ادعاء أن التشريع الإسلامي قاصر عن الوفاء بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية
وجوه إبطال الشبهة:
1) التشريع الإسلامي هو الموجه لشئون الحياة وقيمها، وقد وفي بحاجات المجتمعات الإسلامية في المجالين الاقتصادي والسياسي، وحضارتنا خير شاهد على ذلك.
2) الفشل الذي وصمت به الأنظمة السياسية والاقتصادية في المجتمعات المسلمة ليس منشؤه الإسلام ولا تعاليمه، وإنما البعد عن تطبيق الإسلام وشرائعه.
3) الواقع أثبت فشل الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية، فهي لم تف بحاجات المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، بل زادتها تراجعا للوراء.
التفصيل:
أولا. وفاء التشريع الإسلامي بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية:
إن التشريع الإسلامي بوصفه تشريعا سماويا أنزله رب الأرض والسماء، يستحيل عليه أن تغيب عنه غائبة، أو يشوبه نقص أو عيب، وفيما يلي يوضح لنا د. يوسف القرضاوي كيفية شمول التشريع الإسلامي لكافة مناحي الحياة ومدى وفائه من كل ناحية:
- في الناحية الاقتصادية:
يتوهم الكثيرون أن الدين لا يعنى بالاقتصاد، وأنهما ضدان لا يلتقيان؛ فالاقتصاد يعنى بالجانب المادي في الحياة، والدين يعنى بجانبها الروحي، والاقتصاد استغراق في المادة، والدين استعلاء عليها، بيد أن هذا إن صح في الأديان الأخرى فلا يصح في الإسلام، فقد اعتبر القرآن المال قواما للحياة حين قال: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما( (النساء: 5)، كما اعتبر الغنى نعمة يمتن الله بها: )ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى)، ومثوبة يجزي بها المؤمنين من عباده: )ويمددكم بأموال وبنين( (نوح: 12)، ولم يغلق الرسول – صلى الله عليه وسلم – ملكوت السماء في وجه الغني – كما ادعوا على المسيح – عليه السلام – بل كان كثيرا مما يدعو لأصحابه بكثرة المال والبركة فيه,كما جاء في الحديث عن أنس بن مالك أن أمه سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يدعو له بالخير في الدنيا والآخرة فدعا له وكان مما قاله في دعائه: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته..»[1].
وقد أشار القرآن والسنة إلى أهمية المؤثرات الاقتصادية في السلوك البشري، في مثل قوله عز وجل: )ولا تقتلوا أولادكم من إملاق( (الأنعام: 151)، )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق( (الإسراء: 31)، وفي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف»[2].
وقد جعل الله أحد الأركان الخمسة في الإسلام عبادة مالية هي “الزكاة”، وأحد الموبقات السبعة كبيرة مالية هي “الربا”.
كما رغب الإسلام في الصناعة والاحتراف، وضرب لنا القرآن مثلا بعدد من الأنبياء والصالحين من أهل الحرف؛ فنوح – عليه السلام – نجار يصنع السفن، وإبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – بناءان يرفعان قواعد البيت، وداود – عليه السلام – حداد يصنع الدروع السابغات، [3] وذو القرنين بني السد العظيم من زبر الحديد[4] والنحاس المذاب.
ودعا الإسلام كذلك إلى الزراعة والغرس والتشجير، بشرط ألا يكتفوا بالزروع ويتبعوا أذناب البقر، ويتركوا الجهاد، وحث كذلك على التجارة، ونوه بالتاجر الصدوق الأمين، ونهى عن الغش والاحتكار، [5] والتلاعب بالأسعار.
وأقام الإسلام نظامه الاقتصادي على إقرار الملكية الفردية، لما فيها من إشباع الدافع الفطري في نفس الإنسان، ولما تثمره من الشعور بالسيادة والقدرة، فمن شأن السيد الحر أن يملك ويتصرف، أما العبد فلا يملك ولا يتصرف، ولكنه وضع للملكية أسبابا لاكتسابها وقيودا لتنميتها، وحقوقا دورية وغير دورية عليها، وقبل ذلك كله اعتبر المالك الحقيقي للمال هو الله عز وجل، والناس أمناء عليه، أو وكلاء فيه، وبتعبير القرآن: )مستخلفين فيه( (الحديد: 7).
ومن هنا كانت عناية الإسلام بالناحية الاقتصادية من خلال الأمور الآتية:
- إتاحة العمل الملائم لكل مواطن قادر: باعتبار أن العمل حق له وواجب عليه، وتهيئة التدريب الكافي لكل ذي مهنة لتحسين مستوى كفايته الفنية، وبذلك يستطيع كل قادر على العمل أن يكفي نفسه بنفسه، وتحريم الصدقات والمعونات الاجتماعية تحريما باتا على كل متعطل عن العمل الملائم له باختياره، اهتداء بما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة[6] سوى»[7].
- إعطاء الأجر العادل لكل عامل بما يكافئ عمله، ويغطي حاجته بالمعروف:فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أعطى في الغنائم الراجل[8] سهما، والفارس سهمين أو ثلاثة أسهم؛ لأن كفاية الفارس في الحروب فوق كفاية الراجل.. ثم إنه في الفيء[9] أعطى العزب حظا والآهل (المتزوج) حظين؛ لأن حاجة الآهل أكثر من حاجة العزب – ويقاس على الآهل: صاحب العيال -، وبهذا وذاك يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد اعتبر العمل والكفاية، كما اعتبر الحاجة أيضا، ولهذا قال عمر – رضي الله عنه – في شأن مال الفيء: «ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من كتاب الله – عز وجل – وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته»[10].
وبهذا يكون الإسلام قد خالف النظرية الشيوعية التي تعطي كلا حسب حاجته فقط، والنظرية الاشتراكية التي تعطي كلا حسب عمله فقط.
- جباية الزكاة من كل الأموال: ظاهرة – كالثروة الحيوانية والزراعية وزكاة الفطر – وباطنة – كأموال التجارة والنقود – بوساطة جهاز قوي أمين من “العاملين عليها” كما سماهم القرآن الكريم، مع وجوب توسيع قاعدتها بحيث يشمل كل مال نام، وكل دخل فاضل عن الحوائج الأصلية، وتوزيعها على المصارف الثمانية، أو السبعة – بعد إلغاء الرق في عصرنا – عملا بتوجيه القرآن: )خذ من أموالهم صدقة( (التوبة:103)، وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم».[11] وسنته العملية وسنة خلفائه الراشدين في بعث السعاة والعاملين إلى مختلف البلدان والقبائل لجمعها وتفريقها كما أمر الله – عز وجل – رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبذلك تسهم هذه الفريضة في تمويل التكافل، وتحقيق العدل الاجتماعي، ومحاربة الكنز، ومقاومة الاستقراض بالربا، وانتشال المدينين من ذل الدين، كما تسهم في تنشيط الدعوة إلى الإسلام، بما يصرف عليها من سهمي “المؤلفة قلوبهم” و “في سبيل الله”[12].
ويوضح لنا الشيخ سيد قطب سياسة الزكاة في الإسلام فيقول: الزكاة هي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام، فحديث الزكاة أدخل شيء في سياسة المال في الإسلام.
فالزكاة حق المال، وهي عبادة من ناحية، وواجب اجتماعي من ناحية أخرى؛ فإذا جرينا على نظرية الإسلام في العبادات والاجتماعيات، قلنا: إنها واجب اجتماعي تعبدي، لذلك سماها “زكاة”، والزكاة طهارة ونماء؛ فهي طهارة للضمير والذمة بأداء الحق المفروض، وهي طهارة للنفس والقلب من فطرة الشح[13] وغريزة حب الذات، فالمال عزيز، والملك حبيب، فحين تجود النفس به للآخرين، إنما تطهر وترتفع وتشرق, وهي طهارة للمال بأداء حقه وصيرورته بعد ذلك حلالا؛ ولأن في الزكاة معنى العبادة، بلغ من لطف حس الإسلام ألا يطلب إلى أهل الذمة من أهل الكتاب أداءها، واستبدل بها الجزية؛ ليشتركوا في نفقات الدولة العامة، دون أن تفرض عليهم عبادة خاصة من عبادات الإسلام إلا أن يختاروها.
والزكاة حق الجماعة في عنق الفرد؛ لتكفل لطوائف منها كفايتهم أحيانا، وشيئا من المتاع بعد الكفاف أحيانا، وبذلك يحقق الإسلام جانبا من مبدئه العام: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ذلك أن الإسلام يكره للناس الفقر والحاجة، ويحتم أن ينال كل فرد كفايته من جهده الخاص وموارده الخاصة حين يستطيع، ومن مال الجماعة حين يعجز لسبب من الأسباب.
يكره الإسلام الفقر والحاجة للناس؛ لأنه يريد أن يعفيهم من ضرورات الحياة المادية ليفرغوا لما هو أعظم ولما هو أليق بالإنسانية، وبالكرامة التي خص الله بها بني آدم: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء).
ولقد كرمهم فعلا بالعقل والعاطفة، وبالأشواق الروحية إلى ما هو أعلى من ضرورات الجسد؛ فإذا لم يتوافر لهم من ضرورات الحياة ما يتيح لهم فسحة من الوقت والجهد لهذه الأشواق الروحية، ولهذه المجالات الفكرية، فقد سلبوا ذلك التكريم، وارتكسوا[14] إلى مرتبة الحيوان، لا بل إن الحيوان ليجد طعامه وشرابه غالبا وإن بعض الحيوان ليختال ويقفز ويمرح، وإن بعض الطير ليغرد فرحا بالحياة بعد أن ينال كفايته من الطعام والشراب.
فما هو بإنسان وما هو بكريم على الله، ذلك الذي تشغله ضرورات الطعام والشراب عن التطلع إلى مثل ما يناله الطير والحيوان، فضلا على ما يجب للإنسان الذي كرمه الله، فإذا قضى وقته وجهده، ثم لم ينل كفايته، فتلك هي الطامة التي تهبط به دركات عما أراد به الله؛ والتي تصم الجماعة التي يعيش فيها بأنها جماعة هابطة لا تستحق تكريم الله؛ لأنها تخالف عن إرادة الله.
إن الإنسان خليفة الله في أرضه، قد استخلفه عليها لينمي الحياة فيها ويرقيها، ثم ليجعلها ناضرة بهيجة ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها، ثم ليشكر الله على أنعمه التي آتاه، والإنسان لن يبلغ من هذا كله شيئا، إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة، وهذا إذا كانت كافية أصلا، فكيف إذا قضى الحياة لا يجد الكفاية؟
ويكره الإسلام أن تكون الفوارق بين أفراد الأمة ضخمة بحيث تعيش جماعة منها في مستوى الترف، وتعيش أخرى في مستوى الشظف،[15] بل ربما تتجاوز الشظف إلى الحرمان والجوع والعري، فهذه أمة غير مسلمة، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: «ليس بالمؤمن بالذي يبيت شبعانا وجاره جائع إلى جنبه». [16] ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». [17] والإسلام يكره هذه الفوارق لما وراءها من أحقاد وأضغان تحطم أركان المجتمع، ولما فيها من أثرة وجشع وقسوة تفسد النفس والضمير، ولما فيها من اضطرار المحتاجين: إما إلى السرقة والغصب، وإما إلى الذل وبيع الشرف والكرامة, وكلها منحدرات يتجافى الإسلام بالجماعة عنها.
ويكره الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء في الأمة، وألا تجد الكثرة ما تنفق؛ لأن ذلك ينتهي في النهاية بتجميد الحياة والعمل والإنتاج في هذه الأمة، بينما وجود الأموال في أيدي أكبر عدد منها يجعل هذه الأموال تنفق في شراء ضروريات الحياة لهذا العدد الكبير؛ فيكثر الإقبال على السلع، فينشأ من هذا كثرة الإنتاج، فتترتب عليها العمالة الكاملة للأيدي العاملة, وبذلك تدور عجلة الحياة والعمل، والإنتاج والاستهلاك دورتها الطبيعية المثمرة.
لهذه المعاني جميعها شرع الله الزكاة؛ وجعلها فريضة في المال، وحقا لمستحقيها، لا تفضلا من مخرجيها، وحدد لها نصابا في المال يجعل الواجدين جميعا يشتركون في أدائها، ذلك أن أقصى حد للإعفاء منها 85 جراما ذهبا – أو ما يعادلها من المال – على أن تكون فائضة عن الحاجات الضرورية لمالكها، وعن الدين، وحال عليها الحول. وذلك بديهي؛ لأن الإنسان لا يطالب بالزكاة وهو مستحق للزكاة! أما في الزرع والثمار فهي موسمية موقوتة بمواسم الحصاد، وهي في عروض التجارة تقوم بالذهب أو الفضة، وفي الحيوان بنسب معينة تعادل نسبتها في المال، وهي ربع العشر على وجه التقريب، وفي الركاز[18] الخمس, على خلاف في أنواع الركاز، أتكون لصاحب الأرض، أم للجماعة.
أما المستحقون لها فهم كما نص عليهم في القرآن:
- الفقراء: وهم الذين يملكون أقل من النصاب، أو يملكون نصابا مستغرقا في الدين، وظاهر أن هؤلاء يملكون شيئا، ولكنه شيء قليل، والإسلام يريد أن ينال الناس كفايتهم، وشيئا فوق الكفاية يعينهم على المتاع بالدنيا على قدر الإمكان.
- المساكين: وهم الذين لا يملكون شيئا, وهم بطبيعة الحال أجدر بالعطاء من الفقراء, ويمكننا أن نلمح أن ذكر الفقراء قبلهم في الآية يرمي إلى أن وجود شيء قليل للفقراء لا يكفي، فكأنهم كالمساكين؛ لأن هدف الإسلام ليس مجرد الكفاف الضروري، ولكن شيء فوق الكفاف كما قدمت.
- العاملون عليها: وهم جباتها، وهؤلاء – وإن كانوا أغنياء – يعطون جزاء العمل، فهو راتب الوظيفة وذلك داخل في نظام الجهد والأجر، لا في باب الحاجة وسدها.
- المؤلفة قلوبهم: وهم الذين كانوا قد دخلوا في الإسلام حديثا، لتقوية قلوبهم، واجتذاب من عداهم، ولكن هذا المصرف قد أقفل بعد أن أعز الله الإسلام عقب حروب الردة في أيام أبي بكر، ولم يعد الإسلام في حاجة إلى تأليف القلوب بالمال، ومع أن هؤلاء قد نصت عليهم آية قرآنية، فإن عمر لم يجد حرجا[19] في منعها منهم.
- في الرقاب: وهم الأرقاء المكاتبون الذين يستردون حريتهم نظير قدر من المال متفق عليه مع مالكيهم تيسيرا عليهم لينالوا الحرية.
- الغارمون: وهم الذين استغرق الدين ثرواتهم، على ألا يكون هذا الدين في معصية، فلا يكون الترف وما يشبهه سببا فيه، وإعطاؤهم قسطا من الزكاة فيه سداد لديونهم، وتخليص لرقابهم منها، وفيه إعانة لهم على الحياة الكريمة.
- في سبيل الله: وهو مصرف عام تحدده الظروف، ومنه تجهيز المجاهدين، وعلاج المرضى، وتعليم العاجزين عن التعليم، وسائر ما تتحقق به مصلحة لجماعة المسلمين, والتصرف في هذا الباب يتسع لكل عمل اجتماعي في سائر البيئات والظروف.
- ابن السبيل: وهو المنقطع عن ماله الذي لا يجد ما ينفق، كالمهاجرين من الحروب والغارات والاضطهاد، الذين خلفوا أموالهم وراءهم، ولا سبيل لهم إلى هذه الأموال.
والإسلام لا يقرر لهذه الطوائف حقها في الزكاة إلا بعد أن تستنفد هي وسائلها الخاصة في الارتزاق؛ فالإسلام حريص على الكرامة الإنسانية، ومن ثم هو حريص على أن يكون لكل فرد مورد رزق يملكه، ولا يخضع فيه حتى للجماعة!
لذلك حث على الاستغناء عن طريق العمل، وجعل واجب الجماعة الأول أن تهيئ العمل لكل فرد فيها، فقد جاء سائل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يستجديه، فأعطاه درهما وأمره أن يشتري به حبلا ليحتطب به فيعيش من عمل يده، وقال: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه»[20].
فهذه الإعانة من الزكاة هي وقاية اجتماعية أخيرة، وضمان للعاجز الذي يبذل طوقه[21] ثم لا يجد، أو يجد دون الكفاية، أو يجد مجرد الكفاف، ثم هي وسيلة لأن يكون المال دولة بين الجميع لتحقيق الدورة الكاملة السليمة للمال بين الإنتاج والاستهلاك والعمل من جديد, وفي هذا يجمع الإسلام بين الحرص على أن يعمل كل فرد بما في طاقته، وألا يرتكن إلى الإعانة الاجتماعية فيتبطل والحرص على أن يعين المحتاج بما يسد خلته[22] ويرفع عنه ثقل الضرورة ووطأة الحاجة وييسر له الحياة الكريمة، ثم الحرص على ضمان الدورة الصحيحة لرأس مال الأمة.
إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته.
وإنما بهتت صورة “الزكاة” في حسنا وحس تلك الأجيال التعيسة التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقا في عالم الواقع، ولم تشهد هذا النظام الذي يقوم على أساس التصور الإيماني، والتربية الإيمانية، والأخلاق الإيمانية، فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة، ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية، ويجعل”الزكاة” قاعدة هذا النظام، في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية, ويجعل الحياة تنمو، والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي، أو التعاون البريء من الربا!
وليس المهم هو شكلية النظام، إنما المهم هو روحه، فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه، متناسق مع شكل النظام وإجراءاته، متكامل مع التشريعات والتوجيهات، ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معا متناسقة متكاملة، وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى، ولكنها حقيقة نعرفها نحن – أهل الإسلام – ونتذوقها بذوقنا الإيماني، فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم – وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها – فليكن هذا نصيبهم! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله – عز وجل – به: )إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277)( (البقرة)، ليحرموا من الطمأنينة والرضى، فوق حرمانهم من الأجر والثواب، فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون!
- فرائض غير الزكاة:
فالزكاة ليست وحدها حق المال، وإنا لنلحظ شبه تواطؤ بين من يتحدثون عن الزكاة في هذه الأيام، على اعتبارها الحد الأقصى الذي يطلبه الإسلام دائما من رؤوس الأموال! لذلك ينبغي أن نكشف هذا التواطؤ، الذي يتعمده رجال الدين المحترفون, كما يتعمده من يريدون إظهار النظام الإسلامي بأنه غير صالح للعمل في عصر الحضارة!
إن الزكاة هي الحد الأدنى المفروض في الأموال، حين لا تحتاج الجماعة إلى غير حصيلة الزكاة، فأما حين لا تفي، فإن الإسلام لا يقف مكتوف اليدين، بل يمنح الإمام – الذي ينفذ شريعة الإسلام – سلطات واسعة للتوظيف في رؤوس الأموال، أي: جعل مقادير معلومة من المال يخرجها الأغنياء سوى الزكاة في الحدود اللازمة للإصلاح، وهذا من ملاحظة المصلحة في المسائل العامة، فإذا خلا بيت المال، أو ارتفعت حاجات الجند، وليس فيه ما يكفيهم، فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال، أو يكون فيه ما يكفي، ثم له أن يجعل هذه الوظيفة في أوقات حصاد الغلات، وجني الثمار، لكيلا يؤدي تخصيص الأغنياء إلى إيحاش قلوبهم.
ووجه المصلحة أن الإمام العادل لو لم يفعل ذلك لبطلت شوكته، وصارت الديار عرضة للفتنة وعرضة للاستيلاء عليها من الطامعين فيها، وقد يقول قائل: إنه بدل أن يقوم الإمام بفرض هذه الوظيفة يستقرض لبيت المال، وقد أجاب عن ذلك الشاطبي فقال: الاستقراض في الأزمات، إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر، وأما إذا لم ينتظر شيء، وضعفت وجوه الدخل بحيث لا يغني، فلا بد من جريان حكم التوظيف.
ومبدأ المصالح المرسلة، ومبدأ سد الذرائع، عند تطبيقهما في محيط أوسع، يمنحان الإمام الذي ينفذ شريعة الله سلطة واسعة لتدارك كل المضار الاجتماعية، بما في ذلك “التوظيف” في الأموال؛ رعاية للصالح العام للأمة وتحقيق العدالة الاجتماعية الكاملة.
فمبدأ حق الملكية الفردية في الإسلام، لا يمنع تبعا لهذا أن تأخذ الدولة نسبة من الربح، أو نسبة من رأس المال ذاته، على أن تظل قاعدة النظام الإسلامي مرعية، وهي أن تكون للناس ملكياتهم الخاصة، واستثماراتهم الخاصة، مقيدة بطرق التنمية المشروعة، وأن يكون التوظيف في الأموال الخاصة، بقدر الضرورة الطارئة حتى لا تستوحش قلوب الناس، ولا تفتر همتهم، ولا يقل اهتمامهم بتنمية الثروة وتحسين الإنتاج, وقبل ذلك كله، وأهم منه أن تبقى لهم طمأنينتهم على أرزاقهم، وألا يصبحوا عبيدا للدولة يخشون إن هم نصحوها أو عارضوها قطعت أرزاقهم، فالمسلم – كل مسلم – مكلف أن يراقب الحاكم، وأن يكفه عن الانحراف عن شريعة الله، فأنى له هذا إذا كان رزقه ليس في يده، ولا مال له إلا ما يسمح له به؟!
وبيان هذا ضروري، لكشف هذا التواطؤ الذي يبدو في تركيز القول كله حول الزكاة، كأنما هي كل حق المال في الإسلام، وكشف أولئك المحترفين الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وما يأكلون في بطونهم إلا النار! وكشف أولئك الذين يصغرون من شأن الضمانات في النظام الإسلامي، ويقولون بعدم كفايتها، ليقولوا بعد ذلك بعدم كفاية النظام الإسلامي للحياة الحديثة! وكله رجم وافتراء، وجهل بحقيقة الإسلام، ونظامه، وبالواقع التاريخي الذي سجله هذا النظام[23].
ونعود لاستكمال الأمور التي يراعيها الإسلام في ناحيته الاقتصادية، كما يوضحها د. يوسف القرضاوي بقوله: إن على رأس هذه الأمور:
- كفالة المعيشة الكريمة: التي تتوافر فيها “الحاجات الأصلية” – حسب تعبير فقهائنا – لكل مواطن عجز عن العمل، عجزا أصليا أو طارئا، عقليا أو جسميا، أو كان قادرا عليه ولكنه لم يجد عملا، ولم تستطع الدولة أن تهيئ له سبيل العمل المناسب لمثله, أو وجد عملا، ولكن كان دخله منه لا يكفيه، لكثرة أعبائه العائلية, أو لظروف عارضة زادت في معدل نفقاته، كمرض ألم به، أو بأحد من أسرته، أو لغلاء الأسعار أو نحو ذلك.
فمن واجب الدولة المسلمة أن توفر لكل إنسان يعيش في كنفها – مسلما أو غير مسلم – الغذاء الصحي اللازم، والملبس الواقي للجسم في حالتي الحر والبرد، والمسكن الذي يكن صاحبه ويستره ويشعره باستقلاله عن غيره، والعلاج الذي يزيل عنه آلام المرض وييسر له الشفاء، وفقا لسنن الله عز وجل, والتعليم المجاني الذي يخرجه من ظلمة الأمية والجهالة إلى نور المعرفة والثقافة، ويتيح لذوي المواهب أن يبلغوا أقصى درجات التعلم المستطاع للبشر، وأن يسدوا كل الثغرات التي تحتاج إليها الأمة في مختلف النواحي والتي عدها العلماء من فروض الكفاية.
ومن حق كل مواطن في دولة الإسلام أن يطالبها بهذه الحاجات الأساسية إذا قصرت في توفيرها لمستحقيها: فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته». [24] فجعل مسئولية الإمام – رئيس الدولة – عن الأمة كمسئولية رب البيت عن الأسرة.
وهذا ما بدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – بتطبيقه بوصفه إمام المسلمين في عهده وذلك حين قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته»[25].
ولهذا كان – صلى الله عليه وسلم – يقضي من بيت المال ديون من مات، ولم يترك وفاء.
وجاء عمر من بعد – وقد اتسعت ثروة الدولة الإسلامية – فبلغ بالتكافل مبلغا، لم تحلم به الإنسانية من قبل، ففرض عطاء لكل مولود في الإسلام، وأمر بإجراء معاش أو راتب لكل عاجز عن العمل من أهل الذمة من اليهود والنصارى.
- مصادرة كل مال حصل عليه حائزه بطريق من طرق الحرام: وأكل أموال الناس بالباطل، كالغصب،[26] أو الاختلاس،[27] أو الرشوة،[28] أو استغلال النفوذ ونحوها، سواء أكان هذا المال عقارا أم منقولا، بشرط أن يثبت ذلك بتحقيق نزيه، وأن يفصل فيه قضاء عادل، وما ينتج عن هذه المصادرة المشروعة يصرف في المصالح العامة، أو في مصالح الفئات الضعيفة خاصة.
- يجب أن يخضع موظفو الدولة – وبخاصة الكبار منهم – لقانون “من أين لك هذا”؟! بحيث يعاقبون على كل كسب غير مشروع، بمصادرته كله أو بعضه بحسب قوة الشبهة في الملك أو ضعفها، اقتداء بما بدأ به النبي – صلى الله عليه وسلم – من محاسبة ابن اللتبية، وما سار عليه عمر – رضي الله عنه – من بعده في محاسبة ولاته ومشاطرتهم أحيانا نصف ما كسبوا أثناء ولايتهم.
- يجب على الدولة في الإسلام محاربة السرف[29] والترف في المجتمع بالتشريع والتوجيه؛ توفيرا للطاقات المادية والبشرية التي تذهب هدرا من جراء التسابق المجنون في اقتناء الكماليات، بل المحرمات، وحفاظا على المجتمع من التفسخ والانحلال الذي ينذر به الترف كل من غرق فيه، ووقاية للأمة من الحقد الطبقي والانقسام إلى أكثرية كادحة شبه محرومة من الحاجات الأساسية للحياة، وأقلية متنعمة مترهلة تسمن على هزال غيرها.
- يجب تقريب الفوارق الاقتصادية بين الأفراد والفئات؛ بالعمل الدائب على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء، وتصفية الامتيازات التي توارثها بعض الناس بغير حق، وإزالة المظالم التي يرزخ تحت نيرها آخرون بالباطل، وتضييق الفروق – ما أمكن ذلك – بين أعلى الرواتب وأدناها، بحيث يختفي منظر الثراء الفاحش، إلى جانب الفقر المدقع.
- تقريب الفوارق بين القرية والمدينة؛ بحيث لا تستحوذ المدينة وسكانها على جل اهتمام الدولة وجل خدماتها، وتترك القرية في زوايا النسيان أو الإهمال، فلا بد من مزيد من الاهتمام بالقرية ورفع مستواها صحيا، واقتصاديا، وعمرانيا، واجتماعيا، وثقافيا, فلولا القرية ما أكلت المدينة.
- تطهير كل المؤسسات الاقتصادية من رجس الربا؛ ومن كل معاملة تخالف شريعة الإسلام، وإنشاء مصارف – بنوك – إسلامية تتعامل على غير أساس الربا، وإلغاء كل البنوك التي لا تخضع لهذا الاتجاه، وبذلك تحرر الأمة من نجاسة السحت، [30] ومن شر آثار الرأسمالية، ومن أخطبوط اليهودية العالمية المتصرفة في ذهب العالم وبنوك الدنيا، ولا تأذن الأمة بحرب من الله ورسوله.
وفيما كتبه أساتذة الاقتصاد الإسلاميون في مصر وباكستان وغيرها مجال رحب لمن يريد تحويل النظريات إلى واقع عملي، وإذا صدق العزم وضح السبيل.
- وضع خطة على أساس علمي وإحصائي؛ لزيادة ثروة الأمة، وتنمية إنتاجها كما ونوعا، والاستفادة من التكامل الاقتصادي بين البلدان الإسلامية للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما بينها، واتخاذ الوسائل الفعالة مادية ومعنوية، لدفع عجلة التنمية، وتنظيف المجتمع من كل الآفات النفسية، والأخلاقية، والثقافية، والاجتماعية التي تعطل طاقات الشعب، وتحطم منجزاته، وتعوق مسيرته نحو التقدم[31].
- تقرير حق الملكية الفردية للأفراد، والسماح للأفراد بتنمية هذه الملكية، لكن في حدود مصلحة الفرد، والجماعة التي يتعامل معها.
فأما تقرير الإسلام لحق الملكية الفردية، فكما يقول الشيخ سيد قطب: الإسلام لا يدع حق الملكية الفردية مطلقا بلا قيود ولا حدود – كالنظام الرأسمالي – فهو يقرره، ويقرر بجواره مبادئ أخرى، تجعله أداة لتحقيق مصلحة الجماعة بنفس الدرجة التي تتحقق بها مصلحة الفرد المالك سواء! وهو يشرعه ويشرع له الحدود والقيود، التي ترسم لصاحبه طرقا معينة في تنميته وإنفاقه وتداوله, ومصلحة الجماعة كامنة من وراء هذا كله، ومصلحة الفرد ذاته كذلك، في حدود الأهداف الخلقية التي يقيم الإسلام عليها الحياة.
وأول مبدأ يقرره الإسلام – بجوار حق الملكية الفردية – أن الفرد أشبه شيء بالوكيل في هذا المال عن الجماعة، وأن حيازته له إنما هي وظيفة أكثر منها امتلاكا؛ وأن المال في عمومه إنما هو أصلا حق للجماعة، والجماعة مستخلفة فيه عن الله، الذي لا مالك لشيء سواه, والملكية الفردية تنشأ من بذل الفرد جهدا خاصا لحيازة شيء معين من هذه الملكية العامة التي استخلف الله فيها جنس الإنسان.
وجاء في القرآن الكريم قوله عز وجل: )آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه( (الحديد: 7)، ولا يحتاج نص الآية إلى تأويل ليؤدي المعنى الذي فهمناه منه، وهو أن المال الذي في أيدي البشر هو مال الله، وهم فيه خلفاء لا أصلاء، وفي آية أخرى في صدد المكاتبين من الأرقاء: )وآتوهم من مال الله الذي آتاكم( (النور: 33)، فما يعطونهم هذا المال من ملكهم، ولكنهم يعطونهم من مال الله وهم فيه وسطاء.
وهناك ما هو أصرح من هذا في حقيقة ملكية المال الفردية، بوصفها ملكية التصرف والانتفاع – وهذا هو الواقع؛ فالملكية العينية لا قيمة لها بدون حق التصرف والانتفاع – فشرط بقاء هذه الوظيفة هو الصلاحية للتصرف؛ فإذا سفه التصرف كان للولي أو للجماعة استرداد حق التصرف: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم( (النساء: 5)، فحق التصرف مرهون بالرشد وإحسان القيام بالوظيفة، فإذا لم يحققها المالك وقفت النتائج الطبيعية للملك وهي حقوق التصرف، ويؤيد هذا المبدأ أن الإمام وريث من لا وريث له، فهو مال الجماعة وظف فيه فرد، فلما انقطع خلفه عاد المال إلى مصدره.
ولسنا نقرر هذا الأصل لنقرر شيوعية المال، فحق الملكية الفردية حق أساسي واضح في النظام الإسلامي، ولكننا نقرره لما فيه من معنى دقيق مفيد في تكوين فكرة حقيقية عن طبيعة الملكية الفردية، وتقيدها بهذا الأصل العام في نظرة الإسلام إلى المال، واختلافها كلية عن النظرية الرأسمالية في الملكية الفردية، وبلغة أوضح: نقرر أن شعور الفرد بأنه مجرد موظف في هذا المال الذي في يده والذي هو في أصله ملك للجماعة، يجعله يتقبل الفروض التي يضعها النظام على عاتقه، والقيود التي يحد بها تصرفاته، كما أن شعور الجماعة بحقها الأصيل في هذا المال، يجعلها أجرأ في فرض الفروض، وسن الحدود – دون تجاوز لقواعد النظام الإسلامي التي أشرنا إليها, وينتهي بهذا إلى قواعد تحقق العدالة الاجتماعية كاملة في الانتفاع بهذا المال.
- ومبدأ آخر يقرره الإسلام في ملكية المال، هو كراهية أن يحبس في أيدي فئة خاصة من الناس ويتداول بينهم ولا يجده الآخرون، قال عز وجل: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ومعنى هذا أن يؤخذ بعض المال من الأغنياء فيملك بالفعل للفقراء، ولهذا النص قصة تفيدنا هنا في فهم هذا المبدأ العام.
لقد هاجر المهاجرون مع النبي – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى المدينة، فأما الفقراء فما كان لهم مال ينقلونه معهم، وأما الأغنياء فقد تركوا أموالهم خلفهم، فهم فقراء كالفقراء، ولقد سخت نفوس الأنصار، وارتفعت على الشح الفطري الكامن في النفس البشرية، فآخوا المهاجرين في كل شيء يملكون، حتى في أخص خصوصياتهم، طيبة نفوسهم بذلك، سمحة قلوبهم: )يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( (لحشر: 9)، وبذلك كانوا نموذجا رائعا لما تصنعه العقيدة بالنفوس، وضربوا مثلا جميلا للتخلص من ضغط الضرورات والانطلاق إلى أرفع الأشواق.
