إنكار عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة
وجها إبطال الشبهة:
1) إن المتأمل في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته يدرك – بما لا يدع مجالا لشك شاك أو ادعاء مدع – حقيقة عصمته – صلى الله عليه وسلم – من جملة ما وقع فيه نظراؤه من العبث المباح وغير المباح، ومن جملة ما اقترفه قومه من عبادة الأوثان، فحفظ له بذلك قلبه من اللهو، وعقيدته من الشرك.
2) ليس المراد من “الضلال” في الآية المستدل بها الضلال الذي هو بمعنى الكفر، وإلا ناقض القرآن نفسه، والله يقول: )ما ضل صاحبكم وما غوى (2)( (النجم)، ثم إن للضلال معاني عدة؛ منها: النسيان، والغفلة والتحير، وطلب الشيء، والمحبة وغيرها، كما أن “الغفلة” في الآية الثانية لا تقدح في عصمته – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة، وإنما هي على سبيل الامتنان بتعريف غيب الماضي له – صلى الله عليه وسلم – ولولا الوحي ما علمه!
التفصيل:
أولا. سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته شاهدة على عصمته:
من نافلة القول أن نشير إلى أن عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – في عقيدتنا أصل من أصول الإيمان والإسلام، وهي عقيدة لا تنفك عن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والطعن في هذه العصمة طعن في تلك الشهادة، ولم لا وهي دليل المسلمين على حجية الوحي الإلهي (قرآنا وسنة)، وهي دليلهم على الاقتداء الشامل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن كمال العقل والعصمة من الكفر والشرك والشك، ومن تسلط الشيطان صفة أساسية في رسل الله – عز وجل – وشرط ضروري من شروط صحة رسالة جميع الرسل، وهي جزء من الكمال البشري، الذي كملهم الله – عز وجل – به، وهو عامل مهم سواء أكان قبل بعثتهم أم بعدها، وسبب قوي من أسباب تبليغ رسالة ربهم إلى أقوامهم.
وإذا كان الكمال العقلي صفة أساسية في رسل الله، فمن باب أولى أن يكون محمد – صلى الله عليه وسلم – أعقلهم وأذكاهم؛ لأنه إمامهم وخيرهم، ولم لا وقد كانت نشأته – صلى الله عليه وسلم – منذ مولده إلى أن بعثه الله – عز وجل – أكمل نشأة، إذ تولى تربيته وتعليمه ربه – عز وجل – فأدبه ورباه، فكمله ورعاه، فحفظه مما كان يغمر حياة قومه من وثنية وعادات مسترذلة، حتى غدا أكمل إنسان في بشريته، لم يستطع أحد أن يريبه في حياته، أو يغمز شبابه بغميزة أو ريبة على كثرة الخصوم والأعداء المتربصين، فضلا من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم.
وقد أجمعت الأمة على هذا الأدب الرباني، وأن حياة نبيها – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة وبعدها أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تعرف له فيها هفوة، ولم تحص عليه فيها زلة، بل إنه امتاز بسمو الخلق، ورجاحة العقل، وعظمة النفس، وحسن الأحدوثة بين الناس، ثم نبأه الله وبعثه، فنمت فيه هذه الفضائل، وترعرعت حتى أضحت حياته فريدة في تاريخ هذه الحياة الدنيا.
فمن أين له هذا؟ وهو اليتيم الذي تعرض منذ طفولته لمحنة اليتم، والفقر! وهو الأمي الذي لم يجلس طيلة حياته إلى معلم يثقف عقله! وهو الذي نشأ في بيئة سيطرت عليها الجاهلية، سيطرة كاملة في مجال العقيدة والفكر، وفي مجال الأخلاق والسلوك، وطبعت الناس بطابعها البغيض حتى لا تكاد تجد إنسانا يسلم من وراثة البيئة، وعدوى التقاليد الجاهلية الموروثة عن الآباء والأجداد.
فكيف نجا سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من تلك المؤثرات القوية؟
إن الإنسان العادي قد يستطيع أن تعاف نفسه شيئا يكرهه، ولا يستسيغه بحكم الفطرة السليمة، لكن من المحال عقلا أن يعيش في عزلة روحية كاملة، وهجرة نفسية تامة لقومه، فيسلم له عقله من الخرافات، وتسلم روحه من الجهالات، ويسلم وجدانه من التلون بشيء يغضب الله عز وجل.
