ادعاء أن القرآن الكريم يثبت وقوع النبي – صلى الله عليه وسلم – في المعصية
وجها إبطال الشبهة:
1) إن العتاب الذي وجه للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الآيات – مناط الاستشهاد – ليس إلا لاختياره – صلى الله عليه وسلم – الحسن مع وجود الأحسن، وسياق الآيات شاهد على ذلك، وهي – مع ذلك كله – تبين عظيم مكانته وفضله عند ربه في الدنيا والآخرة.
2) اشتملت آيات العتاب في القرآن الكريم على بعض الحكم والأسرار؛ لكي تستفيد منها الأمة في حياتها؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان أسوة لأمته يجب عليهم اتباعه.
التفصيل:
أولا. التنبيهات الموجهة إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – في القرآن الكريم، هي مجرد عتاب له لاختياره الحسن مع وجود الأحسن:
معلوم أن الأنبياء أئمة المجتهدين؛ حيث يجتهدون في الأمور التي لم ينزل فيها الوحي، سواء أكانت أحكاما أم أمورا شخصية أم أمورا اجتماعية، وفي معظم الأحوال تتوافق هذه الاجتهادات تماما مع المراد الإلهي، وفي أحيان قليلة قد لا تصيب هذا الهدف تماما مع أنهم يتحرون الرضا الإلهي على الدوام، وقد يعد بالنسبة لمستواهم الرفيع خطأ؛ لأن عليهم أن يحققوا ما يريده الله بدقة، ولكن خطأهم في الاجتهاد لا يعد ذنبا أبدا ولا يخل بعصمتهم؛ لذا فلا يحاسبون عليه[1].
- ونحن إذا تأملنا قوله تعالى: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2)( (عبس) نرى أن هذه الآيات لم تثبت للنبي – صلى الله عليه وسلم – ذنبا، ولكنها من باب العتاب في اختيار الحسن وترك الأحسن؛ وذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مشغولا ذات يوم بدعوة أشراف قريش إلى الإسلام، وإذا بعبد الله بن أم مكتوم يجيء ويسأل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن بعض الأمور الدينية، وكان عبد الله رجلا أعمى، شرف بهداية الإسلام من قبل، ولم يقدر تشاغله – صلى الله عليه وسلم – بدعوة هؤلاء الزعماء، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – حريصا على هدايتهم كل الحرص، وكان يتألفهم ويستميلهم إليه طمعا في أن يسلموا، فلا تلبث جماهير العرب أن تقتدي بهم في إسلامهم، ولكن عن أي شيء جاء هذا الصحابي يسأل؟ إنه مسلم، فطبيعي أنه لن يسأله عن ماهية الإسلام أو كيفية الدخول فيه، بل جاء يستزيده من الهداية والعلم ويقول: “يا رسول الله، علمني مما علمك الله”.
وجد الرسول – صلى الله عليه وسلم – نفسه بين قوم غلاظ مشركين يدعوهم إلى الإسلام، ورجل وديع مسلم يستزيده من العلم، فآثر الإقبال على أولئك الصناديد، وعبس في وجه ابن أم مكتوم هذا وأعرض عنه، ليس استهانة به ولا غضا من شأنه، ولكن حرصا على هداية هؤلاء المشركين، وخوفا من أن تفوت هذه الفرصة السانحة لدعوتهم، فأنزل الله تعالى على رسوله تلك الآيات السالفة، يعاتبه فيها ذلك العتاب الإرشادي، ويفهمه أن حرصه على الهداية ما كان ينبغي أن يصل به إلى حد الإقبال الشديد على هؤلاء الصناديد، وهم عنه معرضون، ولا إلى حد الإعراض العابس في وجه هذا الضعيف الأعمى، وهو عليه مقبل.
وكأني بك تحس معي حرارة هذا العتاب، وذلك لتقرير مبدأ من المبادئ العالية، هو الإعراض عن المعرضين مهما عظم شأنهم، والإقبال على المقبلين مهما رق حالهم[2].
فليس ثمة إثبات ذنب للنبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الآيات؛ لأنها إعلام لنا أن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى، فالخطاب لنا.
وفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – لما فعل، وتصديه لذاك الكافر، كان طاعة لله، وتبليغا عنه، واستئلافا له، كما شرعه الله له، لا معصية أو مخالفة له.
وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله عز وجل: )وما عليك ألا يزكى (7)( (عبس).
