اتهامه – صلى الله عليه وسلم – بالغدر والقتل غيلة
وجها إبطال الشبهة:
1) الوفاء بالعهد والأمانات أدب إسلامي لم يزل مأثورا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل الرسالة وبعدها، فليس في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نقض عهدا عقده مع مخالفيه إلا أن يبدءوا هم بنقضه.
2) لقد جاهر كعب بن الأشرف بعداوة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعداوة المسلمين، وحرض قومه اليهود على نقض عهودهم مع النبي – صلى الله عليه وسلم – كما حرض المشركين على قتال المسلمين، فكان لا بد من قتله دفعا لشره، ومنعا لاستمراره في غيه وجرائمه.
التفصيل:
أولا. النبي – صلى الله عليه وسلم – أسوة في حفظ العهود والأمانات:
لقد كانت حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – أسوة حسنة، وقدوة صالحة في وفائه بالعهود، وتأديته للأمانات، وعدم الخيانة، وذلك تطبيقا للمنهج القرآني والسنة النبوية اللذين دعوا إلى ذلك وحثا عليه؛ يقول عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (27)( (الأنفال)، ويقول أيضا في وصف عباده المؤمنين المفلحين: )والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8)( (المؤمنون).
ومن الأحاديث النبوية التي أكد فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – على الوفاء بالعهود، وتأدية الأمانات، وعدم الخيانة، ووصف من فعل ذلك بأنه منافق، قوله – صلى الله عليه وسلم «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» [2] [3].
ومن أمثلة وفائه – صلى الله عليه وسلم – بالعهد ورده الأمانات إلى أصحابها: ما حدث ليلة الهجرة، إذ أمر سيدنا عليا – رضي الله عنه – أن ينام في فراشه، حتى يؤدي الأمانات إلى أهلها، وهذه الأمانات كانت قريش قد استودعتها إياه، وجعلتها عنده، فأمر سيدنا عليا أن يوزع الأمانات ويردها إلى أهلها، وهذا يتجلى فيه مدى حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تأدية الأمانات إلى أهلها حتى وإن كانوا على غير الإسلام.
ومن أمثلة وفائه – صلى الله عليه وسلم – بالعهد: بره لزوجته خديجة بعد موتها، فقد أثر عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يتفقد صويحباتها، ويبرهن وفاء منه لمن آزرته وأيدته في أيام الدعوة الأولى، جاء عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: «كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أتي بشيء، قال: اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة» [4] [5].
وعن عبادة بن الصامت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم» [6].
هذا هو موقف نبينا – صلى الله عليه وسلم – وكذا موقف القرآن – الذي هو عماد رسالته – صلى الله عليه وسلم – وجوهرها – من الغدر والخيانة.
وبعد، فهل يعقل أن إنسانا في منزلة محمد – صلى الله عليه وسلم – وقد بلغ من تصديق الناس له ولدعوته، وإيمانهم به، وإقبالهم عليه – صلى الله عليه وسلم – مبلغا عظيما، هل يعقل أن ينهى عن أشياء، ثم يأتي مثلها؟! هذا ما لا يقوله منصف.
حفظه – صلى الله عليه وسلم – العهد ما حفظه خصومه:
لم يسجل التاريخ على النبي – صلى الله عليه وسلم – نقضا للعهد، إلا إذا سبقه العدو إلى ذلك وهذا لا يسمى نقضا للعهد، وذلك تبعا للمبدأ الذي أقرته الفطرة، فضلا عن إقرار الدين الإسلامي له، والذي مقتضاه أن: “الجزاء من جنس العمل”، ومن الأمثلة التي تؤيد ذلك:
- أنه قبل سنة من هدنة الحديبية، كانت قريش تحاصر المدينة، وقد جمعت لذلك الأحزاب، من أهل القرى والأعراب، ونقض بنو قريظة عهدهم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واشتد بذلك الكرب، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا، ولكن الله نصر عبده، وأعز جنده، وألقى الرعب في قلوب المشركين، ولم تمض إلا مدة وجيزة حتى كان جيش الإسلام بقيادة رسول الله يزحف إلى مكة، فنزل الحديبية، وبعثت قريش رسلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
كان محمد – صلى الله عليه وسلم – في منعة وقوة، ولكنه كان يعلن أنه لا يريد الحرب، ويقول: لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها، فلما جاءه سهيل بن عمرو مفوضا من قريش لعقد هدنة، يرجع بها محمد وجيشه عن دخول مكة، كان من شروط هذه الهدنة شرط ظاهر الغبن، وهو أن محمدا يسلم إلى قريش من لجأ إليه من المسلمين بغير إذن وليه، ولا يطلب تسليم من لجأ إلى قريش من أتباعه.
