ادعاء أن الصحابة الستة أهل الشورى متآمرون
وجوه إبطال الشبهة:
1) الرواية الصحيحة لقصة الشورى تنفي كل مزاعم الزاعمين، وتثبت روح الإخلاص بين الصحابة.
2) نفذ عبد الرحمن بن عوف خطة الشورى تنفيذا دل على رجاحة عقله، ونبل نفسه ونزاهته، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة.
3) كان سعد بن أبي وقاص يرى تولية عثمان بن عفان الخلافة، ولم يكن متحيزا إلى ابن عمه عبد الرحمن بن عوف، ولا يحمل تنازله لعبد الرحمن بن عوف على أنه بسبب القرابة.
4) كان علي بن أبي طالب أول من بايع بالخلافة لعثمان بن عفان بعد بيعة رئيس مجلس الشورى عبد الرحمن بن عوف مباشرة، ولم يكن حريصا على الخلافة؛ فقد قال عبد الرحمن بن عوف له: إن لم أبايعك، فمن ترشح للخلافة؟ فقال: عثمان.
التفصيل:
أولا. الرواية الصحيحة لقصة الشورى تنفي كل مزاعم الزاعمين وتثبت روح الإخلاص بين الصحابة:
لقد اهتم بعض المغرضين بقصة الشورى، وتولية عثمان بن عفان الخلافة، ودسوا فيها الأباطيل والأكاذيب، وألف جماعة منهم كتبا خاصة بذلك، فقد ألف أبو مخنف كتاب “الشورى”، وكذلك ابن عقدة وابن بابوية، ونقل ابن سعد تسع روايات من طريق الواقدي في خبر الشورى، وبيعة عثمان، وتاريخ تولية الخلافة، ورواية من طريق عبيد الله بن موسى، تضمنت مقتل عمر وحصره للشورى في الستة، ووصيته لكل من علي وعثمان إذا تولى أحدهما أمر الخلافة، ووصيته لصهيب في هذا الأمر ([1]).
يقول عثمان الخميس تحت عنوان “كيفية تولي عثمان بن عفان – رضي الله عنه – الخلافة” معتمدا على الرواية الصحيحة التي أخرجها البخاري، في مقابل رواية أبي مخنف المكذوبة:
قصة الشورى: لما طعن عمر – رضي الله عنه – جعل الخلافة في ستة نفر؛ عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
ولقد ذكر البخاري قصة طويلة في مقتل عمر – رضي الله عنه – حتى وصل إلى أنه قيل لعمر رضي الله عنه: «أوص يا أمير المؤمنين – استخلف – قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر، أو الرهط الذين توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو عنهم راض؛ فسمى عليا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدا، وعبد الرحمن بن عوف. وقال: “يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة».
فلما فرغ من دفنه اجتمعوا، فقال عبد الرحمن بن عوف: «اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم؛ فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي. وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. وهكذا تنازل ثلاثة؛ تنازل طلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص».
المرشحون إذا ثلاثة: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف.
فقال عبد الرحمن:«أيكما تبرأ من الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إلى، والله على أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم؛ فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر – وهو عثمان – فقال له مثل ذلك.
فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، وبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه» ([2]).
هذه رواية البيعة لعثمان، وهناك تفصيلات أخرى في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف، جلس ثلاثة أيام يسأل المهاجرين والأنصار حتى قال رضي الله عنه: «والله ما تركت بيتا من بيوت المهاجرين والأنصار إلا وسألتهم فما رأيتهم يعدلون بعثمان أحدا». ([3])
أي أن هذا الأمر لم يكن مباشرة في البيعة، وإنما جلس بعد أن أخذ العهد عليهما ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك اختار عثمان.
ومن المحزن أننا نرى كتب التاريخ الحديثة التي تتكلم عن حياة الصحابة تعرض عن رواية البخاري، وتأخذ رواية أبي مخنف المكذوبة في تاريخ الطبري، وهذا نصها:
“لما طعن عمر بن الخطاب قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت، قال: من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة.
ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله.
