اتهام البخاري بقصر نظره في نقد الحديث(*)
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن النظرة المنصفة تؤكد أن البخاري وأئمة الحديث جميعا قد أولوا المتن اهتماما كبيرا إلى جانب الإسناد، فجهابذة نقاد السند هم جهابذة نقاد المتن في آن واحد، والبخاري كان لا يقبل حديثا إلا وله أصل يحفظه من القرآن أو السنة الثابتة عنده.
2) إن حديث «لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة عام…» دليل عليهم لا لهم؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقل إن انتهاء العالم بعد مائة عام، وإنما أخبر أنه لا يبقى على وجه الأرض أحد من الموجودين الآن حيا بعد مائة عام، وقد كان هذا بالفعل، فكيف يكون مخالفا للحقيقة؟!
3) لقد أثبت الطب الحديث أن العجوة علاج للسم والسحر؛ فهي مبيدة للديدان التي تؤدي إلى تسمم داخلي، ولما كان السحر مرضا نفسيا فقد احتاج لعلاج نفسي، فإذا أخذنا في الاعتبار فوائد العجوة الطبية وأنها وصفة النبي – صلى الله عليه وسلم – فإن ذلك يحدث أثرا طيبا في نفس المسحور يساعد على شفائه.
التفصيل:
أولا. نقد البخاري لكل الأحاديث سندا ومتنا:
أي منصف متحر للدقة ومطلع على كتب الحديث يتأكد له منذ الوهلة الأولى أن البخاري – رحمه الله – وكذلك باقي رواة وعلماء الحديث، قد اهتموا بالمتن تماما كاهتمامهم بالسند.
“فأي طالب علم درس أو قرأ أي كتاب في مصطلح الحديث، يتبين له سقوط هذا الزيف عن البخاري – رحمه الله – خاصة، وعن رواة وعلماء الحديث عامة، فأي كتاب في مصطلح الحديث يشترط لاعتبار الحديث صحيحا أو حسنا شرطين أساسيين هما:
سلامته من أن يكون شاذا أو معللا…، والشذوذ عندهم قسمان: شذوذ في السند، وشذوذ في المتن، وكذلك العلة قسمان: علة في السند، وعلة في المتن، وهي حقيقة مقررة يعرفها صغار طلبة العلم…. إننا نجد عند المحدثين قاعدة أدق وأبلغ، وهي قاعدة متفق عليها بينهم جميعا يقررون فيها: أنه قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ أو علة، وقد يصح المتن ولا يصح السند، لورود دلائل على صحة المتن من طرق أخرى…
وذلك لا يدع مجالا للشك أن المحدثين والرواة احتاطوا من النظرة الشكلية القاصرة، وأنهم احتاطوا لكل احتمال، وأعدوا له العدة في منهج موضوعي شامل ومتعمق أيضا”[1].
لقد قررالمحدثون أن صحة السند لا تقتضي صحة المتن؛ لذلك فإنهم نقدوا المتن أيضا، وذلك عن طريق تصحيحه قبل تفسيره وتحليله، وقد كشفوا عن أخطاء وتحريفات وتصحيفات المتن في مؤلفات مستقلة رائدة من أشهرها كتاب العسكري “تصحيفات المحدثين”.
إن جهابذة نقاد السند هم جهابذة نقاد المتن في آن واحد، مثل الإمام البخاري والإمام مسلم:
لقد تتابعت الجهود لصياغة منهج نقد المتن،وظهرت ضوابط دقيقة ذكر بعضها ابن القيم؛ مثل: اشتمال المتون على المجازفات، ومخالفتها للحس وسماجة المعنى وركاكة الأسلوب، والمناقضة للسنة الصريحة أو لصريح القرآن، أو لأنها لا تشبه كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو ادعاؤها على النبي – صلى الله عليه وسلم – فعلا ظاهرا بمحضر الصحابة وأنهم اتفقوا على كتمانه [2].
وهكذا فقد اهتم علماء الحديث اهتماما بالغا بدراسة متن الحديث، واستوفوا تلك الدراسة وبذلوا قصارى جهدهم في العناية بها، ولقد كان الهدف الذي يسعون إليه من دراسة الإسناد ونقده هو تمييز صحيح الحديث من ضعيفه، وحماية السنة من العبث والكيد، وكل ذلك مرتبط ارتباطا وثيقا بنقد المتن إلى جانب الإسناد.