ذلك الشرط أهاج أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – حتى إن عمر – رضي الله عنه – كان يذهب تارة إلى أبي بكر، وأخرى إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويقول: «يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بلى”، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار! قال – صلى الله عليه وسلم -: “بلى”، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا».[7] ويقول أبو بكر: أشهد أنه رسول الله.
فقبول المسلمين هذا الشرط هو استسلام منهم لأمر لم يدركوا سره، وكان ذلك أعظم بلاء وامتحان لصبرهم، وبينما هم على هذه المضاضة، وقد فرغ الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الجدل مع مفوض قريش سهيل بن عمرو، ولم يكتب العقد، ولم يمض – جاءهم أبو جندل مستصرخا يرسف[8] في قيوده.
وأبو جندل هذا هو ابن سهيل بن عمرو نفسه، وقد انفلت إلى المسلمين من أيدي المشركين، فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه، وقال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك – أي فرغنا من المناقشة – قبل أن يأتيك هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “صدقت”، وأبو جندل ينادي: يا معشر المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟
تصوروا ذلك المقام، مقام محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو الشجاع الذي علمت شجاعته المنقطعة النظير، وهو القوي الذي خرج من المدينة زاحفا بجيش، تصوروه وهو يرى أقرب أصحابه يكاد يجنح إلى العصيان، ثم تصوروه يرى لاجئا يرسف في القيود، وهو من أبناء الأعزة في قريش، عائذا بمحمد ودين محمد، ثم انظروا إليه – صلى الله عليه وسلم – لا يحتال ولا يتردد، ولما يكتب، ولما يمض، يقول لسهيل: صدقت، لقد لجت القضية، ويرد صاحبه باكيا إلى أعدائه!
تصوروا كل ذلك، ثم ليأت من شاء بمثل واحد في تاريخ البشر كله كهذا المثل، يضربه محمد – صلى الله عليه وسلم – في رعاية الكلمة التي قالها، ولما تكتب، ولما تمض، ذلك هو أعلى الأمثال في الوفاء بعهد العدو[9].
- ومن ذلك أيضا: ما حدث عند غزو النبي – صلى الله عليه وسلم – لبني النضير، فلم يقم بما قام به من ترك لعهد معهم إلا بعد خيانتهم للعهود والمواثيق، وكذلك ما حدث مع بني قريظة، فهو – صلى الله عليه وسلم – لم ينقض العهد إلا إذا سبقه عدوه لذلك، مطبقا بذلك المبدأ الذي مؤداه أن الجزاء من جنس العمل.
ثانيا. كعب بن الأشرف كان من السابقين إلى الخيانة:
لقد كان كعب بن الأشرف اليهودي – وهو رجل من طيئ وأمه من بني النضير – يقوم بدور كبير في تحريض المشركين وتخذيل المؤمنين، وبث روح التردد والهزيمة في أهل المدينة، ولم يقف من النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا المؤمنين موقف المسالمة، أو يعتزل فلا يكون مع هؤلاء ولا أولئك، بل أظهر العداوة، وعمل تحت سلطانها، وبدا ذلك فيما يأتي:
- أنه لما علم بمقتل المشركين من أهل بدر، أعلن غضبه على المسلمين، وقال: “لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها”، وبذلك أعلن العداوة المكنونة في نفسه، وماذا يصنع النبي – صلى الله عليه وسلم – مع عدو أظهر عداوته، ولم يكن له عهد مع النبي – صلى الله عليه وسلم ـ؟!
- أنه كان يهجو النبي – صلى الله عليه وسلم – ويشدد في الهجاء، غير مراع كرامة ولا حرمة، بل كان منخلعا من كل عهد، ومن كل فضيلة، وكان كالذين آذوا موسى من إخوانه اليهود، وهو متحلل من كل مروءة.
