السجود هو مطلق الخضوع للخالق سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم أن السجود عبادة لله، وقد تعبده مختلف مخلوقاته بما يناسب هيئاتها وصفاتها وطبائعها، فكان الانحناء والنزول للآدميين، وكان غير ذلك من كيفيات السجود التي لا يعلمها إلا الله لسائر الكائنات والمخلوقات، مع اشتراكهم في عموم معنى السجود الذي هو الخضوع لله تعالى طوعا أو كرها.
فالشمس تجري في الفلك، ونراها تشرق وتغرب دائبة، ومع ذلك لها سمت أو منتهى يقابلها على وجه الأرض تسجد عنده لله تعالى، ويكون ذلك السمت أو الحد مقابلا في تلك اللحظة لمركز باطن العرش.
ومما يؤيد ما سبق ويزيل اللبس قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش». فلم يقل صلى الله عليه وسلم: أنها “تغرب تحت العرش” أو “حتى تغرب تحت العرش”. وهذا فهم توهمه بعض الناس الذين أشكل عليهم هذا الحديث، وهو فهم مردود؛ لأن ألفاظ الحديث ترده، فقوله: “تذهب” دلالة على الجريان، لا دلالة على مكان الغروب؛ لأن الشمس لا تغرب في موقع حسي معين، وإنما تغرب في جهة معينة، وهذا ما اصطلح عليه الناس باسم الغروب.
والغروب في اللغة: “التواري والذهاب”، ويقال: غرب الشيء؛ أي: توارى وذهب، وتقول العرب: أغرب فلان، أي: أبعد وذهب بعيدا عن المقصود[7]. وهنا يجب التفريق بين حقيقة الغروب ومجرد “رأي العين”. كما في قوله تعالى: )حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة( (الكهف:٨٦).
فالغروب في الحديث هو الذهاب والسير والجريان، كما هو مفسر في الرواية الأخرى، وكما هو مستعمل في لغة العرب.
فالغروب في حقيقته ليس إلا جريان الشمس، وليس للشمس مغرب حقيقي ثابت.
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله:
المراد بـ “مغرب الشمس” مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته، وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل[8].
وقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك فقال: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش»ولم يقل: “إنها تغرب تحت العرش”.
وقد قال – رحمه الله – في التعليق على قوله تعالى: )والشمس تجري لمستقر لها( (يس: ٣٨) الجري حقيقته: السير السريع، وهو لذوات الأرجل، وأطلق مجازا على تنقل الجسم من مكان إلى مكان تنقلا سريعا بالنسبة لتنقل أمثال ذلك الجسم، وغلب هذا الإطلاق فساوى الحقيقة، وأريد به السير في مسافات متباعدة جد التباعد، فتقطعها في مدة قصيرة بالنسبة لتباعد الأرض حول الشمس، وهذا استدلال بآثار ذلك السير المعروفة لأهل المعرفة بمراقبة أحوالها من خاصة الناس، وهم الذين يرقبون منازل تنقلها المسماة بالبروج الاثنى عشر، والمعروفة لأهل العلم بالهيئة تفصيلا واستدلالا، وكل هؤلاء مخاطبون بالاعتبار بما بلغه علمهم.
والمستقر: مكان الاستقرار، أي القرار أو زمانه، فالسين والتاء للتأكيد، واللام في (لمستقر) يجوز أن تكون لام التعليل؛ أي: تجري لأجل أن تستقر، فسير الشمس لما كانت نهايته انقطاعه، نزل الانقطاع عنه منزلة العلة.
وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بـ(تحت) العرش، وهو سمت معين لا قبل للناس بمعرفته، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه، وذلك حين تطلع من مغربها؛ أي: حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها؛ لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعا لانقطاع حركتها هي؛ وذلك نهاية بقاء هذا العالم الدنيوي[9].
وقوله – صلى الله عليه وسلم – في رواية الإمام مسلم: «فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا» فيه فائدة كبيرة، والشاهد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يستنكر الناس منها شيئا»[10].
