ادعاء أن الملوك لم يردوا على رسائل النبي صلى الله عليه وسلم
وجها إبطال الشبهة:
1) الادعاء أن أحدا من الملوك لم يرد علي رسائل النبي – صلى الله عليه وسلم – دعوى لا دليل عليها، ينكرها الواقع ويكذبها التاريخ، فقد كان صلح الحديبية باعثا لتحقيق عالمية الإسلام، فأرسل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الرسائل، ومن ثم رد عليها الملوك وهذا ثابت ثبوت الرسائل نفسها.
2) لما كان النصارى من أهل الكتاب، وهم أقرب مودة للذين آمنوا، وقد علموا من أناجيلهم أن نبيا سيبعث في آخر الزمان، وقد تعرفوا على علاماته، فعرفوها في الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان ردهم جميلا لطيفا – وإن لم يسلموا – يختلف عن رد كسرى الذي لم يكن عنده علم من الكتاب.
التفصيل:
أولا. التاريخ خير شاهد على ما لاقته رسائل النبي – صلى الله عليه وسلم – من ردود:
عاد الرسول – صلى الله عليه وسلم – من صلح الحديبية وقد أمن شر قريش ومناوأتها لدعوة الإسلام، ووجد الفرصة سانحة لتبليغ رسالة الإسلام للناس جميعا عربهم وعجمهم، إذ قد أرسل للبشر كلهم، قال سبحانه وتعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء). وقال: )إني رسول الله إليكم جميعا( (الأعراف: ١٥٨). وقال: )وما أرسلناك إلا كافةللناس( (سبأ: 28).
وقد كان هذا كسبا كبيرا للدعوة، فقد شهدت آفاقا واسعة، ووجدت أرضا خصبة، ونفوسا مستعدة لتقبل الدين الجديد بعد أن عاشت البشرية في ليل داج مظلم، ولم يكن ليخفى على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يعانيه العالم، ولا سيما الدولتان اللتان كانتا تقتسمان النفوذ في العالم حينئذ: فارس والروم – من انحراف ديني وفساد خلقي، واضطراب اجتماعي، وما وقع بينهما من حروب وغارات أنهكت قواهما، مما جعل هذه الشعوب على استعداد لقبول الإسلام الذي ينعمون فيه بالإيمان والأمان، والحرية والإخاء، والعدل والمساواة[1].
ويشير المنهج النبوي في دعوة الزعماء والملوك إلى ما يجب أن تكون عليه وسائل الدعوة، فإلى جانب دعوة الأمراء والشعوب، اختار الرسول – صلى الله عليه وسلم – أسلوبا جديدا من أساليب الدعوة وهو مراسلة الملوك ورؤساء القبائل، وكان لأسلوب إرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء أثر بارز في دخول بعضهم الإسلام وإظهار الود من البعض الآخر، كما كشفت هذه الرسائل مواقف بعض الملوك والأمراء من الدعوة الإسلامية ودولتها في المدينة[2].
وهكذا كان صلح الحديبية إيذانا ببداية المد الإسلامي ودعوة الناس جميعا إلى الإسلام، فقد كان على الإسلام بعد أن عقد النبي – صلى الله عليه وسلم – الهدنة مع قريش بمقتضى صلح الحديبية – أن ينساح إلى أطراف الجزيرة العربية ويجاوزها إلى ما وراءها من إمبراطوريات وممالك.
وكانت المرحلة الثالثة من مراحل الدعوة الإسلامية هي مرحلة ما بعد صلح الحديبية إلى أن انتقل الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى، وقد بسط علم الإسلام ضياءه على الجزيرة العربية بأكملها؛ ففي المحرم من السنة السابعة للهجرة – أي: بعيد صلح الحديبية مباشرة – بدأت أول حركة للدعوة الإسلامية خارج الحدود، في شكل حملة دبلوماسية مكثفة، إذ أرسل الرسول – صلى الله عليه وسلم – ستة نفر من الصحابة يحمل كل منهم كتابا إلى كبار ملوك عالم ذلك الزمان ورؤسائه، فأرسل دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر الروم، وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، وكان قيصر وكسرى هما قطبا الرحى في السيطرة على دائرة الأقطار المحيطة بالجزيرة العربية، إذ كان قيصر يحتل بلاد الشام حتى شمال الحجاز، وله فيها نائب من أهل البلاد، وكان كسرى يحتل الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية، كذلك أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس حاكم مصر من قبل الروم، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في الحبشة، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر ملك البلقاء الخاضع لنفوذ قيصر، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة[3].
