ادعاء أن العقوبات في الإسلام تشهير وفضائح: لاتأديب وإصلاح
وجها إبطال الشبهة:
1) العقوبات في الإسلام شرعت؛ لتقويم السلوك الإنساني، وحماية المجتمع من هذه الجرائم التي تهدد المجتمعات الإنسانية، وتقضي على مقوماتها الأساسية: الأعراض والأموال والعقول والأرواح.
2) لقد قررت الشريعة الإسلامية من القواعد والمبادئ ما يكفل سلامة المجتمع ويضمن تطبيق العقوبات، ويراعي حقوق الإنسان وكرامته، حتى لو كان مجرما؛ لاشتمالها على أرقى المبادئ الجنائية.
التفصيل:
أولا. قصد الشارع الحكيم من فرض هذه الحدود:
كان الهدف الرئيسي من فرض الحدود هو تقويم السلوك الإنساني، وحماية المجتمع من هذه الجرائم التي تهدد المجتمعات الإنسانية بالقضاء على مقوماتها الأساسية: الأعراض، والأموال والعقول والأرواح، ويعرض لنا د. حسني الجندي هذا الأمر قائلا:
فهناك من النوازع الشريرة التي يستجيب لها الإنسان؛ فينتهك الأعراض في غفلة من ضميره؛ مدفوعا بدافع الغريزة الجنسية، ومستسلما للمثيرات الخارجية، أو يسرق الأموال مدفوعا بدافع التملك، وقد يشرب الخمر؛ تلبية لنداء شهوة عارضة، وقد يقطع الطريق، مستوليا على أموال الناس، ومزهقا أرواحهم؛ استهانة منه بالأحكام الشرعية، والتقاليد المرعية؛ ولذلك حارب الإسلام هذه الجرائم، ووضع لها من العقوبات الرادعة ما يجنب المجتمع شر الوقوع فيها. فشرعت الحدود عقابا على هذه الجرائم؛ وردعا لمرتكبيها، وتقويما لسلوكهم، وعظة لغيرهم؛ حتى لا يقعوا في مثل ما وقع فيه هؤلاء المعتدون، وهو ما يؤكده قوله – عز وجل – في عقاب الزنا: )وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور: ٢)، وبذلك: صان الإسلام الأعراض، فلم تنتهك بفعل أو قول، ومن انتهكها بفعل حد حد الزنا، ومن انتهكها بقول حد حد القذف.
ومما سبق يتضح لنا حرص الإسلام على حماية الأعراض، وصيانتها بسائر الوسائل الممكنة، ومن بين هذه الوسائل سن التشريعات الكفيلة بحمايتها، والمحافظة عليها. إذ لا يخفى – علينا – ما في انتهاكها من أخطار جسيمة: على الأسرة، والمجتمع؛ فالأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، فإذا فسدت فسد المجتمع الذي يتكون منها، وإذا صلحت صلح المجتمع، وصار جديرا بالحياة.
كما صان الإسلام الأموال، واحترم الملكية الفردية؛ تشجيعا للعامل، وأخذا بيد المجد إلى الأمام؛ «فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»[1]. وقد حاربت الشريعة الإسلامية الدوافع النفسية إلى جريمة السرقة بعوامل نفسية تصرف الإنسان عن ارتكابها، فإذا ساومت الإنسان الدوافع الشريرة، قاومتها الصوارف النفسية التي ولدتها عقوبة القطع؛ فينصرف عن ارتكاب جريمته.
وصان الإسلام العقول؛ فحرم الخمر لما فيها من ضرر يلحق العقل، ولما فيها من قضاء على الأموال في غير طائل.
وحرصا من الإسلام على حماية النفوس البريئة، والأموال والملكيات؛ فقد شرع عقوبة لهؤلاء الذين ينهبون الأموال، ويقتلون الأنفس؛ معتمدين على قوتهم وشوكتهم قال سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)( (المائدة).
ومع ذلك فلا يغرب عن البال: أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات، ثم إنه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفاديا لتوقيع الحدود، إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هذه الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة، وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن، بل إن تطبيق بعض الحدود كالجلد – بأصوله الشرعية – أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في غياهب السجون مدة من الزمن – قلت أو كثرت – وأما الرجم فهو مجرد قتل بوسيلة إعلامية زاجرة، تمثل انتقام المجتمع ممن سطا على الأعراض[2].