وتوثيق الراوي لا يتم إلا بثبوت عدالته وضبطه، وهذا الأخير إنما يعرف بمقارنة مرويات الراوي مع مرويات الثقات الآخرين…
من أجل ذلك نشأت علوم لا تكتفي بدراسة الإسناد، بل تعني بدراسة الإسناد والمتن جميعا، ومن ذلك: الحديث المقلوب، والمضطرب، والمدرج، والمعلل، والمصحف، والموضوع، وزيادة الثقة، كما أنشئت علوم تتعلق بدراسة المتن خاصة، من ذلك: غريب الحديث، أسباب وروده، ناسخه ومنسوخه، مشكله، محكمه… إلخ.
وفي ذلك بذل المحدثون جهدا لا نظير له، ومن جهودهم هذه في دراسة المتن ما وضعوه من علامات وضوابط يعرف بها وضع الحديث من غير رجوع إلى سنده، من ذلك:
- ركاكة اللفظ في المروي: فيدرك من له إلمام باللغة ومعرفتها أن ذلك لا يمكن أن يكون من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا صرح الراوي بأنه لفظه، وإلا فمدار الركاكة على المعنى وإن لم ينضم إليها ركاكة اللفظ.
- مخالفة الحديث لنص القرآن أو السنة المتواترة.
- ما اشتمل على مجازفات وإفراط في الثواب العظيم على الأمر الصغير، أو وعيد عظيم على فعل يسير…
- أن يكون الحديث مخالفا لبدهيات العقول بحيث لا يمكن تأويله.
- أن يكون الحديث مخالفا لحقائق التاريخ المعروفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
- صدور الحديث من راو تأييدا لمذهبه.
- ألا يتضمن الحديث أمرا من شأنه أن تتوافر الدواعي على نقله[3].
ذلك كله فضلا عن أن البخاري – رحمه الله – كان جديرا بالثقة، فكيف يكون جديرا بها وهو يتهم بهذه التهمة؟!
“أم أنه – كما هو الواقع – حاز على هذه الصفة “ثقة” بأنه اجتاز اختبارا شاملا لشخصيته لتحقيق صفة “العدالة”، أو ما نسميه الآن “الأمانة العلمية”، وصفة “الضبط” أو ما يمكن أن نسميه “الكفاية العلمية” التي بها يكون على مستوى استيعاب الحديث وأدائه كما سمع، وفي الواقع أن إثبات ثقة الرواة، وكونهم جديرين بالثقة يرتبط بنقد المتون ارتباطا قويا؛ لأن توثيق الراوي لا بد فيه من اختبار مروياته وعرضها على روايات الثقات، فإن وجدنا روايته موافقة – ولو من حيث المعنى – لرواياتهم، أو كانت له مخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه “ضابطا”، وحكمنا له مع اتصافه بالعدالة بأنه “ثقة”.
وهذه كتب الجرح والتعديل مليئة بألفاظ الجرح للراوي بسبب الخطأ في مروياته، مثل قولهم: “فلان منكر الحديث”، “يروي المناكير”، “يروي الغرائب”، “روى حديثا باطلا”، “رواياته واهية” وغير ذلك كثير، يدل على أن المحدثين كانوا في الاحتياط أبلغ مما يريده المتطفلون عليهم!
ولكن ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن للسند قيمته التي لا تجحد ولا تنكر في ميزان النقد…
بل إنا لنعتز بعناية علمائنا ورواتنا بنقد الأسانيد، بل بتقديم الأسانيد على المتون في كثير من المواضع؛ وذلك لأن المتن في كثير من الأحيان ربما لا يشتمل على دلائل توحي بشيء يستدل به على صحة النص أو سقمه، مما يجعل نقد السند متعينا ومقدما لا محالة، على حين تبقى أفكار الناقد غير المسلم في مثل هذا الوضع حائرة في متاهات واحتمالات الحدس والتخمين، واتجاهات الظنون والتخيلات”[4].
ومما يؤكد اعتناء البخاري بالمتن وأصوله أنه كان لا يروي الموقوف الذي روي عن الصحابي، أو المقطوع الذي وقف على التابعي إلا إذا كان له أصل من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة المسندة، “قال سليم بن مجاهد: كنت عند محمد ابن سلام البيكندي فقال: لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث، فخرجت حتى لحقته، فقلت له: أنت تحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم وأكثر، ولا أجيئك بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثا من حديث الصحابة والتابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب أو سنة”[5].
وإليك هذا المثال الذي يرد على هذه الشبهة ردا دامغا؛ إذ يؤكد عكس ما ذهب إليه هؤلاء، وبراءة البخاري ومنهجه من شبهتهم تلك:
فقد جاء في المسند: حدثنا عبدالله حدثني أبي، حدثنا يزيد، أنبأنا المسعودي وهاشم يعني بن القاسم، حدثنا المسعودي عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة عذاب إنما عذابها في الدنيا القتل والبلابل والزلازل”، قال أبو النضر: “بالزلازل والقتل والفتن»[6].