ساق النبي – صلى الله عليه وسلم – مبعوثيه إلى هؤلاء يدعونهم إلى الله، ويحدثونهم عن الدين الذي لو تبعوه لنقلهم من الضلال إلى الرشاد، وقد تفاوتت ردودهم بين العنف واللطف، والإيمان والكفر.
فقد كتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى كسرى أبرويز ملك فارس يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.. أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس»[4], ومزق كسرى الكتاب وهو محنق[5].
وهكذا ثار ومزق الكتاب وهم بقتل حامله، ثم أخذته العزة بالإثم وعبر عما يجيش في نفسه ونفوس ملوك الأكاسرة من أن كل الناس عبيد لهم، فقال: يكتب إلي هذا وهو عبدي[6]. فلما بلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعا عليه قائلا: “اللهم مزق ملكه”، وقد استجاب الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم – فقتله ابنه شيرويه. ولم تقف حماقة كسرى عند تمزيق الكتاب، بل أرسل إلى باذان عامله على اليمن قائلا له: ابعث من عندك رجلين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، ففعل باذان، فلما قدما على النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه في هذه الليلة”، وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الآخرة سنة سبع من الهجرة، فخرجا من عند النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى قدما على باذان فأخبراه بمقتل كسرى، وقالا له: يقول لك: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء.
ثم لم ينشب باذان أن جاءه كتاب شيرويه يخبره بقتل أبيه وأوصاه ألا يهيج النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى يأتيه أمره فيه، فقال: إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلم الأبناء من فارس الذين كانوا باليمن[7].
وأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أمير البحرين كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ونبذ المجوسية، حمله إليه العلاء بن الحضرمي، وكان المنذر بن ساوى – أمير البحرين – رشيدا موفقا، فرحب بالدعوة، وانشرح صدره لقبولها… وقد أسلم المنذر وعرض على قومه الإسلام، فمنهم من أعجبه فدخل فيه، ومنهم من كرهه وبقي على مجوسيته أو على يهوديته[8].
هكذا كان استقبال المنذر لكتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إليه بالاستجابة الناجزة فاعتنق الإسلام من فوره، ولعله كان يعرف شيئا غير قليل عن الإسلام، ولعل العلاء بن الحضرمي قد قام بقسط من التعريف والترشيد… ولقد ظل المنذر محافظا على حسن إسلامه، متمسكا بعقيدته، ومات قبل فتنة الردة[9].
وأرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع سليط بن عمرو العامري كتابا إلى صاحب اليمامة هوذة بن على، وكان ذا صلة بكسرى، ويزوره في المهمات، وكان نص الكتاب: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى. اعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يدك”. فلما قدم عليه سليط حامل الكتاب – وكان مختوما – أنزله وحياه، وبعد أن قرأ الكتاب ودعاه رد على النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب جاء فيه: “ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك”. وأجاز سليطا الرسول بجائزة، وكساه أثوابا من نسيج هجر[10].
ليست هذه هي كل الرسائل التي أرسلها النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإنما هناك رسائل أخرى لم نذكرها.
والجدير بالذكر هنا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أرسل رسائل إلى ملوك عصره يدعوهم فيها إلى الإسلام، وقد لاقت ردودا في نفوس أصحابها بغض النظر عن نوع هذا الرد، وسواء أسلم المرسل إليه أم لم يسلم، وسواء كان ثمة عنف وشدة، كما حدث من كسرى الذي مزق كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدعا عليه الرسول بتمزيق ملكه، أم كان هذا الرد ملاطفة وإسلاما، كما كان من باذان، والمنذر، أم كان حسن الرد فقط، كما حدث مع هوذة، حيث أرسل الهدايا للرسول – صلى الله عليه وسلم – وكذلك فعل المقوقس عظيم القبط.
