ادعاء أن القرآن والإنجيل يثبتان أفضلية المسيح – عليه السلام – على محمد صلى الله عليه وسلم
وجوه إبطال الشبهة:
1) المفاضلة الصحيحة بين اثنين تكون في نص واحد، لا في نصين متباينين، من حيث صحة المعنى وصحة التوثيق، وعبارة: “أني قلت: إني ابن الله” مقابلة ومعارضة بتصريحات الأناجيل المتكررة بأن عيسى عليه السلام “ابن الإنسان”؛ فكيف يقوي الإنجيل على محاجة القرآن وهو متناقض ينقض بعضه بعضا، فمرة يقول هو: “ابن الله”، ومرة يقول: “ابن الإنسان”.
2) المسيح – عليه السلام – لم يفعل المعجزات استقلالا، ولكن الله – سبحانه وتعالى – أجراها على يديه تصديقا له، ولقد أيد الله – عز وجل – محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات المبهرة، وأعظمها معجزة القرآن، والمقصود بالآيات الممتنع إرسالها إلى محمد – عليه السلام – هي الآيات المقترحة من المشركين، لا مطلق الآيات.
3) إن علم الغيب هو بيد الله – عز وجل – لا يظهر عليه أحد إلا من ارتضى من رسول مرسل أو ملك مقرب، وما اطلع عليه عيسى – عليه السلام – من أمر الغيب هو من هذا القبيل، وهو ليس بدعا من الرسل، فنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – أيضا ممن أطلعه الله – عز وجل – على أمور غيبية، وقوله – سبحانه وتعالى – على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: )ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير( (الأعراف:188) لا تفيد نفي علم الغيب عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
4) إن الشفاعة التي يزعمها النصارى لعيسى – عليه السلام – شفاعة أوحى بها فكرهم الباطل ومنطقهم الفاسد، ليبيحوا لأنفسهم فعل المنكرات واستحلال المحرمات، وبلغ من حمقهم أن أجازوها – أي: الشفاعة – للناس برمتهم المؤمنين منهم بعيسى – عليه السلام – وغير المؤمنين به.
5) ما نسب ولفق للمسيح – عليه السلام – من دعوته للسلم في الأحوال كلها مهانة ومذلة، لا يرضاها ذو مروءة وكرامة – فضلا عن نبي مرسل – فالأمر إذا اقتضى القتال فالعفو فيه تهاون وخذلان، وتحريض النبي – صلى الله عليه وسلم – للمؤمنين على القتال من هذا الباب.
التفصيل:
أولا. المفاضلة الصحيحة بين اثنين تكون في نص واحد، لا في نصين متباينين:
على من أراد المفاضلة بين اثنين مفاضلة صحيحة، أن يفاضل بينهما في نص واحد، أما أن يفاضل بعضهم بين النبي – صلى الله عليه وسلم – في القرآن، وعيسى في الإنجيل، فأمر لا يجوز؛ ذلك أننا لا نؤمن بأن الكتاب المقدس الحالي بعهديه وحي من عند الله، ولا النصارى أنفسهم يقولون: إنه وحي منزل، بل هو مكتوب بأيدي من نسب إليهم؛ وعليه فالمفاضلة ليست من الصحة في شيء.
أما عبارة: “أني قلت: إني ابن الله” فهي مناقضة ومعارضة بتصريحات الأناجيل المتكررة بأن عيسى عليه السلام “ابن الإنسان”: “فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان”. (متى 10: 23)، “فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله. الحق أقول لكم: إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته”. (متى: 17: 40)، “وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء. وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان”. (يوحنا 3: 13، 14).
وعقلاء النصارى يدركون أن معتقد بني دينهم أن الله ثلاثة – الآب، والابن، والروح القدس – باطل، وأنه إله واحد، وكون عيسى ابن الله على الحقيقة لم يرد في كلام عيسى، وأن التعبير بـ “ابن الله” تعبير مجازي، كما جاء أن الجميع أبناء الله، يقول د. نظمي لوقا: “ولم يرد على لسان المسيح في أقواله الواردة في بشارات حوارييه – الأناجيل – إشارة إلى شيء من ذلك “التثليث النصراني”، بل كان يدعو نفسه على الدوام بـ “ابن الإنسان”، أما البنوة لله – عز وجل – فما ورد لها ذكر إلا على سبيل المجاز المطلق، وبمعنى يشمل البشر كافة، حين أوصى أن تكون صلاة الناس إلى الله بادئة بقولهم: “أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك”. (متى 6: 9)، وحين طالب أتباعه وجميع الناس أن يسلكوا طريق البر؛ كي يكونوا جديرين بنسبتهم إلى الله: “أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات”. (متى 5: 44، 45)[1].