فقال له رجل: أدلك عليه؟ عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته، لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه… بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد، وانظر فإن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني (يعني: أبا بكر)، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني (يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولن يضيع الله دينه.
فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين لو عهدت عهدا؟ فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولي رجلا أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق وأشار إلى علي، ورهقتني غشية فرأيت رجلا دخل جنة قد غرسها فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته فعلمت أن الله غالب أمره، ومتوف عمر، فما أريد أن أتحملها حيا وميتا، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنهم من أهل الجنة”؛ سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم، ولست مدخله، ولكن الستة: علي وعثمان، ابنا عبد مناف، وعبد الرحمن وسعد، خالا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والزبير بن العوام حواري رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وابن عمته، وطلحة الخير ابن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلا فإذا ولوا واليا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه وإن ائتمن أحدا منكم فليؤد إليه أمانته.
فخرجوا فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم، قال: أكره الخلاف، قال: إذا ترى ما تكره، فلما أصبح عمر دعا عليا، وعثمان، وسعدا، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، فقال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو عنكم راض، إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذن منها فتشاوروا واختاروا رجلا منكم.
ثم قال: لا تدخلوا حجرة عائشة، ولكن كونوا قريبا، ووضع رأسه وقد نزفه الدم. فدخلوا فتناجوا، ثم ارتفعت أصواتهم فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله إن أمير المؤمنين لم يمت بعد، فأسمعه فانتبه، فقال: ألا أعرضوا عن هذا أجمعون، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام وليصل بالناس صهيب، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم، من لي بطلحة؟
فقال سعد بن أبي وقاص: أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله، فقال عمر: أرجو أن لا يخالف إن شاء الله، وما أظن أن يلي هذا الأمر إلا أحد هذين الرجلين، علي، أو عثمان؛ فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحرى به أن يحملهم على طريق الحق؟
وإن تولوا سعدا فأهلها هو، وإلا فليستعن به الوالي فإني لم أعزله عن خيانة ولا ضعف، ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه.
وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إن الله – عز وجل – طالما أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.
وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.
وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليا، وعثمان، والزبير، وسعدا، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة إن قدم، وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد، فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف.
وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما.
فإن رضي ثلاثة رجلا منهم، وثلاثة رجلا منهم، فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس”.
قلت – والكلام للخميس صاحب كتاب “حقبة من التاريخ” -: هذه رواية أبي مخنف وفيها مخالفات ظاهرة للرواية الصحيحة التي أخرجها البخاري، ثم فيها زيادات منكرة؛ منها: استباحة عمر دماء من قال هو عنهم: “إن رسول الله مات وهو عنهم راض”!
سبحان الله! كيف يستحل عمر – رضي الله عنه – رقاب أولئك الصحابة الأجلة؛ عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، فهذا يظهر لك كذب هذه الرواية، ثم من سيجرؤ على التنفيذ؟ وهل سيترك؟
إنه التلفيق ولا شيء غير التلفيق ثم التلميح بل التصريح بأن عليا هو الأحق بالخلافة ([4]).
هكذا كان مجلس انتخاب الخليفة الثالث، يقيم عمر قبيل وفاته ديوانا للمرشحين للخلافة يتكون من ستة صحابة أجلاء، ثم يسند إلى صحابي منهم مسئولية أن يتولى رئاسة عملية انتخاب الخليفة الجديد، وكانت الأغلبية العظمى من الأمراء والرؤساء والصحابة الكرام بالمدينة في صف عثمان، فتم اختياره خليفة ثالثا للمسلمين في أروع مظاهر الشورى والاتفاق، بعيدا عن التعصب والتحزب والتحيز.
