ادعاء أن البخاري كان يصرف الأحاديث عن حقيقتها
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد حدد العلماء والمحدثون من عناهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: «أصحابي» – وفي رواية «”أصيحابي» – في الحديث الذي نحن بصدده بأنهم هم المرتدون الذين ارتدوا على عهد أبي بكر – رضي الله عنه – فقاتلهم أبو بكر، ولم يشر أحدهم إلى أن المعنى الاصطلاحي لكلمة “الصحابي” هو المقصود هنا؛ لتيقنهم بعدالة الصحابة أجمعين.
2) ليس في حديث البراء بن عازب أية إشارة إلى ارتداد الصحابة – رضوان الله عليهم – بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – غاية الأمر أنه لما غبط من التابعي بصحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – سلك مسلك التواضع، فرد عليه قائلا: «أنت لا تدري ما أحدثنا بعده»، فكأنه – رضي الله عنه – تقال ما عليه هو وإخوانه من الصحابة الكرام، في مقابلة ما ينبغي أن يكونوا عليه، فلله درهم، وما أشد تواضعهم، وما أبعد الطاعنين فيهم عن الحق والإنصاف!!!
التفصيل:
أولا. تفسير كلمة (أصحابي) في الحديث المستند إليه:
نشير بادئ ذي بدء إلى أن مثيري هذه الشبهة طعنوا في الصحابة الكرام جميعهم، قبل أن يطعنوا في أشهر أئمة الحديث الإمام البخاري – رحمه الله ـ؛ وذلك أنهم اعتقدوا اعتقادا جازما أن المراد بـ “أصحابي” أو “أصيحابي” في الحديث الذي استشهدوا به – هو المعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة، والحق خلاف ما زعموا.
قال الإمام ابن حجر العسقلاني: “قال الفربري: ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر، يعني: حتى قتلوا وماتوا على الكفر.
وقال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين.
ويدل قوله: “أصيحابي” بالتصغير على قلة عددهم، وقال غيره: قيل: هو على ظاهره من الكفر، والمراد بأمتي أمة الدعوة لا أمة الإجابة. ورجح بقوله في حديث أبي هريرة «فأقول سحقا وسحقا»[1]، ويؤيد كونهم خفي عليه حالهم، ولو كانوا من أمة الإجابة لعرف حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه، وهذا يرده قوله في حديث أنس: «حتى إذا عرفتهم»[2]، وكذا في حديث أبي هريرة، وقال ابن التين: “يحتمل أن يكونوا منافقين أو من مرتكبي الكبائر”.
وقيل: هم قوم من جفاة الأعراب دخلوا في الإسلام رغبة ورهبة، وقال الداودي: لا يمتنع دخول أصحاب الكبائر والبدع في ذلك، وقال النووي: قيل هم المنافقون والمرتدون، فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل؛ لكونهم من جملة الأمة، فيناديهم من أجل السيما التي عليهم، فيقال: إنهم بدلوا بعدك، أي: لم يموتوا على ظاهر ما فارقتهم عليه. قال عياض وغيره: وعلى هذا فيذهب عنهم الغرة والتحجيل، ويطفأ نورهم. وقيل: هم أصحاب الكبائر والبدع الذين ماتوا على الإسلام، وعلى هذا فلا يقطع بدخول هؤلاء النار؛ لجواز أن يذادوا عن الحوض أولا؛ عقوبة لهم ثم يرحموا، ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل، فعرفهم بالسيما، سواء كانوا في زمنه أو بعده،ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قال قبيصة راوي الخبر: إنهم ارتدوا بعده – صلى الله عليه وسلم – ولا يلزم من معرفته لهم أن يكون عليهم السيما؛ لأنها كرامة يظهر بها عمل المسلم. والمرتد قد حبط عمله، فقد يكون عرفهم بأعيانهم لا بصفتهم، باعتبار ما كانوا عليه قبل ارتدادهم، ولا يبعد أن يدخل في ذلك أيضا من كان في زمنه من المنافقين، و” تبقى هذه الأمة فيها منافقوها ” فدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين، فيعرف أعيانهم، ولو لم يكن لهم تلك السيما، فمن عرف صورته ناداه مستصحبا لحاله التي فارقه عليها في الدينا.
وأما دخول أصحاب البدع في ذلك فاستبعد، لتعبيره في الخبر بقوله “أصحابي “، وأصحاب البدع إنما حدثوا بعده.
وأجيب بحمل الصحبة على المعنى الأعم، واستبعد أيضا أنه لا يقال للمسلم ولو كان مبتدعا: “سحقا”، وأجيب بأنه لا يمتنع أن يقال ذلك لمن علم أنه قضي عليه بالتعذيب على معصية ثم ينجو بالشفاعة فيكون قوله: “سحقا” تسليما لأمر الله مع بقاء الرجاء.