وبناء على ما سبق، فلا فرق بين ما صرحت به الأناجيل في شأن عيسى من أنه ابن الإنسان، وبين النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ومجيء القرآن مصرحا بأنه بشر؛ فالأنبياء جميعا بشر أرسلهم الله إلى البشر، قال سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم( (الأنبياء: ٧)، وقال سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق( (الفرقان:٢٠) بشر بكامل خواص البشرية.
ثانيا. المسيح لم يفعل المعجزات استقلالا، ولكن الله – عز وجل – أجراها على يديه تصديقا له، كما أن الله أيد محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات المبهرة، وأعظمها معجزة القرآن الكريم:
إن من يزعمون أن يسوع أجرى المعجزات، مستدلين بنص الأناجيل: “عمل كل شيء حسنا، جعل الصم يسمعون، والخرس يتكلمون”. (مرقس 7: 37)، وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يـجر المعجزات، مستدلين على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)( (الإسراء)، متخذين ذلك دليلا على تفضيل عيسى – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم – زعم باطل وقول متهافت.
نعم إن الله – عز وجل – أجرى المعجزات على يد عيسى – عليه السلام – تصديقا له، ولا ينكر ذلك المسلمون، والقرآن الكريم يذكر ذلك في الآيات: )ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50)( (آل عمران).
وقوله: )إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)( (المائدة)، ولكنه لم يفعلها استقلالا، وإنما هي من فعل الله، أظهرها على يدي عيسى – عليه السلام – وإذا نسبت إليه في القرآن، أو في الإنجيل، فهي نسبة مجازية، كما ينسب الشيء الواحد إلى أكثر من ذات، حسب دور كل من نسب إليه، فينسب إلى فاعله الأصلي، وينسب إلى من باشره، وينسب إلى من تسبب فيه… إلخ.
كما نسب الله – عز وجل – التوفي إلى الله، وإلى ملك الموت، فعيسى – عليه السلام – يمسح بيده على الأبرص، فيعقب هذا المسح أن يبرئه الله – عز وجل – من هذا الداء، وينفخ فيما شكله من الطين، فيعقب هذا النفخ أن يوجد الله – عز وجل – الحياة، فنسب هذا وذاك إلى عيسى باعتباره متسببا.
وأما نفي المعجزات عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بحجة قوله سبحانه وتعالى: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون( (الإسراء: ٥٩)؛ فليس المراد بالآيات التي امتنع الله من إرسالها مطلق المعجزات التي تؤيد الرسول في صدقه ودعواه النبوة، ولكن المراد الآيات التي يقترحها المشركون، فالله – سبحانه وتعالى – لم يلب ما طلبوه؛ لأن من سبقهم من الأمم طلبوا من رسلهم آيات، وجاءتهم الآيات بناء على ما طلبوا، فما ازدادوا إلا تكذيبا، كما حدث من بني إسرائيل مع نبيهم موسى – عليه السلام – وكما حدث من عاد وثمود، فإن من طلب الآيات وجاءته، واستمر على التكذيب هلك، فالمقصود بالآيات الممتنع إرسالها الآيات المقترحة، لا مطلق الآيات.
عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: «سأل أهل مكة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني[2] بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم، قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزل الله – سبحانه وتعالى – قوله: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)( (الإسراء)»[3].
وقد أيد الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات الباهرات، وأعظمها معجزة القرآن الكريم، تلك المعجزة التي تخاطب العقول وتستحوذ على القلوب، وهي معجزة باقية صالحة للأمم جميعا، ولمستويات الناس كافة أبد الدهر، وما زال القرآن الكريم يثبت لأولي العلم كل يوم أنه وحي من الله، وليس من عند بشر، وأنه الذي بلغه رسول الله للناس، هذا فضلا عن معجزاته – صلى الله عليه وسلم – الأخرى التي جرت على يديه، منها ما أثبته القرآن الكريم، ومنها ما جاء في سنته، فمن معجزاته في القرآن الكريم معجزة الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، وإخباره بالغيب بجميع أنواعه: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وما أكثر ما جاء في السنة من معجزات، كنبع الماء من بين أصابعه، وحنين الجذع، وتكثير الطعام القليل[4].