وقد ذكرت هذه الرسائل وغيرها مما سنذكره من رسائل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أهل الكتاب – مراجع التاريخ العربي الإسلامي مثل:
- ابن هشام: في الجزء الرابع في ذكر الرسائل.
- اليعقوبي: في الجزء الثاني في ذكر الرسائل.
- في الكامل في التاريخ: لابن الأثير، في الجزء الثاني.
- في البداية والنهاية: لابن كثير، الجزء الرابع.
- في تاريخ الرسل والملوك: للطبري، الجزء الثاني.
وما سبق من كتب هي أسس التاريخ العربي الإسلامي[11].
ومما يجمع عليه العقلاء أن لكل قوم أخبارا يتناقلونها عبر الأزمنة، وأحداثا تنتقل عبر الأجيال جيلا بعد جيل، فللأمريكان مثلا أخبارهم وقصصهم، ولكل دولة من دول أوربا قصصها وتاريخها الذي قد تعتمد في كتابته على أشخاص مجهولين، وأحداث مشكوك في صحتها، فهل يصح أن يقول أحد: ما الدليل على صحة هذه الأخبار؟ دون أن يدرسها ويناقشها بعد أن يكون قد ألم بها إلماما واسعا، فإذا كان الأمر كذلك مع أخبار الأمم والأقوام التي لا يهتم عامة الناس بضبط أحداثها ودقة تفاصيلها، فما الشأن برسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أرسله الله إلى قوم عرفوا بقوة الحافظة وسعة الذاكرة ودقة الملاحظة، فإن سيرته وأخباره – صلى الله عليه وسلم – تناقلتها الأمة المسلمة جيلا بعد جيل وخلفا عن سلف، وليس لأحد أن يشكك في شهادة هؤلاء الأخيار الأفاضل، أو يزعم أن هؤلاء الأفاضل إنما شهدوا لنبيهم فشهادتهم غير مقبولة؛ فإن هذا الزعم من شأنه أن يلغي جميع معجزات الأنبياء وجميع ما ورد عن أخبار السابقين؛ لأنه يمكننا أن نقول إن ما ورد عن عيسى – عليه السلام – أو ورد عن موسى – عليه السلام – إنما ذكره أصحابهما والمقربون منهما، وكذلك الشأن مع بقية أخبار الأمم السابقة والمعاصرة.
ولا يزال الناس على مر العصور يعتمدون على بعضهم البعض في نقل الأخبار والأحداث، ولم يقل أحد بإلغاء هذه الأخبار، لأنها تعتمد على نقل أناس قد يخطئون أو يوهمون، غير أننا نقول إنه مع ذلك فإن الإسلام قد تميز بمنهج في نقل الأخبار ودقة الروايات فاق كل المناهج المعروفة وفاق كل النظريات المعرفية؛ فقد تميز المسلمون في نقل الروايات والآثار ونقدها بمنهج لا يوجد عند غيرهم من الأمم؛ إذ يعتمد هذا المنهج على الإسناد، والإسناد: هو تلقي الخبر من راو ينقله عمن فوقه وهكذا حتى نصل إلى أول الإسناد، وقد وضع علماء المسلمين شروطا صارمة لقبول صحة الخبر اعتمادا على الإسناد، يقول الإمام عبد الله بن المبارك: “الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، ولكن إذا قيل له: من حدثك؟ بقي”. ويقول الحافظ أبو حاتم الرازي: “لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار نبيهم وأنساب سلفهم إلا في هذه الأمة” [12].
وعلى هذا، فإذا كان التاريخ شاهدا غير مردود، والواقع صادقا غير مكذب، وإذا كانت الروايات متواترة بالصحة الإسنادية ومعروفة في كتب التاريخ، إذا كان ذلك كذلك – فإن الزعم بعدم الرد على رسائل النبي – صلى الله عليه وسلم – زعم باطل لا دليل عليه، ولا يستند إلى برهان؛ إذ إن الواقع يكذبه، والتاريخ يخالفه، وإذا كنا قد سلمنا بأن ثمة رسائل أرسلها الرسول – صلى الله عليه وسلم – للملوك فلا يصح إنكار الرد.