ونخلص مما سبق إلى أن ما في الآيات السابقة ليس إلا عتابا من الحق سبحانه على ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مما ظهر له صلاحه وترجح عنده نجاحه، وكان الواقع الذي قدره الله – عز وجل – بخلاف ذلك، والعتاب لا يقتضي ولا يلزم منه أن يكون بعد ذنب أو مخالفة كما هو الجاري بين الناس في معاملاتهم، فقد يعاتب الأخ أخاه والحبيب حبيبه على ترك الأولى، بل على ترك الأكمل[3].
وهذا يدل على عصمته – صلى الله عليه وسلم – من الوقوع في أي ذنب يستوجب اللوم أو الذم. إذن كان فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – من العبوس والإعراض، وتصديه لذلك الكافر؛ طاعة لله – عز وجل – وتبليغا لدعوته كما أمره ربه واستمالة للكافر رجاء إسلامه؛ لأن الله – عز وجل – أمره بالتبليغ والدعوة ولين الجانب لمن يدعوه، وعليه فلا معصية ولا مخالفة لله عز وجل.
- وإذا انتقلنا إلى قوله عز وجل: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال)، فإننا نجد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن مذنبا فيما فعله، وهذا يوضحه العرض الآتي:
قال عز وجل: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69)( (الأنفال).
نزلت الآيات وكأنها تحمل تنبيها للرسول صلى الله عليه وسلم، مفاده أنه لا يجوز أن يكون لنبي أسرى، إذن فما العمل بالنسبة للأسرى؟ ماذا يفعل بهم؟ يجب ألا يكون للنبي أسرى، حتى يقوي وضعه دون الحاجة إلى معونة من أحد، أي ما كان له إطلاق الأسرى حتى مقابل الفدية؛ لأن هذا سيسرع من تمكين المؤمنين في الأرض ويقويهم ويعجل وصولهم إلى توازن مع أعدائهم، ويجعل منهم قوة، والرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه يهدفون إلى الوصول إلى هذه الغاية أيضا. إذن هناك اجتهاد، ولكن كان هناك اجتهاد أفضل وأحسن، أي أنكم اجتهدتم وأخذتم الحسن وغاب عنكم الأحسن الذي يريده الله – عز وجل – منكم، ولولا أنه كتب في القدر ألا أعاقبكم فيما أخذتم لجاءكم عذاب عظيم، ولكن هذا الكتاب وهذا الحكم موجود منذ الأزل؛ لذا فلن يأتيكم مثل هذا العذاب.
إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما قام برد المشركين على أعقابهم في معركة بدر نزل النصر بردا وسلاما على قلوب المؤمنين، وكأنه أطفأ بذلك حريقا دام في قلوبهم خمس عشرة سنة؛ لأنه لم يبق هناك ألم لم يتجرعوه من هؤلاء الكفار، ولم يبق هناك ظلم لم يصبهم منهم، فقد أخرجوهم من ديارهم وبيوتهم وأهليهم في مكة، تحملوا كل هذه الآلام والدموع دون أن يدافعوا عن أنفسهم، فقد كان ذلك ممنوعا عليهم حتى وقت قريب، ثم صدر لهم الإذن بالدفاع عن أنفسهم لأنهم ظلموا: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39)( (الحج). أجل، أصبح المؤمنون مخولين بالدفاع الفعلي عن أنفسهم ومقابلة القوة بالقوة، فكانت معركة بدر أول معركة كبيرة بين المؤمنين والكفار حيث انتصر فيها المسلمون وأسروا عددا كبيرا من الكفار.
فماذا يفعلون في هؤلاء الأسرى؟ كانت هذه الحادثة الأولى من نوعها وهذه مسألة لم يكن لها أي حكم إلهي سابق أو أي إيضاح سابق، وهنا قام الرسول – صلى الله عليه وسلم – كعادته دائما واستشار أصحابه، فالذي يتقرر في هذه المشورة هو الذي سيعين كيفية التعامل مع الأسرى.
كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحب إطلاق سراح هؤلاء الأسرى، تمشيا مع خلقه اللين وكذلك مع التوجيه الإلهي السابق له؛ لأن القرآن الكريم خاطبه ووجهه في هذا الاتجاه: )فاصفح الصفح الجميل (85)( (الحجر)، )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة( (النحل: ١٢٥)؛ حتى أصبح العفو والصفح طبعا من طبائعه وخلقا من أخلاقه، وأصبح أي تصرف يخالف هذا غير متوقع منه؛ ذلك لأن القرآن الكريم كان يمدحه ويقول: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم)، ولكل فرد نصيب معين من الخلق، أما هو – صلى الله عليه وسلم – فله الخلق الكلي الشامل لكونه في الذروة من التخلق بخلق الله تعالى.
