ادعاء أن الباعث على الجهاد في الإسلام هو جمع المال والحصول على الغنائم
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الدافع الحقيقي على الجهاد في الإسلام – هو إعلاء كلمة الله عن طريق إزالة – عز وجل – العقبات من طريق الدعوة إلى الله – عز وجل – وحماية المستضعفين من المسلمين، لا جمع المال؛ لأنه لو كان الهدف من الجهاد جمع المال، لكان أولى الناس بالثراء والغنى المادي هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولكن المعلوم من سيرته – صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، حيث كان – صلى الله عليه وسلم أزهد الناس.
2) ليس المقصد من إباحة الغنائم جمع المال ذاته، وإنما المقصود الحقيقي انتزاع الوسيلة الأساسية الكبرى التي يعول عليها الظالمون، حتى لا يستخدموها في قتال المسلمين، والدليل على ذلك: أن المسلمين كانوا يردون الغنائم إلى أهلها في حالة إعلان الإسلام والرجوع عن الكفر وقتال المسلمين.
التفصيل:
أولا. الدافع الحقيقي على الجهاد في الإسلام هو إعلاء كلمة الله عز وجل، لا جمع المال:
لقد عرف عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى بعد أن تكونت الدولة الإسلامية، وأصبحت ذات سيادة في الجزيرة، أنه كان زاهدا في الدنيا، معرضا عنها، لا توضع له الموائد، ولا توجد عنده الملابس الفاخرة، لقد عاش فقيرا كما عاش كثير من صحابته، ولم يكن ذلك من عدم قدرة، لقد كان في مقدوره أن يجمع من متاع الدنيا ما يريد، فهو الرسول والقائد والأمير، له الطاعة المطلقة، ولكن أخلاق النبوة كانت تعرض عن المتاع الزائف، ففي ذلك تربية لصحابته، وسنة لأمته، بأن لا يكون للدنيا في قلوبهم أهمية، ولا للثراء والنعيم في عقولهم مكان، خاصة حين يعلمون أن رسولهم خرج من الدنيا، ولم يشبع في يوم مرتين.
يقول ابن سعد: ” أخبرنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا سليمان بن عبيد المازني أبو داود، أخبرنا عمران بن زيد المدني، حدثني والدي قال: دخلنا على عائشة – رضي الله عنها – فقلنا: سلام عليك يا أمه فقالت: وعليك السلام، وبكت، فقلنا: ما بكاؤك يا أمه؟ قالت: بلغني أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام، حتى يلتمس لذلك دواء يمرئه، فذكرت نبيكم – صلى الله عليه وسلم – فذلك الذي أبكاني، خرج من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر، لم يشبع من الخبز، وإذا شبع من الخبز لم يشبع من التمر، فذاك الذي أبكاني[1].
هذه هي أخلاق وسيرة صاحب الدعوة التي عرفها فيه أصحابه، الذين ساروا على نهجه من بعده، فكيف يمكن أن يقال: إن الفتوحات الإسلامية هدفها المغنم، وصاحب الدعوة قد عرضت عليه المغريات من كل جانب، ولكنه أبى إلا أن يعيش فقيرا زاهدا، لم يكن الرسول – صلى الله عليه وسلم فقيرا قبل البعثة، فلقد عرف عنه أنه اشتغل بالتجارة، ورحل إلى الشام من أجل ذلك، وكان له ما يكفيه ويسد حاجته ويزيد، ولكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – افتقر بعد البعثة، وقلت موارده حين انصرف إلى الدعوة إلى الدين الجديد، وزادت حاجته حين كثرت تبعاته ومسئولياته، لقد كان في وسعه – وقد دانت له الجزيرة العربية بأسرها – أن يكون الثري الأول في تلك البقعة، ولكنه لم يأت طمعا في الثراء، أو جمعا للمال، وإنما جاء من أجل تبليغ دعوة، وإرساء دعائم حضارة جديدة.
ولم يكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحده في ذلك، فلقد تبعه في تلك السيرة أصحابه الذين اهتدوا بهديه، وجاهدوا بأموالهم قبل أن يجاهدوا بأنفسهم؛ فأبو بكر – عز وجل – خليفة رسول الله – كان يملك يوم أن أسلم أربعين ألف درهم، ولم يأت يوم هجرته مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة إلا ومعه خمسة آلاف درهم فقط، فلقد أنفق ما كان معه على المستضعفين والعبيد الذين كان يشتريهم ويعتقهم في سبيل الله عز وجل.
