ادعاء أن الصحابة انتهكوا حرمة الأشهر الحرم
وجه إبطال الشبهة:
لقد برأ القرآن الكريم الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحابته – رضي الله عنهم – من هذه التهمة؛ إذ قرر أن الكفر بالله، والصد عن سبيله، وإخراج المسلمين من مكة والمسجد الحرام أشد إثما من القتال في الأشهر الحرم، ولذلك كان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم.
التفصيل:
بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة، في عام 2 هـ، في اثني عشر رجلا من المهاجرين، “وكان – صلى الله عليه وسلم – كتب له كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: “إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم”، فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم غير أنه لما كان في أثناء الطريق، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اجتمعوا على اللقاء، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة”[1].
وتفيد بعض الروايات أن الصحابة ظنوا أن هذا اليوم الذي وقع فيه القتال هو آخر يوم من جمادى الآخرة، والدليل على ذلك أنهم ندموا على ما فعلوه بعد ما تبين لهم، فقد كانوا يعلمون حرمة الأشهر الحرم، وحرمة القتال فيها، فقد ذهب عبد الله بن جحش ومعه ستة من المهاجرين إلى “بطن نخلة” فوجدوا عمرو بن الحضرمي ومعه ثلاثة على عير لقريش، فدخلوا معهم في معركة، وكان هذا اليوم في ظنهم هو آخر جمادى الآخرة، لكن تبين لهم فيما بعد أنه أول رجب، أي أنه أحد أيام شهر حرام.
وقتل المسلمون ابن الحضرمي، قتله وافد بن عبد الله من أصحاب عبد الله بن جحش، وأسروا اثنين ممن معه، وفر واحد، فلما حدث هذا، وتبين لهم أنهم فعلوا ذلك في أول رجب، عند ذلك اعتبروا أن قتالهم وغنائمهم مخالفة لحرمة شهر رجب. [2]
فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، فلما قال ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا؛ وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال… حتى نزل قوله تعالى: )وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة: ٢١٧)»[3].
نعم. لقد نزلت هذه الآيات تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة، ولكن: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير( (البقرة: ٢١٧). لقد قطعت هذه الآيات كل قول، وفصلت في الموقف بالحق، فقبض الرسول – صلى الله عليه وسلم – الأسيرين والغنيمة[4].
فالله – سبحانه وتعالى – يقول للمشركين في هذه الآيات: “نحن مسلمون أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير، ولكن انظروا يا كفار قريش إلى ما صنعتم مع عبادنا، وقارنوا بين كبر هذا وكبر ذاك، أنتم تقولون: إن القتال في الشهر الحرام مسألة كبيرة، ولكن صدكم عن سبيل الله وكفركم به، ومنعكم المسلمين من المسجد الحرام، وإخراج أهل مكة منها أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فلا تفعلوا ما هو أكبر من القتال في الشهر الحرام، ثم تأخذكم الغيرة على الحرمات”[5].
“فقد صرح الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها؛ فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم، وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة”[6]؟
إن المسلمين لم يبدءوا بالقتال، ولم يبدأوا بالعدوان، ولكن المشركين هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله؛ فلقد كفروا بالله، وجعلوا الناس يكفرون، وكفروا بالمسجد الحرام، وانتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة، وأخرجوا أهله منه، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه[7].
إن التلويح بحرمة الشهر الحرام كلمة حق أريد بها باطل، فهي مجرد ستار كان يحتمي خلفه المشركون، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي، وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء، والإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر، وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان.
ولذلك وجب على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم؛ لأنهم عادون باغون أشرار لا يرقبون حرمة ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم[8].
الخلاصة:
- لقد وجد المشركون فيما حدث في سرية نخلة فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد انتهكوا حرمة الشهر الحرام، ولكن القرآن الكريم نزل ليؤكد براءة المسلمين من هذه التهمة، قال تعالى: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة: 217).
- أفادت بعض الروايات أن المسلمين ظنوا أن هذا اليوم الذي وقع منهم القتال فيه هو آخر يوم من جمادى الآخرة، لذلك ندموا على ما فعلوا بعدما تبين لهم خطؤهم، حيث سقط في أيديهم، وظنوا أنهم هلكوا حتى أنزل الله براءتهم.
- لقد صرح القرآن الكريم بأن القتال في الشهر الحرام إثم كبير، ولكن ما عليه المشركون أكبر وأعظم؛ فهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء، بإخراج أهله منه؛ ولذلك كان على المسلمين أن يقاتلوهم في أي مكان وزمان.
(*) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم، دار هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.
[1]. الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد، السعودية، 1418هـ/ 1998م، ص200.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، قطاع الثقافة، مصر، ج2، ص929 بتصرف يسير.
[3]. إسناده حسن: أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب السير، باب البكاء عند التشيع (8803) بلفظ: أنه بعث رهطا فبعث عليهم أبا عبيدة، وأبو يعلي في مسنده، مسند جندب بن عبد الله البجلي (1534) بلفظ: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث رهطا، وحسن إسناده سليم أسد في تعليقاته على مسند أبي يعلي (1534).