كان خلقه وقناعته تميلان نحو العفو على الدوام، ومع ذلك كان يستشير أصحابه في كل شأن، فاستشار أولا أبا بكر رضي الله عنه، فكان جوابه: «يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فيكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام فيكونوا لنا عضدا»، ثم توجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: «ما ترى يا ابن الخطاب؟ فأجابه عمر رضي الله عنه: “والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان – قريب لعمر – فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان – أخيه – فيضرب عنقه؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم».
وأخيرا استقر رأي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع رأى أبي بكر – رضي الله عنه – منجذبا إليه من طبيعة حلمه وخلقه اللين المتسامح، وطمعا في أن يهديهم الله – عز وجل – للإسلام في المستقبل فيكونوا له عضدا.
ولنستمع إلى بقية الحادثة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ يقول: «فهوي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة – شجرة قريبة من النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنزل الله عز وجل: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض( إلى قوله: )فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا( (الانفال: 69) فأحل الله الغنيمة لهم»[4].
إن الله – عز وجل – أعطى نبيه الإذن والصلاحية والقابلية للاجتهاد، فقام بهذا الاجتهاد وتوصل إلى الحسن، ولكن الله – عز وجل – كان يريد لأحب مخلوق لديه أن يصل إلى الأحسن والأجمل؛ ولهذا السبب قام بتنبيهه وتذكيره، أي لا يوجد هنا ذنب أو إثم، ثم يجب الانتباه إلى الأسلوب المستعمل في الآيات الكريمة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال).
وكلمة “لولا” في اللغة العربية تستعمل عند “امتناع الشئ لوجود غيره”، إذن يجب الانتباه عند ذلك إلى معنى الآية التي تقول بأن حكما صدر منذ الأزل وأنه تبعا لذلك الحكم ستأخذون الغنيمة وتستفيدون منها.
فكأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – اجتهد في هذا الحكم الإلهي من ذلك الوقت، ولكن استباق هذا الحكم آنذاك كان حسنا، أما انتظار صدور الحكم فكان هو الأحسن[5].
نخلص من كل ما سبق إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن مذنبا فيما فعله، وذلك من وجوه متعددة:
- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عمل بذلك بمقتضى المشاورة التي أمره الله – عز وجل – بها في قوله عز وجل: )وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159)( (آل عمران).
- أنه – صلى الله عليه وسلم – جنح إلى رأي من قال بالفداء، لما فيه من الرحمة والعطف واللين، بمقتضى المقام الذي أقامه – عز وجل – فيه، وهو قوله عز وجل: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء).
- أن فعله – صلى الله عليه وسلم – كان موافقا لما سبق من الكتاب الأول، الذي قضى الله تعالى فيه حل الغنائم له – صلى الله عليه وسلم – خاصة، ولم تحل لأحد قبله، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما – في قوله عز وجل: )لولا كتاب من الله سبق( (الأنفال: ٦٨) يعني: في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم.
- كما أن قبوله – صلى الله عليه وسلم – الفداء، وافق قضاء الله – عز وجل – السابق في الكتاب الأول, كما أنه وافق أيضا الشرع اللاحق، النازل في الكتاب الحكيم، وهو قوله عز وجل: )فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا( (الأنفال: 69)، فكيف يقال في أمر وافق الكتاب الأول ووافق الشرع النازل بعده: إنه خطأ؟
- أن نزول التشريع بإحلال الغنائم، وهو قوله عز وجل: )فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا( (الأنفال: 69)، هو إقرار لما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتصويب لما رآه؛ إذ لو كان فعله خطأ فكيف يقره عليه ويجعله شرعا باقيا؟
- لو كان موقفه – صلى الله عليه وسلم – مع أسرى بدر خطأ لأمره الله – عز وجل – أن يرد الفداء، وأن يستغفر الله – عز وجل – من الخطأ الذي وقع فيه، ولكنه – عز وجل – أقره على ذلك وشرع له الغنيمة فقال عز وجل: )فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا( (الأنفال: 69)، فلو كان ما فعله خطأ لما أقره الله – عز وجل – عليه. ومن ثم فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يشيد بهذه النعمة – نعمة حل الغنائم لهذه الأمة دون غيرها – في جملة من المناقب التي خصه الله تعالى بها فيقول: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي… وأحلت لي الغنائم، ولم تكن تحل لأحد قبلي» [6] [7].
