ادعاء أن الخصائص الشخصية للنبي – صلى الله عليه وسلم – وراء نجاح دعوته
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الخصائص الشخصية لبعض الممتازين من الناس ليست وحدها دليلا على اعتقاد نبوتهم.
2) لم يؤمن أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – بنبوته من جهة الإعجاب المجرد بشخصه، وإن كانت محبته واجبة عليهم وقد وضح الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب في حواره مع النجاشي السر الذي وقف وراء نجاح دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم -، مجملا إياه في دعوته – صلى الله عليه وسلم – إلى مكارم الأخلاق التي تدعو إليها النفس السوية قبل أن تأمر بها الشرائع، ولا نشم فيما قاله – رضي الله عنه – أي تأثير لشخصيته – صلى الله عليه وسلم – الآسرة الفذة في نجاح دعوته والإيمان به كما يدعون.
التفصيل:
أولا. القدرة الشخصية ليست دليل نبوة:
نقرر هنا بدءا أن السواء النفسي ليس بمنقصة ندرؤها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وإنما هو صفة كمال نثْبتها له من كل وجه، لكن لا أحد يذهب به السهو إلى حد يظن عنده أن كل موهوب أو ذي بيان يوشك أن يتخذه الناس نبيا؛ فإن الممتازين من البشر لا يخلو منهم جيل في كل أمة.
نعم، لقد عرفت شعوب الأرض آلهة كثيرة مدعاة من البشر من مثل: بوذا وكنفوشيوس وزرادشت، لكن الثابت من سير هؤلاء جميعهم أنهم لم يدعوا إلى أنفسهم آلهة ولا مرسلين، وإنما عبدوا في فترات مختلفة من التاريخ، وقد ترك بعضهم أدبا رقيقا وشعرا رائقا، لكن قصارى ذلك أن صار تراتيل في المعابد، لم تتغير بها ثقافة شعب، ولا أحدثت إصلاحا – ولو جزئيا – في بقعة من الأرض، ثم لم تكن سيرتهم بمنجاة من دس الخرافات والأوهام، بل من هؤلاء من لو حذفت عنه ما لا يعقل، لم يبق منه غير اسم تائه في التاريخ؛ فلذلك كان وجودهم نفسه محل الشك والجدل حين بدأت المناهج الحديثة تأخذ موضعها في التحقيق التاريخي، أو كما يقول الأستاذ أ. ف توملين: “في وقت من الأوقات كان أسلوب العصر هو التشكيك في وجود زعماء دينيين عظماء أمثال زرادشت والبوذا والمسيح، ولا شك أن التاريخ ربما صار أقل حيرة لو تقبلنا وجهة النظر هذه، بيد أن كل الأدلة توحي بأن مثل هؤلاء الناس كان لهم وجود بالفعل” [1]!
وإذن.. فلا موضع لأن يقاس هؤلاء الذين يحشد الدارسون الأدلة ليبلغوا – بعد الجهد والجدال – أنهم كانوا يوما ما موجودين في الناس – لا موضع لأن يقاس هؤلاء بنبي المسلمين وقد تجاوز التاريخ حفظ سيرته طورا طورا إلى حيث دون أفعاله وأقواله في دواوين ضخمة، فهو – كما قيل – ولد وعاش تحت الشمس.
ولم يزل في العالم – بعد ذلك – ساسة وأبطال مقتدون يستخرجون من أقوامهم مشاعر الإعجاب والتقدير، لكن النبوة شيء آخر غير البطولة وغير التميز في فنون العلم والأدب.
هذا وقد وضع المسلمون مصنفات برأسها عن دلائل نبوة نبيهم – صلى الله عليه وسلم – ويسوقون فيها ما صح عندهم من معجزات حسية خرقت عادة الطبيعة والسنن الكونية المألوفة، وهي معجزات أثْبت إسنادا من أمثالها التي يأخذ بها غيرهم من معتقدي النبوات، ونحن هنا لا نسوق معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذا الجانب الذي طريقه الرواية والنقل، بل نريد هنا أن الدعوة المحمدية – من جهة مضمونها – حدث غريب في التاريخ العالمي بجملته.
فإن التميز الذي يحصل لبعض الناس له – ولا بد – قدر محدود لا يبلغ أن يكون انفصالا تاما عن البيئة الاجتماعية، وانقطاعا عن مؤثراتها التي تلابس النشء في أطوار التربية والنمو، فأما أن يظهر في قوم أعراب أميين من يدعو إلى آداب اجتماعية وخلقية وإلى تشريع قانوني، وإلى تصور عال نزيه عن حقيقة الوجود الإنساني وحقيقة ما وراءه من حياة الدار الآخرة، يدعو إلى ذلك كله، ثم لا يظهر بين دعوته وما هو متداول من تصورات دينية تالفة أو وثنية يسميها هو “جاهلية” أية علاقة أو صلات – أما هذا كله فظاهرة جاءتْ على خلاف المألوف في ظواهر الاجتماع البشري.