ثم لماذا لا يكون ثمة رد على رسائل النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي جديرة بالاهتمام والرد عليها، وخاصة وقد أصبح للإسلام هيبة، وأصبحت الأمة الإسلامية في منزلة سامقة بعد صلح الحديبية؟!! وأصبحت لها كيانها وعلاقاتها الخارجية؟!
ونحن لا نفهم لماذا يقرون بالإرسال وينفون – في الوقت ذاته – الرد على هذه الرسائل، مع أن العقل والمنطق يقضيان بأن الناس إزاء المواقف غير صامتين وخاصة في مثل هذا الأمر، وخاصة إذا عرض على الملوك، فلا بد أن يبدوا ردا، سواء كان بالمعاندة والكبرياء، أم بالملاطفة وإرسال الهدايا، أم باللطف والإسلام؟ أما أن ننفي كل هذا فذلك أمر يصطدم والعقل السليم المنصف.
ثم بعد ذلك يتغافل المنكرون للرد ويتجاهلون ما تمخض عن بعض هذه الردود العنيفة من غزوات، مثل غزوتي مؤتة وتبوك.
ثانيا. موقف ملوك النصارى من رسائل النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا كان الإسلام قد احترم حق الآخر في الحياة والعقيدة، وحفظ له كرامته وإنسانيته، فإنه أنزل أهل الكتاب منزلة خاصة لم ينزلهم مثلها أي دين أو عقيدة أو حتى تشريع وضعي عند تعامله مع الآخر، فقد اشترط الحق – سبحانه وتعالى – على المسلم الإيمان برسل أهل الكتاب وكتبهم، وهو شرط لا يكتمل إيمان المسلم بدونه: )والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)( (البقرة)، والرسول هو قدوة المسلمين جميعا في الإيمان برسل الله جميعا: )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله( (البقرة: ٢٨٥)، ذلك أن الإسلام جاء ليكمل الشرائع السابقة عليه، لا ليهدمها أو ينفيها أو ينكرها، جاء ليصلح ما حرفه البشر منها: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: ١٣)، وقد أمر الله – عز وجل – بمناقشة أهل الكتاب بالحسنى: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46)( (العنكبوت)[13].
ولأن شريعة الإسلام ناسخة لجميع الشرائع السابقة عليها، وهي المهيمنة عليها جميعا، ولأن الله – سبحانه وتعالى – أخبر أن الإسلام هو الدين الحق، ومن ابتغى غيره فهو من الخاسرين: )ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)( (آل عمران). ولذلك كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذى نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» [14].
نقول: للأسباب السابقة، وانطلاقا من هذه الحقائق، كان لا بد من دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – أهل الكتاب إلى الإسلام.
وإذا كنا بصدد الحديث عن ملوك النصارى، فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعث أربع رسائل إلى رؤساء النصارى، وهم: هرقل قيصر الروم، والمقوقس الوالي الروماني على مصر، والنجاشي ملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء، وكان لها رد من قبلهم، بغض النظر عن نوعه، وهاكم رسائل ثلاثة الرؤساء الأول – سنكتفي بها – بالتفصيل:
- كتابه إلى قيصر:
كان حامل كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلي قيصر الروم هو دحية بن خليفة الكلبي الصحابي الجليل، وترجح أكثر الروايات أنه سلم كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل وهو يحج ببيت المقدس، وهذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد.. فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين[15]، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)» [16].
لقد كان طبيعيا أن تحدث مثل هذه الدعوة دويا عظيما في بلاط قيصر، بل إنها أحدثت ارتباكا وحيرة مصحوبتين بتفكير عميق من لدن قيصر وبطانته، خاصة وأنهم خارجون من حرب طاحنة بينهم وبين كسرى، وكان النصر حليفهم فيها.
