إنكار لقاء النبي – صلى الله عليه وسلم – ببحيرا الراهب
وجوه إبطال الشبهة:
1) شخصية بحيرا شخصية حقيقية واقعية مذكورة في الآداب البيزنطية – عندهم – باسمه ولقبه ومذهبه وتلاميذه، بل ومكان صومعته، وهو المكان الذي مر به النبي – صلى الله عليه وسلم – في صباه أثناء سفره للشام عام (582م)، وقد يكون هذا اللقب محورا على عادة العرب في تحوير الأجنبي من الأسماء.
2) إننا لا نجد تفسيرا لما ادعاه هؤلاء من خيالية شخصية الراهب “سرجيوس” أو “جرجيوس” الملقب بـ “بحيرا” إلا أحد أمرين؛ هما:
-
-
- إما أنهم لم يربطوا بين اسم الراهب ولقبه وأنهما دالان على مسمى واحد، فهذا اسمه وذاك لقبه.
- وإما أنهم أدركوا ذلك الربط، ثم لم يفرقوا بين مذهب هذا الراهب النسطوري، وبين مذهب القساوسة الكاثوليك أو الأرثوذوكس؛ فراحوا يبحثون عنه في كتبهم عبثا دون جدوى، متجاهلين ما يقتضيه اختلافهم في المذهب من عداوة وتجاهل في الواقع.
-
3) ليس فيما بشر به بحيرا النبي – صلى الله عليه وسلم – في صباه ما يستدعي العجب، ولا ما يثير الضحك؛ فكلها بشارات وعلامات بمنزلة إرهاصات لنبوة هذا الغلام، ولا سبيل لإنكار مجموع إرهاصات نبوته؛ لأن ذلك ثابت تاريخيا ودينيا وواقعيا على هذا النحو:
-
-
- تاريخيا: أن معاصريه وكبار صحابته شاهدوها ورووها ونقلها عنهم كبار المؤرخين، وإذا أبطلنا مشاهدة هؤلاء ونقل أولئك؛ لم يبق فيما وصلنا من مرويات التاريخ قيمة.
- دينيا: من المقرر الإيمان بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ومن ذلك معجزات عيسى – عليه السلام – الذي تكلم في المهد صبيا، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأحيا الموتى بإذن الله، ولم يقل أحد من المسلمين: إن هذه أمور مضحكة.
- واقعيا: نجد الواقع يشهد لأناس ليسوا أنبياء ولا أولياء تميزوا بفعل ما يستحيل على غيرهم من خوارق العادات.
-
التفصيل:
أولا. لم يكن بحيرا الراهب شخصية وهمية:
والحـق نقـول إن بحـيرا – الذي نسبت له مصـادر التـاريخ الإسـلامي تبشـير النبي – صلى الله عليه وسلم – في صبـاه بالنبــوة في قـصـة لقائـهما الشـهيرة – لم يكن شخصية وهمية، دارت على ألسنة الناس وأنها محض خيال أشبه ما يكون بأبطال الأساطير الذين تنسج حولهم الحكايات، وتنسب لهم المغامرات؛ ذلك أن هذا الراهب شخصية واقعية، “وكان ذا عـلم من أهـل النصـرانية، يقيـم في صـومعة ببصـرى من أرض الشـام، ولم يـزل في تلك الصـومعة راهبا، إليه يصـير علمـهم عن كتـاب يتـوارثونه كـابرا عن كـابر” [1].
إننا إذن أمام شخصية لها في مذهبها سابقون ورثت عنهم علم النصرانية، ثم بلغت فيه مبلغا؛ حتى كان له في مذهبه تلامذة أمثال: “مذهب”، ومن جملة المتتلمذين على تلميذه هذا: “سلمان الفارسي” قبل إسلامه.
لم يكن بحيرا إذن حلقة في فلاة؛ فالرجل ورث النصرانية وورثها لتلاميذ، ورثوا علمها – بدورهم – لآخرين، ومثل هذا التواصل من شأنه أن يدعم واقعية بحيرا، بخلاف ما ادعاه مثيرو هذه الشبهة.