أما حين ولي الخلافة، فإنه – حسب ما تشير به المصادر – لم يكن يملك شيئا، فلقد استمر بعد توليه الخلافة يشتغل بالتجارة، ولكنه حين رأى كثرة أعبائه ومسئولياته، أيقن أنه لا يمكن له أن يستمر في التجارة، ولذلك فقد عرض الأمر على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين فرضوا له نصيبا من بيت مال المسلمين يسد حاجته وحاجة عياله، ولو كان له مال مدخر لما اضطر لأن يسأل الصحابة أن يفرضوا له شيئا، أما حين حضرته الوفاة فقد قال: “ردوا ما عندي من مال المسلمين، فإني لا أصيب من هذا المال شيئا، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين، بما أصبت من أموالهم”، فدفع ذلك إلى عمر – رضي الله عنه – ولقوحا [2] وعبدا صيقلا [3] وقطيفة [4] ما يساوي خمسة دراهم، فقال عمر: لقد أتعب من بعده.
أما عمر – رضي الله عنه – فإن الروايات التاريخية قد عجزت عن أن تسطر تلك الصفحات الخالدة من سيرته وعدله وعفافه وزهده في الدنيا، لقد عاش – وهو الأمير الذي فتحت في عهده الممالك والإمبراطوريات التي يتحدث عنها المستشرقون – حياة البساطة والكفاف، وسار على نهج الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر – رضي الله عنه – في التضييق على نفسه؛ خوفا من عذاب ربه.
وفي ذلك يذكر ابن سعد أن حفصة بنت عمر قالت لأبيها: يا أبت، إنه قد أوسع الله الرزق، وفتح عليك الأرض، وأكثر من الخير، فلو طعمت طعاما ألين من طعامك، ولبست لباسا ألين من لباسك، فقال: سأخاصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يلقى من شدة العيش؟ فما زال يذكرها حتى أبكاها، ثم قال: إني قد قلت لك إني والله لئن استطعت لأشاركنهما في عيشهما الشديد لعلي ألقى معهما عيشهما الرغىد. ويعني بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبا بكر الصديق رضي الله عنه.
وعلى عثمان – رضي الله عنه – يصدق القول نفسه، إلا أنه اختلف عن أصحابه بكثرة ماله، فلقد كان رجلا موسرا صاحب تجارة، ولكنه لم يكن يحسب للمال نصيبا في حياته، فلقد أنفق ماله في الذود عن الدعوة الإسلامية وحمايتها، وكانت له المواقف المشهودة في تاريخ الإسلام، ومن أروع مواقفه – رضي الله عنه – تجهيزه جيش العسرة في غزوة تبوك، وذلك حينما قدم من خالص ماله ثلاثمائة بعير وألف دينار، ترى هل كان يطمع سيدنا عثمان – رضي الله عنه – وهو يجهز جيش العسرة – أن يرد له ذلك المال عندما تفتح الممالك والإمبراطوريات؟ كلا لقد وهبها في سبيل الله وأراد بها ابتغاء وجه الله.
وهكذا كان أبو بكر وعمر قادرين على أن يجمعا في أيديهما كل ما يحصلان عليه من غنائم، وأن يستخدما ذلك في توفير حياة رغدة وادعة، كتلك التي يحياها الملوك والأمراء من الشعوب التي لا عقيدة لها، ولكن هؤلاء كانوا على يقين كامل بأن جهادهم هو من أجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل إفساح المجال أمام الشعوب لتصلها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا أبدا ينوون تبديل حياة بأخرى، أو ضم أرض جديدة، أو الاستيلاء على مراكز الثروة في العالم.
فذلك مما لم توص به عقيدتهم ولم يسر عليه نبيهم، بل إن العقيدة نهت عن التكالب على الدنيا والسعي وراء شهواتها، فإذا كان هؤلاء – وهم من تقلدوا أمور المسلمين في زمن قوة الفتوحات الإسلامية وعنفوانها – على تلك الحال من العفة في الدنيا وأهوائها، فكيف يكون حال البقية من المسلمين الذين قامت على أكتافهم حركة الفتوحات الإسلامية؟! كيف يمكن لهم أن يخرجوا من الجزيرة يبتغون ثروات القياصرة والأكاسرة، وهم تحت قيادة أولئك الأمراء الذين سبق الحديث عنهم؟!