ولكن الفجوة ظلت واسعة بين أثرياء المدينة، وفقراء المهاجرين والنبي – صلى الله عليه وسلم – يرى سماحة الأنصار وسخاءهم، فلا يجد أن به حاجة لأن يطلب إليهم أكثر مما بذلوا، ولا أن يكلفهم رد بعض من أموالهم على المهاجرين، وهم يؤاخونهم في كل ما يملكون,إلى أن كانت موقعة “بني النضير” التي لم تقع فيها حرب، بل سلمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – صلحا، فكان فيؤها كله لله وللرسول – صلى الله عليه وسلم – بخلاف ما يقع فيه الحرب، فتكون أربعة أخماسه للمقاتلين، والخمس وحده لله وللرسول – عندئذ رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يعيد لجماعة المسلمين شيئا من التوازن في ملكية المال؛ فمنح فيء بني النضير للمهاجرين خاصة، عدا رجلين فقيرين من الأنصار، تنطبق عليهما الحكمة التي أوحت إليه بتخصيص هذا الفيء للمهاجرين.
وفي هذه الواقعة يقول القرآن: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8)( (الحشر).
ودلالة هذا التصرف من الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهذا التعليل لذلك التصرف في القرآن، غير خافية ولا في حاجة إلى بيان، فهي تقرر مبدأ إسلاميا صريحا، وهو كراهة انحباس الثروة في أيد قليلة في الجماعة، وضرورة تعديل الأوضاع التي تقع فيها هذه الظاهرة بتمليك الفقراء قسطا من المال؛ ليكون هناك نوع من التوازن، و: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ذلك أن تضخم المال في جانب وانحساره في الجانب الآخر، مثار مفسدة عظيمة، فوق ما يثيره من أحقاد وأضغان, فحيثما وجدت ثروة فائضة، كانت كالطاقة الحيوية الفائضة في الجسد، لا بد لها من تصريف، وليس من المضمون دائما أن يكون هذا التصريف نظيفا ومأمونا، فلا بد أن تأخذ طريقها أحيانا في صورة ترف مفسد للنفس مهلك للجسد، وفي صورة شهوات تقضي تجد متنفسها في الجانب الآخر المحتاج إلى المال، يصل إليه عن طريق بيع العرض[32] والاتجار فيه، ومن طريق الملق[33] والكذب وفناء الشخصية، لإرضاء شهوات الذين يملكون المال، وتمليق غرورهم وخيلائهم، والمضطر يركب الصعب، وصاحب المال المتضخم لا يعنيه إلا أن يجد متصرفا للفائض من حيويته، والفائض من ثروته,وليست الدعارة وسائر ما يتصل بها من خمر وميسر وتجارة رقيق وقوادة، وسقوط مروءة، وضياع شرف, سوى أعراض لتضخم الثروة في جانب وانحسارها عن الجانب الآخر، وعدم التوازن في المجتمع نتيجة هذا التفاوت.
ذلك عدا أحقاد النفوس، وتغير القلوب على ذوي الثراء الفاحش من المحرومين الذين لا يجدون ما ينفقون؛ فهم إما أن يحقدوا، وإما أن تتهاوى نفوسهم وتتهافت، وتتضاءل قيمهم الذاتية في نظر أنفسهم، فتهون عليهم كراماتهم أمام سطوة المال، ومظاهر الثراء، ويصبحوا قطعا آدمية حقيرة صغيرة، لا هم لها إلا إرضاء أصحاب الثراء والجاه, وهذا ما وقع في النظام الرأسمالي.
والإسلام على كثرة ما يشيد بالقيم المعنوية، لا يغفل أثر القيم الاقتصادية، ولا يكلف الناس فوق طاقتهم البشرية، مهما تسامى بهم عن الضرورات الأرضية؛ لذلك كره أن يكون المال دولة بين الأغنياء فحسب، وجعل هذا أصلا من أصول نظريته في سياسة المال,وأوجب رد بعض هذا المال للفقراء، ليكون لهم مورد رزق مملوك لهم، يضمن لهم الكرامة والذاتية، ويجعلهم قادرين على القيام بأمانة هذا الدين في التغيير على المنكر من الحكام والمحكومين سواء.
على أن هناك نوعا من الأموال التي لا يجوز احتجازها للأفراد، عدد الرسول – صلى الله عليه وسلم – منها ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار، كما ذكر في قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار».[34] بوصفها موارد ومرافق عامة ضرورية لحياة الجماعة في البيئة العربية، فالانتفاع بها للجماعة كلها على وجه الشيوع والمشاركة العامة, والضروريات لحياة الجماعة تختلف في بيئة عن بيئة، وفي عصر عن عصر، والقياس – وهو أحد أصول التشريع في الإسلام – ينفسح لسواها عند التطبيق مما هو في حكمها، على ألا يؤثر ذلك في القواعد الأساسية للنظام الإسلامي، ولا يجرد الأفراد جميعا من ملكياتهم الخاصة ليصبحوا أجراء عند الدولة، فإن الدولة عندئذ تملك استرقاقهم واستذلال رقابهم بأشد مما يملك الأفراد الأثرياء؛ لأنها تضم قوة المال إلى قوة السلطان.
وهناك جزء من المال هو حق لبعض المحتاجين في الجماعة، وهو المفروض في صورة زكاة: )والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل والمحروم (25)( (المعارج)، وهو يخرج من ملكية دافعي الزكاة إلى ملكية مستحقي الزكاة: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)( (التوبة)، وهو حق تأخذه الجماعة، ثم ترده مرة أخرى إلى الأفراد المحددين, فتكون وظيفة الجماعة حينئذ هي نقل الملكية الفردية من جهة إلى جهة، ومن يد إلى يد أخرى.
فخلاصة الحقيقة عن طبيعة الملكية الفردية في الإسلام: أن الأصل هو أن المال للجماعة في عمومها، وأن الملكية الفردية وظيفة ذات شروط وقيود، وأن بعض المال شائع لا حق لأحد في امتلاكه، ينتفع به الجميع على وجه المشاركة، وأن جزءا منه كذلك حق يرد إلى الجماعة لترده على فئات معينة فيها، هي في حاجة إليه، لصلاح حالها وحال الجماعة معها[35].
وبهذا العرض الرائع لزوايا النظام الاقتصادي في الإسلام يتضح لنا مدى شمول الشريعة الإسلامية ووفائها بحاجات المجتمع في كل زمان ومكان، ومدى تفوق النظام الإسلامي في الاقتصاد وتميزه على ما سواه من أنظمة البشر القاصرة التي لا تلبث قليلا حتى يظهر عوارها وتتضخم عيوبها ومفاسدها يوم بعد يوم؛ حتى يضطروا إلى إنشاء نظام جديد يكون – بحكم أنه بشري – قاصرا عن الاستمرار والبقاء، وهكذا يفشل نظام تلو نظام آخر، وصدق الله العظيم إذ يقول: )ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38)( (الأنعام).
- في الناحية السياسية:
أما عن النظام السياسي الإسلامي، فإن الإسلام دين ودولة منذ أول يوم بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم. يقول د. يوسف القرضاوي: قبل أن نوضح عناية الإسلام بالسياسة نحتاج إلى شرح مصطلح “الإسلام السياسي”، فقد كثرت في السنوات الأخيرة بعض العبارات التي شاعت على ألسنة وأقلام بعض العلمانيين والمتغربين[36] من اليساريين[37] واليمينيين،[38] أعني من الذين يتبعون الفكر الماركسي[39] الشرقي أو الفكر الليبرالي[40] الغربي.
ومن هذه التعبيرات تعبير “الإسلام السياسي” ويعنون به الإسلام الذي يعني بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحكم في رقابها، ويوجه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الاستعمار الغربي الثقافية والاجتماعية والتشريعية، لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله – عز وجل – في مختلف جوانب حياتها.
وهم يطلقون هذه الكلمة “الإسلام السياسي” للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين، الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، باعتباره عقيدة وشريعة، ودينا ودولة، فهل هذه التسمية المحدثة” الإسلام السياسي” مقبولة من الناحية الشرعية؟ وهل إدخال السياسة في الإسلام أمر مبتدع من لدن الدعاة المحدثين والمعاصرين؟ أو يعتبر هذا من الدين الثابت بالقرآن والسنة؟
ولكي نوضح حقيقة هذا الأمر في ضوء الأدلة الشرعية المحكمة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة نقول:
- هذه التسمية “الإسلام السياسي” مرفوضة:
إن هذه التسمية مرفوضة؛ وذلك لأنها تطبيق لخطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلاما واحدا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين، بل هو”إسلامات” متعددة مختلفة كما يحب هؤلاء.
فهو ينقسم أحيانا بحسب الأقاليم: فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الإفريقي, وأحيانا بحسب العصور: فهناك الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، والإسلام الحديث. وأحيانا بحسب الأجناس: فهناك الإسلام العربي، والإسلام الهندي، والإسلام التركي، والإسلام الماليزي… إلخ, وأحيانا بحسب المذهب: هناك الإسلام السني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السني إلي أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضا.
وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة: فهناك الإسلام الثوري، والإسلام الرجعي، أو الراديكالي، والكلاسيكي، [41] والإسلام اليميني، والإسلام اليساري، والإسلام المتزمت، والإسلام المنفتح.
وأخيرا الإسلام السياسي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمني، والإسلام اللاهوتي[42]!
ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يخبئها ضمير الغد؟!
والحق أن هذه التقسيمات كلها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له، ولا اعتراف بغيره، هو” الإسلام الأول” إسلام القرآن والسنة, الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممن أثنى الله عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشوبه الشوائب، وتلوث صفاءه ترهات الملل وتطرفات النحل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفرق، وأهواء المجادلين، وانتحالات المبطلين، وتعقيدات المتنطعين، وتعسفات المتأولين الجاهلين.
- الإسلام لا يكون إلا سياسيا:
يجب أن نعلنها صريحة مدوية: إن الإسلام الحق – كما شرعه الله – لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، وإذا جردت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا.
إننا إذا نظرنا إلى الإسلام وجدناه يوجه الحياة كلها، وذلك لسببين رئيسين:
- أن للإسلام موقفا واضحا، وحكما صريحا في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة، فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة، كلا, إنه عقيدة وعبادة، وخلق وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصل من قواعد، وما سن من تشريعات، وما بين من توجيهات تتصل بحياة الفرد، وشئون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأسس الدولة وعلاقات العالم.
ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، وجد هذا واضحا كل الوضوح.
حتى قسم العبادات من الفقه ليس بعيدا عن السياسة، فالمسلمون مجمعون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر – رضي الله عنه – مع مانعي الزكاة.
بل قالوا: لو ترك أهل بلدة ما بعض السنن التي هي من شعائر الإسلام؛ مثل الأذان أو ختان الذكور، أو صلاة العيدين، وجب أن يدعوا إلى ذلك وتقام عليهم الحجة، فإن أصروا وأبوا وجب أن يقاتلوا، حتى يعودوا إلى الجماعة التي شذوا عنها.
إن الإسلام له قواعده وأحكامه وتوجيهاته: في سياسة التعليم، وسياسة الإعلام، وسياسة التشريع، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وسياسة السلم، وسياسة الحرب، وكل ما يؤثر في الحياة، ولا يقبل أن يكون خادما لفلسفات أو أيديولوجيات أخرى، بل يأبى إلا أن يكون هو السيد والقائد والمتبوع والمخدوم.
بل هو لا يقبل أن تقسم الحياة بينه وبين سيد آخر، يقاسمه التوجيه أو التشريع، ولا يرضى المقولة التي تنسب إلى المسيح عليه السلام: “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”, فإن فلسفته تقوم على أن قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد، الذي له من في السماوات ومن في الأرض، وما في السماوات وما في الأرض ملكا وملكا.
وفكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربا، ولا يتخذ غير الله وليا، ولا يبتغي غير الله حكما، كما بينت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعروفة باسم “سورة الأنعام”.
وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوة للبشر، حتى لا يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله، وتبطل عبودية الإنسان للإنسان؛ ولذا كان الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران).
وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، من أول يوم، بمجرد رفع راية” لا إله إلا الله” فقد كانوا يدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب.
- أن شخصية المسلم – كما كونها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته – لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له.
فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يعبر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي التي صح في الحديث اعتبارها الدين كله، قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة». [43] وقد يعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خسر الدنيا والآخرة، كما وضحت ذلك”سورة العصر”.
وعن عناية المسلم بالشأن العام لأمته – وهو ما يسمونه الآن: السياسة – فقد بين أن:
o مقاومة الفساد والظلم أفضل الجهاد:
يحرض الرسول – صلى الله عليه وسلم – المسلم على مقاومة الفساد في الداخل ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». [44] وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهد السبيل لعدوان الخارج، ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»[45].
ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرد على الظالمين؛ حتى إنه ليقول في دعاء القنوت: «نثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك»[46].
ويرغب في القتال لإنقاذ المضطهدين والمستضعفين في الأرض، بأبلغ عبارات الحث والتحريض، فيقول عز وجل: )وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75)( (النساء).
ويصب جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98)( (النساء).
حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم: )فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم( (النساء: ٩٩)، فجعل ذلك في مظنة الرجاء من الله عز وجل، زجرا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلا.
وحديث القرآن المتكرر عن المتجبرين في الأرض من أمثال فرعون وهامان وقارون وأعوانهم وجنودهم، حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار – فكريا وشعوريا – لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.
o تغيير المنكر فريضة:
وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه – حكاما أو محكومين – حديث يزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، يقول القرآن: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[47].
فهل يسع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتا؟ أو ينسحب من الميدان هاربا أمام المنكرات وغيرها خوفا أو طمعا، أو إيثارا للسلامة؟
إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحكم عليها بالفناء، لأنها غدت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)( (آل عمران).
إن المسلم مطالب – بمقتضى إيمانه – ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيا كان نوعه: سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو ثقافيا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد – إن استطاع – وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث: “أضعف الإيمان”.
وإنما سماه الرسول – صلى الله عليه وسلم – تغييرا بالقلب؛ لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرا سلبيا محضا – كما يتوهم – ولو كانت كذلك ما سماها الحديث “تغييرا”.
ومما يجعل المسلم سياسيا: أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصا المؤمنين منهم، بحكم أخوة الإيمان: )إنما المؤمنون إخوة( (الحجرات: 10).
والقرآن كما يفرض على المسلم أن يطعم المسكين، يفرض عليه أن يحض الآخرين على إطعامه، ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمهم القرآن بقوله: )كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون على طعام المسكين (18)( (الفجر)، ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدين: )أرأيت الذي يكذب بالدين (1) فذلك الذي يدع اليتيم (2) ولا يحض على طعام المسكين (3)( (الماعون).
ويقرنه القرآن الكريم مع الكفر بالله – عز وجل – في استحقاق العذاب في الآخرة، قال عز وجل: )إنه كان لا يؤمن بالله العظيم (33) ولا يحض على طعام المسكين (34)( (الحاقة)، هذا وفي المجتمعات الرأسمالية والإقطاعية المضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريض على الثورة وحض على الوقوف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء.
وكما أن المسلم مطالب بمقاومة الظلم الاجتماعي، فهو مطالب أيضا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيا كان اسمه ونوعه, والسكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجبان العذاب على الأمة كلها: الظالم والساكت عنه، كما في قوله عز وجل: )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة( (الأنفال: 25).
وقد ذم القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: )قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21)( (نوح)، وعن قوم هود: )وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59)( (هود)، وعن قوم فرعون: )فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54)( (الزخرف)، بل جعل القرآن مجرد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبا لعذاب الله: )ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113)( (هود).
ويحمل الإسلام كل مسلم مسئولية سياسية: أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح: «من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية»[48].
ثم إن المسلم قد يكون في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلو من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صلب ما يسميه الناس “سياسة”، كأن يقرأ الآيات التي تأمر بالحكم بما أنزل الله: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة)، )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)( (المائدة).
ومثل ذلك: من يقرأ الآيات التي تحذر من موالاة غير المؤمنين: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (144)( (النساء)، )لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28)( (آل عمران)، )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة( (الممتحنة)، )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر( (آل عمران: 118).
ومن قنت “قنوت النوازل” المقرر في الفقه – وهو الدعاء الذي يدعى به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، وخصوصا في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة؛ كغزو عدو، أو وقوع زلزال أو فيضان أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك – فقد اهتم بالسياسة وهو في داخل الصلاة.
فهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين عن دنيا، ولا تنفصل فيه دنيا عن دين، ولا يعرف قرآنه ولا سنته ولا تاريخه دينا بلا دولة، ولا دولة بلا دين.
o دعوى أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين:
الذين زعموا أن الدين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة” لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين” من بعد، أول من كذبوها بأقوالهم وأفعالهم، فطالما لجأ هؤلاء إلى الدين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدين، ليستصدروا منهم فتاوى ضد من يعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا.
هل السياسة أمر منكر؟!
السياسة – من الناحية النظرية – علم له أهميته ومنزلته، وهي – من الناحية العملية – مهنة لها شرفها ونفعها؛ لأنها تتعلق بتدبير أمر الخلق على أحسن وجه ممكن.
نقل الإمام ابن القيم عن الإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي: أن السياسة هي الفعل الذي يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مادامت لا تخالف الشرع.
وذكر ابن القيم: أن السياسة العادلة لا تكون مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد نوه علماؤنا السابقون بقيمة السياسة وفضلها حتى قال الإمام الغزالي: إن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع.
وقد عرفوا الإمامة أو الخلافة بأنها: نيابة عامة عن صاحب الشرع – وهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به؛ فالخلافة حراسة وسياسة.
وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – سياسيا، بجوار كونه مبلغا ومعلما وقاضيا، وكان خلفاؤه الراشدون المهديون من بعده سياسيين على نهجه وطريقته، إذ ساسوا الأمة بالعدل والإحسان، وقادوها بالعلم والإيمان.
ولكن الناس في عصرنا وفي أقطارنا خاصة من كثرة ما عانوا من السياسة وأهلها، سواء كانت سياسة الاستعمار أم سياسة الحكام الخونة، أو الحكام الظلمة، كرهوا السياسة، وكل ما يتعلق بها، وخصوصا بعدما أصبحت فلسفة ميكافيلي هي المسيطرة على السياسة والموجهة لها، حتى حكوا عن الشيخ محمد عبده أنه – بعد ما ذاق من مكر السياسة وألاعيبها ما ذاق – قال كلمته الشهيرة: “أعوذ بالله من السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس”!
وأما عن وفاء الإسلام بحاجة المجتمع السياسية الداخلية والخارجية، فنجده قد وفي هذا الجانب على أتم وجه كما يأتي:
- في السياسة الداخلية:
- تستبعد الفكرة الغربية الدخيلة، القائمة على الفصل بين الدين والدولة، والعودة إلى الفكرة الإسلامية الأصيلة التي لا تعرف إلا الإمامة، التي هي منصب ديني وسياسي معا، فهي رئاسة عامة في الدين والدنيا، أو نيابة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، كما عرفها علماؤنا.
- لا تنفصل السياسة في الإسلام عن العقيدة ولا عن الشريعة ولا عن الأخلاق، وإنما ترتبط بها كلها، وتلتزم بها كلها، ولا يقر الإسلام المبدأ القائل: إن الغاية تبرر الوسيلة، فهو لا يرضى اتباع الباطل لنصرة الحق، ولا يرى إلا الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة.
- يجب تجنيد الكفايات الإسلامية الفقهية والقانونية والسياسية المخلصة، لتقوم بوضع دستور إسلامي يحدد نظام الحكم والعلاقة بين الحاكم والشعب، كما يحدد الحقوق والواجبات للمواطنين في الدولة المسلمة، ويفصل اختصاصات السلطات، مستفيدا من تجارب التاريخ والواقع، ومستهديا قبل كل شيء بقواعد الشريعة ونصوص الكتاب والسنة.
- يجب أن يتم اختيار رئيس الدولة بالبيعة[49] ورضا الشعب، وعلى أساس من الشورى وأن يكون للأمة وممثليها في ذلك الكلمة العليا, وأن يخضع هذا الرئيس لرقابة الشعب، ولا يعلو على كلمة الحق تقال في وجهه، كما لا يعلو على المثول أمام القضاء، إذا ارتكب أي مخالفة ظاهرة, وأن يتضح ذلك كله في صلب الدستور.
- يجب أن يؤكد هذا الدستور حق الفرد – الإنسان أو المواطن – في الحرية، فقد ولدت الناس أمهاتهم أحرارا، فلا يجوز أن يستعبدوا لأمثالهم من الخلق، ولسنا نعني بالحرية: اتباع الشهوات وانطلاق الغرائز السفلى، فهذه بهيمية لا حرية، ولا نعني بها اتباع الشبهات، وبلبلة الأفكار، وإثارة الفتن، فهذه فوضى لا حرية، إنما نعني بحرية المواطن أو الإنسان هنا: خلاصه من كل سيطرة تتحكم في تفكيره أو وجدانه أو حركته، سواء كانت سيطرة حاكم مستبد، أم كاهن متسلط، أم إقطاعي ورأسمالي متجبر.
وحرية الإنسان أو المواطن لها هنا مجالات شتى:
o حريته في أن يفكر ويعمل عقله الذي آتاه الله إياه، وفضله به على كافة المخلوقات وليس من المقبول أن يمنح الإنسان هذه الجوهرة ثم يعطلها ويجمدها، ليفكر له غيره.
o حريته في التعبير عما يجيش به صدره، أو ينتهي إليه فكره، بالقلم أو اللسان، بالكتاب أو بالصحيفة أو بالخطابة، فإن الله – عز وجل – يقول: )خلق الإنسان (3) علمه البيان (4)( (الرحمن) فلا بد أن يسمح له بأن يبين عن نفسه، وإلا كان كالحيوان الأعجم أو الحمار الأصم.
o حريته في اعتقاده، فلا يكره على اتخاذ دين بعينه، أو نحلة بعينها، أو على تغيير دينه بدين آخر، أو العيش بغير دين، أو على تعطيل شعائر دينه، أو غير ذلك مما يقلق ضمير الإنسان: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256).
o حريته في نقد الأوضاع الجائرة والاتجاهات المنحرفة، والتصرفات الخاطئة، مهما يكن مركز من صدرت عنه، فليس أمام الحق كبير: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر( (التوبة: 71)، على أن يكون الحكم في ذلك والمقياس الأوحد هو الإسلام.
o حريته في الاجتماع بغيره ممن يرى رأيه، ليكونوا معا هيئة أو جماعة أو حزبا، ما دامت هذه المؤسسة تقوم على أساس فكري سليم، مبني على احترام عقائد البلاد ونظام حياتها الشرعي، قال عز وجل: )وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان( (المائدة: 2).
o حريته في كسب عيشه، ليعف نفسه، ويكفي أهله، ويعود على من حوله، فلا يجوز أن يغلق عليه باب العمل رأسا, أو يضيق عليه الخناق في تدبير أمر رزقه، حتى يعمل في غير اختصاصه أو فيما لا يلائمه, أو يفصل من عمله اضطهادا وعقوبة على غير جريمة اقترفها، تستحق أن يحرم هو ومن يعول.
o حريته داخل مسكنه الخاص، فلا يقتحم عليه بغير إذنه، ولا يتجسس ولا يتسمع عليه، ولا تتبع عوراته، قال عز وجل: )ولا تجسسوا( (الحجرات: 12)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها( (النور: 27)، وفي الحديث: «لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم»[50]. «من استمع حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنه الآنك يوم القيامة»[51].
o أن يأمن على حرماته كلها من أي عدوان عليها من السلطة والموالين لها، وهذه الحرمات هي:
- الدين: فلا يستخف به أو يهان.
- النفس: التي حرم الله قتلها إلا بالحق.
- البدن: فلا يجوز تعذيبه أو إيذاؤه إلا في عقوبة شرعية قامت أدلتها وانتفت شبهاتها، فإن ظهر المؤمن حمى.
- العرض: – بمعنى الكرامة الشخصية للإنسان – فلا يجوز أن يشتم أو يسخر به في حضرته، أو يؤذى ويذكر بسوء في غيبته، أو يحقر من شأنه، فإن الله حرم الأعراض، كما حرم الدماء والأموال.
- الأهل: فلا يجوز الاعتداء على زوجه، أو أولاده، أو أحد أبويه، أو محارمه.
- المال: فلا يجوز مصادرة مال جمعه من حلال، ولم ينفقه في باطل، ولم يبخل به عن حق.
- وكما أكد الدستور حق الفرد في الحرية والأمن على نفسه وأهله وماله وسائر حرماته، يجب أن يؤكد حق المجتمع في الحفاظ على كيانه ووجوده من انحرافات الأفراد وطغيان الأنانيات،[52] وفي حماية عقائده وآدابه من دعاة التحلل والإباحية، وفي حماية شريعته ونظامه من دعاة التبعية للغرب أو للشرق, ومن وسائل ذلك إقامة الحدود والعقوبات الشرعية على مستحقيها.
- ويضمن هذا الدستور للأقليات غير المسلمة أن يعيشوا في كنف الإسلام أحرارا في التمسك بعقائدهم، وأداء عباداتهم، وإقامة شعائرهم، بشرط أن يحترموا مشاعر الأغلبية، ولا يجرحوا أحاسيسهم بما لا حاجة إليه، من افتعال التحديات والتظاهرات التي لا تثمر إلا إيغار الصدور،[53] وأن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، إلا ما اقتضته ظروف دولة أيديولوجية تقوم في الأساس على فكرة الإسلام.
- وأما في السياسة الخارجية:
- اعتبار المسلمين حيثما كانوا أمة واحدة، جمعت بينهم عقيدة الإسلام وشريعته وأخوته، لا يفرق بينهم اختلاف جنس أو لون أو لغة أو وطن أو طبقة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
- وكل أرض استوطنها المسلمون، وقامت فيها شعائر الإسلام وشرائعه، وارتفعت فيها مآذن تنادي بالتكبير والتهليل، هي وطن إسلامي يجب حمايته والذود عنه.
- وكل بلد مسلم اعتدي عليه، له حق المعونة والنصرة والمساندة، المادية والأدبية، حتى يحرر أرضه وينتصر على عدوه.
- الأقليات المسلمة في شتى بقاع الأرض هم جزء منا بحكم أخوة الإسلام، فلهم حق المعاونة والمعاضدة، وعلينا مناصرة المستضعفين والمضطهدين منهم بكل ما نستطيع من قوة، ولو أدى ذلك إلى حمل السلاح لإنقاذهم من طغيان الكفرة، وعدوان الفجرة، استجابة لقوله عز وجل: )وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75)( (النساء).
- العمل على إزالة الحواجز المفتعلة بين بلاد المسلمين بعضهم وبعض، أو تخفيفها على الأقل ابتداء، لتقوى بينهم الصلات، وتتوثق عرى الأخوة والتعارف.
- زيادة التعاون بين المسلمين في شتى المجالات بدءا بالمجالات الاقتصادية والثقافية والإعلامية والدفاعية، استجابة لأمر الله بالتعاون على البر والتقوى.
- مناصرة الحركات التحررية في العالم كله، انطلاقا من الفكرة الإسلامية التي ترفض استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، أيا كان دينه وجنسه.
الترحيب بالسلام بين الدول والشعوب، إذا كان قائما على أساس من العدل والمساواة واحترام الحقوق، ورفع الظلم عمن وقع عليه وإن طال الأمد، قال عز وجل: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال).
- العناية البالغة باختيار العناصر التي يوكل إليها سياسة الأمة، وقيادة سفينتها، فإن كل المبادئ والدساتير، تظل حبرا على ورق، ما لم تجد الرجال الأقوياء الأمناء الذين إذا حدثوا صدقوا، وإذا وعدوا أنجزوا، وإذا ائتمنوا أدوا، وإذا عاهدوا وفوا. ومن ضرورة ذلك: وضع شروط ثقافية ودينية وخلقية للمرشحين للمجالس النيابية والشورية وسائر المناصب الكبرى، حتى لا توضع قيادة الأمة في أيدي الجهلة أو الملاحدة أو الفسقة.
- في الناحية التشريعية:
كان التشريع الإسلامي هو الموجه الفذ، والمرجع الأوحد لحياة المجتمع الإسلامي في كل العهود السابقة، ومنه استمدت كل الأحكام، وعلى أساسه قامت كل العلاقات في كافة النواحي المدنية، والجنائية، والدولية، والأسرية التي يطلق عليها الآن اسم”الأحوال الشخصية”.
كان الجميع – حكاما ومحكومين – يستفتون هذا التشريع ويحتكمون إليه في كل أمورهم، معتقدين قدسيته وبلوغه إلى الدرجة العليا في رعاية الحق والعدل، وتحقيق مصالح الفرد والجماعة بلا إفراط ولا تفريط.
o ولم يدر بخلد[54] أحد في أمة الإسلام أن يحتكم أبناؤها يوما إلى أحكام غير أحكامه، ومبادئ غير مبادئه، كيف؟! والله – عز وجل – يقول: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة)، )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)( (المائدة).
ولكن الذي حدث أن الاستعمار الغربي الصليبي زحف على بلاد الإسلام منذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فاحتل أكثر هذه البلاد، وتحكم في رقاب أهلها، وأصبحت في يديه مقاليد الحياة كلها، من سياسة إلى تشريع، إلى تعليم، إلى تنفيذ. فلا عجب أن أدخل قوانينه ونظرياته التشريعية، فأصبحت هي السائدة على كثير من المجتمعات، ولم تدع للشريعة إلا ركنا ضيقا في الحياة هو ما يسمى بـ “الأحوال الشخصية”[55].
ومن هنا وجب – في نظر التشريع الإسلامي – إعادة البناء التشريعي من جديد مراعيا الأمور الآتية:
o النص في الدستور على أن المصدر الرئيس للقوانين في كافة جوانب الحياة هو الشريعة الإسلامية بمصادرها الأصلية والتبعية.
o النص على أن كل قانون يخالف النصوص القطعية أو الإجماع والدين المتيقن واجب البطلان.
o يمكن – مرحليا إلى أن توضع قوانين إسلامية خالصة – أن تراجع القوانين المعمول بها حاليا؛ لتنقيتها من كل ما يخالف الشريعة، وإقرار ما يتفق منها مع هذه الأحكام، على أن يربط بالشريعة وفلسفتها بكتابة مذكرات تفسيرية من وجهة نظر الشريعة، وتكملة البناء التشريعي بما يفرضه الإسلام من أحكام وقواعد غفل عنها القانون الوضعي.
o يلغى كل قانون يشتمل على امتياز لبعض الطبقات دون بعض بغير مسوغ، أو على ظلم لبعض الفئات بغير سبب، أو الجور على حريات الأفراد بغير ضرورة.
o أن تكون هيئة عليا من الفقهاء المتضلعين في أحكام الشريعة وأدلتها ومقاصدها، والمطلعين على أحوال العصر وتياراته لمراجعة كل قانون جديد يصدر من الجهات المختصة؛ لإقراره بمقتضى الشرع أو إلغائه إن خالف نصا أو قاعدة.
o النص على إقامة الحدود والعقوبات الإسلامية التي شرعها الله عز وجل؛ حفظا للمجتمع وردعا للأشرار وقطعا لشأفة الجريمة، كحدود وعقوبات السرقة والزنا والقذف وشرب الخمر والقتل العمد والردة، تلك التي بالقرآن والسنة، مع مراعاة التشدد في أركان الجريمة وشروطها، ودرء الحدود بالشبهات ما وجد إلى ذلك سبيل.
o اختيار أحج الآراء الفقهية من شتى المذاهب الإسلامية المعتبرة، وأليقها بتحقيق مقصود الشارع، وأبعدها عن التزمت والتعسير؛ ليبنى منها قانون إسلامي يجاري روح العصر ولا يتجاوز أحكام الشرع.
o أن يكون الفقه الإسلامي أساس الدراسة في كليات الحقوق في كل الجامعات.
وبعد هذا العرض التفصيلي للنظامين الاقتصادي والسياسي في الإسلام يتبين لنا – بجلاء لا يدع مجالا للشك – أن الإسلام بتشريعاته في كل جوانب الحياة قادر على الوفاء بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية وغيرهما، وقد وفي في هذا أتم الوفاء في العصور التي حكم فيها الإسلام، كما يتضح لنا أنه لا بقاء ولا استمرار للبشرية إلا إذا حكمت شرائع الإسلام؛ لأنها من قبل الله – عز وجل – العليم بخبايا النفوس وطبائعها وما يصلحها ويعود عليها بالنفع والخير، وكيف لا وهو صانعها ومبدعها: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك)، ومن قال غير ذلك فالعيب في جهله وتعصبه وحقده وفهمه القاصر، وصدق القائل:
وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ثانيا. الفشل الذي وصمت به الأنظمة الاقتصادية والسياسية في مجتمعاتنا المسلمة سببه الخطأ في التطبيق لا التشريع:
يقول فضيلة الشيخ محمد قطب: لا يحتاج التخلف الاقتصادي الذي أحاط بالعالم الإسلامي إلى جهد في بيان أسبابه الحقيقية في حياة الأمة.
نعم لقد كانت هناك أسباب خارجية قوية أسهمت في هذا التخلف ولكنها وحدها لا تبرره ولا تفسره.
لقد كانت أوربا الصليبية تسعى – منذ القضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس – إلى تطويق العالم الإسلامي وإضعافه بكل الوسائل, وكان من بين الوسائل، التي اتخذوها السعي الدائب لتحويل التجارة العالمية إلى أيديهم، وانتزاعها من يد المماليك، الذين كانوا يمسكون بزمامها عن طريق سيطرتهم على البحر الأحمر والبحر الأبيض، فتدر عليهم أموالا طائلة، وعلى العالم الإسلامي كله كذلك.
ومنذ اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح، الذي كشفوه على هدي الخرائط الإسلامية – وبمعاونة بحارة مسلمين – بدأوا يتجهون إلى الشرق الأقصى ليستولوا على أرضه وخيراته، وينقلوها على سفنهم عن طريق رأس الرجاء الصالح فيحرموا منها دولة المماليك ويحرموا منها العالم الإسلامي كله.
وحدث ذلك بالفعل، وتأثرت اقتصاديات العالم الإسلامي تأثيرا بالغا بما حدث.