قال قيصر لرجاله: التمسوا لنا ها هنا أحدا من قوم هذا الرجل نسألهم عنه، وهو تصرف الساسة المحنكين والملوك الحكماء، وكان أبو سفيان بن حرب وبعض صحبه من رجال قريش قدموا تجارا إلى بلاد الشام إبان الهدنة التي كانت بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبين كفار قريش بعد الحديبية، فأتاهم رسول قيصر يستدعيهم ليمثلوا بين يديه، لكي يعرف منهم مزيدا من أخبار محمد – صلى الله عليه وسلم – وشخصيته.
إن أبا سفيان يقص على عبد الله بن عباس ما جرى بينه وبين قيصر من حوار حدث في زمن لم يكن فيه أبو سفيان قد أسلم بعد. يقول أبو سفيان: «إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وعليه التاج وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه. فقال: فوالله، لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا. قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه، ثم دعا بكتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي بعث به دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه.
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام»[17].
وإذا كانت رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – قد قوبلت بهذا الاهتمام والاحترام من قبل قيصر، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لعامله على بلاد الشام المنذر بن الحارث الغساني الذي أراد أن يوغر صدر قيصر، وطلب إليه السير إلى المدينة لمحاربة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولكن حقده لم يجد أذنا مصغية، وذلك أن قيصر قد أرسل ردا جميلا على كتاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول فيه: “إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى، من قيصر ملك الروم. إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى ابن مريم، وإني دعوت الروم أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيرا لهم، ولوددت أني عندك وأغسل قدميك”.
كان طبيعيا أن يكون الرد على كتاب الرسول إيجابي الجواب، إذ يبدو أن قيصر كان على معرفة جيدة بالعقيدة المسيحية التي لم يكن قد أصابها كثير من التحول بعد، كما كان على إلمام بآيات الإنجيل المبشرة برسالة محمد، ولم تكن هذه الآيات قد محيت أو تعرضت للحذف مثلما هو حادث في الأناجيل المعاصرة، ومن ثم كانت إجابة قيصر مستجيبة، وإن لم يكن أمر الاستجابة حادثا من لدن رعاياه الروم[18].
كان رد قيصر صريحا، إذ قال: “إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى”، وهو المعنى الدقيق لقوله تعالى: )وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد( (الصف: ٦).
إن أحدا حتى الآن لم يطعن في نص كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى قيصر، وبالمثل فإن أحدا لم يشكك في صيغة رد قيصر على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن المقطوع به أن قيصر لم يكن قد قرأ الآية الكريمة من سورة الصف، بل إنه لم يكن يعرف شيئا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولذلك سأل معاونيه أن يبحثوا له عن أحد يعرف شيئا عنه، فعثروا على أبي سفيان وكان في تجارة مع بعض قومه من قريش في بلاد الشام، وكان الحوار معهم حول شخصية محمد – صلى الله عليه وسلم – كما تقدم[19].
وهرقل رجل سياسي، وأمر الدين لا يعنيه إلا بقدر ما يدعم ملكه وينمي قوته، وقد تولى شئون الدولة في وقت كانت الخلافات الكنسية حول طبيعة المسيح تغلي غليان المرجل[20]، وتثير في الأمة انقسامات مخيفة، وقد حاول التقريب بين وجهات النظر المتباينة، وجمع الكنائس المتخاصمة على مذهب واحد فعجز، وتمرد عليه اليعاقبة في مصر والشام.
فالكلام في الإلهيات ليس غريبا عليه، والتقريب بين وجهات النظر ديدنه، ولعله في أعماق قلبه يحس سخف أولئك المختلفين جميعا، وربما تألفت في نفسه – لوقت محدود – فكرة الخروج عن عقيدة التثليث إلى بساطة التوحيد، ثم انطفأت لما ستجره على الدولة من خلاف أشق في وهمه، وأمر المملكة عنده أهم من أي شيء آخر[21].
وتأمل ما ورد في رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – من تضمينه هذه الآية: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)، إن فيها دعوة إلى المساواة “كلمة سواء بيننا وبينكم”، لا يقصد منها استعلاء ولا تحكم ولا استغلال، وفيها رفع لكرامة الإنسان، ودعوة إلى عدم خضوع أحد لأحد خضوع عبادة، فلا معبود إلا الخالق، والمخلوقون جميعا ضعاف يتساوون في الدينونة إلى الله: )ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله(، وفيها تقليد دبلوماسي رائع أساسه الدعوة إلى السلام والاحترام المتبادل بين الأمم[22].