ثالثا. الذي يعلم الغيب ويعلم ما في القلوب هو علام الغيوب – عز وجل – وحده دون غيره:
ينسب بعضهم علم الغيب إلى عيسى – عليه السلام – استنادا إلى عبارة جاءت في العهد الجديد تقول: “فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص للكلى والقلوب، وسأعطي كل واحد منكم بحسب أعماله”. (رؤيا يوحنا اللاهوتي 2: 23). وينفي علم الغيب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – استنادا إلى قوله سبحانه وتعالى: )ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير( (الأعراف: 188)، وقوله عز وجل: )قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك( (الأنعام: 50).
وللجواب عن هذا نقول: لا نسلم بأن عيسى – عليه السلام – يقول مثل هذا الكلام، فهو ليس إلها ولا ابن إله، حتى يوحي إلى يوحنا بهذا الكلام، وإذا كان عيسى – عليه السلام – سيكلف يوحنا برسالة إلى الكنائس كما جاء في مستهل رؤيا اللاهوتي، فإنما يكلفه بأن يدعو الناس إلى عبادة الإله الواحد، ومتى كانت الكلى موضع أسرار؟! على أي حال، إن الذي يعلم ما في القلوب هو علام الغيوب – سبحانه وتعالى – وحده دون غيره.
وأما قول الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: )ولا أعلم الغيب( (الأنعام: 50) فهذا حق لا ريب فيه، فلا النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلم الغيب من تلقاء نفسه، ولا غيره من البشر، ولكن النبي إذا علم، وظهر له من الغيب شيئا، فإنما بتعليم الله له، قال سبحانه وتعالى: )عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول( (الجن)، وقد أظهر الله – عز وجل – لنبيه من الغيب ما كان آية على صدقه، فقال سبحانه وتعالى: )غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4)( (الروم)، ولو لم يتحقق ما جرى على لسان النبي – صلى الله عليه وسلم – ونبوءته بهذا الحدث الكبير في هذه الأمة العظمى – وهو حدث ترقبه العالم آنذاك – لكذب الناس بالقرآن وما صدقه أحد، وهناك الكثير من الأحداث التي أخبرت بالغيب جاءت على لسان رسول الله في سنته؛ كإخباره بعلامات الساعة: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان»[5]. وقد تحققت هذه الأخبار وغيرها، مما يثبت صدقه صلى الله عليه وسلم.
ولو افترضنا – جدلا – أن عيسى – عليه السلام – قال هذا الكلام، فليس معنى ذلك أنه يعلم الغيب بل يكون علمه بأمور جزئية أعلمها الله له لتقع في المستقبل للدلالة على نبوته، كما أخبر النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – عن أمور كثيرة تقع في المستقبل ووقعت بالفعل مثل فتن وملاحم آخر الزمان، وعلامات الساعة، والإعجاز العلمي الذي أخبر به القرآن والسنة، وما زال يقع ويتحقق حتى اليوم.
رابعا. دليلهم على شفاعة عيسى للخطايا يتعارض مع العقل والواقع النصراني نفسه، وقد نفى الله – عز وجل – شفاعة محمد – صلى الله عليه وسلم – في المنافقين:
في هذه المقارنة يثبتون الشفاعة لعيسى، وينفونها عن محمد – صلى الله عليه وسلم – ففي حق عيسى – عليه السلام – جاء في إنجيل يوحنا: “أنا قد جئت نورا إلى العالم، حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة. وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم”. (يوحنا 12: 46، 47). وفي حق محمد – صلى الله عليه وسلم – يستشهدون بقوله سبحانه وتعالى: )استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم( (التوبة: ٨٠).
