ادعاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تنبأ[ بأحداث قد خالفها الواقع
وجها إبطال الشبهة:
1) علم الساعة غيب اختص الله به نفسه، فلم يطلع أحدا على وقت وقوعها؛ لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، ولم يدع النبي – صلى الله عليه وسلم – لنفسه ذلك.
2) النبي – صلى الله عليه وسلم – أخبر ببعض علامات قيام الساعة، ولم يحدد وقت قيامها لعدم علمه – صلى الله عليه وسلم – به؛ ولكون علم الساعة خاصة – وعلم الغيب عامة – ليس من مقتضيات النبوة؛ إذ الأنبياء بشر، وما كان لمخلوق أن يعلم ما اختص الله به نفسه إلا بقدر ما يطلعه الله عليه.
التفصيل:
أولا. ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – لأمارات الساعة لا يقتضي وقوعها في حياته:
لا شك أن الله – سبحانه وتعالى – قد أخفى وقت قيام الساعة عن خلقه لحكم يعلمها سبحانه وتعالى، فلم يطلع على ذلك أحدا من خلقه، حتى أنبياءه ورسله، وملائكته المقربين.
هذا، وقد دلت آيات عديدة وأحاديث كثيرة على أن علم الساعة غيب اختص الله به نفسه، قال سبحانه وتعالى: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)( (الأعراف)، وقال سبحانه وتعالى: )يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63)( (الأحزاب)، وقال سبحانه وتعالى: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها (42) فيم أنت من ذكراها (43) إلى ربك منتهاها (44)( (النازعات).
“وقد سئل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الساعة، فقال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»[1]، وكان السائل جبريل – عليه السلام – متمثلا في صورة بشر، فإذا كان أعلى الملائكة منزلة، وهو جبريل عليه السلام، وأعلى البشر منزلة، وهو محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يعلمان متى تكون الساعة، فحري بألا يعرف أحد غيرهما وقت وقوعها” [2].
وروى ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله”، ثم تلا هذه الآية: )إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)( (لقمان)»[3]، ومع أن الله – سبحانه وتعالى – استأثر بعلم الساعة، فقد أخبر ربنا – عز وجل – بأنها ستكون قريبة، قال سبحانه وتعالى: )يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63)( (الأحزاب).
إلا أن بعض الناس قد التبست عليهم مسألة قرب الساعة وبعدها، فراحوا يتساءلون: كيف تكون الساعة قريبة، وقد مضى على الإخبار بقرب وقوعها أكثر من ألف وأربعمائة عام؟
والجواب: أنه قريب في علم الله وتقديره، وإن كانت المقاييس البشرية تراه بعيدا )إنهم يرونه بعيدا (6) ونراه قريبا (7)( (المعارج).
والأمر الذي ينبغي أن ينتبه إليه أن الباقي من الدنيا قليل بالنسبة لما مضى منها، فإنك إذا وضعت لمن لك عليه دين أجلا طويلا، كأن تؤجله خمسين عاما مثلا، فإذا انقضى من الخمسين خمسة وأربعون، فيكون موعد السداد قد اقترب بالنسبة لما مضى من الموعد المضروب.
والأحاديث النبوية الشريفة تشير إلى هذه الحقيقة التي بيناها هنا، فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس»[4]، وفي لفظ «إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس»[5].
إن الحديث يمثل الوجود الإنساني بيوم من أيام الدنيا، ابتدأ وجود الأمة الإسلامية فيه عند العصر، فيكون الماضي من عمر الوجود الإنساني بنسبة ما مضى من ذلك اليوم من الفجر إلى العصر، ويكون الباقي من عمر الزمن حتى تقوم الساعة، كما بين العصر والمغرب، ذلك أن النصوص صريحة الدلالة على أننا آخر الأمم وجودا، وأن نهاية وجود هذه الأمة يتحقق بقيام الساعة.
وجاء في حديث آخر عن سهل – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بأصبعيه فيمدهما»[6]، وفي رواية بلفظ: «سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشير بإصبعه التي تلي الإبهام والوسطى وهو يقول: “بعثت أنا والساعة هكذا» [7].