وعود على بدء نقول: إذا كان للإسلام هيبة ومكانة، وكان للأمة الإسلامية قدرها بعد صلح الحديبية، وإذا كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – أرسل رسالته للدعوة إلى الإسلام في أسلوب غير متسلط ولا متغطرس، وإذا كان المرسل إليه كتابيا يؤمن بالله، ومتعرفا على الإلهيات، وعالما ببشارة عيسى بالنبي أحمد – صلى الله عليه وسلم – إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يكون ثمة رد منه على رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – وما الغريب في هذا، مع أنه، وإن تلطف في الرد لم يسلم، فقد خذلته شجاعته وطمعه في الرياسة والمنصب فآثر الفانية على الباقية. أما رده فهو نتيجة حتمية نبأت بها المقدمات.
وعلى هذا، فالزعم بعدم الرد أو التشكيك فيه غير مقبول؛ إذ لا دليل عليه ولا برهان، من واقع أو منطق وعقل أو تاريخ.
- كتابه – صلى الله عليه وسلم – إلى المقوقس:
كتب الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية يقول: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد.. فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم القبط: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)”.
وبعث به مع حاطب بن أبي بلتعة، فلما دخل عليه، قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك. فقال: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه، فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله، وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى – عليهما السلام – إلا كبشارة عيسى – عليه السلام – بمحمد – صلى الله عليه وسلم – وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به. فقال المقوقس: إني نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء[23]، والإخبار بالنجوى، وسأنظر، وأخذ كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فجعله في حق[24] من عاج، وختم عليه ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد.. فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك”، ولم يزد على هذا، ولم يسلم، والجاريتان: مارية وسيرين، والبغلة: دلدل، بقيت إلى زمن معاوية رضي الله عنه [25].
ومن الطريف أن مارية وأختها سيرين قد اعتنقتا الإسلام قبل وصولهما إلى المدينة، وعند وصولهما إلى المدينة بنى[26] رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمارية، وأنجبت له ولده إبراهيم، فخلقت نسبا ثانيا بين آل إبراهيم – عليه السلام – ومصر، وذلك أن السيدة هاجر كانت من مصر، وتزوج محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مارية المصرية.
وأما سيرين، فقد أهداها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى حسان بن ثابت – صاحبه وشاعره – تكريما له ولها، فأنجبت له عبد الرحمن[27].
فهل يحق لباحث بعد هذا كله – أن ينكر هذا الرد الذي روته كتب التاريخ، أو ينكر هذا الواقع الذي لا يكذب؟! فمن أين أتت مارية ومن أين أتى ابنها إبراهيم؟ ومن أين أتت سيرين وولدها عبد الرحمن؟!
ثم ما الغريب في أن يرد ردا جميلا؟! أليس كتابيا، يؤمن بالله؟! أليس النصارى أقرب أهل الكتاب للمسلمين كما جاء في كلام حاطب بن أبي بلتعة؟ أليس قد قرأ الإنجيل، وعلم بتبشير عيسى – عليه السلام – بأحمد – صلى الله عليه وسلم – بيد أنه – المقوقس – قد وهم، فظن أنه يخرج من الشام؟! ثم إننا لا نعلم لماذا يثورون لأن الرجل رد ردا جميلا، مع أنه لم يسلم؛ إذ ضن بملكه أن يفارقه ونحن لا نكذب الواقع والتاريخ في هذا، وغاية ما في الأمر أنه تلطف في الرد، فأي غضاضة وأي غرابة في هذا؟!!
- كتابه – صلى الله عليه وسلم – إلى النجاشي:
بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كتابا إلى النجاشي ملك الحبشة مع عمرو بن أمية الضمري، ونصه: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله – عز وجل – وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى”.