إنه من المستحيل – عقلا – أن يكون هدف الجنود غير هدف القائد، وهم يسيرون جنبا إلى جنب، وخطوة بخطوة تحت راية وكلمة واحدة، من المستحيل – عقلا – أن يسيل لعاب الجنود المسلمين لثروة الممالك الأخرى، ويدفعون بأنفسهم إلى ساحات الموت، وهم يعلمون جيدا أنه ليس لهم في هذه الثروة – إن غنموها – إلا ما يسد حاجتهم وحاجة عيالهم.
لقد برزت هذه التهمة أيضا في عقول الفرس الذين ظنوا أن المسلمين إنما جاءوا يقصدون الغنيمة[5] فقط، وليس لهم هدف غير ذلك، ومن هذا المنطلق، فإن المسلمين عندما اصطدموا بالفرس في القادسية، أرسل لهم رستم قائد الفرس يطلب منهم توجيه أحدهم إليه ليساومه، فأرسل سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة الذي قال له رستم: قد علمت أنه لم يحملكم على ما أنت فيه إلا ضيق المعاش وشدة الجهد، ونحن نعطيكم ما تتشبعون به، ونصرفكم ببعض ما تحبون، ولم يعبأ المغيرة بهذا العرض الذي أبداه رستم، فلقد تعلم من نبيه أن الدعاة دائما يقابلون بالتهم والتشكيك، وظن رستم في ذلك لم يكن جديدا – ولذلك لم يشأ المغيرة أن يخاصمه فيما قال، بل اكتفى بأن قال له: إن الله بعث إلينا نبيه – صلى الله عليه وسلم – فاتبعناه فيما أمر، وها نحن ننفذ تعاليمه، فإن شئت فاختر واحدة من ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال.
ذلك ما رد به المغيرة على تهمة رستم، ولو كان الأمر كما يقول هؤلاء من أن المسلمين إنما دفعتهم الحاجة للحروب، لقبل المغيرة العرض، ورجع المسلمون غانمين سالمين، ولم الحاجة إلى تعريض أرواحهم للموت؟ خصوصا إذا عرفنا أن جيش المسلمين كان أقل عددا وعدة.
وترددت هذه التهمة مرة أخرى على لسان “يزدجرد” ملك الفرس، حين أتاه وفد من المسلمين يفاوضه فقال لهم: “إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي، فيكفونناكم لا تغزون فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم بنا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم”.
ومرة أخرى يصمد المسلمون أمام الإغراء المادي، مثبتين لكل المشككين أنهم إنما خرجوا لتبليغ الدعوة، وإزالة الحواجز من أمامها، ولم يخرجوا من أجل طلب ما يقتاتون به أو يلبسونه، فلقد قال له المغيرة بن زرارة: إن الرسول قال: إن ربكم يقول: “من تابعكم على هذا – أي على الإسلام – فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه فاختر إن شئت: الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت: فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك”[6].
وهكذا يرتفع الصوت المؤمن قويا مجلجلا في ساحة ملك الفرس، وأمام جنده وحاشيته مرددا “فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر”، لقد ضرب هؤلاء أروع الأمثال في الشجاعة والإيمان والثبات، لقد رفضوا الدنيا التي عرضت عليهم على لسان “يزدجرد” ملك أكبر دولة في العالم آنذاك، وصاحب أكبر ثروة أيضا، ورفضوا ذلك؛ لأنهم لم يخرجوا من أجله، وإنما خرجوا من أجل إزالة عقبة من طريق الدعوة إلى الله عز وجل، ودفاعا عن الإسلام والمسلمين، ذلك فقط ما يبغيه المسلمون، أما ما تبقى بعد ذلك فهو بحكم عقيدتهم الراسخة يتولاه الله الذي بيده مقاليد الأمور، إن شاء أعطى وإن شاء أمسك، وإن شاء أغنى، وإن شاء أفقر.