“والحقيقة أن التحذير الوارد هنا والدرس المراد تلقينه هو للمسلمين جميعا، أما بالنسبة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم يكن له من قبل – ولن يكون له من بعد – أي ميل للدنيا، فهذا التحذير موجه للمسلمين في شخص الرسول – صلى الله عليه وسلم – لكي يعتبروا من جهة، ولا تمس كرامتهم من جهة أخرى، وهنا يتبين مدى الحساسية التي تبديها التربية الإلهية عند توجيه خطابها للمستمع” [8].
- أما قوله عز وجل: )عفا الله عنك لم أذنت لهم( (التوبة: 34)، فإن المرء عندما ينظر إليه يتخيل وكأن هناك ذنبا تم اقترافه، ولكن الأمر بخلاف ذلك، فالآية تفيد تكريم النبي – صلى الله عليه وسلم – وتعظيمه وبيان عظيم فضله ومكانته عند الله – عز وجل – بأعظم ما يكون البيان؛ خلافا لمن وهم ففهم منها عتابه أو تأنيبه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يخالف أمرا ولا نهيا، يستوجب ما فهمه ذلك الواهم.
فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما عزم على الخروج إلى تبوك استأذنه بعض المنافقين في التخلف لأعذار أبدوها، فأذن لهم فيه لسببين:
o أن الله – صلى الله عليه وسلم – لم ينزل حكما في ذلك بأمر ولا نهي.
أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يرد أن يجبرهم على الخروج معه، فقد يكون في خروجهم على غير إرادتهم ضرر؛ فأنزل الله – عز وجل – هذه الآية ليبين له أن ترك الإذن لهم كان أولى، لما يترتب عليه من انكشاف الصادق من الكاذب فيما أبدوه من الأعذار، واستفتح رب العزة ما أنزله بجملة دعائية هي قوله عز وجل: )عفا الله عنك لم أذنت لهم( (التوبة: ٤٣) على عادة العرب في استفتاح كلامهم بهذه الجملة أو بقولهم: غفر الله لك، أو جعلت فداك، أو نحوها، يقصدون تكريم المخاطب إذا كان عظيم القدر، ولا يقصدون المعنى الوصفي للجملة.
ولو بدأ رب العزة حبيبه ومصطفاه بقوله عز وجل: )لم أذنت لهم( (التوبة: ٤٣)، لخيف عليه من هيبة هذا الكلام، لكنه – عز وجل – برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه، ثم قال له: لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب؟ وفي هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب.
وبعض المتوهمين يعتقدون أن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذنب، ولكن هذا قول من يجهل لغة العرب في استفتاح كلامهم بهذه الجملة ونحوها، يقصدون بها تكريم المخاطب، إذا كان عظيم القدر، تحاشيا منهم عن جعل الاستفهام أول كلام للمعظم.
وليس قوله “عفا” هنا في الآية بمعنى “غفر”، أي: ستر وترك المؤاخذة، بل بمعنى: لم يلزمك شيئا في الإذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إني قد عفوت عنك عن صدقة الخيل والرقيق، ولكن هاتوا ربع العشر، من كل أربعين درهما، درهما» [9].
ولم تجب عليهم زكاة في خيل ورقيق قط، أي: لم يلزمكم ذلك، فليس معناه: إسقاط ما كان واجبا، ولا ترك عقوبة هنا[10].
وصفوة القول أن يقال: إما أن يكون صدر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذنب أو لا؛ فإن قلنا: لا! امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله عز وجل: )لم أذنت لهم( إنكارا عليه، وإن قلنا: إنه صدر عنه – حاشا لله – فقوله عز وجل: )عفا الله عنك( يدل على حصول العفو، وحصول العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه.
فثبت على التقديرين المذكورين، أن قوله تعالى: )لم أذنت لهم(ليس فيه ما يدل على كون الرسول – صلى الله عليه وسلم – مذنبا، وهذا جواب شاف كاف قاطع.
