ادعاء أن استعانة يوسف – عليه السلام – بالساقي تخالف توكله على الله
وجها إبطال الشبهة:
1) طلب يوسف – عليه السلام – من الساقي أن يقص خبره على الملك لا يقدح في عصمته – عليه السلام – لأن الدنيا دار الأسباب، والأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله عز وجل.
2) مكث سيدنا يوسف – عليه السلام – في السجن لم يكن عقابا من الله على ذنب قد ارتكبه، بل كان رحمة به، وإعزازا لشأنه، ولأمور أخرى اقتضتها حكمة الله عز وجل.
التفصيل:
أولا. الدنيا هي دار الأسباب، والأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله:
قبل الحديث عن الأسباب التي دعت يوسف – عليه السلام – للاستعانة بالساقي في تبليغ خبره إلى الملك رجاء الخلاص من السجن، لا بد أن نوضح أن معنى قول سيدنا يوسف – عليه السلام – للساقي: )اذكرني عند ربك(: أن يقص على سيده قصته، ويذكر عنده أن يوسف – عليه السلام – مظلوم في الواقعة التي أودع لأجلها السجن، فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف – عليه السلام – عند الملك، فطالت أيام السجن على يوسف – عليه السلام – حتى لبث فيه بضع سنين.
ويرى بعض العلماء أن استعانة سيدنا يوسف – عليه السلام – بالساقي هي مخالفة للأولى ولا طعن فيها على يوسف – عليه السلام – لأن مخالفة الأولى لا تقدح في عصمة الأنبياء، والاستعانة بالناس جائزة في دفع الظلم، فالدنيا دار الأسباب، لكن ذلك إنما هو لعامة البشر، أما الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فلا يصح أن يعرضوا حاجاتهم، ويلجأوا في كشف الضر عنهم إلا إلى الله – عز وجل – وحده مسبب الأسباب.
يقول الزمخشري: “كما اصطفى الله – عز وجل – الأنبياء على خليقته، فقد اصطفى لهم أحسن الأمور، وأفضلها وأولاها، والأحسن والأولى للنبي ألا يكل أمره إذا ابتلى ببلاء إلا إلى ربه، ولا يعتضد بأحد من البشر، وخصوصا إذا كان المعتضد به كافرا، لئلا يشمت به الكفار ويقولوا: لو كان هذا على الحق، وكان له رب يعينه لما استغاث بنا”[2].
وقيل: إن مخالفة يوسف – عليه السلام – للأولى هي أنه أخلى كلامه – وهو يطلب من الساقي أن يشرح حاله عند الملك – من ذكر الله – عز وجل – مثل: إن شاء الله، وكان عليه ألا يخلي كلامه منه.
وذهب فريق آخر من العلماء إلى أنه لم يقع منه – عليه السلام – مخالفة للأولى، ويحمل قوله للساقي على أحد أمرين:
الأول: أنه – عليه السلام – قال ذلك؛ ليتوصل به إلى هداية الملك، وعرض دعوته عليه، كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه.
الثاني: أنه – عليه السلام – إنما باشر الأسباب، والدنيا دار الأسباب، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، وهذا كما يكون في حق عامة البشر يكون كذلك في حق الأنبياء، ويفهم من معنى الآية أن يوسف – عليه السلام – إنما قال للساقي: )اذكرني عند ربك( ليتوصل بذلك إلى إظهار براءته أمام الملك والناس، فإن من أودعوه السجن قد قصدوا الإيهام بأنه المعتدي في واقعة مراودة امرأة العزيز، حتى حسبه الكثير من الناس معتديا، فأراد يوسف – عليه السلام – أن يعرف الملك ورعيته الحقيقة؛ وذلك بأن تذكر قصته عند الملك، فيستدعيه من السجن، ويسأله، فيقرر الأمر على حقيقته، فإن تألم يوسف – عليه السلام – من إظهاره بمظهر المعتدي كان أكثر من تألمه من السجن في حد ذاته، فهو الذي قال: )قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه( (يوسف:33).
وإظهار براءة المتهمين واجب على كل إنسان، وخاصة إذا كانوا من الأنبياء – عليهم السلام – ثم إن يوسف – عليه السلام – مكلف – في السجن، وبعد الخروج منه – بدعوة الناس إلى الله، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وحتى تقبل دعوته، وينقاد الناس لنصحه لا بد أن يكون بريء الساحة، نقي العرض، طاهر العفة عندهم.
فهذا هو الذي دعاه أن يطلب من الساقي أن يذكر قصته عند الملك، وليس من أجل الخروج من السجن فقط، واستناد القائلين بأن يوسف – عليه السلام – خالف الأولى بابتغائه الفرج من عند غير الله – عز وجل – إلى ما أسنده ابن جرير إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – مرفوعا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لو لم يقل – يعني يوسف – الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث؛ حيث يبتغي الفرج من عند غير الله” – استناد إلى غير مستند لضعفه الشديد، فقد ضعفه ابن كثير قائلا: هذا الحديث ضعيف جدا؛ لأن يوسف ابن وكيع – أحد رواته – ضعيف، وإبراهيم بن يزيد أضعف منه أيضا[3].