وكأن في هذا دلالة ضمنية على علمه – صلى الله عليه وسلم – بأن هناك من الناس من قد يستشكل معنى الحديث فيتوهم أن الشمس تقف أو تتباطأ للسجود، فينكر الناس ذلك ويرهبونه، إلا أنه – صلى الله عليه وسلم – أشار في الحديث إلى جريان الشمس على عادتها مع أنها تسجد، ولكنه سجود غير سجود الآدميين؛ ولذلك تصبح طالعة من مطلعها تجري لا يستنكر الناس منها شيئا.
وواضح من كلامه – صلى الله عليه وسلم – مفهوم المخالفة الدال على عدم استنكار الناس رغم سجود الشمس واستئذانها – وكما قدمنا – فإن سجود الشمس لا يستلزم وقوفها، وهو اللبس الذي أزاله – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا”، كما أن العقل يدل على ذلك؛ إذ إن فرق المسافة التي يقطعها الضوء القادم من الشمس إلى الأرض يبلغ حوالي ثماني دقائق من حصوله، وعليه فلا يمنع أن تكون الشمس ساجدة في بعض هذا الوقت – ولو بأجزاء من الثانية – لله تعالى تحت عرشه.
ونحن لا نعلم عن ذلك شيئا لغفلتنا وانشغالنا بضيعات الدنيا؛ ولهذا يقول الله تعالى: )وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (105)( (يوسف).
وجاء في موسوعة الإعجاز العلمي للدكتور: أحمد شوقي إبراهيم، تحت عنوان: ما معنى سجود الشمس تحت العرش؟
نفهم ذلك إذا مما قاله علماء الرياضيات الكونية في هذا القرن، ومن أشهرهم ألبرت أينشتاين وأدوين هابل: إن السماوات وما فيها كون مكور على نفسه – كروي الشكل – والقرآن العظيم يخبرنا أن السماوات والأرض في جوف ملكوت الكرسي، كما قال تعالى: )وسع كرسيه السماوات والأرض( (البقرة: ٢٥٥) وعن أبي ذر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «والذي نفسي بيده ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة»[11]، إذن فالأرض والشمس داخل ملكوت السموات السبع، وتحت السماء السابعة، وملكوت السموات السبع في جوف الكرسي وتحته أيضا، والكرسي في جوف العرش وتحته؛ لأن أي شيء داخل كرة، هو تحت محيطها وسطحها أيضا، وكل ما في الوجود يسجد لله – عز وجل – هذه حقيقة، والشمس أينما ذهبت إنما تسجد تحت العرش، ونحن جميعا عندما نسجد لله تعالى في المسجد، إنما نسجد لله – عز وجل – تحت العرش، وفي ذلك يقول الله تعالى: )ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس( (الحج: ١٨).
ولماذا جاء ذكر المخلوقات بهذا الترتيب؟ السموات ثم الأرض ثم الشمس ثم القمر ثم النجوم ثم الجبال ثم الشجر ثم الدواب ثم الناس… جاء ذكرهم حسب ترتيب خلقهم فما أن يخلق الله خلقا إلا ويبادر المخلوق بالسجود لخالقه تعالى على الفور[12].
ويكفي في سجود الشمس واستئذانها القول بأن (عدم العلم ليس بدليل على العدم)، وهي قاعدة مشهورة، وأكثر عمل الجهال على خلافها، فعدم الوقوف على حقيقة سجودها واستئذانها، لا يلزم منه نفي إمكان السجود والاستئذان، ولذلك يقال لمن ارتاب: إذا أوضحت لنا حقيقة سجود الشمس والقمر والنجوم والشجر في قوله تعالى: )ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب( (الحج:١٨)، نقول: إذا استطعت أن توضح لنا حقيقة ذلك، فانتقل إلى إيضاح حقيقة الأخص، وهو سجود الشمس تحت العرش؛ ذلك أن تفسير الأعم في الأغلب أيسر من تفسير الأخص، لما يكتنف الأخص من التقييدات والتحرزات التي لا يتفطن لها كثير من أرباب العلوم، فضلا عن عوام الناس. فالجاهل يراها من المستحيلات الممتنعات، والأعلم منه يراها من المحارات الممكنات، والناس بين هؤلاء وهؤلاء درجات.