ويستمر د. حسني الجندي في عرض أغراض العقوبة بصفة عامة، وتحديدها قائلا: والهدف الأخير للعقوبة، – أو الغرض الحقيقي لها – هو حماية الحقوق والمصالح التي قدر الشارع أنها جديرة بالحماية الجنائية – وهي بلا شك حقوق فردية واجتماعية – ومكافحة الإجرام.
ولكن نظام العقوبات، وتطبيقها يهدف إلى إدراك هذا الهدف عن طريق أغراض أخرى قريبة لها، يعد تحقيقها بمثابة الوسيلة إلى بلوغ ذلك الهدف، بل إن تحقيق هذه الأغراض – أو الوسائل – يتم بالسعي إلى إدراكها عن طريق وسائل أخرى يرجى من وراء تحقيقها تحقيق الوسائل السابقة، والتي يرمى منها بدورها إلى إبراز الغرض الحقيقي والوحيد.
وإذا كان السائد في الوقت الحاضر أن غرض العقوبة هو إصلاح المجرم وتأهيله في المجتمع؛ فإن هذا الغرض لا يفهم مجردا دون الإلمام بفهم الأغراض الأخرى.
وقد نالت أغراض العقوبة الاهتمام البالغ من المفكرين؛ فكانت الأنظمة القديمة تحدد للعقوبات أغراضا تهدف إليها، واستقر الرأي على أن للعقوبة نوعين من الأغراض، أو نوعين من المقاصد – كما يقول علماء الشريعة -: مقاصد مادية وأخرى معنوية. وبالجملة، هي في النظام الوضعي ثلاثة أغراض: تحقيق العدالة، والردع العام، والردع الخاص. ويمكن أن يضاف إليها أغراض أخرى، كالجبر وإصلاح المجرم.
والله – عز وجل – قصد بأحكام الشريعة إقامة المصالح الأخروية والدنيوية معا، وما دامت كذلك، لا بد أن يكون وضعها على هذا الوجه أبديا، وكليا، وعاما، في جميع أنواع التكليف، والمكلفين، وفي جميع الأحوال، أي – كما جاء في قول الله: )إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (40)( (مريم).
يستخلص مما تقدم أن:
- الإسلام ضرب حول كل جريمة خطيرة سياجا؛ ليمنع المسلم من الاقتراب منها؛ فدعا إلى الأخذ بالحلال وترك الشبهات، عملا بما بقول النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[3].
- الشريعة الإسلامية وإن أبعدت الإنسان عن طريق الجريمة – بأن حاولت القضاء عليها في مهدها، وقبل أن تبدأ داخل النفس – فإنها أيضا وعدته بالجزاء الحسن على مجرد عدم ارتكابها.
- لا ينبغي أن نغفل أن الإسلام وضع نظاما موازيا لنظام العقوبات، هو نظام التوبة؛ كي يحول بين الإنسان وبين التردي في هاوية اليأس، والأمل في الوصول إلى رضا الله – عز وجل – عنه، فتسعه مغفرته ورحمته، ويتم له التطهر من الآثام[4].
ومن هنا يتبين لنا أن هذه العقوبات جاءت صيانة للمجتمع، وتأمينا لأفراده عموما؛ إذ ليس الهدف من تطبيق العقوبات على أفراد بعينهم تشهيرا بهم، وفضحا لهم، وإن كان التشهير بواحد في المجتمع يتنافى مع الأمر بالستر، إلا أن فيه ردعا لمن تسول له نفسه بأن يسعي في زلزلة المجتمع كله، فإن العضو المريض إذا استأصل صلح الجسد كله وإن ترك فسد الجسد كله.
ثانيا. لقد قررت الشريعة الإسلامية من المبادئ ما يكفل سلامة تطبيق العقوبة:
ومن انعكاسات حقوق الإنسان الإسلامية على العقوبات أن الشريعة الإسلامية قررت في مجالها القواعد العامة الآتية:
- أن الأصل في الإنسان على وجه العموم براءة ذمته من ارتكاب كافة الجرائم:
وهذا الأصل يستصحب في التعامل معه حتى يقوم الدليل القطعي – الذي لا شك فيه ولا شبهة – على أنه ارتكب جرما منها، وعبء إثبات ذلك على الذي يتهمه – كائنا من كان من فرد أو سلطة – وليس عليه هو بداية أية تبعة لإثبات براءته الأصلية؛ لأنها حق أساسي له يولد معه باعتباره إنسانا، ويظل مستصحبا في التعامل معه حتى يثبت نقيضه بأدلة الجرم المعتمدة شرعا في كل جريمة.