ثم إن الأصح أن الضمير في “فأنساه” عائد إلى الناجي لا إلى يوسف – عليه السلام – والمعنى: فأنسى الشيطان الناجي ذكر يوسف – عليه السلام – عند الملك، فكانت العاقبة المترتبة على نسيان الساقي أن يوسف – عليه السلام – لبث في السجن بضع سنين، فالفاء للعاقبة وليست للجزاء[4]. ويؤكد على أن النسيان كان من الساقي لا من يوسف – عليه السلام – قوله تعالى بعد ذلك عن الساقي: )وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة( (يوسف: 45).
ومعلوم أن النسيان من الله، وأما الشيطان فسبب من أسبابه، إذ يوسوس إلى الإنسان بما يشغله عن الشيء حتى يزول عن قلبه ذكره – عليه السلام – وعلى فرض تسليمنا بما زعمه هؤلاء في قولهم: إن يوسف – عليه السلام – هو الناسي وأن الشيطان قد أنساه ذكر ربه، فإن ذلك أيضا لا يجعله – عليه السلام – يستحق العقاب باللبث في السجن، إذ الناسي غير مؤاخذ[5]، وعلى كل فلم يصدر من يوسف – عليه السلام – ما يتنافى مع عصمة الله له.
ثانيا. مكث سيدنا يوسف في السجن لم يكن عقابا ولا تأديبا من الله له، بل كان رحمة به، وإعزازا لشأنه، ولأمور أخرى اقتضتها حكمة الله عز وجل:
لم يختر يوسف – عليه السلام – السجن كما يتوهم بعض الناس، ولكنه فضله على ما تدعوه إليه النسوة، وكأنه قال: السجن بكل ما فيه من لوعة، وقسوة، وذلة، وصغار، وكرب، وغربة، أحب إلى من قصر منيف أتعرض فيه لهذا النوع من المراودة؛ فإن الصبر على السجن أحب إلي من الصبر على هؤلاء النسوة، ورؤية هذه الوجوه الشعثة في تلك القصور المقفرة الخالية من الأخلاق السامية، والمثل العليا، فالسجن أحب إلي؛ لأنه مكان لا يعوقني فيه عائق عن طاعتك يا رب، ولا يحول بين التفكر في بديع مخلوقاتك وجلائل نعمك عائق بخلاف تلك القصور التي ينسى الإنسان فيها نفسه، ويفقد فيها حسه، ولا يجد فيها ما يعينه على طاعة مولاه[6]، وهذا كان مراد يوسف – عليه السلام – من قوله: )قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه( (يوسف: 33).
وعلى هذا فإن مكوث يوسف – عليه السلام – في السجن بضع سنين لم يكن عقابا له على خطأ، أو تقصير؛ لأن وقوع الخطأ أو التقصير يتنافى مع وصف الله له، بأنه من عباد الله المخلصين، بل كان لبثه في السجن رحمة به، وإعزازا لشأنه، فقد أصقل الله مواهبه في السجن، وأطلعه على كثير من الأمور التي ما كان ليطلع عليها، وهو في قصر العزيز، أو خارج أسوار السجن.
الخلاصة:
- يرى بعض العلماء أن طلب يوسف – عليه السلام – من الساقي أن يذكره عند ربه فيه مخالفة للأولى؛ لأنه استعان بالبشر، ولم يستعن بالله مباشرة؛ لأن الأنبياء علاقتهم مباشرة مع الله – عز وجل – خالق الأسباب، أما التعويل على الأسباب فلعامة البشر، بيد أن مخالفة الأولى لا تعد ذنبا ولا يطعن بها في عصمة الأنبياء.
بينما يرى بعضهم أن يوسف – عليه السلام – لم تقع منه مخالفة للأولى؛ لأنه أراد من قوله: )اذكرني عند ربك( التوصل به إلى هداية الملك، أو أن قوله جاء مباشرة طاعة لله – عز وجل – في الأخذ بالأسباب، مما لا يتنافى مع توكله على الله – عز وجل – فالأخذ بالأسباب جائز في حق الأنبياء.
- لم يكن لبث يوسف – عليه السلام – في السجن بضع سنين عقابا له من الله على ذنب ارتكبه، بل لقد اختار يوسف – عليه السلام – السجن، وفضله على الحياة في القصر وما تدعوه إليه النسوة، وقد كان لهذا فوائد عديدة، منها إعزاز شأنه واطلاعه على كثير من الأمور التي ما كان ليطلع عليها خارج السجن.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. islameyat.com
[1]. ربك: سيدك.
[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص317.
[3]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: هاني الحاج، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د. ت، ج4، ص272.
[4]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص318، 319 بتصرف يسير.
[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص199 بتصرف يسير.
[6]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص118.