والحق أن الله قد اختص كل مخلوق بسجود يناسب هيئته وخلقته، لا يشترك فيه مع غيره إلا بموجب الاشتراك اللفظي، لا الاشتراك الفعلي الحقيقي المطابق للفعل والهيئة، وقد أخبرنا الله تعالى أن الشجر يسجد مع كونه أمام نظرنا صباحا ومساء، بل يقطف ثمره ويجلس في ظله، ومع ذلك لا نقول: الشجر لا يسجد. مع أن هذا أدعى للاستنكار؛ لقرب الشجر منا وملامستنا له، ورؤيتنا له على الدوام، وأكلنا من ثمره. فدل هذا على جهل بني آدم سجود هذه المخلوقات وحقيقة تسبيحها لله – عز وجل – قال تعالى: )وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم( (الإسراء:٤٤)، فحسم الخلاف، وقطع الريب والجدال بنفي قدرتنا على إدراك حقيقة التسبيح، فيصبح السؤال عن ذلك من أشد التكلف. فإذا استقرت هذه المسألة في الأذهان انقطع المستشكل عن بحث ما وراء ذلك والخوض فيه؛ إذ كيف يتوصل إلى نتيجة صحيحة دون القطع بفهم حقيقة مقدمات تلك النتيجة، وهو الأمر المنتفي هنا.
ومن المعلوم أن صحة النتيجة هو ملزوم صحة المقدمات، وصحة المقدمات هو ملزوم صحة إدراك وفهم المقدمات، فاتهام الرأي البشري المحدود المتقلب يأتي قبل اتهام الحقائق الخارجية التي لا تتغير ولا تتبدل )فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43)( (فاطر) [13].
وإذا تقرر هذا اتضح معنى آخر، وهو: أن الشمس لا تسجد تحت العرش عند كل غروب تغربه عن أنظار كل بلد، فإن هذا هو اللبس الذي ينشأ عند من فهم أن الشمس تسجد عند كل غروب، يراه أهل كل قطر، ولو كان الأمر كذلك لكانت ساجدة على الدوام، ولاستنكر أهل الأرض ذلك. ولذلك جاءت فائدة الاحتراز عن هذا الاحتمال في رواية مسلم: «ثم تجري لا يستنكر منها شيئا»[14]، فكان هذا واضحا في إزالة الإبهام، أو الإشكال المتوقع.
وقد قال الحافظ ابن حجر:
“وظاهر الحديث: أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها، ومقابل الاستقرار المسير الدائم المعبر عنه بالجري”[15].
وقال البيهقي: “قال الشيخ أبو سلمان الخطابي: وفي هذا – يعني الحديث – إخبار عن سجود الشمس تحت العرش، فلا ينكر أن يكون ذلك عند محاذاتها العرش في مسيرها، والخبر عن سجود الشمس والقمر لله – عز وجل – قد جاء في الكتاب، وليس في سجودها لربها تحت العرش ما يعوقها عن الدأب في سيرها، والتصرف لما سخرت له”[16].
ومن هذا يتبين أن سجود الشمس تحت عرش الرحمن لا يتعارض مع جريان الشمس ودأبها ليلا ونهارا؛ لأن هذا يتم بصورة لا يستطيع أحد أن يحيط بها علما، كما أنه يحدث بالشكل الذي يتماشى مع طبيعة الشمس، ولا يصح قياس سجودها بمعناه الاصطلاحي على سجود البشر فهذا غير ذاك، وسبحان الله الذي يسجد له ما في السموات والأرض، وهو السميع العليم.
الخلاصة:
- إن الخبر إذا نسب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يجب تحري صحته، فإذا تحققنا من ثبوته عنه – صلى الله عليه وسلم – آمنا به يقينا، بعد تحري الفهم الصحيح لكلامه – صلى الله عليه وسلم _ ومن خلال ذلك فإن حديث سجود الشمس ودورانها حديث صحيح سندا ومتنا، رواه الشيخان في صحيحيهما، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
- إن القول بثبوت الشمس وعدم تحركها قول قديم ظل معتقدا حتى القرن السابع عشر الميلادي، وعند بداية النهضة الحديثة اكتشف العلماء الحقيقة التي أشار إليها القرآن والسنة من حيث جريان الشمس وعدم ثبوتها.
