إنكار نسخ أحاديث وجوب صوم عاشوراء
وجها إبطال الشبهة:
1) إن أحاديث وجوب صيام يوم عاشوراء منسوخة بالأدلة القاطعة والبراهين الدامغة، وهذا هو الثابت بالأحاديث النبوية.
2) إن حديث سلمة بن الأكوع المنسوخ كان خاصا بيوم عاشوراء؛ إذ كان فرضا، وكان يجزئ صيامه بنية من النهار، ثم نسخ الحكم بوجوبه، فنسخت متعلقاته، ومن متعلقاته إجزاء صيامه بنية من النهار؛ لأن متعلقاته تابعة له، وإذا زال المتبوع زالت توابعه ومتعلقاته.
التفصيل:
أولا. نسخ أحاديث فرضية صيام عاشوراء:
لقد كان صوم يوم عاشوراء فرضا في أول الإسلام قبل أن ينسخ حكم فرضيته، تشهد بذلك الأحاديث النبوية الصحيحة التي تملأ دواوين السنة:
- فعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه»[1].
- وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أنه قال: «بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلا من أسلم يوم عاشوراء، فأمره أن يؤذن في الناس: من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم إلى الليل»[2].
- وعن جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأمرنا بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده»[3].
- وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: «أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم. قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن[4]، فإذا بكى أحدهم على الطعام، أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار»[5].
تؤكد الأحاديث السابقة – وهي ليست كل ما ورد في المسألة – بما لا يدع مجالا للشك أن صيام يوم عاشوراء كان فرضا، يقول الإمام ابن حجر العسقلاني: ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا؛ لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود – رضي الله عنه – الثابت في مسلم: «… قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك…» [6]، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه”[7].
وقد يقول قائل: هناك من عارض من أئمة الإسلام القول بفرضية صيام عاشوراء، وبذلك تكون دعوى نسخ صيامه (عاشوراء) بصيام رمضان لا أساس لها.
ففي لفظ للزهري: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له»[8]، لا يقال: في صيام عاشوراء وقد ورد بنية من النهار، وقد كان واجبا؛ لأن وجوبه كان نهارا، كمن صام تطوعا، ثم نذره على أن جماعة ذكروا أنه ليس بواجب؛ ولأن النية عند ابتداء العبادة كالصلاة، وفي أي وقت من الليل نوى أجزأه؛ لإطلاق الخبر”[9].
والحق أن جمهور العلماء قال بفرضية صيام يوم عاشوراء، ولم يخالف إلا طائفة من الشافعية، يقول الإمام النووي: “اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنة، ليس بواجب، واختلفوا في حكمه في أول الإسلام، حين شرع صومه قبل صوم رمضان. فقال أبو حنيفة: كان واجبا. واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين مشهورين، أشهرهما عندهم: أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب. والثاني: كان واجبا كقول أبي حنيفة”[10].
ويقول أيضا: “والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه، وجاء الإسلام بصيامه متأكدا، ثم بقي صومه أخف من ذلك التأكد”[11].
ويقول الإمام ابن حجر العسقلاني ردا على هذا القول الأخير للإمام النووي – بعد أن قدم الأدلة الكافية على فرضية صيام يوم عاشوراء التي عرضناها منذ قليل: وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه – فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع»[12]، ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا[13]؟
وقال الإمام البغوي مؤكدا فرضية صيام عاشوراء قبل أن ينسخ، ومحتجا بقول الصحابة: “كان صوم يوم عاشوراء فرضا في الابتداء قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان فمن شاء صام عاشوراء، ومن شاء ترك، روي ذلك عن عائشة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة رضي الله عنهم”[14].
إن كلام الإمام النووي يوهم أن طائفة كبيرة من العلماء أنكروا القول بفرضية صيام يوم عاشوراء، في حين أنه لم ينكر ذلك إلا طائفة من الشافعية، على رأسها الإمام الشافعي والقاضي عياض وأبو يعلى والنووي، في مقابل جمهور العلماء الذين يؤكدون فرضيته.
يمكننا إذن أن نقول: إن نسبة القول بعدم فرضية صيام عاشوراء إلى أئمة كبار، أمثال: الشافعي – رحمه الله – لا يعد حجة بذاته؛ إذ إن الرأي لا ينال قوته من قوة قائله ومكانته العلمية، وليست العبرة بالرأي أو بقائله، بل العبرة بالحجج والبراهين التي تدعم ذلك الرأي، فبماذا إذا احتج الشافعية؟! احتج الشافعية بما رواه الشيخان؛ فعن حميد بن عبد الرحمن «أنه سمع معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – يوم عاشوراء – عام حج – على المنبر يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: هذا يوم عاشوراء، لم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر»[15].