وقد ثبتت هذه القاعدة بالقرآن والسنة؛ حيث قال سبحانه وتعالى: )لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (13)( (النور)، كما ورد في الحديث: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه»[5]. ومن هنا جاءت القاعدة الأصولية: “ليس على النافي دليل؛ إنما الدليل على المثبت الذي يتولى عبء الاتهام”.
وبناء على هذه القاعدة يتبين أنه ليس من الإسلام ما تقوم به السلطات الغاشمة من النظر للمواطن ومعاملته على أن الأصل فيه أنه مجرم، وأن عليه أن يثبت العكس، كما أنه ليس من الإسلام تعذيب المتهم الذي ليس عليه دليل شرعي ليعترف بجريمة ما، وأن الصواب: هو أن الاعتراف الذي نشأ عن التعذيب لا قيمة له؛ حيث يرى جمهور الفقهاء أنه لا يجوز تعذيب المتهم، وأن إكراهه أو تعذيبه يجعل إقراره باطلا، وهذا القول هو المتفق مع مجموع نصوص الشريعة، وقواعدها.
- ليس من الإسلام حرمان المتهم من حق الدفاع عن نفسه بكل طريق حينما يوجه له الاتهام، وله الحق في توكيل من يعهد إليه بالدفاع عنه ممن يرى أنه ألحن بحجته، وأقدر على إثبات براءته أو عذره.
- عند إثبات الجرم لا بد من اعتبار ثلاثة أمور:
- طرق الإثبات الشرعية التي وردت في النصوص: فالزنا – مثلا – يثبت إما: بالإقرار، أو البينة، أو ظهور الحمل على المرأة دون أن يكون لها زوج يمكن أن يكون الحمل منه.. وفي كل تفصيل ينبغي أن يراعى:
o فالإقرار: لا بد أن يكون إقرارا حرا ليست فيه أية شبهة لإكراه، أو نحوه مما يعيب الإقرار ويجعله كأن لم يكن، ويسقط كافة آثاره في العقاب. ولا بد أن يراجع متلقي الإقرار المقر عدة مرات حتى يشهد على نفسه أربع شهادات؛ كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع ماعز حين أقر على نفسه بالزنا. كذلك لا بد من الاستيثاق من أهلية المقر الكاملة لترتب آثار الإقرار عليه، كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع ماعز في الحديث السابق، فإن كانت التي تقر امرأة – وكانت حاملا – أمهلت حتى تضع حملها، وتفطمه بعد عامين كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع الغامدية، ثم إن الإقرار في عقوبته لا يجاوز المقر نفسه إلى من ادعى أنه شاركه الجرم، كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وقائع المعترفين بالزنا في عصره، بخاصة في حديث العسيف.
كذلك لو تراجع المقر عن إقراره – حتى عند الشروع في تنفيذ العقوبة فيه – فإنه يجب أن يخلي سبيله على الفور.
o أما البينة: فهي أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا الجريمة بأعينهم بكافة تفاصيلها الجسدية الدقيقة جدا، ولا يكون هناك أدنى اختلاف بينهم في هذه التفصيلات، وإلا سقط الحد عن المدعى عليهما، والحقيقة أن إثبات الزنا بهذه البينة أمر يكاد يكون – في التطبيق العملى – مستحيلا؛ إذ كيف يتأتى لعاقل أن يفعل هذا الفعل بحيث يشهد تفصيلاته الدقيقة أربعة شهود، إلا إذا كان في العراء، أو نحوه، وقصد أن يراه الشهود، وإلا فإنه يستطيع أن ينزع إذا ما أحس بحركتهم؛ فلا يتحقق عندئذ ركن الشهادة المهم ويسقط الحد!
أما إن ترك نفسه بحيث يراه الشهود: ففي عقله عندئذ شك يثير الشكوك في أهليته للعقاب؛ ويمثل شبهة تسقط الحد! ولذلك لا نعجب حين نعلم أنه لم يثبت أنه أقيم حد الزنا بالبينة الشرعية على أحد في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا عصر الخلفاء الراشدين.
