ادعاء أن المسلمين فتحوا مكة عنوة
وجوه إبطال الشبهة:
1) نص صلح الحديبية على وضع الحرب بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وقريش عشر سنوات، لكن قريشا لم تف بالعهد.
2) حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تجنب القتال، فلم يجر قتالا إلا ما كان في (الخندمة)، ولم يطبق على مكة أحكام الأرض المفتوحة عنوة، فلم تقسم ولم يفرض عليها الخراج.
3) كانت صفات العفو والتسامح والرحمة هي الاستراتيجية التي فتح بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة.
التفصيل:
أولا. ينص صلح الحديبية على وقف القتال بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وقريش، ولكن قريشا نقضت عهدها:
كان من بين بنود صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، عقد هدنة مدتها عشر سنوات بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومشركي قريش، وكان من بين هذه البنود أيضا أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وبناء على ذلك دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم.
والسؤال الآن: “لـم كان القتال، وقد كان عهد لا ينقض إلا بسبب من التزامات هذا العقد؟ وما كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ينقض إلا بأسباب منه؛ لأن الله تعالى يقول: )فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم( (التوبة: ٧) ولم يستقيموا، فكان هذا خيانة، فكان عليه أن يعمل بقول الله تعالى: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء( (الأنفال: 58)، ولم يكن ثمة خوف خيانة، بل خيانة بالفعل في جزء من العقد.
والعقد كل يكمل بعضه بعضا، فإذا دخل الغدر جزءا منه، فقد دخل النقض كله، وفقد الالتزام من الجانب الآخر كل إلزام به، إذ نقض الأول جزءا منه يبطله، ولو كان العهد يبقى ملزما، مع نقض جزئه، لتوالى النقض على كل أجزائه، فلا يبقى للعقد معنى ولا صورة، ويذهب هباء منثورا، وتتبدد أوراقه في أدراج الرياح”[2] [3].
وقد ظلت قريش على جمودها القديم في إدارة سياستها، غير واعية للأحداث الخطيرة التي غيرت مجرى الأحوال في الجزيرة العربية، وتوشك أن تغيره في العالم كله.
وقد جرها فقدان هذا الوعي إلى حماقة كبيرة أصبح بعدها عهد الحديبية لغوا، وذلك أنها – مع حلفائها من بني بكر – هاجموا خزاعة – وهي مع المسلمين في حلف واحد – وقاتلوهم فأصابوا منهم رجالا وانحازت خزاعة إلى الحرم، إذ لم تكن متأهبة لحرب، فتبعهم بنو بكر يقتلونهم، وقريش تمدهم بالسلاح وتعينهم على البغي. وأحس نفر من بني بكر أنهم دخلوا الحرم – حيث لا يجوز قتال – فقالوا لرئيسهم نوفل بن معاوية: إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال نوفل: لا إله اليوم يا بني بكر.. أصيبوا ثأركم..!
وفزعت خزاعة لما حل بها، فبعثت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عمرو بن سالم يقص عليه نبأها، فلما قدم المدينة، وقف على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس يقول:
يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه الأتلدا[4]
قد كنتم ولدا وكنا والدا
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا[5]
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
أبيض مثل البدر يسمو صعدا
إن سيم خسفا[6] وجهه تربدا[7]
في فيلق[8] كالبحر يجري مزبدا[9]
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء[10] رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا
هم بيتونا بالوتير[11] هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نصرت يا عمرو بن سالم”[12] [13]، وجاء أبو سفيان كبيرها يستغفر للخيانة التي لم يمنعها، وأراد عجبا أن يمنع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أن يحمي من دخلوا في عهده، وأن يتركهم من غير أن يحميهم عهدهم، وتشفع بابنته فما شفعت، وتشفع بأبي بكر فامتنع امتناعا قاطعا، وإن كان هادئا كطبعه – رضي الله عنه – إلا في الأمور الشديدة، وتشفع بعمر فرده ردا عنيفا، وتشفع متوسلا بالرحم لعلي فما شفع هو ولا الزهراء فاطمة، وقالت كلمة حاسمة: لا يجار على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عجبا أن يجير على قريش كلها، ليكون لها أمان من الغزو؛ لأنه شعر بالجريمة وقعت منها كلها، وإذا كانت حرب فعليها كلها.