أما ما جعلوه دليلا على شفاعة عيسى – عليه السلام – لخطاياهم، وخطايا كل العالم، فهو يتعارض مع العقل والواقع النصراني نفسه؛ حيث إن شفاعة عيسى – عليه السلام – للخطايا تعد تحريضا على ارتكاب كل الرذائل والمنكرات، ما دام المسيح يشفع لكم بمجرد أن تؤمنوا بأنه المخلص، فهل ترضون – معاشر القساوسة – لأتباعكم أن يرتكبوا كل المنكرات باسم شفاعة عيسى – عليه السلام – وتكفيره لخطاياكم؟! وما جدوى مواعظكم في بني دينكم إذا كان الأمر كذلك؟
لقد فهم المسيحيون في الغرب الأمر على هذا الوجه، إنهم يستبيحون لأنفسهم كل الشهوات الدنيوية بلا حدود على اعتبار أن هذا حق الجسد من المتعة، ويكفيهم من أمر الآخرة أن المسيح مخلص لهم!
وأعجب من ذلك حينما يعممون القاعدة في حق العالم جميعا، حتى من لم يؤمن بالمسيح – على طريقتهم – فهل تكفر خطايا جميع العالم بشفاعة المسيح من آمن به، ومن لم يؤمن به؟!
إذن فليفسد العالم، ولينتشر الفسق والفجور ما دام المسيح سيشفع للعالم عن خطاياه في نهاية الأمر!
أما الآية التي استدلوا بها على نفي شفاعة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فهي واردة في حق المنافقين، وهم قوم أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، والنفاق أشرس أنواع الكفر، وأخطر من الكفر الصريح، فحق عليهم ألا يغفر لهم، وهذا إخبار من الله لنبيه، ما لم يكن يعلمه في شأنهم.
وصدق الله – سبحانه وتعالى – القائل: )ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124)( (النساء).
إن الشفاعة لا تكون إلا لمن آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، ومن آمن فإن إيمانه حتما سيدفعه إلى شيء من العمل، فيتداركه الله بشفاعة الشافعين في بعض ما قصر بمنه وكرمه.
خامسا. ما نسب ولفق للمسيح – عليه السلام – من دعوته للسلم في كل الأحوال مهانة ومذلة، لا يرضاها ذو مروءة وكرامة، فضلا عن نبي مرسل، فالأمر إذا اقتضى القتال فالعفو فيه تهاون وخذلان:
وهذه المفاضلة تدخل ضمن ترويج اتهام الإسلام بالإرهاب، وأنه انتشر بالسيف، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – سن لأمته الإرهاب، فكانوا إرهابيين، أما المسيحية فهي دعوة للمحبة والسلام. ويستدلون على منع يسوع أتباعه من استعمال السيف بقوله: “رد سيفك إلى مكانه؛ لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون”. (متى 26: 52) وبقوله: “سمعتم أن قيل: عين بعين، وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا”. (متى 5: 38، 39).
أما محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد حث أتباعه على استعمال السيف: )يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال( (الأنفال: ٦٥)، وهذه مغالطة ومناقضة، فهم لا ينقلون عن المسيح قوله: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني”. (متى 10: 34: 37).
“لكن المسيحية اضطرت في القرن الرابع – أي بعد أن أصبح لها دولة تحت قيادة الإمبراطور قسطنطين – أن تستأصل شأفة الوثنية من المملكة الرومانية بالحديد والنار؛ ثم لما حصلت الكنيسة على السلطة الزمنية، جعلت الحرب من وسائلها، فاتخذت الجيوش والأساطيل.. وهل يغيب عن ذاكرة أحد.. الحروب الصليبية أو ما ورد في الكتاب المقدس من أوامر بالقتل، والتدمير، والقهر، والاستئصال لسكان المدائن التي اختص بها بنو إسرائيل دون أهلها الأصليين”[6].
فكيف يلتقي هذا مع ما استدلوا به من ترك السيف؟! فإما أن يكون النصان متناقضين، وإما أن تكون تعاليم السيد المسيح مثل تعاليم النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الأمر، وإن أخطئوا في تصويرها؛ فيكون العفو في موضعه، والقتال في موضعه، فإذا كان الأمر يقتضي قتالا لعدو معتد باطش؛ فالعفو هنا تهاون وفتنة في الدين، ومهانة لدين الله وتابعيه، وإن كان العفو عند القدرة يقود إلى تذوق سماحة الإسلام؛ للانقياد له فهو عفو مطلوب.