وجدير بالذكر أن بحيرا هذا مذكور في الكتب البيزنطية أنه راهب نسطوري على مذهب “أريوس” و”نسطور”، وكان ينكر لاهوت المسيح، ويقول: إن تسميته بإله غير جائزة، بل يجب أن يدعى: كلمة، وأن تدعى والدته مريم: والدة الناسوت الذي هو مظهر الكلمة السامي – لا والدة الله -، وكان بحيرا قسا عالما فلكيا منجما، وقد اتخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام، وأقام هناك مدة تمر عليه العربان والقوافل، فكان ينهاهم عن عبادة الأوثان، ويأمرهم بعبادة الله الواحد[2].
ومعلوم أن المذهب النسطوري – الذي عليه بحيرا – يقول: إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة: الوجود، والعلم، والحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو، واتحدت الكلمة بجسد عيسى – عليه السلام – كظهور النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم.
إننا حين نثبت ذكر بحيرا في كتب هؤلاء نريد – فقط – أن نبين لهؤلاء الذين ادعوا وهميته أنه مذكور عندهم في آدابهم وكتبهم، أما ثبوته حقيقة عندنا فلا يحتاج لمثل هذا التدليل، ونحن حين نجزم بوجود بحيرا نعنى بإثبات المسمى نفسه أو الشخصية نفسها، ولا نكتفي بإثبات مجرد الاسم الذي أطلق على هذا المسمى أو تلك الشخصية؛ “فإن اسم بحيرا بالذات من الممكن عدم وجوده، مع احتمال وجود اسم مقارب لهذا الاسم؛ ودائما ما كانت العرب تحور الأسماء غير العربية إلى أسماء محورة إلى العربية، مثل: “لوزاريق” وأصله: “رودريجو”، “المقوقس” وأصله: “كبرس”، “الفارقليط” وأصله: “الباراكليتوس”، وليست العرب بدعا في ذلك؛ فكثيرا ما حور الغرب الأسماء العربية إلى أجنبية، ومثال ذلك: أنهم يطلقون على “علاء الدين”: “ألادان “، وعلى “ابن سينا”: “فاينسين”، وعلى “صلاح الدين”: “سلادان”… وهكذا” [3].
وإذا علمنا ذلك تعمق في أذهاننا وجود تلك الشخصية فيما لا يدع مجالا للشك، مع احتمال أن يكون في اسمه شيء من التحوير العربي – على نحو ما أسلفنا – كعادة العرب مع تلك الأسماء الأجنبية.
ثانيا. التفسير الصحيح لادعاء خيالية شخصية الراهب بحيرا:
إن ما ادعاه هؤلاء من خيالية شخصية الراهب “سرجيوس” الملقب بـ “بحيرا” لا يخرج عن أحد احتمالين:
- إما أنهم لم يربطوا بين اسم الراهب ولقبه، ولم يعلموا أنهما دالان على شخص واحد، هذا اسمه وذاك لقبه.
فمعنى “بحيرا” في السريانية: العالم المتبحر، وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أن اسم “بحيرا” مشتق من الكلمة الآرامية: “بحيرا” ومعناها: المنتخب؛ فهو لقب له، أما اسم هذا الراهب المسيحي فقد يكون: “سرجيوس” أو “جرجيوس” [4].
وبناء على ذلك كله فإننا لا نستبعد أن يذكر هذا الراهب المسيحي في أحد المصادر التاريخية باسمه، ويذكر في غيرها بلقبه، ولا يعني هذا – عند فطن عاقل – وهمية هذا الراهب، وأن شخصيته محض خيال لا أصل لها في المصادر التاريخية كما زعم هؤلاء المتوهمون؛ ذلك أن اللقب “بحيرا”، والاسم “سرجيوس” أو “جرجيوس” دالان على معين واحد، فإذا ذكر أحدهما كان علما على ذلك الراهب المسيحي نسطوري المذهب القاطن في صومعة ببصرى من أرض الشام، والذي بشر بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – في صباه في رحلة سفره للشام سنة 582م، دون أي شك، أو أدنى لبس.