نعم لقد كان في المجتمع العربي حنيفيون وحدوا الله ودعوا إلى توحيده، وكان هناك كرماء، وكان هناك أوفياء، وكان هناك أناس عرفوا بالعفة والتنزه عن الفواحش، ولكن كان نادرا جدا أن تجد في هذه البيئة إنسانا جمع الله فيه كل هذه الصفات، وغيرها، مثل ما جمعها الله في النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
إننا لا نستطيع أن ندرك سر كمال عقله وعقيدته وأخلاقه وبراءته من كل نقائص بيئته ومثالبها التي نشأ فيها إلا أن نقول: إنه الإعداد الإلهي للنبوة، قال عز وجل: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: 124). إنها العصمة الربانية! تلك التي حفظته – صلى الله عليه وسلم – من بيئة الجاهلية أربعين عاما، لم يصبه أي أذى من غبارها، فشب أكمل الناس خلقا وخلقا.
وعصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكذلك سائر الأنبياء مبنية على إرادة كونية، وهي اصطفاء الله – عز وجل – لهم، وعصمتهم من كل ما يخل بهذا الاصطفاء، قبل نبوتهم وبعدها، حتى وهم في عالم الغيب، لم يخلقوا بعد، وقد تجلت عصمة الله لهم ولمحمد – صلى الله عليه وسلم – في قوله عز وجل: )وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7)( (الأحزاب).
ووجه استدلالنا بالآية أنه إذا عهد إلى الأنبياء جميعا وهم في عالم الذر بتبليغ دينه وتوحيده، دل ذلك على عصمتهم في عقولهم وعقيدتهم، فلا يصدر عنهم ما يخالف ذلك لا قبل النبوة ولا بعدها[1].
ونحن إذا تأملنا سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل مبعثه طيلة أربعين عاما؛ نجدها مثالا واضحا لعصمة الله تعالى وحفظه له من المعاصي، كبائرها وصغائرها، فما بالنا بالشرك، وعبادة الأوثان، وهي أكبر الكبائر التي لا يغفرها الله؟!
إن العقل والواقع يرفضان رفضا تاما وقوع النبي – صلى الله عليه وسلم – في عبادة الأوثان التي كان يعبدها قومه، وإنما يشهدان – بما لا يدع مجالا للشك – بعصمته – صلى الله عليه وسلم – من الشرك والضلال قبل بعثته؛ فلم يكن للشيطان عليه من سبيل؛ ودليل ذلك أن مكة كانت – حينما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شابا فتيا قويا – تعج بمختلف الملاذ الشهوانية الدنسة لم يؤثر عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه دنس نفسه بأي من تلك الشهوات.
لقد كانت حانات الخمر منتشرة فيها، وكذلك البيوت المريبة ذوات الرايات الحمراء، وفي هذه وتلك المغنيات والراقصات والماجنات، وكان الشباب يتهالك على كل ذلك ويتهافت عليه، وأراد الله أن يكون رسوله بمنأى عن كل ذلك.
وها هو علي – رضي الله عنه – على ما يروي ابن كثير يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:«ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله – عز وجل – فيهما؛ قلت ليلة لبعض فتيان مكة – ونحن في رعاء غنم أهلها -: ألا تبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر[2] فيه كما يسمر الفتيان؟ فقال: بلى.
قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، فسمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ماذا فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعته تلك الليلة فسألت فقيل: نكح فلان فلانة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء من ذلك حتى أكرمني الله – عز وجل – بنبوته» [3] [4].
هذا على الرغم من أن حضور حفلات الزفاف لم يكن معيبا، ولا شائنا في كل المجتمعات، إلا أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – ليس كأي شخص؛ لذا منعه الله من الحضور والمشاهدة مرتين[5]؛ بموجب عصمته – صلى الله عليه وسلم – من أداء أفعال لا تليق بنبوة ستمنح له فيما بعد.