وأرى أنه لا تقبل في العصر الحديث تسجيلات الصورة، والصوت ونحوهما كبينة مقبولة على الجرم التزاما بحدود ما أتى به النص الشرعي السابق: )لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (13)( (النور)؛ولأن احتمال التدليس الفني في الصورة والصوت قائم، ويمثل شبهة تدرأ الحد، وإن أوجبت التعزير بشروط؛ لأن الواضح من تحري مقاصد الشريعة أنها تحض على درء الحد عن المسلم إذا قام أدنى احتمال – مهما يكن ضئيلا جدا – في صالحه.
o أما ظهور الحمل على المرأة التي لا زوج لها: فإنه يجب على السلطان والقاضي أن يقدم بحث احتمال الغصب أو الخطأ المسقط للحد قبل أي شيء آخر، ويعتبر دفع المرأة بشيء من ذلك شبهة تسقط الحد، كما فعل فقيه الشريعة الأكبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد ذكر أبو يوسف عن النزال بن سبرة قال: بينما نحن بمنى مع عمر إذ امرأة ضخمة على حمار تبكي، قد كاد الناس أن يقتلوها من الزحمة عليها وهم يقولون لها: زنيت.. زنيت، فلما انتهى – الجمع – إلى عمر قال: ما شأنكم؟! إن المرأة ربما استكرهت. فقالت: كنت امرأة ثقيلة الرأس، وكان الله يرزقني من صلاة الليل؛ فصليت ليلة ثم نمت.. فوالله ما أيقظني إلا رجل قد ركبني ثم نظرت إليه مقفيا ما أدري من هو من خلق الله؛ فقال عمر: لو قتلت هذه خشيت على الأخشبين النار. ثم كتب إلى أمراء الأمصار ألا تقتل نفس دونه – أي: لا تقتل نفس مع الإكراه -.
والإكراه المعنوي يستوي – في الفقه الصحيح – مع الإكراه البدني؛ حيث ذكر ابن القيم وغيره «أن عمر أتي بامرأة استسقت راعيا، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، فقال لعلي: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة: )فمن اضطر غير باغ( (البقرة:١٧٣)، فأعطاها عمر شيئا وتركها»[6].
ويقوم الجهل بأحكام الشريعة – حين تتوفر أسبابه – مقام الإكراه في إسقاط الحد؛ حيث يذكر أن عمر أتي بامرأة قد زنت، فسألها عن ذلك، فقالت: نعم يا أمير المؤمنين، وأعادت ذلك وأيدته! فقال علي: إنها لتستهل به استهلال من لايعلم أنه حرام، فدرأ عنها الحد. وعلق ابن القيم فقال: “وهذا من دقيق الفراسة”.
- الشروط الشرعية الأخرى التي أوردتها الشريعة لتطبيق الحد:
وعلى سبيل المثال فقد أوردنا مجملا لما لا يقام فيه حد السرقة من عشرات الوقائع التي تسمى عرفا سرقة، لكن لاحد فيها، وهكذا الأمر في بقية الحدود.
- أنه لا جرم إلا بنص شرعي واضح يقضي بتجريم الفعل:
عملا بالقاعدة القرآنية: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء).
- أن الجريمة شخصية يختص بآثارها العقابية من اقترفها:
وذلك عملا بالقاعدة القرآنية الثابتة:)ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: ١٦٤)، وأن: )لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم( (النور:١١)، وكذلك: )ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى( (فاطر: ١٨)، وأن: )من يعمل سوءا يجز به( (النساء: ١٢٣)، )ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)( (الزلزلة). والآيات في هذا كثيرة.
وبهذا يتبين أنه ليس من الإسلام في شيء ما تقوم به النظم الظالمة الباطشة بشعوبها من عقاب غير الجاني – من قرابته ونحوهم – ومن تعدية أثر الجريمة عليهم وهم أبرياء تماما من الجرم، أو التحريض عليه، لكنها شهوة الانتقام الجماعي البربرية الوحشية عند هذه النظم.
