ادعاء أن الخليفة المستعصم تنصر بعدما كان متعصبا للإسلام
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد أورد هذه الحكاية السيد ماركو بولو في رحلاته، ورحلات ماركو بولو شاهدة على تحامله على الإسلام.
2) هذه الرواية عن الخليفة المستعصم ليس لها سند تاريخي معروف.
3) سياق هذه الرواية نفسه يتضمن أوجه ضعفها؛ فنحن نستبعد أن يكون المستعصم قد حمل عبارة الإنجيل على حقيقتها، ثم إن فيها أمورا باطنة ليس في مقدور أحد الوقوف عليها إلا متقول مدع!
التفصيل:
أولا. ماركو بولو رحالة متعصب غير أمين فيما يرويه:
هذه فرية مضحكة اختلقها ماركو بولو – ولم يروها غيره فيما نعلم – وهو رحالة من القرن الثالث عشر الميلادي خرج من إيطاليا نحو الشرق فوصل إلى بلاد الصين في عصر أباطرة المغول، وعاد مكلفا – بطلب موجه من البابا – بإرسال بعثة تنصيرية لهذه البلاد، في وقت تصارعت فيه أديان ثلاثة هي: الإسلام، والنصرانية، والبوذية على كسب المغول إلى صفها، ونجح الإسلام في النهاية، وظفر بمعظم الغنيمة، بينما دان بالبوذية فرع المغول بالصين ومنغوليا فقط، وخرجت النصرانية صفر اليدين إلا من أفراد قلائل، وعلى المستوى السياسي والعسكري جرت محاولات للتحالف بين المغول والصليبيين بالشرق والبابوية في الغرب ضد العدو المشترك وهو المماليك المسلمين لكنها باءت بالفشل لعوامل عديدة.
ثانيا. رواية غير معروفة في المصادر التاريخية:
في هذا الجو جرت رحلة ماركو بولو، فجاءت ملاحظاته على المسلمين وبلادهم وعقيدتهم تحمل كثيرا من روح التعصب والتحامل والجهالة، ومنها هذه الفرية التي زعمها بحق المستعصم آخر خلفاء بني العباس، فلم يعرف عن المستعصم عصبية وحرص على تحويل الناس جميعا إلى دين الإسلام وتعصبه لذلك – كما تزعم الفرية، كما لم يسمع أحد بقصة هذا الراهب الذي حوله إلى النصرانية، فظل بعد ذلك يحمل حول عنقه صليبا، يخفيه تحت ثيابه، وقد وجد حول عنقه عند مصرعه، وهذه من خرافات بولو وجهالاته المبثوثة في رحلته التي تنم عن تعصبه ضد المسلمين، وتبدو هذه الروح جلية لديه في حديثه عن سكان مدينة تبريز عاصمة إيلخانات المغول بغربي إيران إذ يقول: “والسكان المسلمون قوم اتصفوا بالخيانة، والغدر والتجرد من المبادئ، وهم يعتقدون أن ملتهم ترى أن كل ما سرق أو نهب من أبناء الديانات الأخرى فهو أخذ حلال، وأن السرقة ليست جريمة، بينما يعد كل من لقي مصرعه على يد النصارى شهيدا، فلو لم يمنعهم أو يكبحهم إذن السلطان الذي يحكمهم الآن لارتكبوا أفعالا نكراء كثيرة، وهذه المبادئ شائعة بين المسلمين جميعا.
وعندما تحين منيتهم يشهدهم قسيسهم – هكذا! – ويسألهم: أيؤمنون بأن محمدا هو رسول الله حقا، فإن أجابوا بالإيجاب وأنهم يؤمنون بذلك فعلا، تحقق لهم خلاصهم في الآخرة، ونتيجة لهذه التحلة من الذنوب، وهو ما يفسح المجال لارتكاب كل معصية شائنة، نجحوا في أن يضموا إلى دينهم نسبة ضخمة من التتار – وهذا هو سر عصبية ماركو بولو وتحامله على المسلمين؛ لفشله وأمثاله في تحويل المغول للنصرانية – الذين يرون فيه وسيلة تزيح عن كاهلهم كل حظر على ارتكاب الجرائم”.
وهذا بالطبع كلام بطلانه أظهر من أن يرد عليه، وليس غريبا على صاحبه أن يزعم في حق المستعصم العباسي تحوله إلى النصرانية، وحمله الصليب!!