- وإما أنهم أدركوا ذلك الربط – بين الاسم واللقب -، ولكنهم لم يفرقوا بين مذهبه ومذهب القساوسة الكاثوليك أو الأرثوذوكس؛ فجهلوا البون الشاسع بين معتقده ومعتقدات هؤلاء، فراحوا يبحثون عنه – عبثا دون جدوى – في كتب أعدائه القائلين بكفره:
يقول موفق الجوجو صاحب كتاب “قوانين النبوة” في هذا المعنى: إن توقع وجود ذكر الراهب بحيرا في كتب القساوسة من العبث بمكان، ولا يعقل أن نبحث عنه فيها؛ ذلك لأن بحيرا هذا على مذهب مخالف للمذهب الكاثوليكي أو الأرثوذوكسي، إذ يمكن أن يكون مذهبه نسطوريا أو آريوسيا، وكلا المذهبين يعتبران كفرا بالنسبة للكاثوليكية والأرثوذوكسية.
ودليل ذلك أن بحيرا كان في صومعة معتزلا، ولو كان على مذهب العامة؛ لكانت إقامته في دير معترف به أفضل له، وهذا غير ممكن بالنسبة له، والدليل الداعم لهذا الرأي هو العبارة التي تقول: ورث كتابا كانوا يتوارثونه كابرا عن كابر…[5].
وعليه فإن البحث عن بحيرا الراهب النسطوري عند هؤلاء القساوسة وفي كتبهم ضرب من العبث والحرث في المياه، يلام عليه صاحبه ولا يعذر بجهله.
ثالثا. ليس فيما بشر به بحيرا النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يستدعي العجب أو يثير الضحك؛ فما بشر به إرهاصات بنبوته صلى الله عليه وسلم، وهي ثابتة من جوانب شتى:
ليس فيما بشر به بحيرا النبي – صلى الله عليه وسلم – في صباه ما يستدعي العجب ولا ما يثير الضحك؛ فكلها بشارات وعلامات تعد إرهاصا بنبوة هذا الغلام، بشره بها هذا الراهب على نحو ما فعل غيره أمثال: سيف بن ذي يزن مع جده عبد المطلب، وليس ما قاله هذا الراهب للصبي محمد ببعيد عما في كتبهم المقدسة، بل إنه – صلى الله عليه وسلم – معلوم لهم بوصفه في الإنجيل والتوراة، حتى بعد تحريفهما.
ويحسن بنا أن نطالع نص هذه الرحلة – كما أوردها الإمام محمد أبو زهرة – لنرى؛ هل فيها حقا ما يستدعي العجب أو ما يضحك أو ما يستغرب منه أو لا؟
يذكر الإمام محمد أبو زهرة – رحمه الله – تحت عنوان “إرهاص وبشارة بالنبوة” ما نصه: “لقد كان ببصرى راهب في صومعة اسمه “بحيرا”، وكان على علم بالكتاب، وكان نزلاء هذه الصومعة ذوي علم بالتوراة والإنجيل، يتوارثون ذلك العلم كابرا عن كابر.
وكان من طبيعة بحيرا كما هو طبيعة كل الرهبان ألا يخرجوا للقاء القوافل ولا يعرفوا أحوالها، ولا استضافة من فيها؛ لأن الرهبنة تقتضي العزلة وهم لا يخرجون عن سنتها، ولا ينحرفون بأنفسهم عن أحكامها، ويظهر أن قوافل العرب تعودت من هذا الراهب خاصة – فضلا عن غيره – ألا يلقاهم ولا يلقوه.
ولكنه في هذه المرة خرج من صومعته، إذ رأى من البينات ما يتفق وما عنده من التبشير برسول يأتي من بعد عيسى – عليه السلام – اسمه أحمد، فخرج من الصومعة ليلتقي بتلك القافلة ويعرف من تنطبق عليه تلك الأمارات، ويتحقق فيه التبشير، وذلك أنهم نزلوا قريبا من صومعته، وقد رأى غمامة تظلهم؛ تسير حين يسيرون وتقف حيث يقفون، كما أنهم إذا آووا إلى فيء[6] شجرة رأى أغصانها تتهصر[7] حتى تظل واحدا منهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويظهر أنه وجد هذه العلامات ولما يتبين بعد ذلك الصبي، أو تبينه وأراد أن يعرف أحواله، وبقية الأمارات الدالة على أنه المذكور في الإنجيل، ولذلك أراد أن يزيد تعرفه بالقوم؛ فاتجه إلى إكرامهم، فأقام لهم وليمة عامة تشمل صغيرهم وكبيرهم، لا يتخلف منهم أحد، وأرسل إليهم يدعوهم، وقال في رسالته لهم: إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعبدكم وحركم.