وإلى جانب عصمته – صلى الله عليه وسلم – من عبث الفتيان المباح فقد عصم في عقيدته صلى الله عليه وسلم، فعلى الرغم من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يأتيه الوحي قبل نبوته، إلا أنه لم يعرف عنه أنه عبد أحدا غير الله، ولا سجد لأحد غير الله، ولا أعجب قط بصنم أو وثن.
كذلك لم يعرف عنه أنه صادق ساحرا، أو كاهنا، أو عرافا، أو دجالا، بل عرف عنه ابتعاده عن ممارسات قومه الوثنية: من سجود، وذبائح، وتطير، وكهانة، وعرافة، فقد ترك – صلى الله عليه وسلم – جميع ممارسات عشيرته الوثنية، ومال إلى الانعزال، والتأمل وعبادة الله.
فقبل نبوته وجد نفسه ميالا إلى العزلة؛ فكان يذهب إلى كهف من كهوف الجبال المحيطة بمكة، وكان ذلك في غار حراء فيتعبد فيه تأملا للكون، ودعاء لله الواحد، وسجودا له، وكان يفعل ذلك أياما محددة من الشهر، ثم يعود إلى أهله، ليتزود بالطعام والشراب الكافي لمدة تعبده القادمة[6].
فلم يعرف عن محمد – صلى الله عليه وسلم – أنه سجد لصنم من أصنام مكة التي زادت على الثلاثمائة، كما لم يذبح لها، وكان يبتعد عن الكهان والعرافين، ولم يرد في سيرته – صلى الله عليه وسلم – أنه استمع لأحد منهم.
وهكذا مضت مرحلة الشباب برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو طاهر زكي، طاهر من الآثام التي تدنس الشباب في مجتمعاتهم؛ لأنه بعيد عن الشرك، لم يسجد لصنم قط، صلوات الله وسلامه عليه[7].
ولعل من أكبر الدلائل على هذا ما حدث له – صلى الله عليه وسلم – وهو طفل صغير في رحلته مع قريش إلى الشام، حينما قام إليه بحيرا الراهب، فقال له: “يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه”، وإنما قال له بحيرا ذلك؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فقال له بحيرا: “فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك” فقال: سلني عما بدا لك» [8] [9].
وعلى هذا النحو نستطيع أن نتصور بغض النبي – صلى الله عليه وسلم – الأوثان، وحري برجل هذا شأنه ألا يتقرب إليها أو يذبح لها، كما كان يفعل قومه، بل كان ينهى عن ذلك.
وهكذا شب النبي صلى الله عليه وسلم “يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية، ومعايبها، لما يريد به من كرامته حتى صار أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والأذى، وما رئي ملاحيا[10]، ولا مماريا[11] أحدا، حتى سماه قومه: الصادق الأمين” [12].
وكل هذا دليل على العناية الربانية به، وعصمته – صلى الله عليه وسلم – من الذنوب: صغائرها وكبائرها، قبل بعثته، وقبل نزول الوحي عليه، تمهيدا لهذه المهمة العظيمة التي سيقوم بها، وهي حمل رسالة الله إلى الناس كافة.
ثانيا. المقصود بوصف النبي – صلى الله عليه وسلم – بالضلال والغفلة في القرآن الكريم:
إن الذي يتتبع القرآن الكريم، ويتقصى آياته، ويمعن النظر فيه، ينتهي منه إلى رصيد ضخم، وثروة لا حدود لها، من الثناء الحلو، والمديح الطيب، والتنويه الذي ليس قبله ولا بعده، برسول هذه الإنسانية، حتى لكأنه بلغ قمة الثناء، وغاية المديح، فكل ذلك تجده حتى في الآيات التي يستدل بها خصوم النبي – صلى الله عليه وسلم – محاولين نفي العصمة عنه – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته، فإن هذه الآيات قد وردت في مقام المنة عليه صلى الله عليه وسلم.
ومن يتأمل ما استدل به هؤلاء من آيات قرآنية يعلم أنهم فهموا معناها على غير وجهها الحقيقي، ولا يستطيع إلا أن يقر بأنها افتراءات أطلقوا عليها اسم براهين، ولا يصل المتأمل إلى هذا الحكم إلا بعد إمعان النظر، والرجوع إلى النصوص وتمحيصها بدقة، فيخرج بنتيجة حاسمة، وهي أن ما زعموه حججا قرآنية ما هو إلا حجج شيطانية[13]، لا تقوم على أي أساس من الحقيقة.