يقول الأستاذ محمد لطفي جمعة: “وكان من مؤرخي الإفرنج من بدأ يهمس بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لو كان دعيا أو منتحلا أو طالب مجد لنفسه على حساب الرب الذي يدعو إليه – ما وصل إلى أعماق تلك القلوب التي كانت بالأمس متحجرة، ولا استطاع – مهما أوتي من حذق وبراعة – أن يضرب على الأوتار الحساسة في قلوبهم ونفوسهم، لا سيما وأنه جاء لهم بمعتقدات تخالف معتقداتهم، وتصدم ميولهم وشهواتهم، وتقف حجر عثرة في سبيل آمالهم الدنيوية” [2].
والقدرة الشخصية – على هذا الوجه المدعى – لا تفسر أن يجيء محمد – صلى الله عليه وسلم – بكتاب معجز لا يظهر فيه أدنى أثر لشخصيته – صلى الله عليه وسلم – وآماله وآلامه، بل نحس إحساسا بينا بفرق ما بين هذا القرآن والحديث النبوي، ومن العسير أو الممتنع أن يفصل ذو بيان هذا الفصل الكامل بين حديثين كلاهما من قوله، وذلك إنما يدركه بوضوح الذين زاولوا الكتابة والإبداع الأدبي، وتملكوا أدوات صنعة البيان.
فأما إخباره – صلى الله عليه وسلم – عن الغيب فأمر مشتهر في سيرته، ومشتهر كذلك بعد وفاته، وأما آيات الإعجاز في كتابه الذي أنزل عليه فلم يزل المسلمون إلى هذا اليوم كلما جد في المعرفة الإنسانية جديد من وجوه الإقناع والحجاج يعودون إليه، فيجدونه – كما كان دوما – سخيا معطاء لا تنتهي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد.
ثانيا. إيمان صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – بالحق لا بالشخص:
لا يجْدي في دراسة التاريخ والشخصيات المؤثرة فيه أن نسلك هذه المسالك الغريبة؛ فإن حقيقة هذه الدعوى التي نعالجها هنا أن فئة من الناس طافوا حول سيرة محمد – صلى الله عليه وسلم – يتلمسون سقطة أو معابة، فلما أعجزهم ذلك جعل بعضهم من كماله مطعنا، قائلين إنه: اتبع لجدارة في شخصيته لا لحق كان معه، وهذا من طراز الدعوى المحضة التي تقابل بضدها، فيقال: لا ليس كذلك، دعوى كدعوى، وهذا حسبك.
على أن من هؤلاء الزاعمين من يثبت النبوة لأفراد في التاريخ مشتتين لا يعرف لهم ذكر ولا أثر، بل لايكاد التاريخ العام يذكرهم، فلا تجدهم إلا في التاريخ الديني، وهذا حال أكثر أنبياء العهدين القديم والجديد، فإذا أضفت إلى هذا الاضطرابات التاريخية والعلمية في هذين الكتابين تبين في جلاء أن الطعن في نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – عند من يؤمن بهؤلاء وكتبهم قول وراءه عصبية لا نظر منصف.
ولقد رأى المسلمون السابقون من محمد – صلى الله عليه وسلم – أكثر مما هو معهود في جنس الأنبياء، وكانوا يعرفونهم من مجاوريهم ومخالطيهم من أهل الكتاب، فكل شيء يؤمن المرء لأجله بنبي قد وجدوه في نبيهم – صلى الله عليه وسلم – وقد صار ما أظهره الله عليه من الآيات والمعجزات مادة ثرية فيما بعد لمصنفات برأسها في دلائل نبوته، حتى قال البيهقي: “فأما النبي المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم… فإنه أكثر الرسل آيات وبينات، وذكر بعض أهل العلم أن أعلام نبوته تبلغ ألفا” [3]، عدا القرآن الذي هو معجزته الدائمة.
ولقد نزع المسلمون منازع شتى في إثبات نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – حتى لم يبق وجه تثبت به نبوة لنبي إلا وجدوه لنبيهم في غير كلفة ولا اعتساف، لكن التعاليم النبوية نفسها بدت لهم واجبة الاتباع على كل حال، فهي حتى لو افترضنا أنها لم تكن وحيا فهي فضائل خلقية وسياسات عادلة.