وعندما ضرب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بالسيف ضربة الموت، قال: لابنه الحسن ولبني عبد المطلب: «يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون: قتل أمير المؤمنين.. قتل أمير المؤمنين ألا، لا يقتلن إلا قاتلي. انظر يا حسن، إن أنا مت – من ضربته هذه – فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل؛ فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إياكم والمثلة، ولو أنها بالكلب العقور»[7]. ومن ثم لا يحمل الإسلام في ذلك ما قامت، وتقوم به نظم غاشمة ظالمة تنتسب إليه في الجملة، لكنها تخالف قواعده ونصوصه ومقرراته.
كذلك ليس من الإسلام في شيء ما تقوم به هذه النظم من حبس وتعذيب، وغصب لنساء الجاني وأبويه وأشقائه لإذلاله أو الضغط عليه لتسليم نفسه، أو الاعتراف على شركائه. وكل هذا – وما يماثله – خروج على القرآن والسنة والفقه الصحيح للإسلام، ومستحق للعقاب في الدنيا والآخرة.
- أن الشبهات تسقط العقوبات مهما كبرت الجريمة وصغرت الشبهة:
عملا بقاعدة “درء الحدود بالشبهات”. فإن بعض الفقهاء يرون أن الحدود لا تثبت بخبر الآحاد؛ لأن ورود الحد في رواية خبر آحاد يعتبر في ذاته شبهة دارئة للعقوبة، لما فيه من احتمال – ولو كان ضئيلا جدا – لأن يكون قد تعرض عند تحمله، أو روايته لشيء – ولو يسيرـ من التغيير المؤثر في المعنى المراد، وهذا – في حد ذاته – شبهة مسقطة للعقوبة.
ويقوي هذه الشبهة – عند من يقول بها – ورود القرآن الكريم بخلاف الحكم الوارد في أخبار الآحاد. وقد سبق التمثيل لهذا بحديث: «من بدل دينه فاقتلوه»[8]. في حكم الردة.
- أنه لا بأس بالعفو والشفاعة في الحدود وعقوباتها قبل أن يرفع الأمر إلى الحاكم لا بعده:
وذلك في حديث أسامة حين شفع في المخزومية التي سرقت، وكما قال الشوكاني: “ينبغي أن يقيد المنع من الشفاعة بما إذا كان الرفع إلى الإمام، لا إذا كان قبل ذلك؛ لما في حديث صفوان بن أمية أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له – لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه، فشفع فيه -: «هلا كان قبل أن تأتيني به»[9]. وقال صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»[10]. و«لقي الزبير سارقا فشفع فيه، فقيل له: حتى يبلغ الإمام، قال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع»[11].
قال النووي: “أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام، لهذه الأحاديث، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه، فأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه.
وأما المعاصي التي لاحد فيها، وواجبها التعزير؛ فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا؛ لأنها أهون. ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى، ونحوه. وهذا تقرير وتقسيم جيد من النووي.
ومن مجموع هذه القواعد يتبين أن التشريع الإسلامي له نظامه الخاص في التجريم، والعقاب، ومراعاة حقوق الإنسان بمفهومه الخاص للحياة والكون – وليس بالمفهوم الغربي – كما جاء في “البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام”، فهذه الحقوق مصدرها الخالق العظيم – عز وجل – الذي كرم الإنسان – بصرف النظر عن لونه، وجنسه، ووضعه الاجتماعي، وغناه، وفقره، وكافة أوضاعه الخاصة – ومنحه حق الحياة، وحق الحرية، وحق المساواة، وحق العدالة الذي يتمثل في براءته الأصلية، وحقه في محاكمة عادلة، وحقه في الحماية من تعسف السلطة، وحمايته من التعذيب بكافة أنواعه، وحماية عرضه وسمعته، وحقه في اللجوء إلى حيث يأمن عند اضطهاده وظلمه… إلى آخر ما عرضنا له في هذا البيان من حقوق اقتصادية، واجتماعية، وسياسية.
وفيما يتصل بالعقوبات خاصة، فإن المنطلق الصحيح لفهم التشريعات الإسلامية وإدراك تفوقها على غيرها – يتمثل في معرفة أنها تعنى بالماضي والحاضر والمستقبل وهي مكونات الزمن من وجهة إدراك البشر؛ فالجريمة وقعت في الماضي ولا بد من عقاب مناسب عليها لجبر ما أحدثته بالمجني عليه، ولا بد من أن يكون هذا العقاب عادلا مقنعا للمجني عليه أو أوليائه؛ بترميم آثاره عندهم كما أنه لا بد من أن يحتوي هذا العقاب على عنصر الزجر من تكرار الجناية في المستقبل من الجاني نفسه وغيره، وهنا يساعد ركن العلنية في تنفيذ العقاب في إحداث هذه الآثار كلها في نفس المجني عليهم والجاني وغيرهم من الناس: )ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور).