وقد أشار شيخ الصنعة الإمام أبو عبدالله البخاري إلى ذلك بعد أن أورد طرق هذا الحديث وبين ما فيها من الاضطراب، فقال: “والخبر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الشفاعة – وأن قوما يعذبون ثم يخرجون – أكثر وأبين وأشهر”[7].
“وهذا يدل على أن البخاري أضاف إلى اضطراب السند نقد المتن، وأنه مخالف للأحاديث الصحيحة التي تكاد تكون متواترة بأن أناسا من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – يدخلون النار ثم يخرجون منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم”[8].
وعليه، يكون البخاري، وكذلك كل الرواة وأهل الحديث – رحمهم الله جميعا – قد اهتموا بالمتون تماما كاهتمامهم بالأسانيد، فكيف نتهم البخاري بأنه أهمل نقد المتن؟! وإن كان اهتمامهم وتقديمهم للأسانيد لا عيب فيه على نحو ما تقدم، والكل يخدم السنة النبوية المطهرة.
ثانيا. حديث «لا يبقى على ظهر الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة» حديث صحيح سندا ومتنا:
إن هذا الحديث هو جزء من حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: «صلى النبي – صلى الله عليه وسلم – صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو ” اليوم” على ظهر الأرض أحد”، قال ابن عمر: فوهل الناس[9] في مقالة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ” يريد بذلك أن تخرم ذلك القرن»[10].
“فهذا نص الحديث واضح في أن الرسول أخبر صحابته في آخر حياته، وجاء في رواية جابر – قبل وفاته بشهرـ: أن من كان منهم على ظهر الأرض حيا حين قال الرسول تلك المقالة لا يعمر أكثر من مائة سنة، ولم يفطن بعض الصحابة إلى تقييد الرسول – صلى الله عليه وسلم – بمن هو على ظهرها – اليوم – فظنوه على إطلاقه، وأن الدنيا تنتهي بعد مائة سنة، فنبههم ابن عمر إلى القيد في لفظ الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين لهم مراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه عند انقضاء مائة سنة من مقالته ينخرم ذلك القرن فلا يبقى أحد ممن كان موجودا حال تلك المقالة، وكذلك فعل علي بن أبي طالب، كما في رواية الطبراني، وبالفعل، استقصى العلماء من كان آخر الصحابة موتا فوجدوه أبا الطفيل عامر بن واثلة، وقد مات سنة عشر ومائة أو مائة[11]، وهي رأس مائة سنة من حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – حيث أخبر بأمر مغيب، فوقع كما أخبر به[12].
وبالتالي فإن قوله هذا لم يخالف الحوادث الزمنية، بل إنه كان متفقا معها تماما؛ إذ إنه لم يتعد أحد من سامعي هذا الحديث أو من كانوا في عصره هذه المدة.
قال النووي: “هذه الأحاديث قد فسر بعضها بعضا، وفيها علم من أعلام النبوة، والمراد: أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة، سواء قل أمرها قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة، ومعنى نفس منفوسة أي: مولودة” [13].
وعليه فإن هذا الحديث يعد معجزة من معجزات الرسول – صلى الله عليه وسلم – وليس شاهدا على عدم صحته كما يزعمون، ويعد دليلا – أيضا – على اهتمام البخاري بالسند والمتن معا، وعدم إتيانه بأحاديث متونها باطلة مخالفة للوقائع التاريخية أو العقل أو غيرها كما يدعي هؤلاء، وإنما كان ينظر إلى الحديث قبل إيراده نظرة مدقق في سنده ومتنه.
ثالثا. إن حديث «من تصبح كل يوم سبع تمرات…»[14] حديث صحيح سندا ومتنا:
هذا الحديث قد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كما أخرجه الإمام مسلم، والإمام أحمد، وقد بين العلماء المقصود من هذا الحديث، فمنهم من خصصه بتمر المدينة؛ اعتمادا على الأحاديث المقيدة بذلك، ومنهم من أطلقه، والذي ارتضاه الأكثرون تخصيصه بعجوة المدينة.
قال ابن القيم رحمه الله: “والتمر غذاء فاضل حافظ للصحة، لا سيما لمن اعتاد الغذاء به… ونفع هذا العدد من التمر، من هذا البلد من هذه البقعة بعينها – من السم والسحر بحيث تمنع إصابته – من الخواص التي لو قالها بقراط وجالينوس، وغيرهما من الأطباء لتلقاها عنهم الناس بالقبول والإذعان والانقياد، مع أن القائل إنما معه الحدس والتخمين والظن. فمن كلامه كله يقين وقطع وبرهان ووحي أولى بأن نتلقى أقواله بالقبول وترك الاعتراض”[15].