ومرة أخرى تتجدد التهمة سنة ست وتسعين، عندما غزا “قتيبة بن مسلم الباهلي ” الصين، إذ طلب ملك الصين أن يأتيه وفد من المسلمين يعرف منهم مطلبهم، ويعرض عليهم ما يرضيهم من متاع الدنيا؛ لعلهم بذلك يكفوه شر القتال ومرارة الهزيمة، فأرسل إليه قتيبة وفدا برئاسة “هبيرة بن المشمرج”، وحين قدم على الملك قال له الملك: انصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه”.
وهنا يبرز الموقف واضحا هذه المرة، فإن كان المسلمون يقصدون جمع الثروات، فقد كفاهم ما وجدوه عند الممالك التي فتحوها، فلماذا يجاوزون هذه الممالك، ويكلفون أنفسهم مشقة السفر وأتعاب الرحلة وتكاليفها، لقد رد هبيرة وبوضوح على تهمة ملك الصين، إذ قال: “كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادكم وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك؟! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا، إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه”.
هذا هو الجواب الواضح الذي لا يحتاج إلى تعليق يدحض تهمة ملك الصين، ويدحض ما يأتي بعدها من تهم المتهمين، وأكاذيبهم التي حاولوا أن يرموا الإسلام بها.
لقد حارب النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه سنين طويلة داخل الجزيرة العربية، حاربوا قريشا واصطدموا معها مرات عديدة، وحاربوا اليهود في المدينة بمختلف قبائلهم، وحاربوا من عاهد قريشا وحالفها من القبائل الأخرى المنتشرة في الجزيرة، وحارب المسلمون في عهد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – المرتدين ومانعي الزكاة، لقد خاض المسلمون كل هذه الحروب في داخل الجزيرة العربية، وهي – كما يقول المستشرقون – أرض جدباء قاحلة.
وإذا كان الأمر كما يقولون فأين خزائن الذهب التي أسالت لعابهم في هذه الحروب؟وأين الحدائق والبساتين والقصور التي كانوا ينتظرونها من هذه الحروب؟ أين الثراء والنعيم الذي حصل عليه المسلمون، أو على الأقل توقعوا أن يحصلوا عليه وحاربوا من أجله، أليس في هذه الحروب ما يقنع المستشرقين بزيف آرائهم وبطلانها؟ أليس فيها شاهد واضح على أن المسلمين إنما حاربوا من أجل إعلاء كلمة الله وتبليغ دعوته، وأن الدنيا لم تكن تدور بخاطرهم عندما كانوا يحملون سيوفهم دفاعا عن العقيدة؟
وها هم رسل المقوقس إلى عمرو بن العاص، يسألهم المقوقس عن صفات هؤلاء المسلمين الذين قدموا لفتح مصر، فيجيبونه: “رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة، لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويتخشعون في صلاتهم”.
هؤلاء هم المسلمون الذين خرجوا – كما يقول هؤلاء – يريدون الغنيمة والثراء، وصفهم المصريون الذين كانوا على غير دينهم، ولكنهم وصفوهم بصدق كما شاهدوهم في حقيقة أمرهم، وعندما تأكد المقوقس من حقيقة هؤلاء القوم عرف أنهم على حق، وأنهم أصحاب عقيدة ورسالة، ومن كان كذلك هانت عنده الأمور وصغرت أمامه الدنيا بمغرياتها فلا يهمه إذا إلا تحقيق هدفه، ولذلك قال المقوقس: “والذي يحلف به، لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد”.
إن المسلمين لم يكونوا ساعين إلى الغنيمة أبدا؛ بدليل أنهم ردوا كثيرا من الغنائم في بعض الغزوات كغزوة حنين مثلا، وحصلت فتوحات لم يحصل فيها المسلمون على غنائم مطلقا، وذلك كما حصل في فتح مكة مثلا، وكان المسلمون إذا قدموا إلى بلاد عرضوا على قادتها الإسلام أولا؛ لأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي يهمهم، والذي أخرجهم من جزيرتهم، فهم دعاة عقيدة أولا وقبل كل شيء، ثم إذا لم يحصل ذلك تركوا الأمر بيد أعدائهم، وخيروهم بين ثلاث لا بد من قبول واحدة منها:
فإما الإسلام، وهو الشيء الذي به تغمد السيوف وتعود الجيوش إلى مواقعها، ويترك تدبير أمور الدولة بيد أهلها.