- أما قوله عز وجل: )ووضعنا عنك وزرك (2)( (الشرح)، فمن تفكر في سياق الآية يجد أنها تظهر منة الله على نبيه – صلى الله عليه وسلم – وتبين عظيم مكانته وفضله عند ربه – عز وجل – في الدنيا والآخرة، مما يؤكد أن ظاهر ما يطعن في عصمته غير مراد، وإنما هو في الحقيقة من جملة ما يمدح به صلى الله عليه وسلم.
والمتأمل في الآية يجدها قد وردت بين منتين من منن الله على رسوله:
الأولى: شرح الصدر في قوله عز وجل: )ألم نشرح لك صدرك (1)( (الشرح) شرحا حسيا ومعنويا؛ ليسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق جميعا، وليكون موضع التجليات، ومهبط الرحمات.
الثاني: رفع ذكره صلى الله عليه وسلم: )ورفعنا لك ذكرك (4)( (الشرح) رفعا بلغت قمته في الشهادة التي لا يكون الشخص مسلما إلا إذا نطق بها، فضلا عن قرن اسمه – صلى الله عليه وسلم – باسم الله – عز وجل – في الأذان والإقامة، والتشهد في الصلاة، وفي خطب الجمعة، والعيدين وفي خطبة النكاح، وجعل الصلاة والتسليم عليه – صلى الله عليه وسلم – للمسلمين.
ومن ثم فلا يحق لمشكك أن يقول: إن الوزر هنا في الآية بمعنى الذنب، بل الصواب أن الوزر في الآية معناه ثقل الوحي وأعباء الرسالة، ويؤكد هذا قوله تعالى: )إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5)( (المزمل)، حيث كان الاهتمام بهما يقض مضجعه، حتى سهلهما الله تعالى عليه ويسرهما له.
والمعنى: أن الله تعالى أزال عنه كل ما كان يتحرج منه من عادات أهل الجاهلية، التي لا تلائم ما فطر الله عليه نفسه من الزكاء والسمو، ولا يجد بدا من مسايرتهم عليه، فوضع ذلك حين أوحى إليه بالرسالة، وكذلك ما كان يجده في أول بعثته من ثقل الوحي فيسره الله عليه بقوله عز وجل: )سنقرئك فلا تنسى (6)( (الأعلى) إلى قوله عز وجل: )ونيسرك لليسرى (8)( (الأعلى).
والآية تشير إلى أحوال كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في حرج منها، أو من شأنها أن توقعه في حرج، وأن الله كشف عنه ما به من حرج منها، أو هيأ نفسه لعدم النوء بها.
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلمها، كما أشعر به إجمالها في الاستفهام التقريري المقتضي علم المقرر بما قرر عليه، فلعلها ما عليه أهل الجاهلية من نبذ توحيد الله ومن مساوئ الأعمال، وكان في حرج من كونه بينهم، ولا يستطيع صرفهم عما هم فيه، ولم يكن يترقب طريقها؛ لكي يهديهم، أو لم يصل إلى معرفة كنه الحق الذي يجب أن يكون قومه عليه، ولم يطمع إلا في خويصة نفسه يود أن يجد لنفسه قبس نور يضيء له سبيل الحق، مما كان باعثا له على التفكر والخلوة والالتجاء إلى الله، فكان يتحنث (يتعبد) في غار حراء، فلما انتشله الله من تلك الوحلة بما أكرمه به من الوحي، كان ذلك شرحا لما كان يضيق به صدره يومئذ، فانجلى له النور، وأمر بإنقاذ قومه، وقد يظنهم طلاب حق وأزكياء نفوس، فلما قابلوا إرشاده بالإعراض وملاطفته لهم بالامتعاض، حدث في صدره ضيق آخر أشار إلى مثله قوله عز وجل: )لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)( (الشعراء)، وذلك الذي لم يزل ينزل عليه في شأنه ربط جأشه بنحو قوله عز وجل: )ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء( (البقرة: 272)، فكلما نزل عليه وحي من هذا أكسبه شرحا لصدره.
وكان لحماية أبي طالب إياه، وصده قريشا عن أذاه، منفس عنه، وأقوى مؤيد له ولدعوته، ينشرح له صدره، وكلما آمن أحد من الناس تزحزح بعض الضيق عن صدره.
وكانت شدة قريش على المؤمنين يضيق لها صدره، فكلما خلص بعض المؤمنين من أذى قريش بنحو عتق الصديق بلالا وغيره ينشرح صدره به، وبما بشره الله من عاقبة النصر له وللمؤمنين تصريحا وتعريضا نحو قوله في السورة قبلها: )ولسوف يعطيك ربك فترضى (5)( (الضحى)، فذلك من الشرح المراد هنا.