وحجة الشافعية في هذا الحديث هو قوله: «لم يكتب الله عليكم صيامه» قال البيهقي: يدل على أنه لم يكن واجبا قط[16].
يقول الإمام ابن القيم: “فإن قيل: حديث معاوية المتفق على صحته صريح في عدم فرضيته، وأنه لم يفرض قط. فالجواب: أن حديث معاوية صريح في نفي استمرار وجوبه، وأنه الآن غير واجب، ولا ينفي وجوبا متقدما منسوخا، فإنه لا يمتنع أن يقال: لما كان واجبا، ونسخ وجوبه: إن الله لم يكتبه علينا.
وجواب ثان: أن غايته أن يكون النفي عاما في الزمان الماضي والحاضر، فيخص بأدلة الوجوب في الماضي، وترك النفي في استمرار الوجوب.
وجواب ثالث: وهو أنه – صلى الله عليه وسلم – إنما نفى أن يكون فرضه ووجوبه مستفادا من جهة القرآن، ويدل على هذا قوله: «إن الله لم يكتبه علينا»، وهذا لا ينفي الوجوب بغير ذلك، فإن الواجب الذي كتبه الله على عباده، هو ما أخبرهم بأنه كتبه عليهم، كقوله عز وجل: )كتب عليكم الصيام( (البقرة: ١٨٣)، فأخبر – صلى الله عليه وسلم – أن صوم يوم عاشوراء لم يكن داخلا في هذا المكتوب الذي كتبه الله علينا؛ دفعا لتوهم من يتوهم أنه داخل فيما كتبه الله علينا، فلا تناقض بين هذا، وبين الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخا بهذا الصيام المكتوب، يوضح هذا أن معاوية إنما سمع هذا منه بعد فتح مكة، واستقرار فرض رمضان، ونسخ وجوب عاشوراء به”[17].
وقد أجمع علماء الإسلام على نسخ فرضية صيام يوم عاشوراء، واستدلوا على ذلك بما سقناه من الأحاديث، والتي تنص على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – انتقل من أمره المسلمين بصيامه إلى تخييرهم بين صيامه وتركه، وإنما كان ذلك بعد فرض صيام رمضان، ولقد نصت كتب الناسخ والمنسوخ على نسخ فرض صيام رمضان لفرضية صيام عاشوراء وغيرها.
يقول الإمام ابن شاهين تحت عنوان: “ذكر صوم يوم عاشوراء”: عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة صامه، وأمر بصيامه، حتى إذا فرض رمضان كان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه”[18].
ويقول الإمام أبو حامد الرازي تحت عنوان: “صيام عاشوراء”: عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصوم يوم عاشوراء ويأمر بصيامه، منسوخ بما روت عائشة قالت: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، فما قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة، وترك عاشوراء، من شاء صامه ومن شاء تركه[19].
وبما سقناه من أدلة يتبين أن القطع بنسخ حكم فرضية صيام عاشوراء بفرضية صيام رمضان أمر مـجمع عليه بين جمهور العلماء، تؤكد ذلك الأحاديث النبوية الصحيحة، وأقوال الصحابة، وأقوال شراح الأحاديث والفقهاء المختصين من علماء الناسخ والمنسوخ.
وها هو الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول: “لا يحتمل قول عائشة ترك عاشوراء معنى يصح إلا ترك إيجاب صومه، إذا علمنا أن كتاب الله بين لهم أن شهر رمضان المفروض صومه، وأبان لهم ذلك رسول الله، وترك إيجاب صومه، وهو أولى الأمور عندنا… ولعل عائشة إن كانت ذهبت إلى أنه كان واجبا ثم نسخ، قالته؛ لأنه يحتمل أن تكون رأت النبي لما صامه وأمر بصومه كان صومه فرضا، ثم نسخه ترك أمره، فمن شاء أن يدع صومه…”[20].
وقد ذهب الإمام الغزالي – أيضا – إلى القول بالنسخ في هذا الحكم، وأن وجوب صوم يوم عاشوراء قد نسخ بصوم رمضان، فقال: “ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكان عاشوراء ثابتا بالسنة…” [21].
كما أن أهل العلم جميعا قد اتفقوا على أن صيام يوم عاشوراء اليوم سنة ليس بواجب، وأنه مستحب، فقال الإمام النووي حاكيا هذا الإجماع: “اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنة ليس بواجب… وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، وإنما هو مستحب… والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه؛ للأحاديث”[22].