أما النظم الوضعية التي تأخذ بإحدى نظريات العقاب المعروفة: فهي إما أن تنظر في فلسفة العقاب للمستقبل ولا تنظر إلى الماضي والحاضر، وإما أن تتجه إلى جبر الماضي وترميم وحده! فتركز على تناسب العقاب مع الجرم.
وكذلك فإن العقوبات الإسلامية تراعي في مجموعها أمر المجني عليه، كما تراعي حال الجاني، وظروف جريمته، أما الفلسفات الوضعية – كما سبق – فهي تركز أساسا على مراعاة حال الجاني والحدب عليه وانتحال المعاذير التي كثيرا ما تكون غير صادقة عليه له كما سبق، وهي – على وجه العموم – لاتهتم بالمجني عليه نصف اهتمامها بالجاني، وهذا قصور هائل فيها نجد أثره واضحا في كثرة الجرائم – والتعدي على الأبرياء في المجتمعات الغربية التي تطبق هذه الفلسفات الوضعية؛ إذ يقل فيها جدا عنصر الزجر عن الجريمة، ويستهين المنحرفون بالعقوبة.
ونظرة واحدة إلى إحصاءات أنواع الجرائم المختلفة في المجتمعات الغربية كافية للدلالة القطعية على ذلك؛ حيث يقاس وقوع الجرائم المتنوعة في المدن الغربية الكبرى: لندن وباريس، وميلانو، وهامبورج، ونيويورك… وغيرها بالدقيقة – لا باليوم، ولا بالسنة -، فيقال مثلا: إنه تسرق في روما سيارة كل 14 دقيقة، وفي ميلانو: كل 15دقيقة، بينما تحدث في الولايات المتحدة حادثة غصب جنسي للنساء كل دقيقة، وتتفوق لندن في جرائم سرقة المنازل التي وصلت إلى قرابة مائة ألف سرقة كل عام – أي بمعدل 270 سرقة في اليوم الواحد -، وتتفوق باريس وبرلين وميلانو في جرائم النشل، كذلك تتفوق برلين في جرائم القتل… إلخ.
والإحصاءات في هذا مرعبة بحق، ويكفي أن نعلم أنه من الثابت أن الذي يبلغ عنه في جرائم الاغتصاب الجنسي الفاحش يقل عن 10% مما يقع فعلا على النساء اللاتي يخشين الفضيحة في بلاد تبرئ الجاني إذا أثبت محاميه البارع أن الفعل الجنسي حدث برضاء المرأة؛ حيث لا تجريم للزنا مطلقا إن حدث برضاء الطرفين، وكذلك الأمر في اللواط بين البالغين. والذي يتابع الصحف اليومية في الغرب، وبرامج التليفزيون فيها يعرف في وضوح وجلاء أن الجريمة بكافة أنواعها قدر يومي يعم المجتمعات الغربية التي تحدث فيه (في مجموعها) عشرات الآلاف من الجرائم والتعديات في كل يوم! وجزء غير يسير من هذه الجرائم يقع على الأطفال من الجنسين من غصب جنسي، وتعذيب بدني، واستخدام في الدعارة، وتصوير ذلك كله وبيعه للساديين – الذين يستمتعون بإيذاء الغير – في صورة أفلام كثيرا ما تنتهي بقتل الضحية البريئة وتعذيبها، والأعجب من هذا ما تطالعنا به وسائل الإعلام الغربية من كون الجاني هو الأب أو العم أو الخال ممن يوكل إليه رعاية الصغير!
ولو أردنا أن نحصي أنواع الجرائم في الغرب، وعدد كل منها لطال بنا الأمر جدا، ولتملكنا رعب وفزع عظيمان مما آلت إليه البشرية الراقية – بزعمهم – هناك! ويكفي أن نعرف أن إنجلترا شغلت في شهر يناير 2001م بحكاية الطبيب الذي قتل أكثر من مائتين وخمسين من مرضاه قبل أن يكتشف أمره!