وجماع القول في ذلك أن تجليات هذا الشرح عديدة وأنها سر بين الله – عز وجل – وبين رسوله – صلى الله عليه وسلم – المخاطب بهذه الآية.
وأما وضع الوزر عنه فحاصل بأمرين: بهدايته إلى الحق الذي أزال حيرته بالتفكر في حال قومه، وهو ما أشار إليه قوله عز وجل: )ووجدك ضالا فهدى (7)( (الضحى)، وبكفايته مؤنة كلف عيشه، التي قد تشغله عما هو فيه من الأنس بالفكرة في صلاح نفسه، وهو ما أشار إليه قوله عز وجل: )ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى)[11].
نخلص مما سبق إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حفظ من الذنوب قبل النبوة، وعصم منها بعدها، فلا تقع منه، ووضع الوزر عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس.
- أما أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالاستغفار في الآية الكريمة: )واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106)( (النساء)، فلا يستلزم وقوع الذنب من الرسول صلى الله عليه وسلم، يتبين هذا من سوق سبب نزول هذه الآية والتي قبلها، وذلك على التفصيل الآتي:
روي عن قتادة بن النعمان قال: «ابتاع عمي – رفاعة بن رافع – جملا من الدرمك[12] فجعله في مشربة[13] وفي المشربة سلاح له – درعان وسيفاهما وما يصلحهما – فعدي عليه من تحت الليل فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح.. قال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا نارا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم.
فقال لي عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي – رفاعة بن زيد – فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سأنظر في ذلك”، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت[14]؟ قال قتادة: فأتيت رسول الله فكلمته فقال: “عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال لي: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105)( (النساء: ١٠٥)» [15].
ويلاحظ من هذا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات بشيء وإنما توقف، وأن الذي حصل منه – صلى الله عليه وسلم – هو حسن الظن ببني أبيرق، لإسلامهم، وعدم قيام دليل قوي، ولا بينة على سرقتهم، والغالب على المسلمين في ذلك العهد الصدق والأمانة، والغرض من النهي في قوله عز وجل: )ولا تكن للخائنين خصيما (105)( (النساء)، هو: ألا يحسن الظن بقوم لمجرد أنهم مسلمون، وألا يساعد من يظن أنه صاحب الحق، بل يسوي بين الخصمين في كل شيء حتى تظهر براءة أحدهما وخيانة الآخر.
ويكون أمر الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بالاستغفار من ذلك؛ لأنه أحسن الظن بقوم لأنهم مسلمون، ومال قلبه – بعد شهادة الشهود لصالحهم – إلى براءتهم.
هذه هي المحامل التي ينبغي أن تحمل عليها الآيات السابقة، وبها يتأكد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يقع منه ذنب، وغيره من الأنبياء – عليهم السلام – مثله[16].
وعلى هذا نستطيع أن نفهم كل الآيات الواردة في عتاب الأنبياء جميعهم وليس سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقط، على النحو الآتي:
- أن عتاب الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – الوارد في القرآن الكريم، هو في الظاهر عتاب، وفي الحقيقة كرامة وقربة إلى الله عز وجل، وتنبيه لغيرهم ممن ليس في درجتهم من البشر، بمؤاخذتهم بذلك، فيستشعرون الحذر، ويلتزمون الشكر على النعم، والصبر على المحن، والتوبة عند الزلة.
- أن الله تعالى يعتب على أنبيائه وأصفيائه ويؤدبهم، ويطالبهم بالنقير والقطمير من غير أن يلحقهم في ذلك نقص من كمالهم، ولا غض من أقدارهم، حتى يتمحضوا للعبودية لله عز وجل.
- أن غاية أقوال الأنبياء وأفعالهم، التي وقع فيها العتاب من الله – عز وجل – لمن عاتبه منهم – أن تكون على فعل مباح، كان غيره من المباحات أولى منه في حق مناصبهم السنية.
- المباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح في عصمتهم ومنزلتهم، فهم لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات، مما يتقوون به على صلاح دينهم، وضرورة دنياهم، وما أخذ على هذه السبيل أصبح طاعة، وصار قربة.