لم يكن العجب من الدعوة إلى الطعام، إنما كان العجب من أنه ترك صومعته، وخرج إليهم، ولذا قال رجل من قريش: والله إن لك يا بحيرا لشأنا اليوم، ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟!
قال بحيرا: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وأحببت أن أكرمكم، وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم، فاجتمع القوم إليه، ولم يتخلف إلا محمد بن عبد الله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لحداثة سنه، وبقي تحت الشجرة يرعى إبلهم ويحرسها، فلما رآهم لم ير الصفة التي عرف بها الرسول المنتظر في كتبهم، فذكر لهم أنه طلب ألا يتخلف أحد منهم عن طعامه، فقالوا: يا بحيرا، ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتي إلا غلام وهو أحدثنا سنا، فتخلف في رحالتنا، قال: لا تفعلوا ادعوه، فليحضر هذا الطعام.
فقال رجل من قريش مع القافلة: واللات والعزى، إن كان للؤم منا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. حضر محمد – صلى الله عليه وسلم – الوليمة، واختصه الرجل بفضل من العناية فاحتضنه وأجلسه.
أخذ بحيرا يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك – وإنما قال بحيرا ذلك؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما -. فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو غلام لم يبعث بعد: “لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله، ما أبغضت شيئا قط بغضهما”، فعدل بحيرا عن استقسامه بهما وقال: والله إلا أخبرتني عما أسألك عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: “سلني عما بدا لك”.
جعل بحيرا يسأله عن رحلته وهيئته وأموره، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره؛ فرأى خاتم النبوة بين كتفيه في موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال بحيرا: ما هو بابنك، ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال أبو طالب: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر من اليهود، فوالله لئن رأوه، وعرفوا منه ما عرفت؛ ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعا، حتى أقدمه مكة، وأنجز تجارته” [8].
ثم يعلق الإمام محمد أبو زهرة – رحمه الله – على ذلك قائلا: إن هذه رواية من الروايات التي رويت في هذه الرحلة، وليس في التقاء بحيرا الراهب بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ولا فيما ذكره بحيرا، ولا في أصل القصة غرابة؛ لأن التبشير بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ثابت عند أهل الكتاب، وليس في القصة أمر يستحيل تصديقه أو يتعذر، بل إنه خبر يتفق مع ابتداء نشأة النبي – صلى الله عليه وسلم – وإظلال الغمامة له – صلى الله عليه وسلم – ليس فيه غرابة أو يظن أنه غريب في زعم الذين يجحدون، ومن طبيعتهم جحود ما ليس ماديا ولا محسوسا، ولكن يرد على جحودهم بأن شواهد الصدق في الخبر قائمة؛ فخاتم النبوة كان أمرا ظاهرا في جسم النبي – صلى الله عليه وسلم – رآه الراءون ووصفه الواصفون، فإذا كانوا لا يؤمنون إلا بالمادي، فهذا أمر مادي ظاهر، وقد وجد فيه، ولم يوجد في أحد غيره، فكيف يمترون؟
وهناك شاهد آخر هو وجود هذه الأوصاف المعروفة في التوراة والإنجيل حتى بعد أن أصابهما التحريف، وإذا كان هؤلاء نسوا حظا مما ذكروا به وأفسدوا الباقي، فالبشارات تلوح معلنة وجودها رغم أنف الجاحدين المستكبرين، فلا مجال لارتياب مرتاب[9].
وإذا افترضنا – جدلا – مع هؤلاء عدم ثبوت شخصية باسم “بحيرا”، فماذا يضير القصة الثابتة والبشارات المبشر بها النبي أيا ما كان اسم الراهب؟!