قال ابن اسحاق: إن عمرا قال له: “يا أصحمة، إن علي القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا، وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم، وقد فرق النبي – صلى الله عليه وسلم – رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه بخير سالف وأجر ينتظر”. فقال النجاشي: “أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر”. ثم كتب النجاشي جواب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم “بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد.. فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض، إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا[28]، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين” [29].
وهكذا تثبت الروايات الصحيحة إرسال النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى النجاشي، وكذلك أثبتت تلك الروايات الرد الجميل الذي رد به على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإكرامه لأصحابه.
وقد جاء في بعض الروايات أنه أسلم، ولا غرو في ذلك؛ فقد كان مسيحيا نسطوريا، ومذهب نسطور قائم على التوحيد وينكر ألوهية المسيح، وعلى كل حال فإن الأجدر بالإشارة – هنا – والأهم أن الرجل قد رد على كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأحسن الرد، وتلطف وأجمل فيه، والقول بخلاف هذا ضرب من المجازفات غير المقبولة، التي ينكرها الواقع، ويكذبها التاريخ، ولا تتفق ومنهجية البحث، فالثابت لا ينكر إلا بدليل وبرهان: )قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)( (البقرة).
وإذا كان الله رب العالمين قد ذكر أن النصارى أقرب للمسلمين: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)( (المائدة)، وقد ورد ذلك في كلام حاطب بن أبي بلتعة للمقوقس حين قال: “إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى”، وإذا كانوا كذلك يعلمون أن نبيا بشر به عيسى نبيهم – عليه السلام – وأنه سيظهر في آخر الزمان، وأكدت أناجيلهم ذلك وأكدت لهم علاماته، فعرفوا النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك واعترفوا به – فليس غريبا أن تصدر منهم ردود على رسائله – صلى الله عليه وسلم – بل وليس غريبا – ألبتة – أن تكون ردودا جميلة الرد، متلطفة فيه، وهذا يوضح اختلاف ردودهم عن كسرى الذي لم يكن عنده علم من الكتاب، وأية غرابة في هذا؟!! ثم أية غرابة في ردود لم تتعد جمال الرد ولطفه وإرسال الهدايا إلى الإسلام، اللهم إلا ما كان من أمر النجاشي، وهو – مع ذلك – مختلف في إسلامه، ولا يضيرنا في هذا عدم إسلامهم؛ فإنهم بعدما علموا علامات نبوته – صلى الله عليه وسلم – لم يستطيعوا تكذيبه في ذلك، ولا سمعنا أن أحدا منهم كذبه في ذلك أو شنع به؛ لأن علاماته الواردة في أناجيلهم قد تحققت فيه صلى الله عليه وسلم.
أما أنهم قد ألهتهم ممالكهم، وآثروا الفانية على الباقية، فهذا لا يقدح في أنهم استقبلوا رسائله – صلى الله عليه وسلم – وردوا عليها في لطف وأدب.
الخلاصة:
- لما كانت رسالة الإسلام رسالة عالمية، مهيمنة على ما سواها من الشرائع وناسخة لما قبلها، كان ولا بد أن يحقق النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه العالمية فيدعو الناس جميعا إلى الإسلام، وقد كان صلح الحديبية باعثا على تحقيق هذه العالمية.
- أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – رسائل إلى الملوك والأمراء بعد صلح الحديبية واستقرار أمور الدولة بعقد الهدنة مع القرشيين، فأرسل إلى كسرى ملك فارس، فمزق رسالة الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلا أن ابنه قتله فيما بعد، وأرسل – صلى الله عليه وسلم – إلى أمير البحرين فأسلم وأرسل للرسول يستشيره فيمن بقي على يهوديته أو مجوسيته، وأرسل – صلى الله عليه وسلم – إلى صاحب اليمامة هوذة بن على، فأحسن الرد وأهدى للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يسلم.
- كان لهذه الرسائل ردود، فهي جديرة بالاهتمام، بعدما أصبح للأمة الإسلامية مكانتها، وقد روت هذه الردود كتب التاريخ العربية الإسلامية، فلا يصح أن ننكرها فلكل قوم تاريخهم وأخبارهم التي يتناقلونها بعضهم لبعض وعليه تقبل أخبارهم، فكيف إذا كانت من المسلمين الذين يتبعون منهج الإسناد الذي لم يعرف له مثيل حتى قال مرجليوث: “ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم”. كما أن الناس تجاه المواقف لا بد أن يبدوا ردودا بغض النظر عن نوع هذا الرد.
