إنكار حقيقة الجن الواردة في القرآن الكريم
وجوه إبطال الشبهة:
1) القرآن هو الكتاب الذي لم تمتد إليه يد البشر بالتحريف أو التغيير، ولم يدخل فيه ما ليس منه، وعلى هذا فالتعارض بين القرآن وبين ما أثبته الكتاب المقدس فيما يتعلق بالجن – لا بد أن يحتكم فيه إلى ما أثبته القرآن الذي سلم من التحريف.
2) الجن جنس يشارك الإنس في نوع التكليف بالأمر والنهي والتحريم والتحليل، وعالمهم فيه المؤمن والكافر، وكفارهم هم الشياطين، وهم ليسوا أرواحا فقط؛ بل لهم نسل وذرية.
3) رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – رسالة عامة للإنس والجن، ومن ثم فلا غرو إذا وجدنا القرآن يتحدث عن سماع الجن للذكر الحكيم وإيمان طائفة منهم به. وأما عدم سماع الجن لرسالتي موسى وعيسى – عليهما السلام – فلأن رسالتيهما جاءتا لقوميهما خاصة ولم تأت لجميع الخلائق.
التفصيل:
أولا. ما ورد في القرآن عن الجن هو الحكم فيما نؤمن به، لا ما ورد في الكتاب المقدس:
إن ما جاء في القرآن الكريم عن الغيب هو المعبر عن الحقيقة؛ لأنه الكتاب الوحيد الذي لم تمتد إليه يد البشر بالتحريف أو التغيير، ولم يدخل فيه ما ليس منه، قال سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، وبلاغة القرآن وفصاحته وما حوى من أوجه أخرى من وجوه الإعجاز دليل على ذلك، بل والأشد من ذلك هذا التحدي – إن صح التعبير – المعجز للإنس والجن معا على عدم قدرتهم عن الإتيان بمثل هذا الكتاب، قال سبحانه وتعالى: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
والقرآن الكريم يخبرنا أن الجن من عالم الغيب الذي لا نراه بأعيننا ولا ندركه بحواسنا؛ لأننا لسنا مهيئين لرؤيته، بينما هو يرانا: )يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيـث لا ترونهـم إنـا جعلنـا الشياطيـن أوليـاء للذيــن لا يؤمنـون (27)( (الأعراف). ثم إن أي تعارض بين ما ورد في القرآن الكريم وما ورد في الكتاب المقدس لا بد أن يفسر في إطار قوله سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)؛ مع الأخذ في الاعتبار التحريف والتبديل اللذين تعرضت لهما التوراة والإنجيل.
وعلى هذا النحو يمكن تفسير التعارض الذي ركز عليه مثيرو هذه الشبهة، والذي وجد في حديث القرآن الكريم والكتب الأخرى عن عالم الجن. فلا يسعنا إلا أن نؤمن بما ورد في القرآن الكريم الذي سلم من التحريف والتبديل.
ثانيا. الجن عالم حقيقي، وليس أرواحا:
إن الغاية التي خلقت من أجلها الجن هي الغاية نفسها التي تقف وراء خلق الإنسان: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)( (الذاريات)، ولكن يقول ابن تيمية: “ليست الجن كالإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويا لما على الإنس في الحد والحقيقة، لكنهم مشاركون في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم بلا نزاع علم في ذلك بين العلماء”[1].
وعالم الجن فيه الكافر والمؤمن، وكفارهم هم الشياطين، ورأس الكفر عندهم هو رأس الشر كله وهو إبليس، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50)( (الكهف)، والجن يتفاوتون في الكفر والمعصية كما يتفاوتون في الطاعة شأن كل مكلف، وسورة الجن تتحدث عن هذه التفاصيل، قال سبحانه وتعالى: )وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (11)( (الجن).
ووجود مخلوقات من عالم الغيب فيها المؤمن والكافر مقابل وجود مخلوقات في عالم الشهادة فيها المؤمن والكافر، ووجود مخلوقات خالصة في الخير – وهم الملائكة – في مقابل مخلوقات هي شر خالص – وهم الشياطين – مع وجود مخلوقات لا تكليف لها – وهي الحيوانات التي لا عقل لها – هذه المخلوقات بأجمعها – على اختلافها – تبرز قدرة الله – عز وجل – وأنه قادر على كل شيء.
الجن ليست أرواحا فقط، بل لهم ذرية:
لم يذكر القرآن أن الجن أرواح فقط، وما الذي يمنع من أن يكون هناك عالم من الغيب يتزاوج ويتناسل، كما يتزاوج الكائن الحي في عالم الشهادة ويتناسل؟ والقرآن الكريم ينص على أن لإبليس ذرية، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50)( (الكهف)، فهذا يدل على أنهم يتناكحون من أجل الذرية، واستدل بعض العلماء على ذلك بقوله – عز وجل – في أزواج أهل الجنة: )فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56)( (الرحمن)، والطمث في لغة العرب: الجماع.
ثالثا. رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – رسالة عامة تشمل الإنس والجن:
- أما كون القرآن الكريم لم يذكر سماع الجن لرسالة موسى وعيسى – عليهما السلام – واكتفى بذكر سماع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلأن النبي محمدا – صلى الله عليه وسلم – مرسل إلى الجن والإنس، ويدل على ذلك تحدي القرآن – إن صح التعبير – للجن والإنس: )فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56)( (الإسراء)، وقد سارع فريق من الجن إلى الإيمان عندما استمعوا القرآن: )قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1)( (الجن). وقوله سبحانه وتعالى: )قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30)( (الأحقاف).
- يشير إلى أنهم سمعوا رسالة موسى – عليه السلام – من قبل، أما أن الجن قالوا: )يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30)( (الأحقاف)، ولم يأت في القرآن الكريم أنهم قالوا: أنزل من بعد الزبور أو الإنجيل، أو من بعد عيسى – عليه السلام – مع أن عيسى أقرب إلى عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من موسى – عليه السلام – فذلك له احتمالان: إما لأنهم كانوا على اليهودية، وإما لأنهم قالوا حسب علمهم، ولم يعلموا إلا بموسى – عليه السلام – وشريعته[2].
الخلاصة:
- ما جاء في القرآن عن الغيب – ومنه الجن – هو المعبر عن الحقيقة؛ لأنه الكتاب الذي لم تمتد إليه يد البشر بالتحريف والتغيير، ولم يدخل فيه ما ليس منه.
- الجن جنس يشارك الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، وهم يتفاوتون في الكفر والمعصية، كما يتفاوتون في الطاعة شأن كل مكلف، والجن يتزاوج ويتناسل كما يتزاوج الإنس في عالم الشهادة ويتناسل.
- والقرآن لم يذكر سماع الجن لرسالة موسى وعيسى – عليهما السلام – ذلك لأن رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – هي المقصودة بالحديث، وهو – صلى الله عليه وسلم – مرسل إلى الجن والإنس، والآيات تشير إلى أنهم سمعوا رسالة موسى عليه السلام من قبل، فهم إما أنهم كانوا على اليهودية، وإما أنهم لم يسمعوا بأمر عيسى عليه السلام.
(*) مفهوم الشيطان في الفكر العربي، د. ناصر وهدان، القاهرة، 1999م. عالم الجن والشياطين، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426هـ/ 2005م. وقاية الإنسان من الجن والشيطان، وحيد بن عبد السلام، دار ابن الهيثم، القاهرة، ط11، 1422هـ.
[1]. مفهوم الشيطان في الفكر العربي، د. ناصر وهدان، القاهرة، 1999م.
[2]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية، بيروت، د. ت، ج3، ص527.