المهم عندنا أن ثمة راهبا بشر النبي – صلى الله عليه وسلم – في صباه، ولا نقف بنظرة محدودة عند اسمه، فليكن ما يكون، والأهم من ذلك ألا يكون قدحهم في شخصية بحيرا خطوة لإنكار بشارات النبوة التي سيقت على ألسنة أهل الكتاب وفق ما هو ثابت في كتبهم، ولا يستدعي هذا شيئا من الغرابة أو العجب أو الضحك.
ومن الجدير بالذكر – في هذا المقام – أن نورد رد الأستاذ محمد رضا على مستر وليام موير بشأن تفاصيل رحلة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الشام، يقول فضيلته متعجبا:
وإنا لا ندري لماذا كانت هذه التفاصيل مضحكة في نظر مستر موير؟!
أما كون هذه التفاصيل مضحكة، فهذا ما لم يقل به أحد من أكابر المؤرخين الذين استمد منهم مادته، وكان ينبغي عليه أن يقدر موقفه ويعلم أنه إنما يكتب تاريخ نبي لا شخص عادي؛ فالأنبياء والرسل تقع في حياتهم أمور خارقة تدل على نبوتهم وتؤيد رسالتهم، فالتي تقع قبل النبوة كالخوارق التي حدثت في مولده – صلى الله عليه وسلم – وما شاهدته حليمة من تيسير الرزق والبركة وشق الصدر وما حدث في أثناء سفره إلى الشام ـ تسمى: إرهاصات، والتي تقع بعد النبوة تسمى: معجزات.
ولا شك أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – وقعت منه خوارق العادات قبل النبوة وبعدها، ولا سبيل إلى إنكار مجموع إرهاصاته ومعجزاته لأكثر من وجهة:
- من الوجهة التاريخية: لأن معاصريه وكبار الصحابة قد شاهدوها ورووها ورواها عنهم كبار المؤرخين، ولو أبطلنا مشاهدتهم وروايتهم لم يبق للتاريخ قيمة.
- من الوجهة الدينية: لأن الدين يقر معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، فمن ذلك معجزات عيسى – عليه السلام – فإنه تكلم في المهد صبيا وأبرأ الأكمة والأبرص وأحيا الموتى، ومع ذلك لم يقل أحد من المسلمين: إن هذه أمور مضحكة، وكذا معجزات موسى – عليه السلام – وهي مذكورة في التوراة والقرآن.
- من الوجهة الواقعية: إن في العالم أناسا ليسوا بأنبياء ولا أولياء تراهم في كل زمان ممتازين على أبناء جيلهم، يأتون أعمالا يستحيل على غيرهم الإتيان بمثلها، ولقد شاهدنا في مصر فتى أميا من أبناء أحد المزارعين يضرب أرقاما طوالا وينطق بالجواب الصحيح بسهولة وبسرعة مدهشة من غير أن يخط بقلم، حار فيه علماء الرياضة وامتحنه كبار رجال الحكومة والصحافة، فهذا إنسان عادي له موهبة خاصة أذهلت عقول الخاصة، فكيف يمكن إنكار هذه الموهبة الخارقة والفتى لا يزال حيا بين ظهرانينا يحل المسائل في الطرق ويجيب كل سائل.
فإذا جاء رجل مثل مستر موير بعد ذلك بجيل أو أكثر وزعم أن هذه خرافة مضحكة ابتدعها المصريون، لم يغير ذلك شيئا من الحقيقة.
وقد تواترت الروايات أن زكريا – عليه السلام – كان يجد عند مريم فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم كان فعلا خارقا للعادة، ولم يقل أحد: إن ذلك مضحك.
ويروى أن عيسى – عليه السلام – لما أخبر بني إسرائيل بنبوته وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا وصوره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض، فهل قال أحد: إن هذا أمر مضحك؟! فلماذا يستبعدون الإرهاصات والمعجزات على رسول الله؟ وذكر القرآن أن عيسى تكلم في المهد، وقد سأله الحواريون أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فسأل عيسى الله تعالى أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون عيدا لهم وآية من الله فاستجاب الله دعاءه. فهل قال قائل: إن هذا مضحك[10]؟!