وكذا القول في أصحاب الكبائر، وقال البيضاوي: ليس قوله: “مرتدين” نصا في كونهم ارتدوا عن الإسلام، بل يحتمل ذلك، ويحتمل أن يراد أنهم عصاة المؤمنين المرتدون عن الاستقامة يبدلون الأعمال الصالحة بالسيئة”[3].
إن ثمة ملاحظات أربعا يطرحها النص السابق، وهي جديرة بالذكر في سياق دفع الشبهة المثارة، وتفنيد ما استند إليه أصحابها، وهي على النحو الآتي:
- لقد أورد الإمام ابن حجر العسقلاني في نصه السابق – وقد أثبتناه كاملا على طوله – أقوال العلماء المحققين في تفسير ما نحن بصدده، وكأنه علم أن سيكون من ورائه طاعنون يطعنون في الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – متمسكين بالمعنى الاصطلاحي لكلمة “أصحابي” في الحديث الذي نحن بصدده، ويطعنون في البخاري، ذاهبين إلى أنه صرف معنى الحديث الذي استندوا إليه عن معناه.
- لقد أورد ابن حجر العسقلاني في كتابه “الإصابة في تمييز الصحابة” المعنى الاصطلاحي لكلمة “صحابي” فقال: “وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – مؤمنا به، ومات على الإسلام؛ فيدخل فيمن لقيه، من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه، أو لم يره لعارض كالعمى” [4]، نقول: لم يغب عن ذهن هؤلاء العلماء لحظة كون الصحابة كلهم عدولا، بتعديل الله – عز وجل – وتعديل رسوله – صلى الله عليه وسلم – لهم، في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وإن اعتقاد هؤلاء العلماء الجازم بعدالة الصحابة – رضي الله عنهم – ليفسر لنا عدم وجود أية إشارة من أحدهم يستفاد منها – ولو من بعيد – أن المقصود بـ (أصحابي)، و (أصيحابي) في الحديث هو المعنى الاصطلاحي الذي ذكرناه لكلمة (صحابي)، كما يدعي هؤلاء.
- تتفق الأقوال السابقة في أن المراد بالأصحاب، والأصيحاب ليس المعنى الاصطلاحي عند علماء المسلمين، وإن الباحث المحقق لا يعجز عن أن يجمع ويوفق بين هذه الأقوال جميعها، بأن ” المراد بهم: مطلق المؤمنين بالنبي – صلى الله عليه وسلم – المتبعين لشريعته، وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة: أصحاب أبي حنيفة، ولمقلدي الشافعي: أصحاب الشافعي، وهكذا، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع.
وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب: (أصحابنا) مع أن بينهم وبينه عدة من السنين”[5].
- “لو افترضنا أن المراد بالأصحاب في الحديث، الأصحاب في زمنه – صلى الله عليه وسلم – فالمراد بهم: الذين صاحبوه صحبة الزمان والمكان مع نفاقهم”[6] كقوله تعالى )ما ضل صاحبكم وما غوى (2)( (النجم).
ونخلص من هذا إلى أن الذين قصدهم النبي – صلى الله عليه وسلم – من قوله:«أصحابي» ليس على المعنى الاصطلاحي وهم صحابته – صلى الله عليه وسلم – وإنما قصد المرتدين الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر، وبذلك فالمعنى الذي ذكره البخاري هو المعنى الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، ومن ثم فلا دليل ولا صحة لهذه الدعوى التي تتهم البخاري بمحاولة صرف أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – عن حقيقتها وظاهرها.
ثانيا. التفسير الصحيح لحديث البراء بن عازب:
لقد استند مثيرو هذه الشبهة إلى الحديث الذي رواه البخاري عن العلاء بن المسيب عن أبيه أنه قال: «لقيت البراء بن عازب – رضي الله عنهما – فقلت: طوبى لك، صحبت النبي – صلى الله عليه وسلم – وبايعته تحت الشجرة، فقال: يابن أخي، أنت لا تدري ما أحدثنا بعده»[7] – في الذهاب إلى أن الصحابة بالمعنى الاصطلاحي للصحبة ارتدوا بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأحدثوا ما يخالف سنته ومنهجه، وفي الذهاب كذلك إلى أن هذا الحديث يؤكد أن المعنى الاصطلاحي لكلمة “أصحابي”، و”أصيحابي” هو المراد في حديث الذود عن الحوض.
إن هذا الحديث لا يقف دليلا على ما استدللتم به عليه أيها الطاعنون؛ لأن الأمر لا يعدو أن يكون حوارا دار بين تابعي وصحابي، والتابعي غبط الصحابي بصحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مما يغبط به، لكن الصحابي سلك مسلك التواضع في جوابه، رادا عليه بقوله: ” يا ابن أخي، أنت لا تدري ما أحدثنا بعده “، وهو يشير إلى ما وقع لهم من النزاعات والحروب وغيرها، فخاف غائلة ذلك، وذلك من كمال فضله[8].
