ادعاء أن القرآن يحث على الاعتداء على الآخر بفرضه الجهاد
وجوه إبطال الشبهة:
1) الأمر بالجهاد لرد العدوان، وصد الغاصبين.
2) للجهاد المشروع في الإسلام ضوابط عديدة قبل القتال وفي أثنائه وبعده.
3) الفتوحات الإسلامية خير شاهد على سماحة الإسلام وأهله.
4) الإسلام دين الرحمة والسلام، وأتباعه حملة دعوة سامية وشريعة رحيمة يوصلونها بجهادهم النبيل إلى كل الدنيا.
التفصيل:
أولا. الأمر بالجهاد في الإسلام كان لرد العدوان وصد الغاصبين:
اصطلح الغرب على مقابلة كلمة “الجهاد” بالحرب المقدسة. وهو مفهوم خاطئ، فالجهاد في الإسلام نوعان: جهاد النفس، والجهاد بمعنى الحرب المشروعة.
أما الجهاد بالمعنى الأول: فقد كلف به المسلمون لتصفية أنفسهم من الشرور والأحقاد، والوصول إلى درجة من النقاء لا تتأتى لذوي النفوس المريضة. فالمعروف أن النفس البشرية تحتوي على نوازع الخير والشر، وتختلف طبيعة البشر في هذا، فهناك من يعلو داخله صوت الخير، والعكس صحيح (وكلما حاول الإنسان جهاد نفسه وتهذيبها نال القرب من الله، وهذا النقاء يساعده على التغلب على أهوائه وطبيعته البشرية).
- أما المعنى الثاني للجهاد: فيطلق عليه الجهاد الأصغر. أي تلك الحرب القائمة على رد العدوان إذا هو حرب دفاعية، فلم يتعطش المسلمون يوما للدماء وسوف نفصل في هذا.
- وآيات القرآن واضحة، فنرى في هذا السياق أن المسلمين لم يؤذن لهم بالجهاد إلا بعد طغيان المشركين آنذاك وتطاولهم على الرسول ومن معه، قال تعالى: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا( (الحج: 39) هذا دون اعتداء أو وحشية؛ لأن هذا يتنــافى مــع تعاليــم ديننــا الحنيــف، حيـــث قــال – عز من قائــل: )وقاتلــوا في سبيــل الله الذيــن يقاتلونكــم ولا تعتــدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة) إذن فالأمر بالقتال هنا كان دفاعا عن النفس، فالإسلام لا يهوى إراقة الدماء، )كتب عليكم القتال وهو كره لكم( (البقرة: 216).
وإذا كان الجهاد يعني الحرب الدفاعية فإن ذلك لا يقتصر على القتال، فقد يكون الجهاد بالمال أو بالنفس، أو بالفكر، أو بأي وسيلة أخرى تساعد على رد عدوان المعتدين بكل صوره: استعمار، غزو ثقافي أو فكري، احتلال عسكري… فالهدف إذن هو حماية المجتمع الإسلامي والدفاع عن عقيدته، وهذا حق مشروع لكل أمة من الأمم كما تؤكده المواثيق الدولية.
والإسلام يدعو إلى التعايش السلمي مع الآخرين وإقامة علاقات طيبة معهم ما لم يعتدوا على المسلمين: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال)، ومن هنا نجد أن القرآن يحث المسلمين على التعامل معهم بالعدل والإنصاف، والبر، والإحسان: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة).
ثانيا. للجهاد المشروع في الإسلام ضوابط عديدة:
وإذا كان هذا العمل في سبيل مرضاة الله فقد شرع له ضوابط تنظمه؛ لئلا يكون ظلما والله – عز وجل – هو الحكم العدل، لاحظ هذه الآية: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة) قد اشتملت هذه الآية على أربعة ضوابط للقتال المأمور به:
- أن يكون مقصورا على من قاتلنا فعلا، أو ظنا مقرونا بالدلائل.
- أن يكون القتال في سبيل الله؛ أي لنصرة الحق لا من أجل المصالح، أو الأهواء الشخصية، أو الانتقام فقط.
- تجنب التجاوزات؛ مثل: قتل الشيوخ والنساء، والذرية الضعفاء، والرهبان المعتزلين في خلواتهم، بل وجميع المدنيين الذين لا يقاتلون.
- الترهيب من الاعتداء بعد النهي عنه؛ لأن الله لا يحب المعتدين.
أما أنواع هذه الضوابط، فهي:
- ضوابط قبل بدء القتال ومنها:
- ألا نقاتل العدو إلا إذا سدت كل الطرق أمام التوصل إلى عقد اتفاق سلمي حول النزاع الناشب بيننا وبينه.