لكن هذه المهانة والمذلة التي تقولوها على السيد المسيح لا يرضاها ذو مروءة وكرامة فضلا عن نبي مرسل، فمن من العقلاء إذا لطمه شخص على خده حول له خده الآخر، ليلطمه بدل اللطمة لطمتين؟! وهل يرضى مسيحي بهذا من مسيحي مثله فضلا عمن يخالفه في الدين؟! هل عمل بهذا مسيحي في تاريخهم؟ كم لطموا الأبرياء بغير حق لطمات تلوثت بها أيديهم، وتلوثت بها صفحات التاريخ الذي كتب مآسيهم.
الخلاصة:
- من أراد أن يفاضل بين اثنين مفاضلة صحيحة، فلا بد أن يفاضل بينهما في نص واحد، لا في نصين متباينين، فالقرآن هم لا يؤمنون به ولا بنبيه، والإنجيل الذي بين أيديهم نحن لا نؤمن بأنه وحي من عند الله. وعبارة: “أني قلت إني ابن الله” مقابلة ومعارضة بتصريحات الأناجيل بأن عيسى – عليه السلام – ابن الإنسان، وعقلاء النصارى أنفسهم يعتقدون أن معتقد بني دينهم بأن الله ثلاثة – الأب، والابن، والروح – باطل؛ لأنه إله واحد.
- لم يفعل المسيح المعجزات استقلالا، وإنما هي من فعل الله، أظهرها على يديه تصديقا له، ونسبتها إليه نسبة مجازية، كما ينسب الشيء الواحد إلى أكثر من ذات، كما نسب التوفي إلى الله، وإلى ملك الموت.
- إن الآيات التي امتنع الله من إرسالها ليس مطلق المعجزات التي تؤيد الرسول في صدقه ودعواه النبوة، ولكن المراد هنا الآيات التي يطلبها المشركون، ولقد أيد الله محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات المبهرة، وأعظمها معجزة القرآن الكريم.
- إن الذي يعلم الغيب ويعلم ما في القلوب هو الله – عز وجل – علام الغيوب وحده دون غيره، وعيسى – عليه السلام – ليس إلها ولا ابن إله حتى يوحي إلى أحد. والنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يعلم الغيب – حقا – من تلقاء نفسه، ولا غيره من البشر، ولكن الله – عز وجل – أظهر لنبيه – صلى الله عليه وسلم – من الغيب ما كان آية على صدقه، كإخباره – صلى الله عليه وسلم – بعلامات الساعة، والتنبؤ بانتصار الروم وغيرهما.
- شفاعة عيسى – عليه السلام – في الخطايا تتعارض مع العقل والواقع النصراني؛ حيث إنها تحرض على ارتكاب كل الرذائل والمنكرات، بحيث لا تجدي مواعظ القساوسة في بني دينهم، والآية التي استدلوا بها على نفي شفاعة محمد – صلى الله عليه وسلم – واردة في حق المنافقين.
ما نسب ولفق للمسيح – عليه السلام – من دعوة للسلم وإلقاء السيف في كل الأحوال مهانة ومذلة لا يرضاها ذو مروءة وكرامة فضلا عن نبي مرسل، فالعفو يوضع في موضعه والقتال في موضعه، فإذا كان الأمر يقتضي قتالا لعدو باطش فالعفو هنا تهاون، وفتنة في الدين، وتاريخ المسيحية المليء بالدم والحروب والمذابح خير شاهد – في الماضي والحاضر – على خطأ هذا التلفيق، وكذلك نصوص الكتاب المقدس التي تأمر صراحة بالقتل والإبادة والتدمير.
(*) الإسلام بدون حجاب، أبو عبد الله العربي، د. م، د. ن، د. ت.
[1]. محمد الرسالة والرسول، نظمي لوقا، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط2، 1959م، ص41.
[2]. تستأني: تتمهل.
[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس رضي الله عنه (2333)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[4]. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1407هـ/ 1986م، ج9، ص555: 618، ج10، ص13: 900. دلائل النبوة، البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص57: 164.
[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر (102).
[6]. الإسلام دين الهداية والإصلاح، محمد فريد وجدي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411 هـ/ 1991م، ص181، 182.