ولكن هل هذا هو التفسير؟ أو هذا هو التبرير؟
أين كانت مراكز القوة يوم قامت الدولة الإسلامية أول مرة، سواء القوة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية؟ ألم تكن كلها في يد فارس والروم؟
فما الذي حدث في التاريخ؟
لقد انساحت الأمة المؤمنة في الأرض، فأزالت قوى الباطل ودكتها دكا، وأقامت في مكانها دولة الإسلام، واستولت هي على مراكز القوة فأصبحت أكبر قوة في الأرض، وشملت قوتها كل جانب، فصارت في يدها القوة الحربية والسياسية والاقتصادية وكان ذلك كله تحقيقا لوعد الله للمؤمنين من هذه الأمة: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا( (النور: 55).
فما الذي غير الحال بعد ذلك، وسلب مراكز القوة من يد المسلمين؟
سنقول: ضعفت قوتهم الحربية بينما ازدادت قوة أعدائهم فتغلبوا عليهم.
نعم، تلك هي الأسباب الظاهرة – ولا شك – ولكن قراءة التاريخ بالأسباب الظاهرة وحدها لا تؤدي إلى الحقيقة، بل قد تضلل عن الحقيقة.
يقول أصدق القائلين: )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: 11)، ويقول: )ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الأنفال:53)، والذي يشغل النفوس المؤمنة هو الإيمان, والذي يتغير في النفوس هو حقيقة الإيمان، فحين تكون الأمة “متقدمة” في الإيمان يتحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والتأمين، وحين تكون “متخلفة” يحدث تغيير النعمة، أي: “سلبها” ويذهب عن الأمة الاستخلاف والتمكين والتأمين.
فسلب التجارة من يد المسلمين، واستيلاء أوربا الصليبية عليها، له أسبابه الكامنة في التخلف العقدي الذي أصاب الأمة في مجموعها، والتقلص والضمور الذي ترتب عليه في كل اتجاه، فتضاؤل القوة الحربية الذي مكن الأعداء من أجزاء متزايدة من العالم الإسلامي هو ذاته أثر من آثار التخلف العقدي، ولكن آثار التخلف العقدي في الميدان الاقتصادي الخاص لا تحتاج إلى توكيد.
فلنفرض أن التجارة العالمية قد سلبت من أيدي المسلمين لسبب قاهر لا يقدرون على درئه، فهل تتوقف ثروة العالم الإسلامي على التجارة وحدها في ذلك الحين أو في أي حين؟!
إن الأرض الإسلامية من المحيط إلى المحيط هي بقدر من الله أغنى بقعة في الأرض وأكثرها خيرات، ولكنها – حتى هذه اللحظة – لم تستثمر الاستثمار الكامل الذي يستغل كل مواردها وكل طاقاتها.
فإذا ضاع جزء من الثروة لأسباب قاهرة، فلماذا لم تسع الأمة في مجموعها إلى استغلال الثروات الأخرى القابلة للاستغلال، من زراعة وصناعة ومعادن مذخورة في باطن الأرض؟!
السبب هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزائم، والانصراف عن عمارة الأرض، والرضى بالفقر على أنه قدر من الله لا ينبغي السعي إلى تغييره خوفا من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله!
ومن أين نشأت هذه العوامل كلها؟ لا شك أنها نشأت نتيجة للتخلف العقدي.
لو تخيلنا هذا العارض – وهو ضياع التجارة من يد المسلمين – قد حدث للأجيال الأولى من هذه الأمة، فهل كان رد الفعل عندها سيكون مماثلا لما حدث للأجيال المتأخرة؟
وهل يكمن الفارق في الظروف الخارجية التي أحاطت بالمسلمين؟ أم أنه راجع في حقيقة الأمر إلى الفارق النفسي الهائل بين أول هذه الأمة وآخرها, بين الإيمان الصحيح والإيمان المخلخل المنحرف, أي راجع إلى التخلف العقدي الذي أصاب الأمة في أجيالها المتأخرة؟ وكذلك ينبغي أن يكون فهمنا لأحداث التاريخ الإسلامي.
إن أمما أخرى غير الأمة الإسلامية يمكن أن تنال القوة والتمكين في الأرض بالبعد عن الله! بل كلما زادت بعدا عن الله زادت في القوة والتمكين، كما هو حال أوربا الكافرة الجاحدة اليوم؛ لأن هذا من السنن الربانية في معاملة الكفار: )فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44)( (الأنعام)، لفترة من الزمن يقدرها الله, ثم يأتي التدمير: )حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44)( (الأنعام).
أما أمة الإسلام فإنها تعامل بسنة خاصة فلا يمكنون إلا وهم على الإيمان، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين؛ ذلك لأن الله لا يريد لهم أن يفتنوا بالتمكين وهم منحرفون عن طريقه، فيزيدوا انحرافا حتى يصلوا إلى الكفر فتأخذهم سنة الكافرين: )من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16)( (هود).
فمن رحمته – عز وجل – بهذه الأمة أنه لا يمكنها أبدا وهي منحرفة عن السبيل؛ لكي تعود إليه، فيمكنها وهو راض عنها، ويدخر لها في الآخرة ما يدخره لعباده الصالحين[56].
أما ما أصاب الأمة الإسلامية من تدهور في شئونها السياسية، فمنشؤه العولمة[57] السياسة، وليس النظام الإسلامي للسياسة، وبيان ذلك كالآتي:
تزعم عولمة السياسة أنها تعمل على إشاعة الديمقراطية الليبرالية في العالم، وترعى حقوق الإنسان، وتحامي عن المضطهدين، والمعذبين في الأرض.
وهذا صحيح بالنسبة لغير المسلمين, أما بالنسبة للمسلمين، فهم يؤيدون الديكتاتوريات المتسلطة، والديمقراطيات الزائفة.
إن العولمة السياسية تسكت عن حقوق المسلمين المضطهدين في كثير من بلاد العالم: في كشمير، وفي الفلبين، وفي روسيا، وفي الجمهوريات الإسلامية في آسيا، وفي أثيوبيا، وأرتيريا، وفي عدد من بلاد أوربا، وفي بعض الدول العربية، في حين تزعم أن هناك اضطهادا للأقليات غير المسلمة في مصر وفي السودان، بل تزعم أن الشريعة الإسلامية تظلم الأقليات، وتجور على حقوق المرأة، ولا تعترف بحقوق الإنسان، وتندد بالمملكة السعودية في ذلك، وهذا كله من الحيف[58] والجور عن الحق، والميل عن الصراط المستقيم.
ومن المهم أن نذكر هنا أن العولمة السياسية إن نسيت شيئا فلن تنسى أمرا مركزيا مهما هو خدمة إسرائيل[59].
ولم يقتصر أثر هذه العولمة على المجال السياسي بل لحقت أيضا المجال الاقتصادي، كما يقول د. يوسف القرضاوي: لعل من أبرز مظاهر العولمة عند الكثيرين ما يتعلق بـ “عولمة الاقتصاد”؛ نظرا إلى أهمية الاقتصاد في عصرنا خاصة، وتأثيره في السياسة المحلية، والإقليمية، والدولية، حتى قال بعضهم: إن العولمة تعني “رسملة العالم”.
وتأثير العولمة في الاقتصاد أمر جلي لا تخطئه العين، ولا يخفى حتى على غير المتخصص، فهي تؤثر بشكل ملموس على الإنتاج، وعلى الاستهلاك، وعلى التداول، وعلى التوزيع.
ويمكن حصر أضرار العولمة ومساوئها في النقاط الآتية:
- العولمة وما يتبعها من حرية التجارة بين دول العالم خطر على الصناعات الوطنية، وعدم قدرتها على منافسة العمالقة القدامى، وكيف تنافس الأسماك الصغيرة الحيتان؟
- ما يتبعها من “الخصخصة” – كما تسمى – وهي نقل ملكية القطاع العام وشركاته إلى القطاع الخاص، في إطار فلسفة التقليص من إشراف الدولة القومية أو الوطنية وهيمنتها.
- العولمة وما يتبعها من اتساع دائرة الإنتاج والتسويق، فلم يعد المصنع، أو الشركة محصورة في بلد واحد، بل أصبح للمصنع الواحد، أكثر من فرع في أكثر من بلد، فقد يكون المصنع في “بيروت” وله فروع في أوربا، وفي اليابان، وفي الشرق الأوسط,وقد يكون الأصل في اليابان، وفروعه في كوريا وفي ماليزيا، وفي تايلاند… إلخ.
- العولمة باعتبار أثرها في الشعوب وفي الطبقات، فهي تعمل دوليا لحساب الأمم المتقدمة على حساب الشعوب النامية، وهي تعمل محليا لحساب الطبقات العليا، على حساب الجماهير الدنيا، والطبقات المسحوقة، بما تمليه دائما من رفع الدعم عن الخبز والقوت وأساسيات المعيشة، مما يجعل شرائح واسعة من المجتمعات لا تجد الضروريات لحياتها؛ لأنها لا تجد “الملاليم” على حين يعبث غيرها بـ “الملايين”.
وللعولمة وسائل وأدوات تستطيع التأثير والضغط بها لتنفيذ غاياتها في بلدان العالم، منها: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية “الجات” وما تفرع عنها، وغيرها من مؤسسات الأمم المتحدة، والشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، وعابرة القارات والمحيطات.
- آفة اقتصاد العولمة – إذن – أنه اقتصاد غير عادل، وغير أخلاقي، وأنه يقوم على استلاب جهود الضعفاء لمصلحة الأقوياء، سواء كانوا أفرادا أم شعوبا ودولا.
- اقتصاد العولمة قد ينشئ في ديارنا مصانع يحظر عليه أن يقيمها في بلده، لما وراءها من أخطار وأضرار بالغة.
- اقتصاد العولمة يصدر إلينا – نحن العالم الثالث – الأدوية التي يمنع تداولها عنده، ويتساهل في كثير من الشروط التي يشترطها لسلامة الأغذية في بلاده.
- اقتصاد العولمة هو امتداد لاقتصاد الاستعمار القديم، الذي فرض علينا أن نكون “سوقا مفتوحة” له، هو ينتج ونحن نستهلك، وأن نشتري منه مقومات حياتنا، حتى القمح أو الخبز، أو الأرز الذي نعيش به – ويسميه الناس في بلادنا “العيش” أي الحياة – وحتى السلاح الذي ندافع به عن أنفسنا.
- اقتصاد العولمة يضن علينا أن نستقل بأنفسنا، بل علينا أن نكون تابعين له، خادمين لاقتصاده هو، يشتري منا “المواد الخام” التي أنعم الله بها علينا – مثل الذهب الأسود “النفط”,أو الذهب الأبيض “القطن” – بأرخص الأسعار، ليبيعها هو للمستهلك عنده بأضعاف مضاعفة، كما هو الشأن في النفط، وإذا “صنع” هذه المواد أعاد تصديرها إلينا بأغلى الأسعار.
- اقتصاد العولمة – في مجال الاستهلاك – يغرينا بالإسراف المحرم في ديننا، والذي لا يحبه الله عز وجل، ويدفعنا بأساليبه الخطيرة إلى شراء ما لا نحتاج إليه، بل أحيانا إلى شراء ما يضرنا ولا ينفعنا، لا لشيء إلا ليربح الاقتصاد العالمي وزعانفه وذيوله عندنا، ويملأوا خزائنهم التي تمور بالذهب كما يمور التنور[60] باللهب.
- ومن أهم مظاهر عولمة الاقتصاد: أن الذي يجني ثمراته فئة قليلة تشبع إلى حد التخمة، سواء في داخل كل بلد، أو على مستوى العالم، على حين نرى الأكثرية من الطبقات ومن الشعوب لا تكاد تجد ما يقيم الأود، [61] أو يرطب الكبد.
أما الركيزة التي يعتمد عليها هذا الاقتصاد القائم على عدم الإنتاجية وانتزاع ثروات الآخرين فهي “العولمة”، وقد تضعضعت استقلالية الدول وسيادتها من جراء ما هي مطالبة به طوعا أو كرها، من الانضواء[62] تحت لواء هذا النظام العالمي الجديد، ويحاول كثير من الدول مقاومة الإخضاع غير المشروط لاقتصادها، ووضع مصيره في يد القائمين على قوانين العولمة الجديدة.
إن قوى هذا النظام العالمي الاقتصادي الجديد هائلة جدا؛ فقد ضارب أحد الممولين والمستثمرين “الأمريكيين” وهو جورج سوروس George Soros ضد الجنيه الاسترليني عام 1992م، وحقق دخلا بلغ حوالي 2 بليون دولار في غضون أسبوع، ولم يستطع البنك المركزي البريطاني توفير مصادر تمويل كافية لوقف سوروس عند حده، وقد حدث ذلك الأمر في الوقت الذي كان الاعتقاد سائدا فيه بأن المقومات الأساسية للاقتصاد البريطاني كانت على ما يرام، وعلى نفس المنوال، تم شن هجمات مماثلة على الفرنك الفرنسي وفاز المضاربون أيضا بالغنائم.
ويرى زعماء دول جنوب شرق آسيا أن للمضاربين والاقتصاد القائم على الرأسمالية المعلوماتية دورا أكبر في إحداث الأزمات المالية التي عصفت ببلادهم، مما كان من دور للمتغيرات الحقيقية في اقتصاديات هذه الدول، والأهم من ذلك أن مثل تلك المتغيرات لا تحدث بين عشية وضحاها، إلا أن المضاربين يستطيعون – من خلال استثماراتهم بالأموال المضاربة – أن يسحبوا في غضون ثوان قليلة البلايين من الدولارات، مسببين انهيارا في سوق الأوراق المالية، وتخفيضا على قيمة العملة المحلية، وأزمة اقتصادية في ذلك البلد الذي يقع ضحية تحت براثنهم، [63] إن حفنة من أمثال هؤلاء الممولين والمستثمرين العالميين تستطيع أن تجمع من الأموال في وقت قصير للغاية ما تعجز عن جمعه العديد من البنوك العالمية مجتمعة.
في العام 1997م، ومن خلال هذا الاقتصاد العالمي القائم على “الرأسمالية المعلوماتية”، ذكر أن “مايكل جوردان” – نجم كرة السلة الأمريكية المعروف – حقق بمفرده من خلال تبنيه إعلانا تليفزيونيا لأحذية نايك Nike الرياضية أكثر مما حصل عليه جميع العاملين في جميع المصانع التي تنتج هذه الأحذية في إندونيسيا والذين يقارب عددهم 120 ألف عامل!
ولقد نتج عن العولمة ازدياد الهوة بين الدول الفقيرة والغنية، وكذلك ازدياد الهوة بين النخبة والأكثرية في البلد الواحد. إن أجور ورواتب أغلبية الناس في الوقت الحاضر، حتى في الولايات المتحدة، أكثر الدول ازدهارا في العالم، هي في أحسن الافتراضات راكدة لا تشهد نموا، بينما تحقق القلة القليلة ثروات طائلة من جراء النمو الاقتصادي؛ حيث يمتلك – على سبيل المثال – واحد بالمائة من الأمريكيين ما نسبته 48% من الثروة الأمريكية بأكملها، بينما يمتلك 80%، من الأمريكيين ما تقل نسبته عن 8%، وتقدر ثروة بيل جيتس Bill Gates بحوالي 50 مليار دولار – لدى كتابة هذه السطور – وهي تعادل ما يمتلكه سكان مدينة أمريكية يزيد تعدادهم عن 500. 000 نسمة، ومع ذلك فهناك في نيويورك والمدن الأمريكية الأخرى جيش من المشردين الذين لا مأوى لهم، يجوبون شوارع المدن ليل نهار هائمين على وجوههم.
لقد فشلت الشيوعية أيما فشل! ولكن هل رأسمالية المافيا التي خلفتها أفضل من الشيوعية؟ لا يعتقد نيكولاي ليخيف Nikolay Lychev – وهو مدير مدرسة روسي، شأنه شأن معظم الروس – بأن الوضع الآن هو أفضل مما كان عليه في الماضي “في الماضي عاش الروس كالعبيد تحت النظام الشيوعي، أما الآن فإنهم ينظرون إلى عبوديتهم بابتهاج، إن الاقتصاد الموجه الذي كانت الدول تديره على نحو غير كفء بات يدار الآن من قبل المافيا والرأسماليين من البارونات اللصوص.
وهكذا نجد بوتانين، 36 سنة “عام 1997م” بنى إمبراطورية من الشركات الصناعية والبنوك والإعلام، تعادل موجوداتها حوالي 10% من إجمالي الناتج المحلي الروسي، ويسيطر خمسة من رجال الأعمال الروس الجدد إلى جانب قياصرة الطاقة على نصف الثروة الصناعية الروسية، فكيف تم انتقال هذه الثروة في أقل من سبع سنوات؟
إن هذه “الديموقراطية” الروسية الجديدة باتت عاجزة عن دفع رواتب المتقاعدين، كما أن الجيش عاجز عن دفع رواتب العاملين فيه والمتقاعدين، ناهيك عن تحول النساء الروسيات اللواتي كن يباهين باحترافهن مهنا مرموقة، إلى ممارسة الدعارة في “الديموقراطيات” الغربية وغير الغربية!