ونقول: إنه قد جاء لتوثيق العهد وزيادة المدة، وإن ذلك يتضمن بلا ريب إلغاء العهد السابق، وما اشتمل عليه، وربما توهم أن ذلك ربما يسقط الغدر الأول، ولعله ظن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعلم غدرة قريش التي تعد فسخا للعقد، فلما رأى أن الخزاعي سبقه وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن بد من أن يطلب الأمان لقريش، ولكن لم يجب.
وروى موسى بن عقبة أن أبا سفيان دخل على النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يدخل على أبي بكر وعمر وعلي، وقال له: يا محمد، شدد العقد وزدنا في المدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ولذلك قدمت، هل من حدث قبلكم”؟ قال: معاذ الله، نحن على عهدنا، لا نغير ولا نبدل”[14].
ثم ذهب إلى الصحابة أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، إلى أن وصل إلى علي، فلان معه المجاهد الأول بعض اللين.
وقد صرحت هذه الرواية بأنه ذهب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليأخذ منه إقرارا على ما قال في المسجد، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة – ردا على قوله: ما أظن أن تخفرني – أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة[15].
وقد عاد إلى قومه فاستخفوه إذ قص عليهم خبر الرحلة، وقالوا له: رضيت بغير رضا، وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا، وإنما لعب بك علي، لعمر الله ما جوارك[16] بجائر[17]، وإن إخفارك[18] عليهم لهين، وحدث امرأته بحديث الرحلة، فقالت له: “قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير”[19].
ومن ثم فلا مجال للزعم بأن المسلمين نقضوا الهدنة التي بينهم وبين مشركي قريش، وإلا فلماذا جاء إليهم أبو سفيان بن حرب في محاولة منه لتأكيدها أو تجديدها؟!
ثانيا. تجنب النبي – صلى الله عليه وسلم – القتال يوم فتح مكة:
حرص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تحقيق مبدأ المباغتة في فتح مكة، حتى لا تستطيع قريش أن تعد العدة لمجابهته وتصده قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفه؛ وفي سبيل ذلك كتم الأمر حتى عن أقرب الناس إليه وهو أبو بكر رضي الله عنه، وزوجته عائشة – رضي الله عنها – أحب نسائه إليه، فلم يعرف أحد شيئا عن أهدافه الحقيقية ولا اتجاه حركته، ولا العدو الذي ينوي قتاله.
ثم بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل مسيره إلى مكة سرية إلى بطن إضم[20]؛ وذلك لإسدال الستار على نياته الحقيقية، ليظن ظان أنه – صلى الله عليه وسلم – توجه إلى تلك الناحية.
وبث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجال استخبارات الدولة الإسلامية داخل المدينة وخارجها؛ حتى لا تنتقل أخباره إلى قريش، وتوجه إلى الله – عزوجل – بالدعاء والتضرع قائلا: “اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش؛ حتى نبغتها في بلادها”. ثم أحبط محاولة حاطب بن أبي بلتعة لإخبار أهل مكة بتحرك النبي – صلى الله عليه وسلم – إليهم، بعدما أطلع الله نبيه عن طريق الوحي على هذه المحاولة[21].
وما سبق ذكره كان خاصا بالاستعدادات التي قام بها النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل مسيره إلى مكة، وقد وضع النبي – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون خطة لدخول مكة وفتحها دون إراقة دماء.
فعندما وصل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى ذي طوى[22]، وزع المهام بين قادة الصحابة، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمني، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة[23]، وبطن الوادي، فقال:«يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار، فدعاهم فجاءوا يهرولون، فقال: “يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش[24] قريش”؟ قالوا: نعم. قال: “انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا”، وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال: موعدكم الصفا»[25].
وبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون[26]، ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم، وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وبهذا كانت المسئوليات واضحة، وكل قد عرف ما أسند إليه من مهام والطريق الذي ينبغي أن يسير فيه.