- ألا نبدأهم بالقتال إلا إذا بدأوا هم مع أخذ الحذر الدقيق منهم، وترقب حركاتهم حتى لا نؤخذ على غرة[1]، ويجوز مبادأتهم بالقتال في حالات الضرورة.
- أنه إذا كان بيننا وبينهم عهد بعدم الاعتداء وبدرت منهم بوادر قوية على خيانة العهد، فيجب علينا أن نعلمهم بنقض العهد من جانبنا قبل أن نقاتلهم، عملا بقوله تعالى: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)( (الأنفال).
- ضوابط في أثناء القتال:
وهي تشرح الاعتداء المنهي عنه في ضوابط القتال، بالإضافة إلى أمرين:
- عدم المثلة[2] بالقتلى، لتقطيع أطرافهم، وتعليقهم على حوامل، أو أعمدة، أو بقر بطونهم، أو تلطيخ وجوههم بمواد مشوهة، فقد ثبت النهي عن المثلة؛ لأنها حقيرة ولا تليق بكرامة الإنسان مسلما كان أو غير مسلم.
- الاستجابة إلى كف القتال، إذا طلب العدو بشرط الحذر من الخديعة،)وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال).
- ضوابط ما بعد القتال وهي ضربان:
الأول: سلوكيات تتعلق بأثر القتال وما نتج عنه، مثل: التصرف في الأسرى، فقد كان مصيرهم قبل أن يقتلوا ثم أصبحوا في دائرة المن أو الفدية، على حسب تقدير إمام المسلمين للمصلحة العامة: )فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء( (محمد: 4). كما حث القرآن هنا على العفو: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69)( (الأنفال) والمعاملة بالحسنى، واستبعاد الاسترقاق، والقتل، وغيرها من أعمال وحشية لا تليق بتسامح الإسلام والمسلمين.
الثاني: سلوكيات تختص بواقع المسلمين بعد إحراز النصر، وهي الالتزام الكامل بمنهج الله من التواضع، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصر الله، واتباع هديه في كل شئون الحياة الخاصة والعامة، تأمل قوله تعالى: )الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (41)( (الحج) ومن الأمانة أن ندلي هنا بشيء هام مؤداه أن معظم الغزوات التي خاضها المسلمون كانت باختيار العدو.
وجهاد الكفار فرض كفاية على المسلمين إذا كانوا ببلادهم والغرض منه إعلاء كلمة الله، وتبليغ دعوة الحق للناس حتى يهتدوا بنور الله، فالحرب وسيلة لا غاية، وهي ضرورة يلجأ إليها المسلمون إذا عجزت الوسائل السلمية، عن إقرار الحق في الأرض.
وقتال الكفار ليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود هو هدايتهم إلى الدين الحق، وعدم التعرض للدعاة، وإذا تأملنا هذا الحديث لفهمنا المراد من فرضية الجهاد. فعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – «أن أعرابيا أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه.. فمن في سبيل الله؟ قال: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله»[3].
إذن فأسباب القتال خمسة: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، ليس فيها ما يؤجر عليه المرء إلا إذا قصد بذلك مرضاة الله.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال الرسول: “لا شيء”، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له، وابتغي به وجهه»[4] [5].
ثالثا. الفتوحات الإسلامية خير شاهد على سماحة الإسلام وأهله:
ويوضح د. محمود محمد طنطاوي في كتابه السلام والحرب في الشريعة الإسلامية هذا الموضوع فيقول:
لم تقم الفتوحات الإسلامية على التخريب والنهب مثلما هو الحال في الاستعمار الذي يهدف إلى إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم الظاهرة والباطنة، وبالتالي تقييد الحريات، وظلم العباد، وإنما قامت على أسس حضارية، ولو نظرنا إلى مدى التقدم والازدهار التي وصلت إليه الأندلس على يد المسلمين آنذاك، وهي جزء من أوربا، لعرفنا حرصهم على إنقاذ البشرية وإخراجهم من غيابات الجهل.
ومما يدعم قولنا هذا تلك المقولة التي حفظها لنا التاريخ لهذا الصحابي الجليل الذي ربما لم تكتب له الشهرة، ولكن قوله أدل عليه من تعريفنا له، قال “ربعي بن عامر” يخاطب التاريخ، والحاضر، والمستقبل موضحا هدف المسلمين في فتح البلاد: “جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
- إذن فهذه الفتوحات جاءت لإزالة العقبات بين الناس وبين دين الله، حيث لا يكون للفراعنة، ولا للقوارين[6]، ولا للهامانات[7] أي تأثير على قرارهم حين يعرض عليهم دين الله “الإسلام” وبعد إزالة العقبات يكون للناس مطلق الاختيار؛ لأنــه: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256) فــــإن فعلــوه وإلا )لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون) لأنــه: )ومــا علـــى الرســول إلا البــلاغ المبيــن (18)( (العنكبوت) [8].