- أما فيما يتعلق بأهل الكتاب، فقد عاملهم الإسلام معاملة حسنة وجعل الإيمان برسلهم وكتبهم من الإيمان بالله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وأمر الله – عز وجل – بمجادلتهم بالتي هي أحسن، ومن هنا أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى رؤساء ملوك النصارى هرقل، والمقوقس، والنجاشي.
- لاقت هذه الرسائل من الملوك اهتماما، وكان الرد لطيفا جميلا – غالبا – أما هرقل فقد استدعى أبا سفيان، وتعرف منه على علامات نبوة النبي – صلى الله عليه وسلم – فأرسل إلي النبي ردا جميلا شهد فيه أنه هو الرسول الذي بشر به عيسى – عليه السلام – وليس هذا غريبا على من عرف الإلهيات، وعلم ما في الإنجيل، بيد أنه خاف على ملكه ولم يسلم، أما المقوقس فقد أحسن الرد وأهدى للنبي مارية وسيرين وغيرهما من الهدايا، ولكنه لم يسلم، فكيف ننكر رده، ونحن نعترف بوجود مارية وابنها إبراهيم الذي أنجبته، وكذلك سيرين وابنها عبد الرحمن. أما النجاشي فذكرت بعض الروايات أنه أسلم، والجدير بالذكر أنه قد رد وأحسن الرد.
- لماذا يستغرب الرد الجميل من هؤلاء النصارى وهم أهل كتاب، وقد علموا من أناجيلهم أن نبيا في آخر الزمان سوف يبعث، وقد علموا علاماته، ولكنهم لم يسلموا لخوفهم على ممالكهم وإيثارهم الفانية على الباقية، أما ردهم فهو نتيجة أرهصت بها المقدمات، ولعل هذا يوضح سبب اختلاف ردهم عن رد كسرى الذي لم يكن عنده علم من الكتاب.
(*) بلاد العرب، ديفيد جورج هوجارث، ترجمة: محمد حسن، دار الأهرام، القاهرة، د. ت.
[1]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص357، 358.
[2]. السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج2، ص458.
[3]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص113، 114.
[4]. حسن: ذكره ابن جرير الطبري في تاريخ الأمم والملوك (2/ 132)، وحسنه الألباني في فقه السيرة، ص356.
[5]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، 1983م، ص380.
[6]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص132.
[7]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ص361.
[8]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، 1983م، ص381، 382.
[9]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص138، 139.
[10]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج3، ص872.
[11]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص62 بتصرف يسير.
[12]. المختصر القويم في دلائل نبوة الرسول الكريم، د. وليد نور، دار الصفا والمروة، الإسكندرية، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص175: 177 بتصرف.
[13]. الإسلام والآخر، أحمد الجهيني، محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007م، ص44، 45 بتصرف.
[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس (403).
[15]. يؤتك الله أجرك مرتين: يعني لإيمان أتباعك بسبب إيمانك، أو لإيمانك بعيسى ـ عليه السلام ـ ثم محمد صلى الله عليه وسلم.
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).
[18]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص115: 118.
[19]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص122، 123 بتصرف.
[20]. المرجل: القدر من الطين المطبوخ.
[21]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، 1983م، ص377.
[22]. الدين العالمي ومنهج الدعوة إليه، الشيخ عطية صقر، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص58.
[23]. الخبء: هو الغائب المستور، يشير إلى إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمغيبات التي أطلعه الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها.
[24]. الحق: إناء صغير من عاج أو زجاج.
[25]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ/ 1985م، ص691، 692.
[26]. بنى بها: تزوجها.
[27]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص123.
[28]. التفروق: قمع التمر، أو ما يلتزق به قمعها.
[29]. زاد المعاد، ابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ/ 1985م، ج3، ص689، 690.