ثالثا. ضعف السياق الداخلي للرواية:
إن يكن النقد الخارجي للرواية يثبت ضعفها من جهة ضعف راويها، ومن جهة أن أحدا من المؤرخين الثقات لم يؤيده فيما حكاه، فضلا عن أن الملابسات التاريخية لرحلة ماركو بولو هذا تدفع إلى التزييف لحساب النصرانية، التي لم تحرز انتشارا يذكر في أوساط المغول قياسا إلى ما أحرزه الإسلام والبوذية – إن لم يكن النقد الخارجي للرواية يثبت هذا الضعف كله فإن نقد متنها داخليا، يزيد هذا الضعف ثبوتا، وذلك من جملة وجوه؛ منها:
- أن الخليفة المستعصم بالله العباسي لم يعرف عنه ما تعزوه إليه الرواية من عناية بأمر الأديان، وعقد مجالس للمناظرات والجدل، بل إن تصور الظرف الزمني لخلافته، وما لابسها من قلاقل واضطرابات سياسية وعسكرية، انتهت بمقتله، وسقوط الخلافة على يد المغول – نقول: إن تصور ذلك كله تصورا واضحا يقضي باستبعاد هذه القصة استبعادا تاما.
- أن دارس العهد الجديد يلحظ بوضوح شيوع العبارات المجازية على لسان المسيح – عليه السلام – الذي جرى في وعظه وإرشاده على التجوز والتوسع في الكلام وضرب الأمثال تعديلا من المادية اليهودية وجفائها، وهذه العبارة التي تزعم الرواية أن المستعصم تمسك بها إنما خرجت مخرج المثل لما يعطيه الإيمان – وإن كان يسيرا – من قوة للمؤمنين وأبعد شيء فيها أن يكون معناها أن كل مؤمن – وإن كان ضعيف الإيمان – بوسعه أن يخرج فيحرك جبال الأرض وتلالها؛ فذلك ما لا يعرف عن أحد قبل هذا الراهب المبتكر الذي جعله ماركو بولو بطلا لروايته.
- أن جمع الخليفة للنصارى وتحرك الجبل واهتزاز الأرض – حدث عام تتوافر الدواعي لنقله والتنويه بشأنه، كما هي العادة في مثله وما هو أقل منه صيتا وخطرا، فكيف سكت عنه المؤرخون جميعهم حتى لم يذكره غير رحالة عابر؟
- أن هذه الرواية تضمنت أمورا باطنة لا سبيل إلى معرفتها، فلو كان الخليفة حقا تنصر سرا، فمن اطلع على سره؟! ولم يكن ماركو بولو إلا رجلا من شهود الحادث لا يزيد علمه عن غيره من الحضور الذين كانوا مسلمين ونصارى، فلو أن شيئا ما بدا منه؛ لرآه المسلمون أيضا ولم يعد سرا يخفيه عنهم صونا لخلافته، وقريب من هذه الوهانة قوله: إن الخليفة كان يخفى صليبا حول عنقه، فلو كان ذا حقا؛ فمن ذا رآه وقد كان الخليفة يخفيه، ثم يقال: إن هذا الصليب عثر عليه بعد موت الخليفة، فهل كان ماركو بولو من خواص المستعصم الذين اطلعوا على حاله بعد موته؟
الخلاصة:
- إن مطالعة ما سطره ماركو بولو في رحلاته يكشف بوضوح أن الرجل إما مختلق على الحياة الإسلامية وقتذاك وإما جاهل بها لم يحسن أن يقف على خصائصها، فإذا أضفت إلى هذا أنه كان مبعوثا من قبل البابا لتنصير مغول الصين فلم يفلح فيما أرسل من أجله، أدركت باعثا قويا على الافتراء والتزوير.
- لم يعرف عن المستعصم شغله بالعقائد والأديان، حتى يجمع النصارى، ويطلب إليهم أن يحركوا الجبال أو يتحولوا عن النصرانية، ولقد كان في شغل عن هذا بالمتسلطين على خلافته على إثر الاضطرابات التي أحدثها التقدم المغولي السريع الذي انتهى بقتله، وإسقاط الخلافة.
- النقد الداخلي لهذه القصة – فضلا عن النقد الخارجي – يزيدها ضعفا وتهافتا من عدة وجوه؛ منها: أن عبارة الإنجيل مما يستبعد أن يكون المستعصم حملها على حقيقتها، وأن العهد الجديد مليء بالعبارات المجازية على لسان المسيح – عليه السلام – وأن الرواية تضمنت أمورا باطنة لا سبيل إلى الوقوف عليها، فكيف تكون دليلا على تنصر المستعصم؟!
(*) رحلات ماركو بولو، ماركو بولو، ترجمة: عبد العزيز جاويد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1995م.