وعلى هذا، فإن القول الراجح عند أهل العلم، والمقبول في العقل، أن صوم يوم عاشوراء كان واجبا في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم بفرض صوم رمضان، وصار صيامه مستحبا بعد ذلك، وترك وجوبه، وهذا ما دلت عليه الأدلة الشرعية الصحيحة، وقال به جمهور أهل العلم.
وإلى النسخ – أيضا – ذهب الشيخ عادل بن يوسف العزازي في العصر الحديث، فقال: “وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصومه بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمر بصيامه، فكان فرضا، ثم نسخ فرضه عندما فرض رمضان، وأصبح على الاستحباب”[23].
هذا ما ذهب إليه العلماء قديما وحديثا، وجميعهم على أن النسخ هو الثابت في هذه الأحاديث، وأن الحكم كان في بداية الأمر على الوجوب، ثم نسخ وصار على الاستحباب، وذلك بالأدلة الصحيحة، وهو الثابت الذي لا جدال فيه.
ثانيا. نسخ صحة انعقاد النية في صيام الفرض نهارا:
عندما أثبت الأحناف فرضية صيام عاشوراء بنوا على حديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – حجتهم في القول بصحة انعقاد النية في صيام الفرض نهارا، والحديث الذي رواه سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – وفيه الدليل على فرضية صيام يوم عاشوراء – هو عمدة حجتهم[24] في القول بصحة انعقاد النية في صوم الفرض نهارا؛ خلافا لما قال به جمهور العلماء من وجوب تبييت النية قبل الفجر في صيام الفريضة.
بنى الأحناف حجتهم إذن على قول النبي – صلى الله عليه وسلم – من حديث سلمة بن الأكوع: «من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل».
قال النووي: واحتج أبو حنيفة بهذا لمذهبه: أن صوم رمضان وغيره من الفرض يجوز نيته في النهار، ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار وأجزأهم. قال الجمهور: لا يجوز رمضان ولا غيره من الصوم الواجب إلا بنية من الليل[25]. ويقول النووي أيضا معلقا على قوله صلى الله عليه وسلم:«من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل، فليتم صيامه إلى الليل». وفي رواية: «من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه»[26].
معنى الروايتين: أن من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن كان لم ينو الصوم ولم يأكل، أو أكل فليمسك بقية يومه؛ حرمة لليوم، كما لو أصبح يوم الشك مفطرا، ثم ثبت أنه من رمضان يجب إمساك بقية يومه؛ حرمة لليوم[27].
مما لا شك فيه أن الإمام النووي قد جانبه الصواب في تعليقه على الروايتين السابقتين؛ لأن كلتا الروايتين في صوم عاشوراء، وقد كان فرضا، ولو لم يصلح إجزاؤه بنية من النهار لوجب قضاؤه، ولم ينقل عن أحد من الصحابة كان قد أكل ثم أمسك أنه قضى صيام ذلك اليوم، أضف إلى ذلك أن زيادة أبي داود في الحديث «فأتموا بقية يومكم واقضوه» ضعيفة[28].
ولا يعني ما نقوله أننا نقر الأحناف على ما ذهبوا إليه، أو أن رأيهم راجح، بل رأيهم مخالف للصواب من وجوه؛ منها: معارضته للحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر – رضي الله عنهما – عن أم المؤمنين حفصة – رضي الله عنها، ومعارضته لقول الجمهور من جهة أخرى، كما لا يخفى أن الحديث منسوخ بإجماع أهل العلم، ونسخ الأصل يستلزم نسخ الفرع.
قال الإمام البغوي: “اتفق أهل العلم على أن الصوم المفروض إذا كان قضاء أو كفارة أو نذرا مطلقا – أنه لا يصح إلا بأن ينوي له قبل طلوع الفجر”[29].
ويقول ابن حجر: واحتج الجمهور لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» لفظ النسائي، ولأبي داود[30] والترمذي[31]: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له»[32].
قال ابن القيم: “ومعلوم أن هذا إنما قاله بعد فرض رمضان، وذلك متأخر عن الأمر بصيام يوم عاشوراء، وذلك تجديد حكم واجب وهو التبييت، وليس نسخا لحكم ثابت بخطاب، فإجزاء صيام يوم عاشوراء بنية من النهار كان قبل فرض رمضان، وقبل فرض التبييت من الليل، ثم نسخ وجوب صومه برمضان، وتجدد وجوب التبييت”[33].
وقد قال بذلك – نسخ حديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – الحافظ ابن حجر العسقلاني، حين أشار إلى نسخ حكم الحديث وشرائطه[34].