ثانيا. تنفيذ عبد الرحمن بن عوف خطة الشورى وما فيه من إيثار لمصلحة المسلمين العامة:
يقول د. عبد القادر عطا صوفي: “يزعم بعض الغلاة أن عبد الرحمن بن عوف كان من أعداء آل محمد، وأنه عمل على صرف الخلافة عن علي لما جعل عمر بن الخطاب أمر الخلافة شورى بين ستة؛ أحدهم علي، ومال إلى صهره عثمان([5])، وتظاهر على علي مع من حضر فأرغموه على مبايعة عثمان. وقد استدلوا على ذلك بروايات ذكروها في كتبهم؛ منها:
- ما رواه الطبري بإسناد فيه أبو مخنف، وهشام الكلبي، أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لما خرج من عند عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بعدما طعن وجعل الأمر شورى في الستة، تلقاه العباس بن عبد المطلب فقال له علي: عدلت عنا، فقال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان – وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله إني لا أرجو إلا أحدهما ([6]).
- ما رواه المفيد في كتابه “الجمل”: أن عبد الرحمن بن عوف لما صفق يده على يد عثمان نهض أمير المؤمنين علي، وقال: مال الرجل إلى صهره ونبذ دينه وراء ظهره”. وفي رواية قال لعبد الرحمن بن عوف: “حركك الصهر وبعثك على ما صنعت، والله ما أملت منه إلا ما أمل صاحبك من صاحبه”.
وكذلك زعموا أن عبد الرحمن بن عوف جعل الخلافة لعثمان على أن يردها عليه، فغدر به عثمان، فأظهر ابن عوف كفر عثمان وجهله وطعن عليه في حياته، وزعم ولد عبد الرحمن بن عوف أن عثمان سمه فمات.
وقد استدلوا على ذلك أيضا بما نسبوه إلى علي من أنه قال لعبد الرحمن بن عوف لما هدده بالقتل إن لم يبايع عثمان: “والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك”، وزعموا أن المقداد هدد عبد الرحمن بن عوف بمقاتلته؛ وذلك لأنه بايع عثمان كي يرد الأمر إليه، وزعموا أن عبد الرحمن قال للمقداد إثر ذلك: “يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة”. واستدلوا أيضا بقول علي لليهودي في محاورة له: إن الخلافة “أزلها عني إلى ابن عفان طمعا… “.
وذكر البياضي أنه كانت بين عبد الرحمن وعثمان مشاحنة وبغضاء بعد تولي عثمان الخلافة؛ “فقال عثمان لابن عوف: يا منافق. فقال: متى نافقت أفي توليتي إياك؟ أم برضاي بمن لم يكن رضا؟” وذكر هؤلاء الغلاة أن عبد الرحمن قال: ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي عثمان: يا منافق، لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما وليت عثمان شسع نعلي، اللهم إن عثمان قد آلى أن لا يقيم كتابك فافعل به وافعل”.
وهذه الأقوال التي أوردها هؤلاء، كلها من تلفيقهم، فرواة أسانيدها أمثال أبي مخنف، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه هشام، وهم من الكذابين ولا يعتد بخبرهم، وما نسبوه إلى عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – من أقوال كلها محض افتراء عليه، كيما يطعنوا في الصحابة من خلالها، فيصوروهم بأنهم طلاب دنيا ورئاسة، يغشون المسلمين حتى يحققوا مآربهم وينالوا أغراضهم، والله يعلم وعباده المؤمنون يعلمون أن الواقع كان خلاف ما ادعوه؛ فعبد الرحمن بن عوف نفذ خطة الشورى تنفيذا دل على رجاحة عقله، وحصافة رأيه، ونبل نفسه، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة ونفعه الفردي، فلم يبايع لعثمان حتى سأل عنه الناس كلهم فوجدهم لا يعدلون به أحدا.
جاء أن عبد الرحمن بن عوف قال لعلي: «إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان»([7]). وكان عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – قد قام باستطلاع سري لمعرفة رأي الناس؛ حيث خرج متلثما فكان لا يسأل أحدا عن رأيه فيمن يكون الخليفة بعد عمر إلا ويقول: عثمان، وهذا الاستطلاع الواسع ينفي نفيا قاطعا أية شبهة تدعى ضد عبد الرحمن بن عوف، وهو يثبت نزاهته وحرصه الشديد على تأدية المهمة الموكلة إليه وتبليغ الأمانة التي لزمت عنقه.