وإما الجزية، وهي المقدار القليل من المال الذي به يستطيع أهل الكتاب البقاء على دينهم آمنين سالمين دون التعرض لأي خطر.
وإما القتال، وهو الوسيلة التي بها يمكن كسر جدار العزلة بين الدعوة الإسلامية وبين الشعوب المغلوبة على أمرها.
ولنفرض جدلا أن الفرس أو الروم عندما عرض عليهم المسلمون هذه الأمور الثلاثة قبلوا منها الجزية، فماذا يكون موقف الجيوش الإسلامية حينئذ؟ هل يمكن لهم أن يتجاوزوا ذلك، وينهبوا خزائن الفرس أو ذخائر الروم؟ كلا، فالإسلام الذي خرجوا للدعوة إليه لينهاهم عن ذلك، فقد بين لهم القرآن – وبصراحة – أنه لا عمل لهم بعد قبول الكفار الجزية، إلا أن يتركوا للناس عقائدهم وأموالهم وديارهم وكل ممتلكاتهم: )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)( (التوبة)، فإذا أعطوا الجزية أو قبلوا الإسلام فقد عصموا دماءهم وأموالهم، وهنا نقول: إن كان المسلمون حقا خرجوا بقصد تحسين أوضاعهم المادية فإن الجزية لا تكفيهم أبدا؛ لقلتها وكثرة عددهم، وقد بين التاريخ في كثير من المواقف أن المسلمين قد رضوا بالجزية في كثير من المرات، وصالحوا كثيرا من الشعوب على هذا المبدأ، وإذا ثبت ذلك فقد ثبت بطلان دعوى المدعين وثبت زيف آرائهم وفسادها[7].
ثانيا. ليس المقصود من إباحة الغنائم جمع المال نفسه، ولا الرغبة الجامحة في جمعه وتكثيره[8]:
إن المقصود الحقيقي من إباحة الغنائم إنما هو انتزاع الوسيلة الأساسية الكبرى التي يعول عليها الظالمون، وهم يعلنون الحرب على دين الله الحق؛ ليدمروه أو يستأصلوه من الأرض إن استطاعوا.
إن الوسيلة العظمى التي يعول عليها المعتدون في الحرب هي المال؛ فبواسطته يشتري الظالمون السلاح وكل آلات القتال والعدوان على المستضعفين والأبرياء وأهل الحق، فضلا عن إمداد العساكر المعتدين بما يحتاجونه من الغذاء والكساء والدواء، إلى غير ذلك من أسباب الاستمرار والاقتدار على التصدي للمجاهدين المسلمين، الذين يقاتلون لتحرير البشرية من ظلم المستبدين الطواغيت، أولئك الذين يصدون عن دعوة الحق والتوحيد صدودا، والذين يستخفون البشر استخفافا ليذعنوا لهم جورا واعتسافا، أو ليعبدوهم من دون الله عبادة الخانعين المقهورين للأصنام.
أولئك هم الظالمون المفسدون في الأرض الذين يثيرون الضلال والشر، ويسخرون طاقات البشرية وكل موارد الأمة والبلاد وثرواتها لإشاعة الظلم والقهر والفتنة، الذين يحكمون المجتمعات والأفراد بشرائع الهوى والباطل، فيذلون الناس إذلالا، ويستعبدونهم أيما استعباد.
وكذلك كانت الشعوب والأمم في الأزمنة الغابرة، إذ يتسلط على رقابهم حكام ظالمون مستبدون لا يخشون الله أيما خشية، ولا يراعون في شعوبهم أيما كرامة أو اعتبار، ولا يأخذهم فيهم لين أو رحمة إلا التحكم الغاشم، فهم مستبدون عتاة، وجبابرة غاشمون ظلمة.
إن هؤلاء الساسة الطغاة وأمثالهم من الظالمين ما كان لهم أن يبلغوا هذا المبلغ من التسلط العاتي والسطوة الغاشمة لولا الأسباب أو الوسائل التي تمكنهم من المكث والثبات وهو السلاح بكل صوره وأشكاله، وسبيل ذلك كله المال؛ فهو الوسيلة الأولى لتحصيل ما يبتغيه الساسة المتجبرون من أغراض للقتال والعدوان.