وقد يظن ظان أن هناك ثمة أدلة على جواز انعقاد النية نهارا في صيام الفرض، فيستدل على ذلك مثلا بحديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: «دخل علي النبي – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذن صائم…»الحديث[35]، فيجعل بذلك حديث صوم النافلة حجة في صوم الفريضة، وهذا نقول له: إنه يكفيك أن تنظر في أي الأبواب وضع علماء الحديث هذا الحديث، إنما وضعوه في صوم النافلة، وضعه الإمام الترمذي تحت باب: صيام التطوع بغير تبييت، والإمام مسلم تحت باب: جواز صوم النافلة بنية من النهار.
قال النووي معلقا على الحديث السابق: “فيه دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس[36].
الحديث السابق إذا في صوم النافلة، وليس في صوم الفريضة؛ لذا لم يحتج به الأحناف، إنما احتجوا بحديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – الذي يفيد إجزاء صوم الفريضة بنية من النهار؛ بناء على فريضة صيام عاشوراء – وهو كذلك – قبل أن تنسخ فرضيته بفرضية صيام رمضان، كما نص على ذلك أهل العلم؛ بناء على ما صح من الأحاديث المتفق على أغلبها بين البخاري ومسلم، والتي تنص على فرضية ووجوب صومه، لكن هذا الحديث يعارضه حديث آخر صحيح من رواية ابن عمر – رضي الله عنهما – ينص على وجوب تبييت النية في صيام الفريضة، والخطوات العلمية تقول بإمكانية الجمع بين الحديثين، وإلا فاعتقاد النسخ هو الخطوة الثانية، وقد حاول بعض أهل العلم الجمع بين الحديثين، فقد “صرح ابن حبيب – من المالكية – بأن ترك التبييت لصوم عاشوراء من خصائص عاشوراء”[37].
كما صرح الطحاوي – فيما حكاه ابن حجر في “الفتح” – بأنه يفرق بين صوم الفرض إذا كان في يوم بعينه كعاشوراء، فتجزئ النية في النهار، أو لا في يوم بعينه كرمضان، فلا يجزئ إلا بنية من الليل، وبين صوم التطوع فيجزئ في الليل وفي النهار. وقد تعقبه إمام الحرمين بأنه كلام غث لا أصل له[38].
والحق أن إمام الحرمين محق في كلامه؛ فكلا الحديثين في صيام الفريضة، والأول دال على صحة صوم الفريضة بنية من النهار، والآخر دال على وجوب تبييت النية في صيام الفريضة، فالقول بتخصيص الأول بعاشوراء ضعيف؛ لأنه لم تكن هناك فرائض في الصيام قبل رمضان إلا عاشوراء، والحكم سار على ما فرض بعد ذلك، طالما سارت الفرضية، أما أن تنسخ الفرضية ولا تنسخ توابعها، ومنها إجزاء صوم الفريضة بنية من النهار، فهذا عجيب!!
فليت من خصص يأتي بأدلة على تخصيصه، وليته يعلم أنه يعارض بذلك قول الجمهور بوجوب تبييت النية في صيام الفريضة، مع العلم بأن القول بفرضية صيام عاشوراء قبل أن ينسخ بصيام رمضان هو قول الجمهور، وليته يعلم أنه يعارض القاعدة الأصولية التي أقرها جمهور العلماء والتي تفيد بأن الأصل إذا نسخ استوجب ذلك نسخ الفرع.
وعليه، فإن أولى الأقوال التي لا يستقيم أمامها دليل معارض هو القول بنسخ حديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – بفرضية صيام رمضان، فأي حكم يؤخذ من الحديث بعد نسخه؟!
إن إجماع أهل العلم على نسخ أحاديث فرضية صيام عاشوراء لهو أكبر دليل على نسخ حكم إجزاء صوم الفريضة بنية من النهار.
ولقد نص جمهور العلماء على أن نسخ الأصل يستلزم نسخ الفرع، واستدلوا على ذلك “بأن حكم الفرع إنما ثبت بالعلة التي اعتبرت لحكم الأصل، فإذا نسخ حكم الأصل للدليل الناسخ له فقد زال اعتبار أي علة لهذا الحكم، ومتى زال اعتبار العلة فقد زال اعتبار الحكم الذي ثبت بها”[39].
وعليه، فلا وجه لإنكار نسخ حديث انعقاد النية في صيام الفرض نهارا؛ لثبوت ذلك من وجهين كما بينا، من جهة نسخ أصله وهو فرع له، ومن جهة نسخه بحديث ابن عمررضي الله عنه.
الخلاصة:
- إن الأحاديث النبوية الصحيحة التي جاء فيها الأمر بصيام يوم عاشوراء، كان الأمر فيها على الوجوب في بداية الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم، ونسخت أحاديثه بعد فرض صوم رمضان، فصار حكمه على الاستحباب.