ولقد كانت بيعة عثمان مرضية عند الناس جميعهم، لم يتخلف عنها أحد، ولم يتسخطها متسخط، بل اجتمعوا عليه راضين به محبين له، وقد بايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون، فكيف يقال: إن عبد الرحمن مال إليه؛ لأنه صهره، فآثره على غيره؟!
ومما يؤكد نزاهة عبد الرحمن بن عوف أنه قد ترك عن طواعية ورضا أعظم منصب يطمح إليه إنسان في الدنيا، ليجمع كلمة المسلمين، وكان بإمكانه أن يحوز هذا المنصب – كما أشار إلى ذلك بعضهم – لكنه أخذ في تعرف رأي الأمة من عامتها وضعفائها فوجدهم لا يعدلون أحدا بعثمان، وكان قبل ذلك قد تعرف على رأي أصحاب الشورى، فانتهى إلى شبه انتخاب جزئي فاز فيه عثمان برأي سعد بن أبي وقاص، ورأي الـزبـيـر بـن الـعـوام، ثم عمد إلى معرفة رأي كل واحد من الإمامين – عثمان وعلي – في صاحبه فعرف من كل واحد منهما أنه لا يعدل بصاحبه أحدا إذا فاته الأمر.
روى الطبري بسنده أن عبد الرحمن بن عوف بعث إلى علي فقال له: “إن لم أبايعك فأشر علي، فقال: عثمان. ثم بعث إلى عثمان فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: علي. ثم قال لهما: انصرفا، فدعا الزبير فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: عثمان. ثم دعا سعدا فقال: من تشير علي، فأما أنا وأنت فلا نريدها، فمن تشير علي؟ قال: عثمان… إلخ” ([8]).
فعبد الرحمن لا يريد الخلافة كما صرح بذلك، ولا أدل على صدق قوله من خلعه نفسه وتنازله عن حقه في الخلافة لكي يختار خليفة يسوس أمور المسلمين، يكون مرضيا عنه من سائر المسلمين.
وما زعموه من عداء حدث بين عثمان وعبد الرحمن ادعوا حدوثه أيضا بين عثمان، وعدد من الصحابة أمثال عمار وابن مسعود وأبي ذر وعائشة وحفصة وغيرهم، حتى إنهم صوروا هذا الصحابي الجليل الحيي بأنه لا هم له إلا مقاتلة إخوانه الآخرين من الصحابة، وضربهم والوقيعة فيهم، مع أن من له أدنى معرفة بسيرته وأخلاقه يدرك كذب ما رماه الشيعة به ويقول: سبحانك هذا بهتان عظيم ([9]).
ثالثا. لم يكن سعد بن أبي وقاص متحيزا إلى ابن عمه عبد الرحمن بن عوف، بل كان رأيه تولية عثمان بن عفان:
فعندما اجتمع الصحابة الستة بعد فراغهم من دفن عمر – رضي الله عنه – قال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم؛ فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي، وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. ولا ينبغي أن يحمل تنازل سعد إلى ابن عمه عبد الرحمن على أنه بسبب القرابة بالضرورة.
ورواية الطبري السالف ذكرها، تذكر أن سعدا أشار على عبد الرحمن باختيار عثمان؛ فقد روي أن عبد الرحمن بن عوف بعث إلى على فقال له: “إن لم أبايعك فأشر علي، فقال: عثمان. ثم بعث إلى عثمان فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: علي. ثم قال لهما انصرفا، فدعا الزبير فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: عثمان. ثم دعا سعدا فقال: من تشير علي: فأما أنا وأنت فلا نريدها فمن تشير علي؟ قال: عثمان… إلخ” ([10]).
أما ما يستند إليه من يدعي تحيز سعد لابن عمه؛ فهي بعض الروايات المغلوطة؛ إذ ادعوا، أن سعد بن أبي وقاص لم يكن يخالف ابن عمه عبد الرحمن، بل صرح الكاشاني أن سعدا كان ميالا لتولية عبد الرحمن فقال له: “إن بايعك عثمان فأنا لكما ثالث”.