إن الصحابي الجليل البراء بن عازب – رضي الله عنه – يعبر هنا عما يجيش في نفسه ونفوس الصحابة أجمعين – رضي الله عنهم – من تواضع جم، وإحساس بتقصيرهم حيال المكانة التي أنزلهم الله إياها، والمقام الذي أقامهم فيه؛ إذ عدلهم سبحانه، وعدلهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهل هناك شرف أسمى من أن يقول الله – عز وجل – فيهم أجمعين: )رضي الله عنهم ورضوا عنه( (البينة: ٨)؟!!
وقول البراء بن عازب هنا من قبيل قول عمر: ” ألا ليت أم عمر لم تلده”[9] فهل هذا سخط من عمرعلى وجوده في هذه الحياة، أو بسبب ذنوب وقع فيها يتمنى أن لم يكن؟! بالطبع لا، بل هو الورع والتواضع، وكل الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – كانوا على هذا الحال من التواضع الجم، والإحساس بالتقصير مهما بلغت طاعتهم لربهم، فما أشد تواضعهم، ونبل أخلاقهم!!
وكيف لا، وقد تربوا في مدرسة النبوة على التواضع الجم الذي علمهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن هناك سؤالا مهما يطرح نفسه – إذا اعتبرنا قول البراء بن عازب تعبيرا عن ارتدادهم – وهو: هل يشعر المرتد بالذنب ويتألم؟! لا أعتقد ذلك أبدا، فالمرتد مقتنع بما فعل، لا يندم عما أذنب. ومن هنا نعلم ما كان عليه الصحابة الكرام من التواضع والخوف من الله – عز وجل – مع يقيننا أنهم بذلوا ما لم يبذله أحد من أجل هذا الدين.
وعلى هذا فنحن نقرر أن البخاري – رحمه الله تعالى – لم يقصد إلى ما قصد إليه المدعون من اتهامه بصرف الأحاديث عن ظاهرها؛ بل هو أبعد ما يكون عن ذلك لما عرف عنه من سلامة معتقده ودينه، وورعه وعلمه رحمه الله تعالى.
الخلاصة:
- لقد طعن مثيرو هذه الشبهة في الصحابة الكرام جميعهم، بزعم أنهم ارتدوا بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يطعنوا في الإمام البخاري – رحمه الله – بزعمهم أنه صرف لفظة (أصحابي – أصيحابي) الواردة في أحاديث الذود عن الحوض يوم الحشر عن معناها الحقيقي الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم.
- لقد أورد ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري أقوال العلماء والمحدثين فيمن عناهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله في الحديث الذي معنا: «أصحابي، أصيحابي»، ولم يوجد لدى أحدهم أية إشارة يستفاد منها أن المعنى الاصطلاحي لكلمة (صحابي) هو المراد هنا.
- إن المراد بكلمة (أصحابي) في هذا الصدد: الذين صاحبوه صحبة الزمان والمكان مع نفاقهم.
- إن البراء بن عازب – رضي الله عنه – لما رد على التابعي الذي غبطه بصحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – قائلا له: «أنت لا تدري ما أحدثنا بعده» – سلك مسلك التواضع، مشيرا إلى ما وقع للصحابة – رضي الله عنهم – بعده – صلى الله عليه وسلم – من حروب وغيرها، فخاف غائلة ذلك، وذلك من كمال فضله، وليس في قولته تلك دليل على ارتداد الصحابة بعد مفارقة النبي – صلى الله عليه وسلم – إياهم.
وإذا كان المعنى الذي ذكره البخاري هو المعنى الصحيح المتفق عليه من قبل العلماء والمحدثين، فإن دعوى محاولة صرف البخاري معاني الأحاديث عن ظاهرها الحقيقي الصحيح دعوى باطلة، هدفها النيل من نقلة السنة وحماتها، وأنى لهم ذلك، وخاصة أنهم قوم استفاضت عدالتهم، ومن استفاضت عدالته لا يقبل الجرح فيه.
(*) الرد على شبهات أحمد الكاتب حول إمامة أهل البيت، السيد سامي البدري، مطبعة قم ـ شريعت، طهران، ط3، 1421هـ.
[1] . صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، (2/ 763)، رقم (573).
[2] . صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الرقاق، باب: في الحوض، (11/ 472)، رقم (6582).
[3]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (11/394،393).
[4]. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، د. ت، (1/6).
[5]. عدالة الصحابة في ضوء القرآن والسنة النبوية ودفع الشبهات، د. عماد السيد الشربيني، مكتبة الإيمان، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص36 .
[6]. عدالة الصحابة في ضوء القرآن والسنة النبوية ودفع الشبهات، د. عماد السيد الشربيني، مكتبة الإيمان، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص37 .
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، (7/515)، رقم (4170).
[8]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/516،515) بتصرف .
[9]. حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1405هـ، (2/83).