وكل هذه الأعراض الجانبية تمثل الهدايا التي حملها النظام العالمي الجديد في جعبته، إنه لأمر مرعب أن نرى اقتصادات ومناطق برمتها في حومة الاضطرابات والدورات الاقتصادية الحادة تتهاوى في غمضة عين، كما أنه لمن المخيف رؤية البنوك والشركات الوطنية والنشاطات التجارية تتهاوى وتؤول إلى الإفلاس بين عشية وضحاها، إن من بين 282 شركة مدرجة على سوق جاكرتا للأوراق المالية – وكانت عاملة بشكل مجد مطلع عام 1998م – نجد هناك فقط 22 شركة ظلت قادرة على العمل بعد انهيار العملة الوطنية، وكل ذلك تم في فترة أسابيع قليلة، ووجد أصحاب الشركات ـــ الـ 260 والمساهمون فيها ـــ أنفسهم في ورطة كبرى بين يوم وليلة، وبالنسبة لهؤلاء ولأغلبية دول جنوب شرق آسيا، فإن من المعروف أن كازينو الرأسمالي العالمي Global financial Casino هو الذي قامر باقتصاداتهم دون الحصول على موافقتهم.
ويقسم جورج سوروس “اقتصاد العولمة” بين دول المركز، هي: الولايات المتحدة، وأوربا، ودول الأطراف periphery الدائرة في فلكه، ويرى أن وظيفة دول المركز هي اجتذاب الأموال من شتى أنحاء العالم لأسواقه المالية، وتقوم دول المركز بإعادة ضخ الأموال إلى دول الأطراف بشكل مباشر، كالقروض أو الاستثمارات المالية، أو بشكل غير مباشر عن طريق الشركات المتعددة الجنسية، وما دامت حركة تدفق الأموال هذه من الدول كافة إلى المركز، وإعادة ضخها من المركز إلى الدول الأخرى مستمرة، فإن القوة الهائلة التي تنتج عن حركة الدوران هذه تلقي بظلالها على أكثر المؤثرات الأخرى، ويرى أن أحداث الانهيارات في اقتصادات دول الأطراف قد أتت بالخير على اقتصادات دول المركز، لولا أنها زادت عن حدها، مما جعل من هول المصائب الاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول حافزا لها للتفكير بالخروج من ذلك النظام الذي سبب لها الكوارث والأزمات.
ولقد ألف جورج سوروس كتابا في أواخر سنة 1998م، وكتب العديد من المقالات في كبريات الصحف والمجلات العالمية عن “أزمة الرأسمالية العالمية” كما أسماها، حيث عبر عن غلوه وفساده، وانحراف النظام المعلوماتي، وقد أبدى خشيته من انهيار هذا النظام إذا ما بقي على هواه، كما هو في الوقت الحاضر.
يقول جورج سوروس: “قبل أقل من ستة أشهر كان النظام المالي العالمي على شفير الهاوية، وكان ذلك النظام لا يبعد سوى أيام قليلة عن الانهيار التام، وحقيقة الأمر أن اقتصادات كثيرة من الدول النامية قاست هبوطات حادة، كما لم يحصل إلا أيام الكساد العظيم، ولقد أصاب البؤس شعوب بلدان مثل إندونيسيا وتايلاند، ولكن تلك الشعوب بعيدة جدا عنا, ثم إن اقتصادات دول المركز – الولايات المتحدة وأوربا – قد استفادت من مصائبهم على نحو ما قال الشاعر العربي: مصائب قوم عند قوم فوائد.
ويقول جورج سوروس أيضا: “وفي الحقيقة فلقد استفاد اقتصاد الولايات المتحدة بتدني أسعار المواد الخام، وانخفاض أسعار المستوردات الأجنبية من تلك البلدان التي وقعت ضحية الانهيار الاقتصادي”, ويضيف: لنقلها بصراحة: هناك خياران أمامنا: فإما أن نصحح وننظم قوى الأسواق المالية العالمية عن طريق عمل عالمي؛ وإلا فالخيار الثاني سيدفع الدول لتصبح صمامات أمان، تسمح للمال العالمي بدخول بلدانها، وتمنع من خروجه متوخية[64] مصالحها، وبذلك يتم تعطيل عمل النظام المالي العالمي الذي يتمتع بإمكانية الحركة والدوران السريعين. إن هناك حاجة ملحة لإعادة التفكير في إصلاح النظام الرأسمالي العالمي، وإني أخشى أن تؤدي النتائج السياسية الناتجة عن الأزمات المالية الأخيرة إلى انهيار النظام الرأسمالي برمته”.
لقد شهد شاهد من أهلها، وهو جورج سوروس، أحد عمالقة العولمة، وأعمدة نظامها الرأسمالي المتجبر، وهو الذي قهر بنك إنجلترا المركزي، وكان أحد الأسباب الهامة في بداية الأزمة المالية في جنوب شرق آسيا، وشهادته هنا تنبع من خوفه على انهيار نظامه الرأسمالي لا على مئات الملايين من الشعوب المنكوبة من غلو ذلك النظام وظلمه واستكباره في الأرض بغير الحق.
- اقتصاد العولمة يجور على حقوق العمال:
ومن أخطر آثار “العولمة الاقتصادية” ما شهد به كل الباحثين والمهتمين من افتراسها لحقوق العمال، الذين على كواهلهم[65] تدور عجلة الاقتصاد، وبعرق جبينهم تتحقق المكاسب وتتدفق الملايين في حسابات أرباب رؤوس الأموال.
فهي تبخسهم أجورهم، وتأكل ثمرات جهودهم، لحساب القلة الرأسمالية الجشعة، التي تأكل التمر، وتتفضل عليهم بالنوى.
وأجلى ما ظهر ذلك في بلاد النمور الآسيوية، التي حققت طفرة هائلة في النمو أدهشت العالم كله، حتى سموها “المعجزة الآسيوية”, ولكن الباحثين أكدوا أن فيها جوانب سلبية، تحدث عنها مؤلفا كتاب “فخ العولمة” وهما ألمانيان منصفان؛ إذ اقترن الازدهار الاقتصادي هناك بالرشا والاضطهاد السياسي، والتدمير العظيم للبيئة والاستغلال غير المحدود – في أغلب الأحيان – للعاملين المحرومين من الحقوق، وللنساء منهم على وجه الخصوص.
يقول الكتاب: ولنأخذ على سبيل المثال شركة نايك Nike للأحذية الرياضية الباهظة الثمن، هذه الأحذية التي يصل ثمنها في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية إلى 150 دولارا، يقوم بإنتاجها في إندونيسيا حوالي مائة وعشرين ألف عامل وعاملة، يعملون لدى الموردين المحليين لهذه الشركة العملاقة بأجر يقل عن ثلاثة دولارات في اليوم, ومع أن هذا الأجر لا يسد الرمق إلا “بالكاد” في إندونيسيا أيضا، إلا أنه يساوي الحد الأدنى المقرر قانونا، كما أنه الأجر الذي يحصل عليه ما يزيد على نصف قوة عمل البلد البالغ تعدادها ثمانين مليون عامل.
وعلى نحو يدعو للدهشة تتجاهل غالبية الحكومات الغربية الأساليب المرفوضة – حسب المعايير الغربية – التي تسلكها الدول في جنوب شرق آسيا، في غزوها للسوق العالمية، وفي سعيها للحصول على حصة في هذه السوق، وكان رؤساء الحكومات الأوربية قد برهنوا عن تجاهلهم المتعمد هذا في آخر مرة، في مطلع مارس عام 1996م، وذلك حينما التقوا في بانكوك زملاءهم من الأمم الآسيوية الثماني الرائدة، بغية تقوية العلاقات الاقتصادية المشتركة، ففي الوقت الذي كان فيه المتكلمون يتناوبون على إلقاء الخطابات المشيدة بتفاهم الشعوب، عقد ممثلو ما يزيد على مائة منظمة مركزية مؤتمرا معارضا لمؤتمرهم، أعربوا فيه عن استنكارهم لظروف العمل غير الإنسانية السائدة في المصانع الآسيوية.
وفي الوقت ذاته نصب ما يزيد على عشرة آلاف تايلندي مخيمات أمام مقر رئيس حكومة بلادهم، وراحوا يتظاهرون مستنكرين التوزيع غير العادل لثروة أمتهم، وعلى الرغم من هذا لم يتفوه أي من الضيوف الأوربيين، ولا حتى بكلمة واحدة في هذا الشأن، بدلا من ذلك فضل المستشار الألماني وكذلك رئيس الوزراء البريطاني في أحاديثهما خلف الكواليس، التزلف بحماس لكسب صفقات كبيرة للمؤسسات التي لا تزال ألمانية أو بريطانية الجنسية بالاسم لا غير، وفي الوقت نفسه راح رئيس مؤسسة دايلمربنز juergen Schrmpp يعلن “أن على ألمانيا أن تتعلم من آسيا”, من ناحية أخرى قدمت غرفة التجارة والصناعة الألمانية دراسة تشيد بـ “الاستقرار السياسي”، وبـ “المناخ الاستثماري الجيد جدا في إندونيسيا المحكومة حكما دكتاتوريا”.
ولا شك في أن تجاهلا من هذا القبيل يكشف عن موقف خطير النتائج، ومشئوم العواقب؛ فهو يعني أنه يتيعن تأجيل حماية البيئة، وصيانة صحة العاملين، وتطبيق الديموقراطية، والاعتراف بحقوق الإنسان إلى وقت آخر، ما دام هذا التأجيل يخدم الاقتصاد العالمي “إلا أنه لا يجوز لنا أن نسمح بأن تكون الحكومات التسلطية شرطا ضروريا للنجاح الاقتصادي”.
كما قال محذرا جون إيفانز John Evans السكرتير العام لمنظمة النقابات العمالية الدولية TUAC أمام ممثلي العمال لدى منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي في باريس: “ففي النظم الديموقراطية فقط يمكن التفاوض على توزيع الأرباح”. ومن هنا، وكما هو الحال بالنسبة لمعظم النقابيين في العالم، يطالب إيفانز، منذ أمد طويل أيضا، بضرورة فرض عقوبات تجارية على البلدان التي تنتهك حقوق الإنسان وتخل بمعايير المحافظة على البيئة.
وهكذا رأينا العالم الغربي الذي يقود “العولمة” يتكلم كثيرا بالباطل، ويسكت غالبا عن الحق، فهو إما شيطان ناطق، وإما شيطان أخرس، ولهذا رأيناه يصمت عن المظالم الهائلة التي تقع على المستضعفين من الشعوب عامة، وعلى العاملين والعاملات خاصة، في مقابل الصفقات التي يتعاقد عليها، ويربح من ورائها، أي إنه يبيع القيم والأخلاق بالمنفعة المادية والربح المادي وحده: )أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)( (البقرة).
مشكلة العالم الغربي كله – أوربا أو أمريكا – أنه فضل الاقتصاد عن الأخلاق، كما فضل السياسة عن الأخلاق، والعلم عن الأخلاق، والحرب عن الأخلاق، فلم يعد يحكمه غير الرغبات والشهوات، أي الجانب الحيواني في الإنسان، وزعم أن الغاية تبرر الوسيلة، هذا مع أن غايته هنا ليست شريفة، بل هي غاية شريرة أن يحيا المرء ولو بموت غيره، وأن يبني نفسه على أنقاض غيره، كما يفعل الفراعنة المستكبرون المتحكمون في اقتصاد العالم [66].
وبعد هذا البيان يتأكد لنا أن أي تدهور أصاب النظام الاقتصادي، أو السياسي في العالم الإسلامي نشأ من أصول غير إسلامية، ومن أنظمة غير إسلامية، وأن الإسلام لم يوجد هذا بتعاليمه وتشريعاته.
ثالثا. الواقع أثبت فشل الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية في سياسة الدولة:
لم تف الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية بحاجات المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، بل زادتها تراجعا للوراء، و يوضح لنا ذلك فضيلة د. يوسف القرضاوي قائلا:
- الفشل في المجال الاقتصادي:
لقد فشلت الليبرالية والاشتراكية كلتاهما في إقامة حياة اقتصادية سليمة متكاملة، تتحقق فيها زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع، حياة يتوافر فيها العمل الملائم لكل عاطل، والأجر العادل لكل عامل، والكفالة المعيشية لكل عاجز، وتكافؤ الفرص لكل مواطن، بحيث يجد كل المواطنين حاجاتهم الأساسية من الغذاء، والكساء، والمسكن، والعلاج، والتعليم دون عائق.
أجل.. فشلوا في ذلك على رغم إكثار الأولين – الليبراليين – من القول بمحاربة “الأعداء الثلاثة”: الفقر، والمرض، والجهل. وطنطنة الآخرين – الاشتراكيين – بمجتمع الكفاية والعدل، المجتمع الذي ترفرف عليه الرفاهية.
ولكن لا هؤلاء ولا أولئك أطعموا الشعب من جوع، أو أغنوه من فقر، أو علموه من جهل، فلا زالت نسبة الظلم الواقع على الأميين في بلادنا أعلى من معظم بلاد العالم.
هذا في جانب العدل، والتكافل الاجتماعي.
وفي الجانب الآخر.. جانب الكفاية وزيادة الإنتاج، لم تزل بلادنا معتمدة أكبر الاعتماد على الاستيراد في آلات الإنتاج، ووسائل النقل، ومعظم مصنوعات الحضارة، ولم يستطع الليبراليون ولا الاشتراكيون إقامة تصنيع ثقيل – مدني وحربي – يغني الأمة عن الاستيراد ومد اليد إلى الأقوياء، والتأرجح بين المعسكرات الدولية المتنافسة؛ بغية تأمين السلاح، والدفاع عن الحمى.
حتى الزراعة التي كانت حرفة أجدادنا من آلاف السنين، والتي اشتهرت بها بلادنا – حتى حاول الاستعمار في وقت ما إفهامنا أننا لا نحسن غيرها، ولا نملك طاقات لشيء سواها – حتى هذه الزراعة لم نرق بها إلى المستوى اللازم لنا واللائق بنا كما ونوعا، وما زلنا نستورد القمح من خارج أرضنا وإلا هلكنا جوعا، وهكذا نعتمد على غيرنا في جلب الطعام الذي به عيشنا، والسلاح الذي نصون به حياتنا.
لقد فشلت الليبرالية والاشتراكية في الرقي بالمجتمع من التخلف إلى التقدم، لم تستطع هذه ولا تلك، أن تنتقل بالمجتمع من الاعتماد على الغير إلى الاكتفاء بالذات، ومن استيراد مصنوعات الحضارة إلى إنتاجها، ومن شراء السلاح إلى صناعته، ومن “رواية” العلم أو ترجمته إلى المشاركة فيه، هذا مع أن بعض العلم لا يسمح أهله بروايته أو ترجمته؛ لأنه من الأسرار.
- الفشل في مجال الحرية والطمأنينة للشعب:
وفشل الحلان كلاهما – الليبرالي والاشتراكي – في تحقيق الأمن والطمأنينة والحرية الحقيقية للشعب، التي تتمثل في حرية الفرد في أن يفكر وينقد ويبدي رأيه فيما يراه من عوج وفساد، وفي أن يندد – مع غيره – بالظلم والطغيان، دون أن يخشى على نفسه أو على أهله.
وإذا أردنا أن نفصل القول في أثر الليبرالية في المجال الاقتصادي:
فيجب علينا – لكي نوضح صورة الأوضاع الاقتصادية في عهد الحكم الوطني الليبرالي وآثارها في الحياة الاجتماعية – أن نشير إلى هذه الأوضاع كيف كانت في عهد تسلط الاستعمار، فإن هذا العهد هو الذي يذر البذور، ووضع الأسس لما ورثه من العهود.
لقد رأينا أن الغرب يوم استضعف الأمة الإسلامية في إفريقيا وآسيا – منذ القرن التاسع عشر وبدء عصر الصناعة الحديثة ـــ دخل ديارها بجنوده، واحتكر ثرواتها لمصالح مصانعه برؤوس أمواله، وسخر أبناءها في خدمة الاقتصاد الأوربي بنفوذه السياسي.
ثم أرسى قواعد نظامه الإداري والسياسي، وثبت نظامه الاقتصادي الرأسمالي، وطارد القيم الأصلية للمجتمع، واستبدل بها النظام العلماني في التعليم، ونظريات الفقه الأوربي في التشريع، وقيم التبعية للغرب في التوجيه، ولقد وصل الوضع في كل مجتمع إسلامي إفريقي أو آسيوي استعمره الغرب الأوربي لصالح صناعته ورؤوس أمواله إلى:
- تمكين الأجانب – وهم أهل حرب – من اغتصاب الثروة القومية بمساعدة القوة العسكرية، وعلى الأخص مصادر الثروة المعدنية، والأراضي الزراعية الجيدة، والمرافق الحيوية العامة.
- تسخير المسلمين في تنمية رؤوس الأموال الأجنبية بدون مقابل، أو مقابل أجور زهيدة.
- استنزاف الدخل القومي باحتكار التجارة الخارجية في المحاصيل الرئيسية، والسلع المصنعة للاستهلاك الضرورية.
- رهن الأراضي والأملاك العقارية بالفائدة المركبة[67].