ودخلت قوات المسلمين مكة من جهاتها الأربع في آن واحد، ولم تلق تلك القوات مقاومة، وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربة قاضية لفلول[27] المشركين؛ حيث عجزت عن التجمع وضاعت منها فرصة المقاومة، وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد، ونجحت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم يستطع المشركون المقاومة ولا الصمود أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى، فاحتل كل فيلق منطقته التي وجه إليها، في سلم واستسلام، إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد، فقد تجمع متطرفو قريش ومنهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان اسمه “الخندمة” وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام، وصمموا على القتال، فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالانقضاض عليهم، وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة الضعيفة وشتت شمل أفرادها، وبذلك أكمل الجيش السيطرة على مكة المكرمة.
وفي سبيل حرصه – صلى الله عليه وسلم – على حفظ الدماء، أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجول؛ لكي يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات والاستفزازات وإراقة الدماء، وكان الشعار المرفوع: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح وهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»[28]. وجعل – صلى الله عليه وسلم – لدار أبي سفيان مكانة خاصة؛ كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء، ويستخدمه كمفتاح أمان يفتتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء، ويشبع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو سفيان حتى يتمكن الإيمان من قلبه.
هذا وقد حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند دخوله يوم الفتح؛ ولذلك عندما بلغته مقولة سعد بن عبادة لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم نستحل الكعبة، قال صلى الله عليه وسلم:«هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة»[29]. وأخذ الراية من سعد بن عبادة وسلمها لابنه قيس بن سعد؛ وبهذا التصرف الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها، وفي نفس الوقت لم يثره، ولا أثار الأنصار، فهو لم يأخذ الراية من أنصاري ويسلمها لمهاجر، بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر ألا يرضى الإنسان بأن يكون أحد أفضل منه إلا ابنه[30].
وبهذه الإجراءات تجنب النبي – صلى الله عليه وسلم – إراقة الدماء في مكة والبيت الحرام، وتحاشى القتال، فافتتحها وأهلها مسالمون، إلا ما وقع من بعض أوباش قريش في الخندمة وتصدي خالد بن الوليد ومن معه لهم. فهل في هذا ما ينافي قدسية مكة وحرمتها؟!
ثم إن مذهب جمهور العلماء الذين ذهبوا إلى أنها فتحت عنوة إنما هو خلاف ما يعنيه مثيرو الشبهة، من أنها فتحت بحد السيف، وإراقة الدماء، وإشاعة القتل والتدمير، وذلك في رأيهم يتنافى مع حرمتها؛ ولا يتنافى كونها فتحت عنوة – على رأي الجمهور – مع قدسيتها وحرمتها وكونها دار النسك ومتعبد الخلق.
وقد استدل جمهور العلماء على مذهبهم بمثل حديث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاؤها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد “. فقال العباس بن عبد المطلب: إلا الإذخر[31] يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقين[32] والبيوت؟ فسكت، ثم قال: “إلا الإذخر فإنه حلال»[33].
واستدلوا كذلك بالوقعة التي كانت في الخندمة[34]، وقد قتل فيها قريب من عشرين نفسا من المسلمين والمشركين.
أما الشافعي فيستدل على أنها فتحت صلحا بأنها لم تقسم، وبقوله – صلى الله عليه وسلم – ليلة الفتح: “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الحرم فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن”[35]. ولو كانت مكة مفتوحة عنوة – شأنها شأن المناطق الأخرى المفتوحة عنوة – لما أبقيت الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، ولفرض الخراج عليها.
ثالثا. صفات العفو والتسامح والرحمة كانت هي الاستراتيجية التي فتح بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة:
قال تعالى: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)( (الأعراف)، بهذا الأمر الرباني حدث أعظم عفو عرفه الوجود الإنساني، ألا وهو عفو النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أهل مكة المكرمة، لقد اضطهدوه منذ البعثة، وهو في سن الأربعين، واستمر أذاهم حتى سن الستين، لا يتوانون في إيذائه، ثم قتاله، ثم الدس الخبيث له ولأصحابه، فلما غلب وتغلب بعد أكثر من عشرين عاما، لم يقل صلى الله عليه وسلم: ويل للمغلوب، كما يقول ساسة هذا الزمان، بل على العكس من ذلك، قال: مرحبا بالإخوة وعفوا عما مضى، وإن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف.
لقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقريش وهم صفوف ينتظرون كلمته: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»[36].
بهذه الرحمة نال أهل مكة عفوا عاما على الرغم من أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول – صلى الله عليه وسلم – ودعوته، وعلى الرغم كذلك من قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيهم[37].
ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أعظم النفس التي تسمو على الأحقاد وعلى الانتقام، بل تسمو على أن تقابل السيئة بالسيئة، ولكن تعفو وتصفح، عن قوم طالما عذبوه – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وهموا بقتله مرارا، وأخرجوه وأتباعه من ديارهم، وأهليهم، وأموالهم، ولم ينفكوا عن محاربته والكيد له بعد الهجرة.
إن غاية ما يرجى من نفس بشرية كانت مظلومة فانتصرت، أن تقتص من غير إسراف في إراقة الدماء، لكنه النبي صلى الله عليه وسلم، والنبوة من خصائصها كبح النفس[38] ومغالبة الهوى، والعفو، والتسامح، أليس من صفاته التي بشرت بها التوراة أنه ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يقابل السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح؟!
لقد ضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – بعفوه عن أهل مكة للدنيا كلها وللأجيال المتعاقبة أروع المثل في البر والرحمة، والعدل، والوفاء، وسمو النفس، لم تعرفه الدنيا في تاريخها السابق، ولن تعرفه في مستقبلها القادم. ارجع ببصرك قليلا إلى ما فعله الغالبون بالمغلوبين في الحربين العالميتين في القرن الماضي، قرن الحضارة كما يدعون، لتعلم علم اليقين فرق ما بين النبوة وغير النبوة، والإسلام وغير الإسلام[39].
دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة المكرمة ومعه لواء أبيض، وعليه عمامة سوداء، وهو يقرأ سورة الفتح، وهو راكب على ناقته، وكان يرجع فيها، فهو يترنم بها، ويرجع كلماتها مستطيبا ألفاظها ومعانيها، وقد خفض رأسه متواضعا لله تعالى، ولما انتهى إلى ذي طوى اعتجر[40] بشقة بردة حبرة[41] حمراء، وإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليضع رأسه تواضعا لله تعالى، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح.
ويروى أن رجلا كلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح فأخذته الرعدة، فقال الرسول الذي يزيده التواضع عزا: «هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد»[42].
وإن العزيز الكريم لا تزيده القوة إلا تواضعا، يقول في ذلك ابن كثير: وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخول مكة المكرمة في مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم[43] – بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس، وهم سجود – أي ركع – يقولون: حطة[44]، فدخلوا يزحفون على أستاههم[45]، وهم يقولون: حنطة[46].
وأنى يكون بنو إسرائيل الذين تطغيهم النعمة من محمد الكريم – صلى الله عليه وسلم – الذي تدفعه النعمة إلى التواضع، فيقوم بحقها وشكرها، فشكر كل نعمة نعمة من نوعها، فشكر القوة الرفق والعدل، وشكر الرفعة التواضع، وقد رفع الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بما لم يرفع به رجل في العرب، وبما لم يرفع به نبي في أمته، فكان هذا التواضع الكريم الذي زاده عزا[47].
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة؛ لقدسيتها وحرمتها، فإنها دار النسك، ومتعبد الخلق، وحرم الرب تعالى، لذلك ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارة بيوتها؛ فهي مناخ لمن سبق، يسكن أهلها فيما يحتاجون إلى سكناه من دورها، وما فضل عن حاجتهم فهو لإقامة الحجاج والمعتمرين والعباد القاصدين[48].
وكان من أثر عفو النبي – صلى الله عليه وسلم – الشامل عن أهل مكة، والعفو عن بعض من أعلن إهدار دمائهم، أن دخل أهل مكة رجالا ونساء، وأحرارا وعبيدا في دين الله طواعية واختيارا، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجا، وتمت النعمة ووجب الشكر.
الخلاصة:
- كان من بنود صلح الحديبية وقف الحرب بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وقريش، ولكن قريشا نقضت عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت في حرب مع بني بكر ضد قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، وأحس أبو سفيان بخطورة ما فعلوه، فذهب إلى المدينة يطلب تجديد العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذهاب أبي سفيان إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – دليل على نقضهم الهدنة.