الخلاصة:
- إننا بإثبات لقاء النبي – صلى الله عليه وسلم – ببحيرا نثبت حدثا تاريخيا وقع بالفعل، ومؤداه منصوص عليه في كتب أهل الكتاب من مبشرات علمها بحيرا وبشر بها النبي – صلى الله عليه وسلم – كما فعل غيره من أهل الكتاب، وليس بدعا في ذلك، فلا وجه للحكم على شخصية هذا الراهب بالوهمية؛ لأن وهميتها لا تسقط من أذهاننا مبشرات النبوة فضلا عن كونها ثابتة حقيقة.
- لا مجال للقول بأن شخصية بحيرا الراهب شخصية وهمية؛ لأنه مذكور في الكتب البيزنطية باسمه ولقبه وتلاميذه ومذهبه النسطوري ومكان صومعته، وكل هذه الأوصاف تؤكد بكل ثقة: أن هذا الراهب هو الراهب الذي لقيه النبي – صلى الله عليه وسلم – في طريقه للشام؛ فبشره بالنبوة.
- لا نستبعد أن يكون اسم “بحيرا” هذا أصيب بشيء من التحوير على نحو ما جرت عليه عادة العرب في تحوير الأسماء الأجنبية مثل: لوزاريق، والمقوقس، والفارقليط…. وغيرها، وكلها محورة عن أصولها الأجنبية، وهذا ما فعله الغرب في بعض الأسماء العربية أيضا.
- إذا علمنا أن لفظ بحيرا في السريانية يعني: العالم المتبحر وهو لقب له، وأن اسمه قد يكون: “سرجيوس” أو “جرجيوس”، أدركنا أن من المحتمل أن يذكر الرجل في أحد المصادر التاريخية باسمه، ويذكر في مصادر أخرى بلقبه.
- إن ادعاء هؤلاء وهمية شخصية الراهب “سرجيوس” أو “جرجيوس” الملقب بـ “بحيرا” لا يعني إلا أحد أمرين:
o إما أنهم لم يربطوا بين اسم الراهب ولقبه ولم يعلموا أنهما دالان على شخص واحد؛ هذا اسمه وذاك لقبه.
o وإما أنهم أدركوا ذلك الربط، ثم لم يفرقوا بين مذهب هذا الراهب النسطوري، ومذهب القساوسة الكاثوليك أو الأرثوذوكس؛ فراحوا يبحثون عنه في كتبهم عبثا دون جدوى، متجاهلين ما يقتضيه اختلافهم في المذهب من عداوة في الواقع.
- ليس فيما بشر به بحيرا النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يستدعي العجب ولا ما يثير الضحك؛ فكلها بشارات وعلامات بمنزلة إرهاصات لنبوة هذا الغلام ولا سبيل لإنكارها.
- إن البشارات والمعجزات في حق الأنبياء ثابتة في حق عيسى – عليه السلام – وغيره من الأنبياء والرسل؛ فقد تكلم عيسى في المهد صبيا وأبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله، ولم يقل أحد بغرابة هذا ولم يتعجب منه، فضلا عن أن ثمة أناسا عاديين ليسوا أنبياء ولا أولياء يأتون بخوارق لا تتأتى لغيرهم يشاهدها من يعاصرونهم، ويرونها رأي العين ويقرونها، فهل لو جاء رجل بعدهم بجيل أو أكثر وزعم أن هذه الخوارق محض خرافة مبتدعة، وأنها تهاويل مضحكة، أكان زعمه ذاك مغيرا من حقيقة الأمر شيئا؟!
(*) الرسول صلى الله عليه وسلم: حياته وتطور الدعوة الإسلامية في عصره، د. عبد الرحمن سالم، دار الفكر العربي، مصر، 1421هـ.
[1]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص32.
[2]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص35.
[3]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص70 بتصرف يسير.
[4]. محمد رسول الله، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص35.
[5]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص71.
[6]. الفيء: الظل.
[7]. تتهصر: تميل وتتدلى.
[8]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ط1، ج1، ص127، 128.
[9]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ط1،، ص129.
[10]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص33، 34.