وعليه، “فإن المبادرة إلى تكذيب حديث ورفضه لا تصح إلا إذا وهن طريقه، أو حكم العقل والطب حكما قاطعا بتكذيبه وبطلانه، وهذا الحديث قد صح سنده من غير طريق عن أئمة الحديث، ورواه ثقات عدول لا مجال لتكذيبهم، ومتنه صحيح على وجه الإجمال، إذ أثبت للعجوة فائدة، وحض على أكلها، ومن المقرر – حتى في الطب الحديث – أن العجوة مغذية، ولا شك في أن الأمراض الداخلية – من تعفن الأمعاء وانتشار الديدان – سموم تودي بحياة الإنسان إذا استفحل أمرها، إذن فالحديث من حيث معالجة العجوة للسموم بالجملة صادق لا غبار عليه”[16].
وقد شاء الله – تعالى – أن تبرز هذه الحقيقة إلى عالم الوجود وتكشف البحوث العلمية الأثر العظيم للتمر، وذلك فيما نشرته جريدة “الأهرام” تحت عنوان: (البلح علاج لأمراض العيون والجلد والأنيميا ولين العظام والبواسير، ويساعد على الولادة بسهولة): ” أثبتت الأبحاث العلمية التي أجريت أخيرا بالمركز القومي للبحوث أن البلح غذاء كامل، ويفيد في وقاية الجسم، وعلاجه من أمراض العيون، وضعف البصر، وعلاج الأمراض الجلدية، كالبلاجرا، وأمراض الأنيميا، وحالات النزيف، ولين العظام والبواسير، ويساعد المرأة الحامل على الولادة بسهولة.
صرح بذلك الدكتور عبد العزيز شرف، المشرف على وحدة بحوث الأدوية بالمركز القومي للبحوث، وأضاف قائلا: إن الأبحاث أثبتت كذلك أن البلح يعادل اللحم في قيمته الغذائية، ويتفوق عليه بما يعطيه من سعرات حرارية ومواد معدنية وسكرية؛ وذلك بالإضافة إلى أنه غني بالكالسيوم والفسفور والحديد، ويحتوي على غالبية الفيتامينات المعروفة”[17].
هذا بالنسبة لاستخدام العجوة في الطب كعلاج للسموم بالجملة، وإذا ذهبنا إلى “السحر” نجد أنه مرض نفسي، يحتاج إلى علاج نفسي، والإيحاء النفسي له أثر كبير في شفاء المرضى بمثل تلك الأمراض، وإذا أخذنا العجوة على أنها مغذية مفيدة للجسم، مقوية للبنية، قاتلة للديدان، قاضية على تعفن الفضلات وأنها من عجوة المدينة – مدينة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأن هذا العلاج وصفه – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي لا ينطق عن الهوى، فلا شك في أن ذلك يحدث أثرا طيبا في نفس المسحور”[18].
وعليه، فإن هذا الحديث لا يخالف الشواهد التجريبية أو الحوادث الزمنية في شيء، كما زعموا بل يتفق معها تماما، وهذا يثبت أن البخاري كان عالما بمتون الأحاديث، لا يرويها إلا بعد النظر في سندها ومتنها معا.
الخلاصة:
- إن البخاري – رحمه الله – وكذلك باقي رواة الحديث – قد اهتموا بالمتن كاهتمامهم بالأسانيد تماما، واحتاطوا لذلك جيدا، وأعدوا له العدة الكاملة. فكان الإمام البخاري لا يقبل حديثا إلا بعد النظر في متنه، فإن وافق الكتاب والسنة أخذه، وإن خالف فلا يقبله، فنقده كان للمتن والإسناد معا، فكما كان – رحمه الله – جهبذا في نقد السند كان جهبذا في نقد المتن أيضا.
- لقد قامت علوم كثيرة تعني بدراسة الإسناد والمتن جميعا مثل دراساتهم الحديث المقلوب والمضطرب والمعلل والمصحف وغيرها، وكذلك أنشأت علوم تختص بدراسة المتن خاصة؛ كعلوم غريب الحديث، وناسخه ومنسوخه، ومشكله ومحكمه؛ إذ قرر المحدثون أن صحة السند لا تقتضي صحة المتن.