فإذا ما قارنا هذا كله بما في الدول الإسلامية التي تطبق النظام الإسلامي في التجريم والعقاب – وما يسودها من أمن وأمان على كليات الإنسان الخمس: دينه، ونفسه، وعرضه، وعقله، وماله – لعلمنا أين توجد الطمأنينة الصحيحة على وجه الأرض…
وتكفي نظرة واحدة إلى إحصاءات الجريمة في المملكة العربية السعودية التي يقصدها كل عام ملايين الناس للحج، والعمرة، والعمل؛ لنعلم أي الفريقين: )خير مقاما وأحسن نديا (73)( (مريم)، )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)( (الأنعام)، )إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)( (ق) [12].
الخلاصة:
مما سبق بيانه يتضح – لكل ذي بصيرة – أن العقوبات في الإسلام؛ ما شرعت إلا لصالح المجتمع، وتقديم السلوك الإنساني وليست من أجل التشهير بالمجرمين أو لمجرد تعذيبهم والقسوة عليهم، ومن أهم الأصول المحققة لهذه الأهداف النبيلة ما يلي:
- أن تكون العقوبة بحيث تمنع الكافة عن الجريمة قبل وقوعها، فإذا ما وقعت الجريمة كانت العقوبة بحيث تؤدب الجاني على جنايته وتزجر غيره على التشبه به وسلوك طريقه، وفي هذا يقول بعض الفقهاء عن العقوبات: “إنها موانع قبل الفعل، وزواجر بعده، أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل، وإيقاعها بعده يمنع العود إليه”.
- إن حد العقوبة يتوقف على حاجة الجماعة ومصلحتها؛ فإذا اقتضت مصلحة الجماعة التشديد شددت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة التخفيف خففت العقوبة، فلا يصح أن تزيد العقوبة أو تقل عن حاجة الجماعة ومدى الضرر الواقع عليها.
- إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم استئصاله من الجماعة، أو حبس شره عنها، وجب أن تكون العقوبة: هي قتل المجرم، أو حبسه عن الجماعة حتى يموت ما لم يتب أو ينصلح حاله.
- إن كل عقوبة تؤدي لصلاح الأفراد وحماية الجماعة هي عقوبة مشروعة فلا ينبغي الاقتصار على عقوبات معينة دون غيرها.
- إن تأديب المجرم ليس معناه الانتقام منه، وإنما استصلاحه، والعقوبات على اختلاف أنواعها تتقنن كما يقول بعض الفقهاء في أنها: “تأديب واستصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب”. والعقوبات إنما شرعت رحمة من الله – عز وجل – بعباده فهي صادرة عن رحمة الله بالخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم، والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض، ويلاحظ في التأديب أنه يختلف باختلاف الأشخاص؛ فتأديب أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».[13] ولأن المقصود من التأديب الزجر عن الجريمة وأحوال الناس مختلفة فيه: فمنهم من ينزجر بالنصيحة، ومنهم من يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب، ومنهم من يحتاج إلى الحبس[14]، فالعبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة.
(*) التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م.
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث عم أبي حرة الرقاشي عن عمه رضي الله عنهما (20714)، وأبو يعلى في مسنده، مسند عم أبي حرة الرقاشي (1570)، وصححه الألباني في الإرواء (1459).
[2]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص194 وما بعدها.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (52)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (4178) بنحوه.
[4]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص48 وما بعدها.
[5]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (1341)، والدارقطني في سننه، كتاب الوصايا، باب خبر الواحد يجب العمل (8)، وصححه الألباني في الإراواء (2661).
[6]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الطلاق، باب الحد في الضرورة (13654) بنحوه، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الحدود، باب من زنى بامرأة مستكرهة (16827) بنحوه، وصححه الألباني في الإرواء (2313).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب النهي بغير إذن صاحبه (2342) بنحوه.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله (2854).
[9]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان (3086)، وابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز (2595)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2595).
[10]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان (4378)، والنسائي في المجتبى، كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون (4886)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف مسند أبي داود (4379).
[11]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان (3087) موقوفا، والطبراني في المعجم الصغير، حرف الهمزة، باب الألف من اسمه أحمد (158).
[12]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م، ص120 وما بعدها.
[13]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25513)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه (4377)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (638).
[14]. التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م، ص610 وما بعدها.