ومن جملة هذه الحقائق حول أهمية المال وخطورته في أيدي الظالمين والمعتدين يقول الله – عز وجل – في القرآن: )إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون( (الأنفال:36).
ذلك هو ديدن الظالمين المعتدين على الشعوب، إذ يستكثرون من الأموال فيجمعونها جمعا؛ ليسخروها في قتال الأبرياء والمظلومين وفي التصدي لدين الله الكريم، دين التوحيد والفضيلة، يتصدى له الطواغيت العتاة بكل ما أوتوه من طاقات وقدرات قتالية، ووسيلة ذلك كله المال، فإنه لولا المال الكثير المرصود في أيديهم لما استطاعوا التصدي للحق وأهله، وما استطاعوا أن يتلبسوا بمثل هذا المستوى البالغ من العتو والمكر والشر.
وثمة ملاحظات أخرى أجدر بالمنصفين أن ينظروا فيها وهي:
- لقد استمرت الحروب بين الفرس والروم أربعمائة سنة لأطماع الدنيا، فلم يحرز أحد منهما نصرا مؤزرا لسبب واحد هو فقد العقيدة وانعدامها، فلما هاجمهم البدو بسلاح العقيدة، فل ذلك السلاح كل سلاح، وتهاوت جيوش الفرس والروم تحت أقدام الفاتحين.
- إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرسل إلى الملوك والأمراء رسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام، على أن يبقى لهم ملكهم وما بين أيديهم، فأين المطمع المالي هنا؟!
- إن المسلمين كانوا يخيرون الشعوب بين ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب؛ فالإسلام ليس للفاتحين عليه من سبيل ” لهم مالنا وعليهم ما علينا “، أو الجزية: وهي بسيطة مقابل الحماية واستعمالهم للخدمات والمرافق العامة في الدولة، و يدفع المسلمون أضعافها في الزكاة، وأخيرا الحرب لإيصال العقيدة كحل أخير.
- مات أعظم قائد في تاريخ الإسلام – خالد بن الوليد – رضي الله عنه – وهو لا يملك من حطام الدنيا غير فرسه وغلامه وحسامه فقط، فأين الغنائم؟
- لم يكن المسلمون الذين خرجوا للفتوحات أكثر من مائة ألف، ولو ضاعفنا العدد، فكان يكفيهم سواد العراق وحده، أو فلسطين وحدها، أو الشام وحدها، أو دلتا مصر وحدها… ويصبحون أهل رغد وثروة، فيمكثون لينعموا بما فتحوا، لكنهم انطلقوا إلى الصين وإلى إسبانيا وفرنسا… فأين الطمع بالدنيا؟!
- حالات كثيرة وردت عن أسير مسلم أصبح داعية إيمان وإسلام، حتى وهو يساق إلى الموت بعد أن صمد لمختلف الإغراءات المالية والمعنوية، فقد روى توماس أرنولد في “تاريخ الدعوة إلى الإسلام “: أن البلجيكيين حكموا على زعيم مسلم بالإعدام، فقضى هذا ساعاته الأخيرة، وهو يحاول أن يدخل الإسلام إلى قلب المبشر المسيحي الذي كان قد أرسل إليه ليزجي إليه التعزيات الدينية.
وذكر أرنولد أيضا: أن الإسلام تسرب إلى أوربا الشرقية على يد أسير مسلم أثناء الحرب البيزنطية – الإسلامية – وقال: إن الشيخ أحمد المجدد أدخل وهو في السجن عدة مئات من عبدة الأوثان الذين كانوا معه في السجن في الإسلام.
وقال: إن أحد (المولوية) نفته بريطانية عام 1864م إلى جزائر ” أندمان ” نفيا مؤبدا، فأدخل هذا المسلم في الإسلام كثيرا من المحكومين قبل وفاته.
فلم تناسيتم هذا الدافع الذاتي إلى الدعوة إلى دين الله – أيها الزاعمون – فجعلتم مواطن الخصب في الشمال هي الدافع إلى الفتوح؟!