- إقامة البنوك لتيسير الحوالات المالية، وإعادة نقل رؤوس الأموال إلى الخارج من فائض العائد الوفير لخدمة البناء الأوربي على حساب إفقار الشعوب الإسلامية من ثرواتها الخاصة، وطاقات أبنائها البشرية، وطالما أن عمليات التصدير والاستيراد تساعد على إنجازها البنوك – في غيبة بنك مركزي للدولة – فهي ثغرة واسعة لتهريب الأموال، أو إعادة ما ورد منها، وأرباح الباقي من ثمرتها وعائدها.
ولقد كان القطاع الاقتصادي في المجتمع الإسلامي المستعمر، هو القطاع السري المغلق الذي لا يدخله الوطنيون إلا لأداء خدمات محدودة، وفي غالب الأحيان تكون خدمات إضافية: فاللغة فيه أجنبية والفنيون فيه أجانب عملاء لهم ممن يدينون بدينهم، والأسلوب الاقتصادي أجنبي، وهو الأسلوب الرأسمالي، والمال أجنبي والعائد منه للأجنبي.
والوطن في هذا القطاع كان الثروة والمجهود البشري في العمل, والعائد منه كان الفقر والمذلة على المواطنين.
هذه حالة الاقتصاد أيام ضغط الاستعمار، وسلطة الاحتلال.
ولما قام الحكم الوطني “الليبرالي” لم يتغير الوضع كثيرا عما كان عليه من قبل، ففي ظل النظام الليبرالي الديموقراطي الذي ساد البلاد الإسلامية بعد استقلالها، قام نظام اقتصادي يستوحي أفكاره ويستقي أنظمته من نفس النظام السائد في العالم الغربي الرأسمالي، والذي وضع الاستعمار أسس بنائه.
وكان من أبرز معايب هذا النظام – من وجهة النظر الإسلامية – ما يأتي:
- إقرار النظام الربوي الرأسمالي، وإبقاء البنوك المتنوعة في شتى البلاد الإسلامية على هذا الأساس، بل التوسع في إنشائها، مع أن الربا في الإسلام من كبائر المحرمات، ومن السبع الموبقات، وآكله ومؤكله، وكاتبه وشاهده، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, ومن أكل الربا فقد أذن بحرب من الله ورسوله، ومن استحله فقد خلع ربقة الإسلام[68] من عنقه.
والغريب أن كثيرا من المسلمين استسلموا لهذا الواقع، وسلموا أعناقهم للبنوك المرابية التي تحركها أصابع اليهودية العالمية الرأسمالية، والمتحكمة في ذهب العالم ونقده، والمستفيدة من وراء الربا، غنى ونفوذا وسيطرة على مقدرات الأمم الاقتصادية والسياسية.
وليت هؤلاء المسلمين اكتفوا بالاستسلام للواقع على كره، بل راح بعضهم يبحث عن مسوغات وفتاوى شرعية يبرر بها مسلكه، ويضفي على هذا الاقتصاد الربوي صبغة إسلامية.
- وفي مقابل إحلال الربا الذي انتشر في كل مجال – حتى إن من لم تحرقه ناره، أصابه دخانه – عطلت فريضة “الزكاة” تعطيلا كليا، ولم يجعل لها في نظام الدولة أي موضع أو اعتبار، مع أن الإسلام جعلها أحد مبانيه العظام، وثالثة دعائمه الخمس، وجعلها مع التوحيد والصلاة عنوان الدخول في دين الإسلام واستحقاق أخوة المسلمين: )فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين( (التوبة:11)، فهي حق معلوم، وضريبة مقدسة فرضها الله في أموال أغنياء الأمة لترد على فقرائها، فهي من الأمة وإليها، وهي من مال الله لعباد الله، ليس فيها معنى التبرع أو التطوع، أو الإحسان الاختياري، بل تحصيلها وتوزيعها موكول إلى الدولة المسلمة، تأخذها من أربابها، وتردها على مستحقيها، بواسطة “العاملين عليها” المنصوص عليهم في القرآن الكريم.
فمن أنكر وجوبها ولزومها كفر وارتد عن الإسلام، وطلبت منه التوبة أو يقتل، ومن أقر بها وامتنع من أدائها أخذت منه قسرا وكرها، وإن كان ذا شوكة ومنعة قوتل بقوة السلاح حتى يؤديها، ورحم الله أبا بكر خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي قال: «والله لو منعوني عقالا[69] كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه»[70].
واختفى مع فريضة الزكاة التكافل الإسلامي كله، فلم يعد للفقراء والمساكين والغارمين وأمثالهم – من أصحاب الحاجات الأصلية، أو الطارئة – مورد يفي بحاجتهم، أو يخفف من بؤسهم، فظلت هذه الفئات الضعيفة في المجتمع كسيرة الظهر، مهيضة الجناح، [71] لا تجد أملا إلا في الشكوى إلى الله، ولا عونا إلا في صدقات المحسنين، التي لا تسمن ولا تغني من جوع!
- إتاحة الفرص المذهلة للأسر الكبيرة وأصحاب النفوذ والجاه، ممن احتكروا الحكم والسلطان، فاحتكروا من ورائه المغانم والمكاسب، فالاستيراد والتصدير في أيديهم، والمناقصات الكبيرة ترسو عليهم، والمشروعات المربحة من حظهم وحدهم، وغيرها، وغيرها.
وهذه الفرص الحرام جعلت الأغنياء يزدادون غنى وشحما، على حين يزداد الفقراء والضعفاء فقرا وضعفا وهزالا، وجعلت توزيع الثروة يزداد سوءا يوما بعد يوم، فلم يبق مجال يذكر لنمو التاجر الصغير، أو المحترف الفقير، أو العامل الضعيف، ما لم يكن له كبير يسنده، أو حزب يعضده، أو يسلك إلى الثروة طرقا لا ترضاها الأخلاق، أو تتح له فرص مفاجئة لم تكن في الحسبان.
وهكذا اتسعت الشقة وعظمت الفوارق بين أبناء المجتمع الواحد، فريق يغرق في الذهب والنعيم إلى الأذقان، وفريق يهلك في مفازة[72] الجوع والظمأ والحرمان، فريق يعيش بين الغانية والكأس، وآخر يموت بين المحراث والفأس, فريق يشكو زحمة البطنة، وآخر يشكو عضة الجوع[73]!
وازداد الطين بلة في البلاد التي تدفق فيها الذهب الأسود؛ فقد جعل الثروة تتصبب بسرعة مفاجئة، وبكثرة هائلة على طائفة قليلة من الناس، أصبحت تلعب بالملايين لعبا، تبعثرها ذات اليمين وذات الشمال، على حين لم تنل أكثرية الشعب حظها العادل من هذه الثروة التي أفاءها الله على عباده جميعا.
والعجيب أن معظم الذين يزدادون غنى في البلاد الإسلامية من العاطلين، الذين لا يعملون ولا يكدحون، فهم يأخذون من الحياة ولا يعطون، ويستفيدون من المجتمع ولا يفيدون، أما الأشقياء المحرومون، فهم الكادحون المتعبون، الذين يواصلون سهر الليل بعناء النهار، ولا يجدون إلا الفتات ممزوجا بالدم والعرق والدموع!!
وأعجب من هذا محاولة قوم الكذب على الله وعلى دينه، وعلى الحياة والواقع جميعا؛ فهم يريدون تبرير هذا الظلم الاجتماعي، والعوج الاقتصادي، والانحراف الأخلاقي، بنسبته إلى القدر يوما، بمثل قولهم: “فضل الله يؤتيه من يشاء” أو قولهم: “سبحان من قسم الحظوظ”! كأنما الناس لا اختيار لهم في هذا الظلم، ولا يد لهم في هذا العوج والانحراف، وكأنما الإنسان مسير لا مخير!! نفس الفكرة الجبرية التي رددها المشركون قديما وحكاها القرآن الكريم منكرا ومسفها حين قال: )وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين (47)( (يس).
وأحيانا ينسبونه إلى الشرع نفسه، فيقرأون قوله عز وجل: )ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات( (الزخرف: 32)، وقوله عز وجل: )والله فضل بعضكم على بعض في الرزق( (النحل:71)، وما شابهها من الآيات، كأن التفضيل معناه إعطاء كل شيء لفريق، وحرمان الآخرين من كل شيء!! مع أن التفضيل يعني اشتراك الفريقين في الرزق وزيادة أحدهما على الآخر فيه.
ونسي هؤلاء كيف شرع – عز وجل – قسمة الفيء في كتابه بحيث يوزع على المصالح العامة في الأمة، وعلى الفئات المحتاجة منها خاصة، معللا ذلك التوزيع بهذه الجملة القرآنية المعجزة: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، وأحيانا يكذبون على الحياة، فيقول أحدهم ما قال أخوه قارون من قبل: )إنما أوتيته على علم عندي( (القصص: 78) وكذب فكم من أناس أفضل منه علما وأكثر منه عملا لم ينالوا إلا الشقاء والحرمان: )قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50)( (الزمر).
- يتمم الصورة السابقة بروز الملكيات الزراعية الكبيرة، حتى بلغ ملك الواحد من كبراء القوم ألوف الأفدنة، بل عشرات الآلاف أحيانا، وأصبح “الباشا” الواحد في بلد كمصر يملك عدة قرى بأسرها، حتى مساكن الفلاحين فيها، وبات الإقطاعي من هؤلاء يوسع ملكيته يوما بعد يوم، إما بشراء أراض جديدة من صغار المزارعين، أو بامتلاك أراض مستصلحة يحييها بعرق الفلاحين ويملكها هو، مقابل أجور بخسة ظالمة لهؤلاء المساكين الذين يكسون الأرض بالخضرة وهم يذبلون، ويحيونها وهم يموتون! هؤلاء الذين يزرعون القمح ويأكلون الطين، وينتجون الثمار ولا يصيبون إلا النوى، ويبنون على كواهلهم القصور وهم يسكنون في منازل كالقبور!
لقد ظلمهم السادة المترفون الذين حسبوا أن هؤلاء إنما خلقوا للشقاء والخدمة، وأما هم فخلقوا للسيادة والنعمة، لقد كانت صورة ظالمة ومظلمة، وإن لم تصل في ظلمها وظلامها إلى درجة الإقطاع الذي عرفته أوربا في عصورها الوسطى؛ إذ كان المزارعون في الأرض عبيدا لمالكها، فهذا اللون لم يعرفه المجتمع الإسلامي في أي بلد ولا في أي عصر، رغم هذا الانحراف الواضح عن خط الإسلام المستقيم, ومع هذا لم يلبث الشعور الإسلامي العام أن أنكره وثار عليه.
- يضاف إلى هذا أن الحكم الليبرالي لم يستطع أن يطور اقتصاد المجتمع بحيث يتحول إلى مجتمع صناعي قوي، مكتف بذاته، قادر على حماية نفسه، مستخدم لأقصى إمكانات “التكنولوجيا” الحديثة.
صحيح أن الصناعة دخلت في بعض الأقطار ونجحت إلى حد كبير، وكان لها أثرها الطيب العظيم بجهد الشركات الوطنية، كالذي قامت به شركة مصر للغزل والنسج وأشباهها، ولكنها لم تستطع توسيع نطاقها إلى الحد المطلوب، وبقيت الزراعة محور النشاط الاقتصادي للمجتمع، كما أنه بقي عالة على الغرب في الصناعات الثقيلة، وفي استيراد الأجهزة والآلات الدقيقة كلها حتى إبرة الخياطة، كما أنه لم يستطع أن يزيد من مساحة الرقعة الزراعية بما يوازي التزايد المستمر في عدد السكان، ولا أن يحسن الإنتاج الزراعي باستخدام الوسائل الحديثة، ولا أن ينمي الإنتاج الحيواني، ولا أن يواجه مشكلة البطالة المتزايدة بعلاج حاسم.
وهكذا ظل “التخلف” سمة مجتمعاتنا، وبهذا تضاعف السوء، حيث اجتمع إلى سوء التوزيع ضعف الإنتاج[74].
والحق أن في مجتمعاتنا الإسلامية حقائق لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يتجاهلها، ولنأخذ مثالا على ذلك في بلد مثل مصر وشعبها، أشقى الشعوب العربية وأشدها ضنكا وفقرا في المعيشة والحياة، ولكن الذي حدث هو أنه يعاني من مساوئ التخلف والتأخر الاقتصادي والضعف المعيشي، مع أن هذا البلد ليس فقيرا بطبيعته، بل لعله أغنى بلاد الله – عز وجل – بخيراته الطبيعية، وثرواته المختلفة، من زراعية, ومائية، وحيوانية، ومعدنية، ونيله العجيب، وواديه الخصيب، وما شئت من فضل الله – عز وجل – على مصر، وأهل مصر منذ القدم: )اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم( (البقرة: 61)، لكن اجتمعت على هذا القطر مجموعة من العوامل التي أدت به إلى ما هو عليه من تأخر وتخلف منها:
- الاستغلال الأجنبي:
وهذا يعني أن الأجانب الذين احتلوا هذا الوطن – بغفلة من أهله، وتساهل من حكامه، وظلم من غاصبيه – أسعد حالا من أهله وبنيه، وأنهم قد وضعوا أيديهم على أفضل منابع الثروات فيه، شركات أو أفرادا، فالصناعة والتجارة، والمنافع العامة والمرافق الرئيسية، كلها بيد هؤلاء الأجانب حقيقة، أو الأجانب الذين اتخذوا من الجنسية المصرية شعارا وما زالوا يحنون بعد إلى أوطانهم ويؤثرونها بأكبر أرباحهم.
- ثنائية الثراء الفاحش والفقر المدقع:
بمعنى أن التفاوت عظيم، والبون شاسع، والفرق كبير بين الطبقات المختلفة في هذا الشعب – فثراء فاحش وفقر مدقع – والطبقة المتوسطة تكاد تكون معدومة، والذي نسميه نحن الطبقة المتوسطة ليسوا إلا من الفقراء المعوزين وإن كنا نسميهم متوسطين، على قاعدة: بعض الشر أهون من بعض، ورحم الله فقهاءنا الذين حبروا البحوث الطويلة في الفرق بين الفقراء والمساكين وإن كان كلاهما من المحتاجين البائسين.
- التخبط الاقتصادي:
ومنها – وهو الأهم – أننا في وسط هذا المعترك الحاد الصاخب العنيف، بين المبادئ الاقتصادية – من رأسمالية أو اشتراكية أو شيوعية – لم نحدد لونا نصبغ به حياتنا الاقتصادية في وقت تحتم فيه التحديد، وتعقدت فيه الأمور بحيث لم تعد تنفع فيها أنصاف الحلول، ولم يعد يجدي إلا الوضوح الكامل، وتحديد الأهداف تحديدا دقيقا، والسير إليها في قوة وعزيمة.
وهذه الأوضاع – وإن امتزجت بها المعاني السياسية – إلا أنها في أغلب صورها ودوافعها ونتائجها تعاليم وأوضاع اقتصادية، ولهذا كان لا بد لنا من أن نختار لونا من هذه الألوان أو من غيرها – إن استطعنا – لنعيش في حدود وضع معلوم له خصائصه ومميزاته، يحدد أهدافنا الرئيسية، ويرسم لنا طريق العمل للوصول إلى هذه الأهداف[75].
ومما سبق يتأكد لنا أن الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية، لم تف بحاجات المجتمعات المسلمة ولا غيرها، مما يؤكد أن استيرادها لمجتمعاتنا ما هو إلا نقمة علينا وليس نعمة، يتأكد لنا أيضا أن الحل الإسلامي هو الأمثل، فهو الذي يحمل في طياته الخلاص من كل ما تعانيه الأمم ليس فقط في جانبي السياسة والاقتصاد، بل على كل الجوانب وفي كل المجالات.
الخلاصة:
التشريع الإسلامي يفي بحاجات المجتمعات الإسلامية في الاقتصاد والسياسة، فهو – بتكامله وشموله – لم يدع أصلا يحتاج إليه المجتمع إلا وأسسه:
- في المجال الاقتصادي نجد أن التشريع الإسلامي فرض الآتي:
o إتاحة العمل الملائم لكل مواطن قادر.
o إعطاء الأجر العادل لكل عامل بما يكافئ عمله.
o تشريع الزكاة في المجتمع بما يحقق التكافل والعدل الاجتماعي، ومحاربة الكنز ومقاومة الاستقراض وانتشال المدينين من ذل الدين.
o تشريع فرائض مالية غير الزكاة، حين لا تفي الزكاة بحاجة الجماعة المسلمة، عملا بقاعدتي المصالح المرسلة، وسد الذرائع.
o كفالة المعيشة الكريمة التي تتوافر فيها الحاجات الأصلية لكل مواطن عجز عن العمل.
o مصادرة كل مال حصل عليه حائزه من طريق الحرام، أو أكل أموال الناس بالباطل.
o خضوع موظفي الدولة وخاصة الكبار منهم لقانون “من أين لك هذا؟” بحيث يحاسبون على كل كسب غير مشروع.
o محاربة السرف والترف في المجتمع بالتشريع والتوجيه.
o تقريب الفوارق الاقتصادية بين الأفراد والفئات، بالعمل الدائب على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء.
o تقريب الفوارق بين القرية والمدينة، بحيث لا تستحوذ المدينة على جل اهتمام الدولة وجل خدماتها.
o تطهير كل المؤسسات الاقتصادية من رجس الربا، ومن كل معاملة تخالف شريعة الإسلام، وإنشاء مصارف إسلامية تتعامل على غير أساس الربا.
o وضع خطة لزيادة ثروة الأمة، وتنمية إنتاجها كما ونوعا، والاستفادة من التكامل الاقتصادي بين البلدان الإسلامية للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما بينها.
o تقرير حق الملكية الفردية للأفراد، والسماح للأفراد بتنمية هذه الملكية, لكن في حدود مصلحة الفرد والجماعة التي يتعامل معها، فلا غش، ولا احتكار، ولا ربا.