- أنه قدم المدينة المنورة يعلن عداوته للنبي – صلى الله عليه وسلم – ويجاهر بها، ويحرض اليهود على المؤمنين، ويلقي بالشر والفتنة بين المؤمنين من غير حرج من خلق أو دين أو عهد، وجعل يشبب بنساء المؤمنين، ويشيع قالة السوء عن فضليات هؤلاء النساء.
- وكان يحرض اليهود على أن تنقض عهدها مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان بأفعاله هذه يجرئ كل من لم يؤمن بمحمد – صلى الله عليه وسلم – على الخروج عليه، وشن الحرب، ولم يترك بابا من أبواب الكيد إلا دخل إليه، وليس له أهل يشتكى أمره إليهم فيمنعوه، بل هو منفرد بأعماله مقيم في حصن، لا ينتمي إلى بني النضير إلا من جهة أمه، ولا تسري عليه عهودهم.
- أنه لم يقف عمله عند العداوة والبغضاء، وإشاعة الفساد، وتحريض اليهود، بل إنه تجاوز ذلك؛ إذ ذهب إلى مكة المكرمة، واستعدى قريشا، فنزل على الذين أوذوا في غزوة بدر، وأخذ يحرضهم على قتال النبي – صلى الله عليه وسلم – وربط أسبابه بأسبابهم، ونفسه بنفوسهم، حتى إن أبا سفيان قال له من فرط ما امتزجت نفوسهم به: “أناشدك، أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه، وأينا أهدى في رأيك، وأقرب إلى الحق؛ إننا نطعم الجزور الكوماء[10]، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال”، فقال له كعب اليهودي: أنتم أهدى سبيلا، قال الله – عز وجل – في كتابه: )ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52)( (النساء).
وهكذا قد بدت العداوة من أفواههم، والتحريض من أعمالهم، وإرادة الفساد وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين من تصرفاتهم، وكان كعب المثل الواضح في ذلك، وكان يقول القصائد محرضا المشركين على المؤمنين، ويقول في شعره محرضا قريشا:
طحنت رحى بدر لـمهلك أهله
ولـمثـــل بــدر تستــهل وتــدمـع
ويقول في التحريض من هذه القصيدة:
ويقول أقوام أسر بسخطهم
إن ابن أشرف ظل كعبا يفزع
نبئت أن بني المغيرة كلهم
خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبه
ما نال مثل المهلكين وتبع
نبئت أن الحارث بن هشامهم
في الناس يبني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما
يحمي على الحسب الكريم الأروع
وهكذا يحرض على القتال، ويرثي القتلى بعبارات تؤجج نيران الحقد ليدفع قريشا إلى الثأر.
هذا ما يفعله الرجل اليهودي المتفلت من كل العهود والمواثيق، أيسكت النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو المحارب الحذر الذي يهجم على مداخل الأذى قبل أن يلج منها العدو، أم يعلنها حربا على قومه أو من ينتمي إليهم من بني النضير، وأكثرهم لم ينالوا المؤمنين بمثل ما نال، ولا تزر وازرة وزر أخرى، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يعلن الحرب إلا على من أعلنها، ولما يعلنوها؟
أم يسكت ويترك الشر يستشري، ويحاكيه في أفعاله بقية اليهود؟ لا شك أن آخر الدواء الكي، إنه لا بد أن يستأصل الداء من موضعه، ولا يتركه حتى يفسد الجسم كله، ولا منجاة حينئذ، لم يبق إذا إلا أن يقتل كعبا؛ حسما لمادة الفساد، وما السبيل لدفع شره غير القتل؟! إنه لا سبيل إلا هو، طالما أن الحرب لم تعلن، وهل تعلن الحرب على واحد، لقد قلنا: إن من ينتمي إليهم لم يكن منهم شيء مثل ما فعل.
فلم يبق إلا أن يقتل، وأن يدعو النبي – صلى الله عليه وسلم – من يتولى قتله في مأمنه، وقد اتخذ حصنا يأوي إليه، فحرض – صلى الله عليه وسلم – من يقتله من غير ضجة، ولا إزعاج لأحد من الآمنين، ولقد انتدب لذلك من رأى في نفسه القدرة من الصحابة، واستأذنوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أن يخدعوه بالقول فأذن.