والحقيقة أن التاريخ حفظ لنا نصا يصور وعي المسلمين الأولين بالدعوة المحمدية تصويرا صادقا، ذلك ما دار بين النجاشي وجعفر بن أبي طالب ممثلا عن مسلمي العرب المهاجرين إلى الحبشة، وفيه لا يذكر جعفر شيئا عن هذا الذي يدعيه المشككون من شخصية جذابة تأسر من استلبت مشاعرهم وألجأتهم إلى الإيمان بها دون نظر إلى ما تدعو إليه، لا ذكر لشيء من هذا المعنى الشعري المجازي الذي لا طائل وراءه ولا معنى واضحا.
وقد بدأ جعفر القصة من أولها: كما ترويها أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – بقول جعفر: «كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – قالت أم سلمة: فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله…» [4] [5].
وظاهر أن حديث جعفر هذا أوضح في منطقه وأسلم من قول من يدعي هذه الدعوى؛ فما قاله جعفر أن رجلا صالحا جاء إليهم بدعوة إلى مكارم الأخلاق التي تدعو إليها النفس السوية قبل أن تأمر بها الشرائع، فاتبعناه، ولم يقل: كما يقوله صاحب هذه الدعوى: جاء إليهم شخص له حضور وسمات نفسية أهلته لقيادة العرب، وهذه الخصائص هي سبب آيات الاتباع والفداء العجيبة التي يرويها التاريخ! فأي الرجلين تصدق إذن؟
وإن المطالعة العجْلى لمظاهر تقدير صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – له لتبْدي في جلاء أنها تجاوزت حدود الطاعة والإعجاب والحب المعهود بين الناس إلى حيث صارت آيات على خصوصية النبي – صلى الله عليه وسلم – على وجه صرف إليه القلوب والأرواح، حتى قدم على حب الأهل والذرية، وحتى فدي بالنفس والروح، وهو حب حير معاصريه، حتى قال أبو سفيان – وكان لم يسلم بعد – لزيد بن الدثنة – رضي الله عنه – حينما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه – وقد كان أسيرا عندهم -: «أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟ قال: والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي! فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا»[6]!
وهذا ومثله شيء بعيد عن قوة الشخصية وضعفها، شيء آخر ليس من هذا الجنس أصلا، إنه الحق الذي يقذفه الله في القلوب فيمحق به الباطل.
الخلاصة:
- من الشائع في كل جيل وأمة أن يظهر أناس ذو خصائص نفسية رفيعة أو ملكات ممتازة، لكن هذه الخصوصية لا تجعلهم في الحس العام كالأنبياء؛ فإن النبوة لها تفردها الخاص من جهة أنها هبة إلهية لا كسب بشري؛ ومن ثم تعثرت هذه المحاولة التي أرادت أن تجعل محمدا – صلى الله عليه وسلم – مجرد رجل يتبعه أصحابه كما يتبع التلاميذ معلمهم العظيم أو واعظهم المرشد؛ لأنها دعوى قاصرة تسوقها عصبية دينية لا بحث نزيه متجرد.
- جاءت السيرة النبوية حافلة بدلائل النبوة التي ليست من جنس المعجزات الحسية التي يعول فيها على النقل والرواية، فظهور الدعوة نفسها ونجاحها وتحقيقها أبلغ الآثار التي تعدت العرب إلى غيرهم من الشعوب، ثم مضمون الدعوة نفسه الذي انقطع تماما عن المؤثرات العربية فغدا تشريعا عالميا وأدبا عاما للإنسان أينما نشأ – ذلك كله لا تفسره دعوى قوة الشخصية وجدارتها فحسب.
- جهة إيمان صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – به منفكة عن جهة الإعجاب بشخصية فريدة أو مصلح نبيه، ولقد رأوا فيه من سمت النبوة ودلائلها أبلغ مما سمعوا به من أهل الكتاب، وما وجدوا أمارة تثبت نبوة نبي إلا وجدوا مثلها وزيادة عند نبيهم.
- فإذا ضممت إلى ذلك تلك النقلة البعيدة في الأخلاق، والآداب الاجتماعية والتشريع، وتصور العقيدة في الله واليوم الآخر، فقد استوت جميع مبررات التصديق والإيمان به نبيا يوحى إليه.
(*) شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م.
[1]. فلاسفة الشرق، أ. ف توملين، ترجمة: عبد الحميد سليم، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1994م، ص278.
[2]. ثورة الإسلام وبطل الأنبياء أبو القاسم محمد بن عبد الله، محمد لطفي جمعة، عالم الكتب، القاهرة، 1423هـ/ 2002م، ص34.
[3]. دلائل النبوة، البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ج1، ص10.
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند أهل البيت، حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه (1740)، وابن خزيمة في صحيحه (4/ 13)، برقم (2260)، وصححه الألباني في فقه السيرة، ص115.
[5]. السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: الشيخ محمد بيومي، دار الحرم للتراث، مصر، 1416هـ/ 1995م، ج1، ص210.
[6]. أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة، باب الزاي، من اسمه الزبير (2634).