وهذا الكلام إن صح – وهو غير صحيح لكذبهم وافترائهم على الصحابة – فليس واجبا بالضرورة أن يكون قد قال بسعد – رضي الله عنه – لما بينهما من القرابة، ولا سيما في هذا الجو الذي كان يعيشه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينما كان يقف المهاجري مع الأنصاري ضد أبيه، أو أخيه، أو ابن عمه، وبني عشيرته، مع معرفتنا الصحيحة بأحوال هؤلاء النخبة من المبشرين بالجنة، فالأحداث الكثيرة التي رويت عن هؤلاء تثبت أنهم كانوا أكبر بكثير من أن ينطلقوا من هذه الزاوية الضيقة في معالجة أمورهم، فليست القضية قضية تمثيل عائلي أو عشائري، فهم أهل شورى لمكانتهم في الإسلام.
رابعا. لم يكن علي – رضي الله عنه – حريصا على الخلافة، أو متآمرا عليها؛ بل كان المبايع الثاني لعثمان، عن رضا ودون إجبار من أحد:
ذكرت بعض الروايات المكذوبة أن عليا – رضي الله عنه – لم يكن راضيا بأن يقوم عبد الرحمن بن عوف باختيار الخليفة، فقد ورد عن أبي مخنف وهشام الكلبي عن أبيه، وأحمد الجوهري أن عمر جعل ترجيح الكفتين إذا تساوتا إلى عبد الرحمن بن عوف، وأن عليا أحس بأن الخلافة ذهبت منه؛ لأن عبد الرحمن سيقدم عثمان للمصاهرة التي بينهما، وزعموا أيضا أن عليا كان كارها لخلافة عثمان، راغبا في عدم إتمامها ولو بالقوة، بيد أنه لقلة الناصر امتنع عن مجاهدتهم، ويذكرون أنه ناشد الصحابة يوم الشورى أن يسلموا الأمر إليه، وذكرهم بفضائله الكثيرة التي خص بها من دونهم، ولكنهم أصموا آذانهم عنها، ولم يرجعوا له قولا.
وقد نفى ابن تيمية أي ارتباط في النسب القريب بين عثمان وعبد الرحمن فقال: فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه، ولا من قبيلته أصلا، بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية، وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي – صلى الله عليه وسلم – ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا خالي، فليرني امرؤ خاله» ([11]).
ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري، وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك، وقد ادعت روايات ملفقة محاباة عبد الرحمن لعثمان للمصاهرة التي كانت بينهم، متناسية أن قوة النسب أقوى من المصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى تناسوا طبيعة العلاقة بين المؤمنين في الجيل الأول، وأنها لا تقوم على نسب ولا مصاهرة ([12]).
وقد كان علي – رضي الله عنه – يرى صحة إمامة عثمان – رضي الله عنه – ولا يقول بفسادها؛ وذلك لاجتماع المهاجرين والأنصار على عثمان، ورغبتهم فيه، ولكونهم لا يعدلون به أحدا من الناس.
والإمام إذا اجتمع عليه المهاجرون والأنصار صارت خلافته مرضيا عنها من الله – عز وجل – ولم يكن لأحد الخيار في أن يرد بيعته بعد ذلك، كما نسب بعضهم ذلك إلى علي بن أبي طالب، حيث قال: “إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما، كان لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.
وهذا ما حصل بالنسبة لخلافة عثمان: “فإنه قد علم بالتواتر أن المسلمين كلهم – بما فيهم المهاجرون والأنصار – اتفقوا على مبايعة عثمان، ولم يختلف عن بيعته منهم أحد”. ولقد كان علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – هو المبايع الثاني لعثمان بعد عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – على أن هؤلاء أنفسهم – إلا من شذ منهم – يعترفون بأنه بايعه، ولكنهم يقولون إنما بايعه خوفا وتقية.