- حرص الرسول – صلى الله عليه وسلم – على تحقيق عنصر المباغتة في فتح مكة؛ حتى لا تستطيع قريش أن تعد العدة لمجابهته وتصده قبل أن يأتي إليها، وذلك لكي يتمكن من دخول مكة قبل الاشتباكات والاستفزازات، وإراقة الدماء، وكان الشعار المرفوع: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
- ذهب الشافعي إلى أن مكة فتحت صلحا؛ لأنها لم يجر عليها أحكام الأرض المفتوحة عنوة، فلم تقسم ولم يفرض عليها الخراج، كما أن ما قصده جمهور العلماء من أن مكة فتحت عنوة، إنما هو خلاف ما يقصده مثيرو الشبهة؛ إذ لا يتنافى هذا مع قدسيتها وحرمتها.
- كانت صفات العفو والتسامح والرحمة هي الاستراتيجية التي فتح بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة، حيث قال لأهلها وهم صفوف ينتظرون كلمته: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وبهذا ضرب أروع المثل في الرحمة والعفو عند المقدرة.
(*) قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، دار الجيل، بيروت، 1418هـ.
[1]. عنوة: بالقوة.
[2]. أدراج الرياح: أي هدرا.
[3]. خاتم النبيين، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج3، ص877.
[4]. الأتلد: القديم.
[5]. أعتدا: مهيئا ومعدا.
[6]. سيم خسفا: أريد ذلا، وهو يقصد بذلك أن السكوت على أفعال بني بكر وقريش من الذل الذي سيلحق المسلمين إذا لم يردوا على نقضهم للعهد.
[7]. تربد وجهه: احمر حمرة فيها سواد عند الغضب.
[8]. الفيلق: الكتيبة العظيمة من الجيش.
[9]. مزبد: ويقال للبحر مزبد، إذا هاج موجه وكثرت رغوة مائه.
[10]. كداء: موضع أو جبل بأعلى مكة، أو في الطريق إلى مكة.
[11]. الوتير: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة.
[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، محب الدين الخطيب، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/1986م، ج7، ص593.
[13]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، 1983م، ص394، 395.
[14]. السيرة النبوية، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت 1403هـ/ 1983م، ج3، ص532.
[15]. السيرة النبوية، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت 1403هـ/ 1983م، ج3، ص534.
[16]. جوارك: حماك.
[17]. جائر: عاصم.
[18]. الإخفار: نقض العهد.
[19]. خاتم النبيين، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج3، ص881.
[20]. بطن إضم: اسم موضع بالقرب من المدينة المنورة.
[21]. السيرة النبوية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج2، ص509: 511 بتصرف.
[22]. ذي طوى: واد من أودية مكة، بات به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى اغتسل من ماء بئره وصلى، ثم دخل مكة.
[23]. البياذقة: أي الرجالة.
[24]. الأوباش: هم الأخلاط والسفلة من الناس، مفردها الوبش أو الوبش.
[25]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (4724).
[26]. الحجون: جبل بمكة.
[27]. الفلول: جمع فل، وهو المنهزم.
[28]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (4724).
[29]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب أين ركز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الراية يوم الفتح (4030).
[30]. السيرة النبوية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج2، ص522: 527 بتصرف.
[31]. الإذخر: جمع إذخرة، وهي حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب، وتستخدم في تطييب الموتى.
[32]. القين: هو التقيين: أي التزيين.
[33]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب من شهد الفتح (4059)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (3368) بلفظ: إن هذا البلد حرمها الله.
[34]. الخندمة: جبل بمكة جمع عنده صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو جمعا ليقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم .
[35]. السيرة النبوية، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1403هـ/ 1983م، ج3، ص577، 578. السيرة النبوية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج2، ص529.
[36]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (4724).
[37]. السيرة النبوية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج2، ص529.
[38]. كبح النفس: مغالبة النفس والسيطرة عليها.
[39]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص448.
[40]. اعتجر: لبس أو لف.
[41]. شقة بردة حبرة: جزء من ثوب يماني من قطن أو كتان مخطط.
[42]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب القديد (3312)، والطبراني في الأوسط، باب الألف من اسمه أحمد (1260)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1876).
[43]. العرموم: الشديد والكثير.
[44]. الحطة: طلب المغفرة.
[45]. الأستاه: الأعجاز.
[46]. الحنطة: القمح.
[47]. دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج3، ص889.
[48]. السيرة النبوية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج2، ص529.