- إن النسخ لهذه الأحاديث التي تفيد وجوب صوم عاشوراء، أمر قائم بالأدلة الشرعية الصحيحة، التي تفيد أن هذا الحكم كان في بداية الإسلام ثم ترك بعد فرض صوم رمضان؛ لذا فليس فيه احتمال ولا ظن.
- لقد ذهب معظم أهل العلم إلى أن هذا الحكم كان في بداية الإسلام، ثم نسخ، وانتقل من الوجوب إلى الاستحباب، وذهب إلى ذلك غير نفر، على رأسهم: الإمام الشافعي، والغزالي، والشوكاني وغيرهم.
- إن جمهور أهل العلم قد قالوا بأن صيام هذا اليوم صار سنة مستحبة، وليس بواجب، وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، وإنما هو مستحب.
- إن نسخ حديث فرضية صيام عاشوراء يستلزم نسخ صحة انعقاد النية في صوم الفريضة نهارا؛ لأن نسخ الأصل يستلزم نسخ الفرع كما هو معلوم عند علماء الأصول.
- لا أصل للتعارض بين حديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – الدال على صحة صوم الفريضة بنية من النهار، وحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – الدال على وجوب تبييت النية في صيام الفريضة؛ لأن ما اشتمل عليه الأول من أدلة إنما هي منسوخة؛ تبعا لنسخ أصله.
- إن حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – ناسخ لحديث سلمة رضي الله عنه؛ عملا بنسخ اللاحق للسابق إذا تعارضا.
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1415هـ/ 1995م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، (4/ 287)، رقم (2002). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: يوم عاشوراء، (4/ 1774)، رقم (2596).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: إذا نوى بالنهار صوما، (4/ 167)، (1924). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، (4/ 1782)، رقم (2627).
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، (4/ 1776)، رقم (2611).
[4]. العهن: الصوف المصبوغ ألوانا.
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: صوم الصبيان، (4/ 236)، رقم (1960). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، (4/ 1782)، رقم (2628).
[6]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، (4/ 1776)، رقم (2610).
[7]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 290) بتصرف.
[8]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الصيام، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك، (1/ 378)، رقم (2346). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (2334).
[9]. كشاف القناع عن متن الإقناع، البهوتي، (6/ 14).
[10]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1779).
[11]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1779).
[12]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء، (4/ 1781)، رقم (2626).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 290).
[14]. شرح السنة، البغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ/ 1983، (6/ 336).
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، (4/ 287)، رقم (2003). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، (4/ 1776، 1777)، رقم (2612).
[16]. الناسخ والمنسوخ من الحديث، عمر بن أحمد بن شاهين، تحقيق: د. محمد إبراهيم الحفناوي، دار الوفاء، مصر، ط2، 1428هــ/ 2007م، هامش ص330، 331 بتصرف.
[17]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ/ 1985م، (2/ 72).
[18]. الناسخ والمنسوخ من الحديث، عمر بن أحمد بن شاهين، تحقيق: د. محمد إبراهيم الحفناوي، دار الوفاء، مصر، ط2، 1428هــ/ 2007م، ص327، 328.
[19]. الناسخ والمنسوخ في الأحايث, أبو حامد الرازي، تحقيق: أبي يعقوب نشأت المصري، الفاروق الحديثة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص60.
[20]. اختلاف الحديث، الشافعي، تحقيق: عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص62.
[21]. المستصفى من علم الأصول، الإمام الغزالي، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1470هـ/ 1997م، (1/ 236).
[22]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1778، 1779).
[23]. تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة، عادل يوسف العزازي، دار العقيدة، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، (2/ 182).
[24]. انظر: الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، دار الصفوة، القاهرة، 1410هـ/1989م، (28/ 24، 25).
[25]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1783).
[26]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، (4/ 1782)، برقم (2628).
[27]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1782).
[28]. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط2، 1420هـ/ 2000م، (11/ 202).
[29]. شرح السنة، البغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ/ 1983م، (6/ 269).
[30]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الصيام، باب: النية في الصوم، (7/ 88)، رقم (2451). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2454).
[31]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، (3/ 352)، رقم (726). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (730).
[32]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 169).
[33]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ/ 1985م، (2/ 73).
[34]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 168، 169).
[35]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال… (4/ 1802)، برقم (2671).
[36]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (4/ 1803).
[37]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 169).
[38]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (4/ 169).
[39]. نظرية النسخ في الشرائع السماوية، د. شعبان محمد إسماعيل، دار السلام، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص156.