على أن دعوى الخوف والتقية هذه هي الأخرى لا تسلم لهم؛ إذ لا دليل عليها، وما نسبوه إلى علي من مناشدته الصحابة يوم الشورى من الكذب أيضا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولم يقل علي – رضي الله عنه – يوم الشورى شيئا من هذا، ولا ما يشابهه، بل قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: لئن أمرتك لتعدلن؟ قال: نعم. قال: وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن؟ قال: نعم. وكذلك قال لعثمان. ومكث عبد الرحمن ثلاثة أيام يشاور المسلمين.
وقد حكم بوضع خبر المناشدة كل من ابن الجوزي في كتابه الموضوعات، وقال: “هذا حديث موضوع لا أصل له”، والذهبي في ميزان الاعتدال، وابن حجر في لسان الميزان، والسيوطي في اللآلئ المصنوعة.
ولم يكن علي – رضي الله عنه – حريصا على الخلافة حتى يتآمر عليها، ولو كان كذلك لقبلها بعد استشهاد الخليفة عثمان – رضي الله عنه – ذكر ابن أبي الحديد أن الناس لما أتوا عليا يريدون مبايعته بالخلافة بعد استشهاد عثمان، امتنع عن قبول البيعة وقال لهم: “دعوني والتمسوا غيري، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإني كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا” ([13]).
الخلاصة:
- فرق شاسع بين رواية البخاري لقصة الشورى، ورواية أبي مخنف المكذوبة؛ إذ تصف الأولى عملية انتخاب الخليفة الجديد في جو من الشورى، والاتفاق، بعيدا عن التعصب والحزبية وغلبة الأهواء الشخصية، على حين أن بالرواية الأخرى زيادات منكرة ومخالفات ظاهرة، كاستباحة عمر دماء من توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو عنهم راض.
- تثبت الروايات الصحيحة أن عبد الرحمن بن عوف نفذ خطة الشورى تنفيذا دل على رجاحة عقله، ونبل نفسه، ونزاهته، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة، وأن اختياره لعثمان خليفة لم يكن تحيزا له أو رغبة في صرف الخلافة عن علي.
- لم يكن سعد بن أبي وقاص أيضا متحيزا إلى ابن عمه عبد الرحمن بن عوف، بل كان يرى تولية عثمان بن عفان، وهو ما يتفق مع معرفتنا بهؤلاء النخبة من الصحابة الأجلاء.
- معلوم أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لم يحرص على الخلافة حتى يتآمر عليها، بل كان المبايع الثاني للخليفة الجديد طوعا راضيا غير مجبر؛ بل إنه لما سأله عبد الرحمن بن عوف: إن لم أبايعك، فمن ترشح للخلافة؟ فقال: عثمان.
- لو كان علي – رضي الله عنه – حريصا على الخلافة متآمرا عليها – كما يقولون – إذن لقبلها بعد استشهاد عثمان – رضي الله عنه – وقد أتيحت له تلك الفرصة للمبايعة فامتنع عنها وقال للناس: “أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا”.
(*) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم، دار هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.
[1]. عثمان بن عفان، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص78، 79 بتصرف.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه (3497).
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب كيف يبلغ الإمام الناس (6781).
[4]. حقبة من التاريخ، عثمان بن محمد الخميس، مكتبة الإمام البخاري، مصر، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص109: 116 بتصرف يسير.
[5]. ذكر المرتضي والطوسي أن ابن الكلبي قال: “عبد الرحمن زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأمها أروى بنت كريز، وأروى أم عثمان؛ فلذلك قال صهره”. وستأتي مناقشة قضية ارتباط عثمان وعبد الرحمن في النسب.
[6]. أخرجه الطبري في تاريخ الرسل والملوك (2/ 581).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس (6781).
[8]. أخرجه الطبري في تاريخ الرسل والملوك (2/ 585).
[9]. انظر: موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج3، ص1248 وما بعدها.
[10]. تاريخ الرسل والملوك، ابن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1987م، ج5، ص40.
[11]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (3752)، والحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب ذكر مناقب أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6994).
[12]. عثمان بن عفان، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص79.
[13]. عثمان بن عفان، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص79. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص883: 886، ص1093، 1094.