ادعاء أن القرآن شهد لليهود والنصارى بالأمان والتواضع، وشهد للدين المسيحي بالداوم والخلود
وجوه إبطال الشبهة:
1) الفهم الصحيح لآية سورة البقرة يؤكد أن اليهود والنصارى ليسوا أمناء على الكتاب المقدس كما يزعمون.
2) لقد شهد القرآن للقسيسين والأحبار بالتقوى والورع والتواضع، ولكن أي القسيسين وأي الرهبان؟
3) إن الله جعل الذين اتبعوا عيسى – عليه السلام – فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ولكن من هم الذين اتبعوا عيسى – عليه السلام – حقا؟
التفصيل:
أولا. اليهود والنصارى ليسوا أمناء على الكتاب المقدس كما يزعمون:
جاء بعض اليهود، وبعض النصارى إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الحق، وهم ضالون، وكفر هؤلاء اليهود بعيسى، وجحدوا نبوته – صلى الله عليه وسلم – وأنكروا ما جاء في التوراة بشأنه صلى الله عليه وسلم.
فقام بعض النصارى، وقال: بل ليست اليهود على شيء من الحق، وكفروا بموسى وجحدوا نبوته، وأنكروا ماجاء بشأن موسى – عليه السلام – في الإنجيل، كذلك أنكروا وجوب الإيمان والتصديق به، وقد وافق قول هذين الفريقين قول الذين لا علم لهم بالكتاب، وهم أمة كانت قبل اليهود والنصارى، فجاء قول اليهود والنصارى على نسق قول هؤلاء الجهال. وقيل هم مشركو قريش الذين كانوا يعبدون الأصنام، تاركين عبادة الله – عز وجل – فجاء كلامهم وفق كلام اليهود والنصارى، وقد وصفهم الله بالجهل، أو بعدم العلم، فأنزل – سبحانه وتعالى – قوله: )وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113)( (البقرة).
فالآية لا تحتمل أي وجه من وجوه المدح، أو الثناء على اليهود أو النصارى، وكل ما تحتمله الآية، كشف الزيف الذي وصل إليه اليهود والنصارى، وما كان منهم من تحريف لكتبهم، حتى وصل الأمر لأن يفضح بعضهم بعضا، بلا مواربة ولا خجل، وذلك التضارب في الكتاب المقدس أول علامات التحريف.
فكان الأولى بهؤلاء بدلا من أن يستدلوا بالآية على أمانتهم أن يخجلوا من أنفسهم ومن سفاهتهم وضلالهم، ويكتموا حقدهم وحسدهم للمسلمين، ثم يراجعوا أنفسهم، ويسلموا القيادة والزعامة للمسلمين، ولدينهم الحنيف معلنين إسلامهم واتباعهم لنبي آخر الزمان – صلى الله عليه وسلم – الذي أخبرت عنه كتبهم، بل والذي تمنت رسلهم أن يكونوا أتباعا له؛ لفضله وشرفه ومكانة أمته قال سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( (البقرة: ٢٥٣) وقال تعالى على لسان عيسى: )ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد( (الصف: 6).
ثانيا. أي القسيسين وأي الرهبان الذين شهد لهم القرآن بالتقوى والورع؟
نعم شهد القرآن لهؤلاء القسيسين والرهبان، ولكنه شهد للرهبان والقسيسين الذين لا يستكبرون، والذين إذا سمعوا آيات القرآن، وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – فاضت أعينهم من الدمع لما عرفوا من الحق، ونادوا بصوت عال: )ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84)( (المائدة).
فإن أرادوا أن يستدلوا بالقرآن على صدقهم وأمانتهم وعدلهم وتقواهم، فلا ينبغي لهم أن يقطعوا النصوص عن سياقاتها، ويفهموا الألفاظ على ما يتناسب مع أهوائهم، فليس ذلك من الأمانة العلمية في شيء.
وأما القسيسون والرهبان الذين أخفوا الحق في كتبهم وأظهروا الباطل، غيروا الحق باطلا، وبدلوا الدين بالأساطير والخرافات، مسخوا عقول أتباعهم، وألغوها، حتى قالوا لهم: “اعتقد وأنت أعمى” فلا خير فيهم، ولا في اتباعهم، وقد هاجمهم القرآن أشد الهجوم، وأظهر عيوبهم وضلالالتهم وافتراءاتهم، ولم يمدح منهم أحدا.
فآيات سورة المائدة: )ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)( (المائدة)، آيات مادحة لا شك، ولكنها مادحة للذين اعترفوا بالحق، وسلموا أمرهم للصواب، وأما هؤلاء الضالون والمضللون فقد شنع عليهم، فقال: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة( (المائدة: 73)، وقال: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم( (المائدة: 17).