ولقد وجدنا من الغربيين الذين يكتبون في تاريخ الإسلام من أثار زوبعة حول النبي – صلى الله عليه وسلم – وكيف يأمر بالقتل غيلة، وهو نبي مرسل، قالوا ذلك، ونسوا أنه نبي محارب لا يدعو إلى الاستسلام للشر، بل يقاومه، ويحتاج لحماية الناس من الضرر، وأنه بمقتضى حكمة النبوة يجب أن يدفع الضرر الكثير بالضرر القليل، وأنه في سبيل أن تحقن الدماء في القتال يجب منع أسبابها، وأن الذي كان يعيد الحرب جذعا هو واحد، وقتل واحد شرير كان يحرض على الحرب خير من قتل جماعة في ميدان الحرب.
قالوا إن القتل كان غيلة، ونحن نقول إن الرجل جاهر بالعداوة، وشبب بنساء المسلمين، وحرض اليهود على الانقضاض على المؤمنين، ونكث العهود، ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى مكة وأثار الأحقاد، ودعا القوم إلى أن يقاتلوا محمدا صلى الله عليه وسلم.
فعل كل ذلك جهارا، فإذا لم يتوقع من محمد – صلى الله عليه وسلم – أنه يتربص به الدوائر، وأنه يريد أن يقضي عليه؛ لأنه مادة الشر ولسانه، إذا لم يقدر ذلك فهو أبله [11]ـ ولم يكن كذلك -، فمحمد – صلى الله عليه وسلم – أمر بقتله في وقت كان هو يتوقع ذلك فيه، أو ينبغي أن يتوقعه، ولا يعد القتل غيلة لمن يتوقع القتل، إن قتل النبي – صلى الله عليه وسلم – لمثل هؤلاء يشبه من يعلن عن شرير بأنه ارتكب آثاما كثيرة، وأن من أحضره حيا أو ميتا، فله جزاء.
إن قتله كان أمرا لا بد منه لما قام به، ويقوم به رئيس الدولة العادلة التي يحكمها ذلك الحاكم العادل، فإنه لا سبيل لدفع فساده وإفساده إلا بقتله بأي طريق كان القتل، وكل ما فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه أباح دمه، جزاء ما ارتكب، ومنعا لاستمراره في غيه؛ فقد كان يقوم بجريمة مستمرة غير متحرج، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان مخيرا بين أمرين؛ إما أن يقتله، وإما أن يتركه يرتع في جريمته، فاختار أسلم الأمرين اللذين لا مناص من اختيار أحدهما[12].
وكذلك كان الحال مع أبي عفك الشاعر ألد أعداء المسلمين، وقد كان شيخا كبيرا من بني عمرو بن عوف وكان يهوديا، يحرض على عداوة النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى بدر ورجع وقد انتصر على المشركين، حسده أبو عفك وبغى، وقال في هجائه وهجاء المسلمين شعرا، فكان لا بد من قتله لتخليص البشرية من دنسه وخبثه، وقد تم ذلك على يد الصحابي الجليل سالم بن عمير العوفي رضي الله عنه [13].
إن أولئك الذين يثيرون الشك حول أعمال محمد – صلى الله عليه وسلم – وحول رسالته السماوية التي كانت رحمة للعالمين – يقولون: إن الرسالة السماوية تتنافى مع القتل غيلة، بل تتنافى مع أصل القتل، كما كان من عيسى – عليه السلام – الذي يروون أنه قال: “من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا”. (متى 5: 39).
ونقول في الجواب عن ذلك: إن قمع أعداء الدعوة الدينية لا يتنافى مع الرسالة، فموسى عليه السلام – وهو من أولي العزم من الرسل – قد قتل بيده، وقاتل، ودعا بني إسرائيل إلى القتال، وما تنافى ذلك مع رسالته الإلهية التي نزلت بها التوراة، وهي كتب العهد القديم المقدسة عند اليهود والنصارى معا.