إننا نقول ذلك لأن شواهد التاريخ، والنقل الثابت من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، تقر بعصمته – صلى الله عليه وسلم – من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها، وكذا من كل ما يمس قلبه، وعقيدته، وخلقه، وعقله بسوء، سواء صغر أم عظم، فما بالنا بالشرك؟! ولعل هذا هو الدافع لعرض الفهم الصحيح لتلك الآيات مناط الاستدلال، لنوضح ما وقع فيه هؤلاء من لبس أو تلبيس حول عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته، ولقد احتج الذاهبون إلى نفي العصمة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قلبه وعقيدته قبل البعثة وبعدها، بما ورد من آيات أسند فيها “الضلال” و “الغفلة” إلى ضمير خطابه – صلى الله عليه وسلم – وحملوها على الكفر في حقه صلى الله عليه وسلم، كقوله عز وجل: )ووجدك ضالا فهدى (7)( (الضحى)، وقوله عز وجل: )نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)( (يوسف).
وعن هذا يجيب د. عماد الشربيني قائلا: حمل أعداء الإسلام، وأعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة كلمتي “الضلال” و “الغفلة” في الآيات على الكفر والغي والفساد، وهذا تعسف باطل في تأويل الآيات، ومرفوض من وجوه منها:
- أنه قبل النبوة لم يكن هناك شرع قائم حتى يوصف المنحرف عنه بالضلال.
- ما ثبت بإجماع الأمة قاطبة من عصمة الأنبياء قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر.
- ما ثبت بالتواتر عن حال النبي – صلى الله عليه وسلم – في نشأته قبل النبوة من عصمة ربه – عز وجل – له من كل ما يمس عقيدته وخلقه بسوء، وقد سبق الحديث عن ذلك.
ومما يرفض تأويلهم لآيات القرآن، ما ورد في تفسير معنى كلمة “الضلال”؛ إذ جاءت في القرآن بالمعاني الآتية:
- الضلال بمعنى: الكفر، في نحو قوله عز وجل: )ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62)( (يس).
- الضلال بمعنى: النسيان، نحو قوله عز وجل: )أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى( (البقرة: ٢٨٢)، أي: تنسى إحدى المرأتين، فتذكر إحداهما الأخرى.
- الضلال بمعنى: الغفلة، في نحو قوله – عز وجل – على لسان موسى لفرعون قال: )قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20)( (الشعراء).
- الضلال بمعنى: المحبة، في نحو قوله – عز وجل – على لسان أولاد سيدنا يعقوب: )إن أبانا لفي ضلال مبين (8)( (يوسف)، أي: في حب مبين ليوسف، وهو المشار إليه في قوله تعالى على لسانهم أيضا: )قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95)( (يوسف)، وكذلك قوله – عز وجل – على لسان نسوة المدينة: )وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين (30)( (يوسف)، أي: حب مبين ليوسف عليه السلام.
ولما كان الضلال في لسان أهل اللغة: العدول عن الطريق المستقيم، وضده الهداية، كان كل عدول ضلالا، سواء كان عمدا أو سهوا، يسيرا كان أو كثيرا، ومن هنا صح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب الضلال إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد[14].
ومن ثم فإن “معنى الضلال في قوله عز وجل: )ووجدك ضالا فهدى (7)( (الضحى): الغفلة أي: غافلا عما تعلمه الآن من الشرائع، وأسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما تعلم بالوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحي إليك” [15]، فمعنى الضلال هنا عدم العلم، وليس في ذلك تعارض مع عصمته – صلى الله عليه وسلم – قبل النبوة، بل العلم بذلك فضل من الله، ومنة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد تكون كذلك بمعنى: المحبة – كما ذكرنا – أي: ووجدك محبا للهداية، فهداك إليها، وقد استعمل العرب لفظ الضلال بمعنى المحبة، ومنها قول الشاعر:
هذا الضلال أشاب مني المفرقا[16]
والعارضين[17] ولم أكن متحقــقا
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي
بعد الضلال فحبلها قد أخلقا[18]
وقد يكون معناها الطالب، أي: طالب الهدى، فهداك له، ودليل ذلك ما صح من سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل النبوة، وتحنثه في غار حراء طلبا للهداية، حتى نزل عليه جبريل – عليه السلام – بالوحي.