ثالثا. من الذين اتبعوا عيسى – عليه السلام – حقا؟
أهم أولئك الذين قالوا: )الله هو المسيح ابن مريم(؟ أم هم الذين قالوا: )إن الله ثالث ثلاثة( أم هم الذين قالوا: )ولد الله( (الصافات: ١٥٢)؟ أم هم الذين اعتقدوا صلب المسيح، واتخذوا لتلك العقيدة رمزا، يدقونه على أيديهم، ويعلقونه على صدورهم؟ أم هم الذين قالوا على مريم بهتانا عظيما؟ أم هم الذين حرفوا وبدلوا الدين المسيحي الحنيف بالأساطير والخرافات؟!
أي هؤلاء أتباع المسيح عليه السلام؟ وأيهم يستحق اتباع الدين المسيحي؟ لا يصلح أن يكون حاملا لكتاب قانون يخص دولة من الدول، فكيف يصلحون لحمل رسالة من الله عز وجل؟ كيف يصلحون لتبليغ دعوة أو منهج رباني؟ إن هؤلاء انقسموا إلى طوائف مختلفة، كل طائفة تسفه أحلام الأخرى؟ وتكذب أقوالها ومعتقداتها، فهل يعقل أن تكون طائفة من هذه الطوائف على الحق الذي يدعونه؟ إن تضارب الأناجيل لدليل على تحريفها وزيفها، فأولى لهم أن يسلموا للحق زمامهم وأن يذعنون لما كان في كتبهم قبل تحريفها من البشارة بالنبي الخاتم.
فأتباع المسيح – عليه السلام – حقا، هم الذين اتبعوا محمدا – عليه السلام – لما جاءتهم البينات، الذين لا يستكبرون وإذا سمعوا آيات الله تتلى فاضت أعينهم من الدمع قائلين: )ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83)( (المائدة) الذين سمعوا كلام المسيح؛ فحفظوه في صدورهم، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم – بشارة عيسى – عليه السلام – والمكتوب عندهم في الإنجيل، باعتراف النصارى أنفسهم – فاتبعوا النور الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم.
والآية التي استدلوا بها على أفضليتهم: )وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة( (آل عمران: 55) لم تشهد لهم بذلك، وإنما شهدت لمن استمسك بالدين السماوي الذي أنزل على عيسى عليه السلام، وأما غيرهم ممن بدلوا وغيروا فقد أعلن القرآن كفرهم، وبرأ عيسى من رجسهم، فقال: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة( (المائدة: ٧٣)، )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم( (المائدة: ٧٢) هذا هو رأي القرآن أو حكمه في هؤلاء النصارى.
يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور في سياق تفسيره لآية سورة المائدة: “والمراد بـ (الذين اتبعوه) الحواريون، ومن اتبعه بعد ذلك، إلى أن نسخت شريعته بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم”.[1] هذا وقد ذكر الشيخ رأيا آخر في تفسير من وجه إليه الخطاب في هذا الصدد، يقول: “ويجوز أن يكون خطابا للنبي – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين” [2].
الخلاصة:
- الآية الكريمة: )وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113)( (البقرة) نزلت في جحود اليهود للإنجيل، وجحود النصارى للتوراة، وهي لا تحمل أي مدح لليهود ولا للنصارى.
- شهد القرآن للأحبار والرهبان الذين لا يستكبرون عن اتباع الحق بالتواضع والورع، فهم الذين آمنوا بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وأشهدوا الله على إيمانهم ابتغاء أن يقبلهم الله في عباده الصالحين: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84)( (المائدة).
- أتباع المسيح عيسى هم الذين أقاموا الإنجيل السماوي وآمنوا به، بحقه ولما جاءهم محمد – صلى الله عليه وسلم – اتبعوه. فهؤلاء هم المقصودون بقوله تعالى: )وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة( (آل عمران: ٥٥)، فالذين اتبعوا عيسى – عليه السلام – هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح… الإسلام… الذي عرف حقيقته كل نبي وجاء به كل رسول، وآمن به كل من آمن بدين الله حقا: وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله… كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما وجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان وحقيقة الاتباع، ودين الله واحد، وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء من قبله ومن بعده كل رسول، والذين يتبعون محمدا – صلى الله عليه وسلم – هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم، من لدن آدم – عليه السلام – إلى آخر الزمان.
(*) استحالة تحريف الكتاب المقدس، مرقس عزيز خليل، كنيسة القديسة مريم العذراء والشهيدة دميانة المعلقة، مصر، 2003.
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص260.
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص260.