- أنه ليس كل من أتى ما يلام عليه يقع لومه، فاللوم قد يكون عتابا، وقد يكون ذما، فإن صح وقوع لومه، كان من الله عتابا له لا ذما؛ إذ المعاتب محبور (مسرور) والمذموم مدحور[17]، ومن هنا يتبين الفرق بين اللوم والذم، قال الشاعر:
إذا ذهب العتاب فليس ود
ويبـقى الود ما بقي العتاب
- أن العتاب إنما كان على ما حكم فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالاجتهاد، والاجتهاد محتمل الخطأ، فكان تصحيح الخطأ في اجتهاده من الله عز وجل، بتوجيهه – صلى الله عليه وسلم – إلى الأخذ بالصواب فعاد الحكم بذلك إلى الوحي.
- عدم ورود نهي عما عوتب فيه الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – حتى يكون عتابهم ثم ذما[18].
نخلص مما سبق كله إلى أن التنبيهات التي خوطب النبي – صلى الله عليه وسلم – بها لم تكن نتيجة اقتراف خطأ أو ذنب، ولكنها من قبيل اختيار الحسن مع وجود الأحسن، وهذا يشبه قيامنا بشرب ماء نقي مع وجود ماء نبع أكثر نقاء وصفاء؛ لذا فلا يجوز أبدا تناول الأنبياء بمقاييسنا الدنيوية، وإطلاق الأحكام بحقهم من هذه الزاوية، هؤلاء الذين دعوا للقصر وشرفوا بالمثول في حضور السلطان، كيف يمكن مساواتهم مع الذين بقوا خارج القصر، ولم يستطيعوا حتى الاقتراب من الباب الخارجي لحديقته؟ وكيف يمكن وزنهم بالميزان نفسه؟ تبسم الموجودين خارج القصر يعد صدقة، ولكن تبسم الماثلين في الحضور السلطاني قد يعد إساءة.. الموازين مختلفة تماما.. لذا يجب تقييم التنبيهات الواردة في القرآن الكريم للنبي – صلى الله عليه وسلم – من هذه الزاوية[19].
ثانيا. اشتملت آيات العتاب في القرآن الكريم على بعض الحكم والأسرار التي تستفيد منها الأمة في حياتها:
إن الناظر في آيات العتاب التي عاتب فيها الله – عز وجل – النبي – صلى الله عليه وسلم – أو غيره من الرسل – عليهم الصلاة والسلام – يجد أنها تشتمل على حكم وأسرار تستفيد منها الأمة في حياتها، منها:
- أن يجتهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – قدر استطاعته فيما لم ينزل فيه نص، حتى يقلده الخلق في الاجتهاد، فالمجتهد قد يخطئ أو يصيب، وإذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران، ولا ريب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان في موضع الإمامة الكبرى للخلق، فكان من حكمة الله أن يجتهد ليقلده الخلق في الاجتهاد، ولبيان مشروعية الاجتهاد فيما ليس فيه نص، وأن يخطئ في بعض الأمور، لئلا يصرفهم خوف الخطأ في الاجتهاد عنه، ما دام أفضل الخلق على الإطلاق قد أخطأ، ومع خطئه لم يمتنع عن الاجتهاد، بل عاش طوال حياته يجتهد في كل ما لم ينزل عليه فيه وحي، حتى يتقرر في الناس مبدأ الانتفاع بمواهب العقول وثمار القرائح.
- وكذلك من الحكم والأسرار في أخطاء الرسول الاجتهادية أمر له قيمته وخطره، وهو إقامة أدلة ناطقة على بشرية الرسول وعبوديته، وأنه وهو أفضل خلق الله، لم يخرج عن أن يكون عبدا من عبيد الله، يصيبه من أعراض العبودية ما يصيب العباد، ومن ذلك خطؤه في الاجتهاد، ولكن الله لا يقره على الخطأ أبدا.
- كذلك من الحكم والأسرار في ذلك العتاب، أنه دليل ناصع على عصمته وأمانته، وعلى صدقه في كل ما بلغ عن ربه، وعلى أن القرآن ليس من تأليفه ووضعه، ولكنه تنزيل العزيز الحكيم[20].
الخلاصة:
- إن الله تعالى قد جعل عصمة الأنبياء جميعهم سنة من سنن الحياة؛ لأنهم قدوة الناس وأسوتهم، وخلفاء الله في أرضه، ولكي يتم هذا الاتباع والاقتداء لا بد أن يكون الأنبياء معصومين، ثم إن عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – معروفة لنا من دراسة السيرة، وذلك منذ طفولته وإلى نهاية حياته وملاقاته ربه عز وجل.