رابعا. الإسلام دين الرحمة والسلام:
الإسلام يدعو إلى العدل والسلام، ويصون حرية الإنسان وكرامته، فهو )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء) كما ورد في القرآن الكريم، وقد وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – رسالته بقوله: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»[9]. والإسلام يمنح الإنسان حرية الاختيار حتى في أمور الاعتقاد: )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29) والدعوة إلى الإسلام تقوم على الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة( (النحل: 125)، كما يتضح رفق الإسلام في قوله تعالى آمــرا موســى وأخــاه هـــارون: )فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)( (طه) ودعا إلى مقابلة السيئة بالحسنة: )ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34)( (فصلت).
وقد عفا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أهل مكة عند فتحه لها رغم إساءتهم إليه، وإخراجه من وطنه، وقتل أصحابه وتعذيبهم، وقال لهم:«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»[10]. أفلا يدل هذا على تسامح الإسلام وحقنه للدماء، مقارنة بحروب الآخرين المقدسة التي قتلوا فيها وصلبوا وذبحوا النساء والشيوخ والأطفال (الحروب الصليبية مثلا)؟!
أما عن كلمة الإسلام فهي مشتقة من السلام، أي لا مكان للعنف، أو القهر، أو الإرهاب، وترويع الآمنين. فكل إنسان آمن على حياته، ودينه وعقله، وأسرته وممتلكاته.
ومن هنا حرم الإسلام الاعتداء على الآخرين، حتى جعل الاعتداء على فرد واحد من أفراد الإنسانية كأنه اعتداء على البشرية كلها: )من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا( (المائدة: 32) وفي الحديث الشريف:«من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما»[11]. أفبعد كل هذه البراهين يصرون على أن الإسلام يحض على سفك الدماء؟!
الخلاصة:
- الإسلام دين السلام، ولكنه لا يدعو إلى الاستسلام، فالقرآن الكريم حينما فرض الجهاد على المسلمين كان ذلك ردا لعدوان المغتصبين، ودفاعا عن الإسلام والمسلمين، فالفطرة التي فطر الله الناس عليها هي الدفاع عن النفس عند الشعور بالخطر، فلا معنى أن يهاجم المسلمون ويعتدى عليهم، ثم بعد ذلك يقفون مستسلمين، هذا ما لا يقبله عقل، ولايقره دين.
- عندما فرض القرآن الجهاد، وضع له ضوابط عديدة، منها ما هو قبل القتال، مثل: ألا نشرع في القتال إلا إذا سدت كل سبل الاتفاق السلمي، ومنها أيضا عدم البدء بالقتال وغيرها، أما في أثناء القتال، فالاستجابة إلى كف القتال إذا طلب الأعداء ذلك، ومنها: النهي عن التمثيل بالقتلى بالصلب وغيره.
- أما ما بعد القتال، فهناك سلوكيات تتعلق بأثر القتال، وما نتج عنه، وأخرى تختص بواقع المسلمين بعد إحراز النصر، وكل هذا يدل على أن الإسلام عندما شرع الجهاد لم يطلق العنان للمسلمين فيه، وإنما قيدهم بقيود شديدة.
- الفتوحات الإسلامية خير شاهد على مدى تسامح وسمو الإسلام وأهله، فقد قامت الفتوحات الإسلامية على أسس حضارية عظيمة وأهداف سامية، والأندلس خير شاهد على ذلك بالنظر إلى مدى التقدم والازدهار التي وصلت إليه على يد المسلمين، نرى أيضا سماحة الإسلام في صون حرية الإنسان، وحرية اعتقاده، ومدى رفقه وعفوه عن المعتدين، فهذا هو إسلامنا، وهذا هو قرآننا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
- إذن ليس هناك أي وجه لصحة الادعاء القائل: إن القرآن يغري أتباعه بالعدوان أو التعدي على الآخرين.
(*) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م.
[1]. الغرة: الغفلة.
[2]. المثلة: التنكيل.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتات الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2655)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (5028).
[4]. صحيح: أخرجه النسائي في المجتبى، كتاب الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (3140)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (52).
[5]. السلام والحرب في الشريعة الإسلامية، د. محمود محمد الطنطاوي، ط1، 1416هـ/ 1996م، ص58، 59 بتصرف.
[6]. القوارين: جمع قارون.
[7]. الهامانات: جمع هامان، وهو وزير فرعون.
[8]. انظر: السلام والحرب في الشريعة الإسلامية، د. محمود محمد الطنطاوي، ط1، 1416هـ/ 1996م، ص60 وما بعدها.
[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ (8939)، والبخاري في الأدب المفرد، باب حسن الخلق (273)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2349).
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (4724).
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب إثم من قتل ذميا بغير جرم (6516).