وقيل: إن المقصود بالضلال أي: مضلول عنك، والمعنى: كان قومك لا يهتدون إليك، ولا يعرفون قدرك، فهدى المسلمين إليك، حتى آمنوا بك، وكان العرب يطلقون على الشجرة المنفردة في الصحراء التي يهتدى بها ضالة[19]؛ ومن ثم فليس المقصود بالضلال أنه كان وثنيا قبل بعثته، كما يزعم الزاعمون.
هذا بالنسبة لوصف النبي – صلى الله عليه وسلم – بالضلال، أما بالنسبة لوصفه – صلى الله عليه وسلم – بالغفلة في قوله عز وجل: )نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)( (يوسف)، فليس فيها كذلك ما ينال من عصمته – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة، فليس في هذه الآية أي اتهام للنبي – صلى الله عليه وسلم – بعبادة الأصنام قبل بعثته، فهذا لم يقل به أحد، كما أن لغة العرب لا تقره؛ لأن الغافل: هو الذي لا يعلم، لا عن جهل أو قصور عقل، ولكن لأن ما غفل عنه هو أمر لا يشغل باله، أو أن يكون المقصود بقوله عز وجل: )لمن الغافلين(، أي: إنك يا محمد لم تكن ممن يعرفون قصة يوسف؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب، ولم تجلس إلى معلم يروي لك تلك القصة، ولم تجمع بعضا من أطراف القصة من هنا أو هناك، بل أنت لم تتلق الوحي بهذه القصة إلا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة: اسألوه عن أبناء يعقوب وإخوة يوسف؛ لماذا انتقلوا من الشام إلى مصر؟
وقد كان ضربا من الإعجاز أن ينزل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا البيان العالي بكل تفاصيل القصة، فهذا دليل عملي علي أن معلم محمد – صلى الله عليه وسلم – هو الله عز وجل، وأنه سبحانه هو من أوحى بها إليه[20].
فهذا إذن من باب الامتنان على النبي – صلى الله عليه وسلم – بالوحي، فلا يجوز عليه غفلة الجهل لا قبل النبوة ولا بعدها، والسر من جعله من الغافلين دون أن يوصف بها وحده، للإشارة إلى تفضيله – صلى الله عليه وسلم – بالقرآن، على كل من لم ينتفع بالقرآن، وهو تعريض بالمشركين المعرضين عن هدي القرآن الكريم[21].
ومن ثم فلا يعقل أن يكون المقصود بالغفلة في الآية الكريمة الكفر والفساد؛ لأنها في معرض مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – والثناء عليه، وقد عصمه الله من هذا الكفر قبل نبوته، وهو ما تشهد به سيرته العطرة، كما شهد له ربه بذلك في قوله عز وجل: )ما ضل صاحبكم وما غوى (2)( (النجم)، ولنتأمل دلالة كلمة “صاحبكم” في الآية الكريمة، فلم يقل محمد، أو رسول الله، أو نحو ذلك؛ تأكيدا لإقامة الحجة على المشركين بأنه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به، وبحاله، وأقواله، وأعماله، فقد عرف منذ نشأته بينهم بالأمانة والصدق، ورجاحة العقل، والخلق القويم، وأنهم لا يعرفون عليه كذبا ولا غيا، ولا ضلالا في العقيدة والأخلاق، ولو أنهم عرفوا عنه أي انحراف في العقيدة؛ لأخذوا ذلك عليه، ولقالوا له: كيف تنهانا عن الأصنام وقد كنت مثلنا بالأمس تعبدها؟! وهذا ما لم يحدث قط، ناهيك عن شهادة القرآن، وشهادة السيرة بعصمته – صلى الله عليه وسلم – في خلقه وعقيدته، قبل بعثته – صلى الله عليه وسلم – وبعدها.