ولذلك فليس المقصود من إباحة الغنائم المال نفسه أو الرغبة الجامحة في جمعه وتكثيره، وإنما المقصود الحقيقي – انتزاع الوسيلة الأساسية الكبرى التي يعول عليها الظالمون، وهم يعلنون الحرب على دين الله الحق؛ ليدمروه أو يستأصلوه من الأرض إن استطاعوا، ولأن ذلك هو ديدن الظالمين المعتدين على الشعوب، إذ يستكثرون من الأموال فيجمعونها ليسخروها في قتال الأبرياء والمظلومين، وفي التصدي لدين الله الكريم، ومن جانب آخر، فإن المال سند أساسي أكبر للإعلام ونشر الباطل، وإشاعة الفساد والفتنة بمختلف الطرق، وعلى هذا، ليس من الحق أو المنطق في شيء – أن يتاح للأشقياء الطغاة من الساسة والقادة أن يمسكوا بخزائن الأموال والثراء؛ ليشتروا به وسائل الشر والعدوان والرذيلة، أو يحاولوا به كسر شوكة الإسلام؛ فتشيع بغيابه الفاحشة والرذيلة.
وعلى هذا فإنه من الخطأ الفادح والظلم الشنيع – أن تكون الأموال في أيدي هؤلاء العابثين المفسدين، وإنما يجب أن تنتزع منهم الأموال انتزاعا؛ إذهابا لآلة الشر والكيد من أيديهم، ولكي يحال بينهم وبين الشر والظلم الشنيع، وإشاعة الفساد في البلاد؛ فيقعدوا بذلك قاصرين معزولين عن الإضرار والإيذاء.
الخلاصة:
- لقد عرف عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان زاهدا في الدنيا معرضا عنها، ولم يكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحده في ذلك، فلقد تبعه في تلك السيرة أصحابه الذين اهتدوا بهديه، وجاهدوا بأموالهم قبل أن يجاهدوا بأنفسهم، ولذلك فإن جهادهم ما كان من أجل المال، بل كان من أجل الدعوة.
- لو كان الجهاد من أجل المال كما يزعمون، فلماذا عاش المسلمون زاهدين؟!! وقد فتحوا كل هذه البلاد، فأين الثراء والغنى الذي حصل للمسلمين من جراء هذه الحروب؟!!
- إن المسلمين لم يكونوا يسعون إلى الغنائم قط؛ بدليل أنهم ردوا كثيرا من الغنائم في بعض الغزوات كغزوة حنين مثلا، وهناك فتوحات لم يحصل المسلمون فيها على غنائم مطلقا، وذلك كما حصل في فتح مكة.
- كان المسلمون إذا قدموا إلى بلاد عرضوا على قادتها الإسلام أولا، لأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي يهمهم، والذي أخرجهم من جزيرتهم، فهم دعاة أولا قبل كل شيء، وإذا ثبت ذلك فقد ثبت بطلان دعوى المدعين، وثبت زيف آرائهم وفسادها.
- كان الهدف من أخذ الغنائم في الإسلام انتزاع الوسيلة الأساسية التي يستخدمها العدو ويعول عليها في قتاله مع المسلمين، فقد كان الكفار ينفقون هذه الأموال ليصدوا عن سبيل الله.
- هناك أهداف أخرى لإباحة الغنائم في الإسلام، منها: أن أخذ الغنائم من كفار قريش كان لاسترداد جزء من المال الذي اضطر المسلمون لتركه والهجرة إلى المدينة فرارا بدينهم.
(*) موقع الكلمة. www.alkalema.net. هل القرآن معصوم، عبد الله عبد الفادي. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1425هـ/ 2004م.
[1]. الطبقات الكبير، ابن سعد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، ج1، ص349.
[2]. اللقوح: الناقة الغزيرة اللبن، قريبة العهد بوضع الحمل.
[3]. الصيقل: الذي يجلي السيوف.
[4]. القطيفة: نسيج من الحرير أو القطن ذو أهداب تتخذ منه ثياب وفرش.
[5]. الغنيمة: ما استولى عليه من أموال الكفار المحاربين عنوة وقهرا حين القتال.
[6]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1408هـ/ 1988م، ج7، ص49.
[7]. الاستشراق والجهاد الإسلامي، د. السيد عبد الحليم محمد حسين، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، 2004م، ص232: 246 بتصرف.
[8]. افتراءات على الإسلام والمسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص23: 27.