- لقد أثبت العلم الحديث منذ القرن السابع عشر حركة الشمس ودورانها، فهي تسير باتجاه محدد لمستقر لها، ثم تكرر دورتها من جديد، والذي سماه العلماء solar apex، أو “مستقر الشمس”، كما أنهم جزموا بأن هذا يتطابق مع ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: )والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)( (يس).
- ليس في هذه الآية إعجاز علمي فحسب، بل إن استدلال النبي – صلى الله عليه وسلم – بها ليوضح ماهية سجود الشمس تحت العرش، كما فيه دلالة واضحة على نبوته صلى الله عليه وسلم.
- السجود بالمعنى اللغوي يعني: “الخضوع”، وهذا يختلف عن معناه الاصطلاحي، والذي يقتصر على توافر الأعضاء والأطراف التي في بني آدم.
- إذا ما تقرر أن السجود بمعناه العام هو الخضوع لله، فلا يلزم من سجود الشمس توقفها عن جريانها مثل ما هو معروف عند الآدميين، فيمكن لها أن تسجد دون حدوث أي اضطراب في دأبها ليلا ونهارا.
- لقد أكد القرآن الكريم أن الله – عز وجل – يسجد له كل شيء، قال تعالى: )ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس( (الحج:١٨).
- لقد قال علماء الرياضيات الكونية: إن السماوات وما فيها كون مكور، أشار إلى ذلك الله تعالى في قوله: )وسع كرسيه السماوات والأرض( (البقرة: ٢٥٥)، والأرض والشمس داخل ملكوت السموات السبع، وتحتها، وملكوت السموات السبع في جوف العرش وتحته، وكل شيء داخل كرة، فهو تحت محيط وسطها، إذن فكل شيء يسجد لله – عز وجل – تحت العرش.
- إن سجود الشمس تحت العرش مع ثبوت حركتها أمر واقع، لكن بغير كيفية معلومة لدينا، فيجب الإيمان بذلك لثبوته بالأدلة قرآنا وسنة، وعدم علمنا بكيفيته لا يعني بحال من الأحوال نفي هذه الكيفية؛ لأن الجهل بالشيء لا يعني عدم وجوده.
- لقد أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذا الحديث أن تعلم البشرية – التي كانت تعبد الشمس وتعتبرها إلها من دون الله – أن الشمس مخلوق من مخلوقات الله، يسري عليها قوانين الخالق سبحانه وتعالى؛ فتسجد وتركع له كما يسجد ويركع غيرها من المخلوقات، وفي ذلك إبطال لعبادتهم لها.
(*) مشكلات الأحاديث النبوية، عبد الله القصيمي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط2، 2006م. تحرير العقل من النقل، سامر إسلامبولي، مطبعة الأوائل، دمشق،2001م. جهود الإمام محمد رشيد رضا في خدمة السنة، د. يوسف عبد المقصود إبراهيم، دار التأليف، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1994م. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2009م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ) والشمس تجري لمستقر لها (، (8/ 402)، رقم (4802). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، (2/ 584)، رقم (394).
[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، (2/ 584،583)، بأرقام (392: 395).
[3]. مستقر الشمس، عبد الدائم الكحيل، مقال بموقع موسوعة الإعجاز العلمي: WWW.55A.net.
[4]. العطالة: مصطلح فيزيائي يعني مقاومة الجسم الساكن للحركة، ومقاومة الجسم المتحرك بتزويده بعجلة ثابتة أو تغيير اتجاهه.
[5]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مطبعة أخبار اليوم، القاهرة، د. ت، (20/ 12662، 12663).
[6]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400 هـ/ 1980م، (3/ 211).
[7]. المعجم الوسيط، (2/670)، مادة (غ ر ب).
[8]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (16/ 25).
[9]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (23/ 19: 21) بتصرف.
[10]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، (2/583)، رقم (392).
[11]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: البر والإحسان، باب: ما جاء في الطاعات وثوابتها، (2/ 76)، رقم (361). وصححه الألباني في “مختصر العلو”.
[12]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، (3/ 73) بتصرف.
[13]. المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي بن نايف الشحود، (5/ 185) بتصرف.
[14] . صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، (2/ 583)، رقم (392).
[15]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (8/ 403).
[16]. الأسماء والصفات، البيهقي، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، (2/ 275).