- لقد كان البخاري – رحمه الله – جديرا بالثقة في كل ما رواه، فكيف نال ذلك؟! بالطبع لكي ينال هذه الثقة فإنه قد اجتاز اختبارا شاملا لشخصيته يجعله قادرا على الحكم على متن الحديث وسنده وقبول الصحيح سندا ومتنا، لا سندا فقط.
- نقد البخاري – رحمه الله – لحديث «إن أمتي أمة مرحومة…»، من ناحية المتن يؤكد إمامته لصنعة الحديث وثقله فيها، ويؤكد فساد هذه الشبهة، فقد أضاف إلى اضطراب السند نقد المتن، وأنه مخالف للأحاديث الصحيحة، فكيف تصح هذه الشبهة مع هذا المثال الحي؟!
- إن إثبات ثقة الرواة، وكونهم جديرين بهذه الثقة يرتبط بقدرتهم على نقد المتون ارتباطا قويا، فتوثيق الراوي لابد فيه من اختبار مروياته ومقارنتها بروايات الثقات وعلينا أن نضع في اعتبارنا أن للسند قيمة لا تجحد ولا تنكر في ميزان النقد؛ لذلك كان الاهتمام كبيرا به عند نقاد الحديث.
- إن حديث «لا يبقى على ظهر الأرض…» قد روي من طرق عدة، مؤداها: أن انقضاء مائة سنة من قوله – صلى الله عليه وسلم – لن يبقى أحد ممن كانوا موجودين في عهده – صلى الله عليه وسلم – وليس انتهاء العالم عند ذلك.
- إنه بالحوادث الزمنية قد ثبت أن هذا الحديث حقيقة تاريخية، ويعد معجزة من معجزاته – صلى الله عليه وسلم – فقد أثبت العلماء أن آخر الصحابة موتا قد مات على رأس مائة سنة من حديثه – صلى الله عليه وسلم – ولم يتعد أحد من سامعي الحديث أو من كانوا في عصره هذه المدة الزمنية.
- إن حديث: «من اصطبح كل يوم..»صحيح متنا وسندا، وذلك بالشواهد التجريبية والأدلة التاريخية والعلمية، فقد أثبتت العلوم التجريبية والطبية صحة هذا الحديث.
- إن العجوة علاج للسموم والسحر؛ إذ تعمل على قتل الديدان التي تؤدي إلى التسمم إلى جانب فوائدها الطبية والغذائية الجمة، كما أن السحر مرض نفسي، فإذا وضعنا في الاعتبار فوائدها وأنها من وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – فإن ذلك يحدث أثرا طيبا في نفس المسحور يساعد على شفائه.
(*) دفاع عن الحديث النبوي، د. أحمد عمر هاشم، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2000م. السنة المطهرة بين أصول الأئمة وشبهات صاحب فجر الإسلام وضحاه، د. سيد أحمد رمضان المسير، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، ط1، 1402هـ/1981م. السنة قبل التدوين، د.محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م. السنة المفترى عليها، سالم البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1413هـ/1992م.
[1]. السنة المطهرة والتحديات، د. نور الدين عتر، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1419هـ/1999م، ص74: 76.
[2]. مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات الإخباريين، أكرم ضياء العمري، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، د. ت، ص24، 25 بتصرف.
[3]. الرد على شبهات المستشرقين ومن شايعهم من المعاصرين حول السنة، أحمد محمد بوقرين، الجامعة الأمريكية المفتوحة، ص40، 41 بتصرف.
[4]. السنة المطهرة والتحديات، د. نور الدين عتر، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص76، 77.
[5]. طبقات الشافعية الكبرى، عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط1، 1383هـ، (2/218).
[6]. ضعيف: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، (4/410)، رقم (19693)، وضعفه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[7]. التاريخ الكبير، البخاري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، د. ت، (1/39).
[8]. المسند، أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة قرطبة، القاهرة، د. ت، (4/410).
[9]. أي: فزعوا.
[10]. صحيح البخاري(بشرح فتح الباري)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: السمر في الفقه والخير بعد العشاء، (2/88)، رقم (601)، صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم”، ( 9/3663)، رقم (6361).
[11]. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، د. ت، (7/ 231).
[12]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص 259: 260.
[13]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/3365) .
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأطعمة، باب: العجوة، (9/481)، رقم (5445). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الأشربة، باب: فضل تمر المدينة، (7/ 3153)، رقم (5240، 5241).
[15]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ/ 1985م، (4/291).
[16]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص258.
[17]. جريدة الأهرام، 12 ذو الحجة 1382هـ/ 26 مايو 1963م، ص4، نقلا عن: السنة النبوية وعلومها، د. أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، صــ190، 191.
[18]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص258، 259.