- إن عتاب الله للنبي – صلى الله عليه وسلم – الذي ورد في بعض الآيات، لم يكن بسبب أنه ارتكب ذنبا أو إثما يقدح في عصمته صلى الله عليه وسلم، إنما لتركه لما هو أولى في علم الله المغيب عنه فيما لا وحي فيه، من الأمور التي لا تنكشف له إلا بوحي… وهي تدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – ترك الأولى والأفضل، وترك الأولى ليس بذنب.
- إن قوله عز وجل: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2)( (عبس) مجرد عتاب من الله – سبحانه وتعالى – لنبيه صلى الله عليه وسلم، وليس دليلا على أنه – صلى الله عليه وسلم – خالف أوامر ربه، أو أنه وقع في الذنب، بل هو عتاب على ترك الأولى، لتقرير مبدأ من المبادئ العالية، وهو الإعراض عن المعرضين مهما عظم شأنهم، والإقبال على المقبلين مهما رق حالهم.
- إن قوله عز وجل: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال)، لم يثبت ذنبا للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه كان من قبيل تحليل شيء أراده الله – عز وجل – لأمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تحليل الغنائم التي لم تحل لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم.
- إن من يتدبر قوله عز وجل: )عفا الله عنك لم أذنت( (التوبة) يجد أن هذا العتاب كان في أمر لم ينزل فيه وحي، بل هو اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على مدى حب الله له؛ لأن العتاب لا يأتي إلا من الحبيب لحبيبه، ففي الآية الكريمة من معاني التكريم والتعظيم ما لا يخفى، وليس فيها نسبة الذنب له صلى الله عليه وسلم.
- إن الوزر في قوله عز وجل: )ووضعنا عنك وزرك (2)( (الشرح) ليس المقصود به هنا: الذنب – كما يظنون – ولكن المقصود به هنا: أثقال الجاهلية، أو أعباء الرسالة، حيث سهلها الله عليه.
- إن أمر الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم – بالاستغفار في قوله: )واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106)( (النساء)، لا يستلزم وقوع الذنب منه صلى الله عليه وسلم، بل هو مجرد تنبيه للنبي – صلى الله عليه وسلم – كي لا يحسن الظن بقوم لمجرد كونهم مسلمين، وحسن الظن في ذاته لا يعد ذنبا.
- إن هذا العتاب من الله – عز وجل – لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ولغيره من الرسل – تعليم للأمة من بعده أن الله – عز وجل ـلا يحابي أحدا من خلقه، وهو دليل على عصمته – صلى الله عليه وسلم – وأمانته في تبليغ الوحي، ودليل كذلك على بشريته صلى الله عليه وسلم.
(*) رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء القرآن والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م. عصمة الأنبياء عن الزلات والأخطاء، أبو بكر أحمد الباقوري، دار الطباعة والنشر، جامعة مركز الثقافة السنية، الهند، ط2، د. ت. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م. سيد رسل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأباطيل خصومه، د. عبد الصبور مرزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1424هـ/2004م.
[1]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص30 بتصرف.
[2]. مناهل العرفان في علوم القرآن، الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص315، 316 بتصرف يسير. وانظر: القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص683، 684.
[3]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص103، 104 بتصرف.
[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (4687).
[5]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص77: 83 بتصرف.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب المساجد، باب قول النبي: “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” (427)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد (1191)، واللفظ له.
[7]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص111: 113 بتصرف.
[8]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص84.
[9]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند علي بن أبي طالب (1232)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزكاة، باب زكاة الورق والذهب (1790)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1447).
[10]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص168: 171 بتصرف.
[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 15، ج30، ص410: 412 بتصرف يسير.
[12]. الدرمك: الدقيق الأبيض.
[13]. المشربة: الغرفة.
[14]. الثبت: الحجة.
[15]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة النساء (3036)، والطبراني في معجمه الكبير، باب القاف، قتادة بن النعمان الأنصاري بدري يكنى أبا عثمان ويقال أبوعمر (15)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (3036).
[16]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م، ص480: 482.
[17]. المدحور: المطرود.
[18]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص168.
[19]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص76 بتصرف يسير.
[20]. مناهل العرفان، الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص311: 313 بتصرف.