- في المجال السياسي:
o الإسلام الحق – كما شرعه الله – لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، بل إن تجريده من السياسة يجعله دينا آخر، وذلك للأسباب الآتية:
o أن الإسلام يوجه الحياة كلها، وله موقف واضح وحكم صريح في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة.
o أن شخصية المسلم – كما يكونها الإسلام – لا يمكن إلا أن تكون سياسية، فهو يضع في عنق كل مسلم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بمعنى آخر النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم؛ فالدين النصيحة، كما أن على المسلم العناية بالشأن العام لأمته.
o أن الإسلام حث على مقاومة الفساد، ورفض الظلم، والتمرد على الظالمين.
o يفرض الإسلام القتال – الجهاد – لإنقاذ المضطهدين والمستضعفين في الأرض.
o يصب الإسلام جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون مع مقدرتهم على الهجرة والفرار.
o يجعل الإسلام تغيير المنكر فريضة، وتتسع دائرة المنكرات لتشمل ما يعده الناس من صلب السياسة، كالاستهانة بكرامة الشعب، وتزوير الانتخابات، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات، وسرقة المال العام، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات، ودفع الرشوة وقبولها، والتوسط فيها، وتملق الحكام بالباطل، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من غير المؤمنين.
o بل جعل التعاون على تغيير المنكر واجب لا ريب فيه؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، وهو ضرورة يحتمها الواقع.
o المسلم مطالب دوما ألا يعيش لنفسه وحدها دون اهتمام بمشكلات الآخرين، وهمومهم خاصة المؤمنين منهم، بل إنه يفرض عليه أن يحض الآخرين على الخير لا أن يفعله وحده، ثم إن المسلم في صلاته يقرأ آيات في صلب السياسة، مثل الآيات الخاصة بالحكم وبالولاية وبالمعاداة.
o أن الكثير من القضايا الإسلامية البحتة صار يحلو للبعض أن يسميها سياسة: مثل الحجاب، وصلاة العيد في الخلاء، والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.
إذن فالإسلام الذي يسميه المتغربون “الإسلام السياسي”، هو “الإسلام الصحيح” الذي شرعه الله في كتابه وسنته، وطبقه النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه الراشدون، والذي لا يقبل الله دينا غيره.
- لقد وفي الإسلام في هذا بحاجة المجتمع السياسية في الداخل والخارج.
- فأما في الداخل:
o استبعد الفكرة الغربية الدخيلة القائمة على فصل الدين عن الدولة.
o عدم فصل السياسة في الإسلام عن العقيدة والشريعة و الأخلاق.
o تجنيد الكفايات الإسلامية لوضع دستور إسلامي.
o اختيار رئيس الدولة يتم بالبيعة ورضا الشعب.
o لا بد من تأكيد الدستور لحق الفرد في الحرية: حرية في الفكر، وفي التعبير، وفي الاعتقاد، وفي نقد الأوضاع الجائرة، وفي الاجتماع مع الغير، وتكوين الهيئات والأحزاب.
وحرية في كسب العيش بلا تضييق في العمل ما دام حلالا، وحرية في داخل مسكنه الخاص فلا يقتحم، ولا يتجسس عليه، ولا تتبع عوراته، وحرية في الأمن على كل حرماته: من الدين، والنفس، والمال، والبدن، والعرض والأهل.
o تأكيد حق المجتمع في الحفاظ على كيانه من طغيان الأفراد وانحرافاتهم.
o يضمن للأقليات غير المسلمة أن تحيا في كنف الإسلام حرة بلا أذى.
- وأما في السياسة الخارجية:
- يعتبر الإسلام المسلمين أمة واحدة حيثما كانوا.
- يعتبر كل أرض استوطنها المسلمون، وقامت فيها شعائرهم وطنا إسلاميا يجب حمايته والذود عنه.
o كل بلد إسلامي اعتدى عليه له حق المعونة والنصرة.
o الأقليات المسلمة في شتى بقاع الأرض هم جزء منا بحكم أخوة الإسلام.
o العمل على إزالة الحواجز المفتعلة بين بلاد المسلمين.
o زيادة التعاون بين المسلمين في شتى المجالات.
o مناصرة الحركات التحررية في العالم كله والتي ترفض استعباد الإنسان أيا كان دينه أو جنسه.
o الترحيب بالسلام بين الدول والشعوب,بشرط أن يقوم على العدل والمساواة واحترام الحقوق.
- الفشل الذي وصمت به الأنظمة الاقتصادية والسياسية في بلادنا منشؤه ليس الإسلام ولا تعاليمه، فالأمة الإسلامية – كما تؤكد شواهد التاريخ – تتقدم وتسود في جميع الميادين حينما تتمسك بتعاليم دينها، وتتأخر حينما تتخلى عن عقيدتها وشريعتها، وللتخلف الاقتصادي والسياسي في المجتمع المسلم أسبابه الناجمة عن التخلف العقدي والديني، وهي أسباب خارجية وداخلية، أما الداخلية فتتمثل فى: الحكم الدكتاتوري المتسلط الذي يقمع الحريات ويقضي على نوابغ التقدم والحضارة التي تبزغ، وهو بذلك يوالي أعداء الأمة ويطبق أوامرهم لإرضائهم عنه للبقاء في السلطة، وهذا الحكم سماه الإسلام ” الحكم الجبري” الذي تنبأ به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما أسبابه الخارجية فتتمثل في: المؤامرة الغربية ضد الإسلام وأهله، والتي بدأت منذ الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي، ثم فرض أنظمتهم الاقتصادية والسياسية على العالم الإسلامي التي آخرها نظام العولمة التي أفسدت اقتصادنا وسياستنا لصالح اقتصاد الغرب وسياسته والتي من مفاسدها:
o إقامة المصانع المحظورة في البلاد المتقدمة لدينا.
o الإسراف في الاستهلاك، وغمرة الإعلانات التي تسوق الناس بعاطفة القطيع، حينما تعتمد أساليب إغراء الشعوب.
o إحداث الأزمات المالية، حيث يدور الاقتصاد لحساب قلة من الأقوياء سواء من الأفراد أو من الدول.
o افتراس حقوق العمال، والذين تدور عجلة الاقتصاد على كواهلهم… إلى غير ذلك.
o إضافة إلى ما تسببه عولمة السياسة من:
o تأييد الديكتاتورية المتسلطة، والديموقراطيات الزائفة.
o إبادة كل قوة تتمرد على الخضوع لتلك الديكتاتوريات.
o تضييق الخناق على الدول الإسلامية التي تمتلك قوة نووية.
o السكوت عن حقوق المسلمين المضطهدين في كثير من بلاد العالم.
o هذا كله غير خدمة العولمة السياسية لسياسة إسرائيل العدوانية ضد أصحاب الأرض وسكانها من الفلسطينيين.
- أثبت الواقع فشل الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية, فهي لم تف بحاجات المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، بل زادتها تراجعا للوراء.
o ففي المجال الاقتصادي: فشلت الليبرالية والاشتراكية في إقامة حياة اقتصادية سليمة فيها زيادة إنتاج وعدالة توزيع، كما لم توفر لهم حياة فيها العمل الملائم لكل عامل، والأجر العادل له، والكفالة المعيشية لكل عاجز، وتكافؤ الفرص لكل مواطن، رغم كثرة ما قالوه عن محاربة “الأعداء الثلاثة”: الفقر، والمرض، والجهل.
o أما في جانب الحرية والطمأنينة للشعب: فقد فشل الحلان كلاهما – الليبرالي والاشتراكي – في تحقيق الأمن والطمأنينة، والحرية الحقيقية للشعب المتمثلة في حرية الفرد في التفكير والنقد وإبداء الرأي فيما يراه من عوج أو فساد, والتنديد بالظلم والطغيان، وبالتالي فلم يقدم كلا النظامين الحل الصحيح للمشكلات الاقتصادية والسياسية، ولم يفعل سوى أن زاد هذه المشكلات بروزا وتضخما.
(*) في التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، مصر، 1989م.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: ) وصل عليهم ( ( التوبة: ١٠٣) (5975)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه (6527).
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام (798)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1353).
[3]. الدروع السابغات: أي الطويلة.
[4]. زبر الحديد: جمع زبرة، وهو القطعة الضخمة من الحديد.
[5]. الاحتكار: اشتراء طعام ونحوه وحبسه انتظارا لغلاء الأسعار، ورصد الأسواق انتظارا لارتفاع الأثمان، والاحتكار لا يكون إلا فيما يضر الناس حبسه.
[6]. ذو مرة: ذو قوة شديدة.
[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (6530)، وأبو داود في سننه، كتاب الزكاة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7251).
[8]. الراجل: الماشي على رجليه.
[9]. الفيء: ما رده الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالفهم في الدين بلا قتال، إما بالجلاء أو بالمصالحة على جزية أو غيرها.
[10]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (292)، وأبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية (2950)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (2557).
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1331) وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (132).
[12]. الحل الإسلامي فريضة وضرورة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2001م، ص 56: 58 بتصرف يسير.
[13]. الشح: البخل.
[14]. الارتكاس: الانتكاس.
[15]. الشظف: الشدة والضيق.
[16]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب البيوع (2166)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2563).
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه (179).
[18]. الركاز: هو المال المركوز في الأرض مخلوقا كان أو موضوعا وعليه زكاة، يرجع فيه إلى مظانه.
[19]. الحرج في اللغة: الضيق، ويطلق على كل ما تسبب في الضيق، سواء أكان واقعا على البدن أم على النفس أم عليهما معا.
[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده (1968)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب كراهة مسألة للناس (2449).
[21]. طوقه: ألبسه إياه.
[22]. الخلة: الحاجة والفقر.
[23]. العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط16، 1427هـ/ 2006م، ص114: 124 بتصرف يسير.
[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه (2278)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل (4828).
[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الكفالة، باب الدين (2176)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته (4242)، واللفظ للبخاري.
[26]. الغصب: أخذ الشيء ظلما مالا كان أو غيره، وأخذ مال متقوم محترم بلا إذن مالكه بلا خفية.
[27]. الاختلاس: أخذ الشيء مخادعة عن غفلة، وأخذ الشيء بحضرة صاحبه جهرا مع الهرب به، سواء جاء المختلس جهارا أم سرا.
[28]. الرشوة: هي ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل، أو للحصول على حق، وفي كل ذلك أقوال للفقهاء يرجع إليها في مظانها.
[29]. السرف: مجاوزة الحد.
[30]. السحت: ما خبث وقبح من المكاسب.
[31]. الحل الإسلامي فريضة وضرورة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2001م, ص58: 62 بتصرف يسير.
[32]. بيع العروض: على خلاف بيع الأثمان، وهو ما يسمى بـ “الصرف”، لكن العروض كل ما يعرض، والعروض جمع عرض، وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه من النبات والحيوان والعقار وسائر المال.
[33]. الملق: بمعنى النفاق.
[34]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، أحاديث رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23132)، وأبو داود في سننه، كتاب الإجارة، باب في منع الماء (3479)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6713).
[35]. العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط16، 1427هـ/ 2006م، ص 91: 94 بتصرف يسير.
[36]. المتغربون: التغريب تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم عامة والمسلمين خاصة بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة، وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.
[37]. اليساريون: جمع يساري، وهو المتطرف في سياسته أو رأيه؛ لأن المغالين في معارضتهم كانوا يجلسون في يسار المجالس النيابية، وهو خلاف اليميني.
[38]. اليمينيون: جمع يميني، خلاف اليساري، وهو من يميل إلى المحافظة والاعتدال في رأيه، وكانت مجالس اليمينيين في المجالس النيابية على اليمين.
[39]. الماركسية: مذهب اقتصادي وسياسي تبلور في أعقاب الثورة الصناعية، ويعارض النظام الرأسمالي الذي يقوم على الملكية الفردية والمشروع الخاص، ويهدف إلى إشراك المجتمع في ملكية عوامل الإنتاج، وينسب ذلك المذهب إلى كارل ماركس.
[40]. الليبرالية: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي، وهو نظام سياسي مبني على أساس فصل الدين عن الدولة، وعلى أساس التعددية من خلال النظام البرلماني الديمقراطي.
[41]. الكلاسيكية: مذهب أدبي يطلق عليه أيضا “المذهب الاتباعي” أو “المدرسي”، وقد كان يقصد به في القرن الثاني الميلادي الكتابة الاستقراطية الرفيعة الموجهة للصفوة المثقفة الموسرة من المجتمع الأوربي. أما في عصر النهضة الأوربية وكذلك في العصر الحديث فيقصد به كل أدب يبلور المثل الإنسانية المتمثلة في الخير والحق والجمال، وهذا المذهب من خصائصه الحرص على فصاحة اللغة وأناقة العبارة، ويعتني عناية كبرى بالأسلوب.
[42]. اللاهوتية: علم يبحث عن الله تعالى وما يتعلق به تعالى. وفي اللغات الأوربية معناها تعاليم الله تعالى أو علم العقائد الإلهية، ثم ترجمت إلى العربية بـ “اللاهوت” أو “الإلهيات”، غير أن الأديان السماوية ـ وعلى رأسها الإسلام ـ وضحت للإنسان مفهوم الإله، فالله بأوصافه كلها ـ سواء كانت متعلقة بذاته أو بصلته بمخلوقاته أو كانت مبينة لعلاقته بالإنسان أو علاقة الإنسان به ـ هو موضوع “علم الألوهية” أو “علم اللاهوت”.
[43]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (205).
[44]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4011)، وأبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي (4346)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (491).
[45]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنه، باب ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه (4884)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (374).
[46]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الصلوات، باب ما يدعو به في قنوت الفجر (7032).
[47]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان النهي عن المنكر من الإيمان (186).
[48]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن (4899).
[49]. البيعة: عقد بين ولي الأمر وجمهور المسلمين يتضمن اختياره للقيام بمهام الخلافة؛ أي رئاسة الدولة الإسلامية في الشئون الدينية والدنيوية.
[50]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، باب تعظيم المؤمن (2023)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7985).
[51]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب من كذب في حلمه (6635).
[52]. الأنانية: الأثرة وحب النفس.
[53]. إيغار الصدور: امتلاؤها غيظا وحنقا.
[54]. الخلد: البال، والنفس.
[55]. الحل الإسلامي فريضة وضرورة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2001م، ص 64: 70.
[56]. واقعنا المعاصر، محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة للطباعة والنشر، جدة، ط3، 1410هـ/ 1989م، ص179: 182 بتصرف يسير.
[57]. العولمة: هو تصور جديد في أن يكون للعالم كله ثقافة عالمية واحدة في مجال الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع وغيرها. ونقول: لا مانع من أن نستفيد من العولمة فيما لا يتناقض مع ديننا وقيمنا وأن نحافظ على هويتنا التي تعصمنا من التخلف والتبعية.
[58]. الحيف: الجور والظلم.
[59]. المسلمون والعولمة، د. يوسف القرضاوي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، 1421هـ/ 2000م، ص24، 25.
[60]. التنور: الفرن يخبز فيه.
[61]. الأود: الاعوجاج.
[62]. الانضواء: انضوى تحت لوائه: أي مال وانضم.
[63]. البراثن: جمع برثن، وهو مخلب السبع، أو الطائر الجارح.
[64]. يتوخى: يتحرى.
[65]. الكاهل من الإنسان: ما بين كتفه أو موصل العنق في الصلب.
[66]. المسلمون والعولمة، د. يوسف القرضاوي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، 1421هـ/ 2000م، ص 24: 45.
[67]. الفائدة المركبة: هي تكرار احتساب عائد على رأس المال في نهاية كل فترة زمنية، بحيث يصبح رأس المال في بداية كل فترة متضمنا العائد عن السنة السابقة، وهكذا.
[68]. الربقة: حبل فيه عدة عرى تشد به الدواب، وخلع ربقة الإسلام من عنقه: أي فارق الجماعة.
[69]. العقال: الحبل الذي يعقل به البعير حتى يعوقه عن المشي.
[70]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (6855)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله (133).
[71]. مهيض الجناح: أي مكسور.
[72]. المفازة: الصحراء، أو المهلكة.
[73]. عضه الجوع: أي اشتد فقره.
[74]. الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر,ط5، 1413هـ/ 1993م، ص 58: 65.
[75]. الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر,ط5، 1413هـ/ 1993م، ص 87، 88.