ويحسبون أن الرحمة النبوية تمنع القتل والقتال، ونقول: إن القتل المشروع يكون بباعث من الرحمة، فليست رحمة النبوة انفعالة رعناء[14] تكون على موضع البرء والسقم، إنما رحمة النبوة تكون بالكافة، ومن الرحمة بالكافة أخذ المذنب بذنبه، ومنع الفساد في الأرض، قال الله سبحانه وتعالى: )فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251)( (البقرة). والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «أنا نبي الرحمة، وأنا نبي الملحمة». [15] وملحمته نابعة من مرحمته، وكثير من العفو يكون مشتملا على أقسى العذاب، وهو العفو عن الجاني الذي لا رجاء في صلاحه. والنبي – صلى الله عليه وسلم – قد اشتملت شريعته على العفو في الأمور التي لا يعود العفو فيها بالشر على الجماعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: )وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126)( (النحل).
ومن ثم فالصبر عن أخذ الجاني بجريمته، إنما يكون في الاعتداء على الآحاد، الذي لا يتعدى الأمر فيه إلى الجماعة، وقول الله سبحانه وتعالى: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)( (الأعراف)، إنما هو في الأمور الشخصية التي لا يعود ضررها على الكافة، يقول الله سبحانه وتعالى: )ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34)( (فصلت)، وهذا واضح في الأمور التي تمس الشخص ولا تصل إلى الجماعة[16].
وبذلك يتضح لنا أن أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقتل كعب بن الأشرف وأبي عفك الشاعرين اليهوديين، ليس من قبيل الغدر والخيانة، ولكنه من باب درء المفاسد، إذ قد يؤدي عدم القيام بها إلى نتائج وخيمة وعظيمة يعود وبالها على الجميع.
الخلاصة:
- إن المتتبع لحياة النبي – صلى الله عليه وسلم – يجد حياته قدوة حسنة، وأسوة صالحة، في وفائه بالعهود، وهذا واضح جلي من المواقف المذكورة في حياته، تطبيقا منه للمنهج القرآني، المتمثل في قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (27)( (الأنفال)، والسنة النبوية المتمثلة في قوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» [17].
- إن التاريخ لم يسجل حالة واحدة سبق فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – عدوه إلى نقض العهد؛ ولكن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا غدر به قابل ذلك بمبدأ “الجزاء من جنس العمل”، ونجد هذا واضحا في عهده مع المشركين في صلح الحديبية، وعهده ليهود بني النضير، ويهود بني قريظة، وذلك أنهم نقضوا عهودهم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعاقبهم – صلى الله عليه وسلم – وأمر بإخراجهم جميعا.
- كان قتل كعب بن الأشرف وأبي عفك اليهوديين هو الحل الوحيد الذي لم يجد النبي – صلى الله عليه وسلم – سواه؛ كي يتخلص من شرورهما وفسادهما، فكان الأمر بقتلهما بمنزلة درء لمفسدة عظيمة، قد يؤدي عدم القيام به إلى نتائج وخيمة يعود وبالها على الإسلام والمسلمين آنذاك.
(*) رد مفتريات على الإسلام، د. عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، 1982م.
[1]. الغيلة: الغفلة.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (34)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (219)، واللفظ للبخاري.
[3]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثل الكامل، أحمد جاد المولى، مكتبة دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص 394.
[4]. صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، كتاب المعروف، باب قول المعروف (232)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم (7007)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2818).
[5]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص 349.
[6]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (22809)، وابن حبان في صحيحه، كتاب البر والإحسان، باب الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (271)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1470).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3011)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية (4733).
[8]. يرسف: يمشي رويدا.
[9]. بطل الأبطال أو أبرز صفات النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، عبد الرحمن عزام، دار الهداية، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص25: 27 بتصرف يسير.
[10]. الجزور الكوماء: الناقة العظيمة.
[11]. الأبله: ضعيف العقل.
[12]. خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم ـ، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1425هـ/ 2004م، ج2، ص603: 606 بتصرف يسير.
[13]. وامحمداه، د. سيد بن حسين العفاني، دار العفاني، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص311، 312.
[14]. الرعناء: الهوجاء.
[15]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفضائل، باب ما أعطى الله تعالى محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ (31693)، وأحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث أبي موسى الأشعري (19543)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية (1/ 9).
[16]. خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1425هـ/ 2004م، ج2، ص606، 607 بتصرف يسير.
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (33)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (220).