وبمجموع ما قررناه آنفا: يثبت أنه لا مجال لإنكار عصمته – صلى الله عليه وسلم – واتهامه بالوثنية قبل بعثته.
الخلاصة:
- هناك إجماع من أهل السير والتاريخ على أن حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة وبعدها أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تعرف له فيها هفوة، ولم تحص عليه زلة، بل امتاز بسمو الخلق وسلامة العقيدة، حتى بعثه الله تعالى، وما تم له ذلك إلا بعصمة الله تعالى له من أقذار الجاهلية، وسيرته العطرة تشهد لهذه العصمة؛ فلم يعرف عنه أنه سجد لصنم أو تقرب إلى وثن أو استمع إلى كاهن، أو أعجب بساحر قبل بعثته، بل عرف عنه الميل إلى العزلة، وكراهيته للأوثان، وتأمله للكون، وعبادة الله على ما تبقى من دين إبراهيم الحنيف، تمهيدا لما أعده الله له من كرامة النبوة.
- إن ما يزعمه بعضهم حججا قرآنية على إثبات وثنية النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته، وذريعة لنفي عصمته، ما هي إلا أوهام ناتجة عن سوء فهم لمعاني القرآن وجهل بسيرته صلى الله عليه وسلم، فليس المقصود من وصفه بالضلال: الكفر والفساد كما توهموا؛ بل المعنى يحتمل دلالات أوسع، لا سيما في هذا السياق ومعلوم أن من معاني الضلال: النسيان، والغفلة والتحير، وطلب الشيء، والمحبة، أو كونه – صلى الله عليه وسلم – مضلولا عنه من قومه، فهدى الله قومه إليه بالوحي، ومن ثم فليس كل ضلال كفرا.
- إن وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – في آية سورة يوسف بالغفلة لا يعد اتهاما له – صلى الله عليه وسلم – إذا نحن وقفنا على دلالاتها؛ ذاك أن الغافل هو الذي لا يعلم، بسبب عدم اشتغال باله بالأمر، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أميا، فلم يكن ممن يعرفون قصة يوسف عليه السلام، حتى أعلمه الله بها، ومن ثم فعصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – في عقله وقلبه ثابتة له – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته وبعدها، ولا يستطيع أحد أن يشكك فيها.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م. فرسان الكتاب والسنة، د. يوسف القرضاوي، دار ابن لقمان، مصر. رد على مفتريات كاهن الكنيسة، ابن الخطيب، المطبعة المصرية، القاهرة، 1979م.
[1]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص65: 68 بتصرف.
[2]. السمر: الحديث بالليل، والمقصود به هنا: اللهو بالليل.
[3]. إسناده حسن: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب التاريخ، باب بدء الخلق (6272)، وحسن إسناده الأرنؤوط في تعليقاته على صحيح ابن حبان.
[4]. دلائل النبوة ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، د. عبد الحليم محمود، دار الإنسان، القاهرة، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص76، 77.
[5]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/2002م، ص79.
[6]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/2002م، ص49 بتصرف.
[7]. دلائل النبوة ومعجزات الرسول، د. عبد الحليم محمود، دار الإنسان، القاهرة، ط2، 1404هـ/1984م، ص78، 79 بتصرف.
[8]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، باب ما جاء في خروج النبي صلى الله عليه وسلم، لا تسألني بالات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا (362).
[9]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/2002م، ص68.
[10]. الملاحاة: التنازع والتخاصم.
[11]. المماراة: الجدال.
[12]. دلائل النبوة ومعجزات الرسول، عبد الحليم محمود، دار الإنسان، القاهرة، ط2، 1404هـ/1984م، ص79.
[13]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص132.
[14]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص134، 135 بتصرف يسير.
[15]. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص279.
[16]. المفرق من الرأس: حيث يفرق الشعر.
[17]. العارضان: جانبا الوجه.
[18]. أخلق: بلي.
[19]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ / 1985م، ج20، ص97: 99 بتصرف.
[20]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، مصر، ط1، 1991م، ج11، ص6840 بتصرف يسير.
[21]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص204 بتصرف