والمعنى أننا لو قدرنا عمر الزمن بالأصبع الوسطى، فإن ما بقي منه عند مبعث الرسول – صلى الله عليه وسلم – يكون بمقدار ما تزيد الوسطى عن السبابة، وما مضى منه بمقدار السبابة من الأصبع الوسطى، قد يكون الباقي في حس البشر طويلا؛ لأن إدراكهم محدود، ونظرتهم قاصرة، ولكنه في ميزان الله قريب وقصير )أتى أمر الله فلا تستعجلوه( (النحل: ١)، )وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير (77)( (النحل).
وقد يتساءل بعضهم: ما الحكمة من وراء إخفاء الوقت الذي تحل فيه الساعة، وتقوم فيه القيامة؟ والجواب: أن إخفاءها له تعلق بصلاح النفس الإنسانية، فوقوعها غيب، والأمر العظيم الذي يستيقن المرء وقوعه، ولكنه لا يدري متى يفجؤه، ويحل فيه بساحه، يجعل المرء مترقبا له باستمرار.
يقول الأستاذ سيد قطب: “والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر، وفي تكوينهم النفسي، فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه، ولو كان كل شيء مكشوفا لهم، – وهم بهذه الفطرة – لوقف نشاطهم وأسنت[8] حياتهم، فوراء المجهول يجرون، فيحذرون، ويأملون، ويجربون، ويتعلمون، ويكشفون المخبوء من طاقاتهم، وطاقات الكون من حولهم، وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة، فهم من موعدها على حذر دائم، وعلى استعداد دائم، ذلك لمن صحت فطرته واستقام، فأما من فسدت فطرته واتبع هواه فيغفل ويجهل، فيسقط ومصيره إلى الردى” [9].
ثانيا. النبي – صلى الله عليه وسلم – أخبر ببعض علامات قيام الساعة، ولم يحدد وقتها لعدم علمه به:
سبق أن ذكرنا أن الله – سبحانه وتعالى – لم يطلع أحدا من خلقه على وقت قيام الساعة، ومنهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد قال الله عز وجل: )قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي( (الأنعام: ٥٠).
وجاء أعرابي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسأله: «متى الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “وماذا أعددت لها”؟ فقال الرجل: حب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت»[10].
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – على عظم مكانته عند الله – لا يعلم وقت قيام الساعة، ولكن الحانقين الحاقدين على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأبون إلا القول باعتقاد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن القيامة ستقوم في حياته.
واستدلوا على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعتقد بأن قيام الساعة سيكون في حياته بآية لو قرأها المرء منا لاستبان له بوضوح جهلهم المزري، هذه الآية هي: )واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)( (الحجر).
هذه الآية ليس فيها – من قريب أو بعيد – أي دليل لهؤلاء المتوهمين، فقد فهموا أن اليقين في الآية المراد منه: القيامة، وهذا هو الجهل في أجلى صوره؛ لأن المراد من اليقين فيها: الموت، أي: دم على عبادة ربك حتى يوافيك أجلك.
والقيامة وصفت في القرآن بأوصاف كثيرة واضحة الدلالة عليها، مثل: الطامة، الصاخة، القارعة، الآزفة، الساعة، الحساب، البعث، الخروج، الحاقة، الواقعة، أمر الله، النفخ في الصور… ولم توصف ولا سميت بـ “اليقين”، فمن أين فهموا أن المراد منه الساعة يا ترى[11]؟!
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – مع عدم علمه بموعد وقوع الساعة إلا أنه أخبر وأعطى علامات لها بوحي من الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن عوف بن مالك – رضي الله عنه – قال:«أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزوة تبوك وهو في قبة أدم، فقال: اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم[12]، ثم استفاضة المال، حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر[13]، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية[14]، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا» [15].
فقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – إذن عن علامات الساعة على قدر ما أطلعه الله – عز وجل – عليه من معرفة بها، فما هو إلا مبلغ لما يأتيه من الوحي، وليس له ولا لغيره من الخلق أن يعلم ما اختص الله – عز وجل – به نفسه، إلا بقدر ما يطلعه الله – عز وجل – عليه، وقد رأينا بأنفسنا أن أول علامات الساعة التي أخبر عنها النبي – صلى الله عليه وسلم – موته صلى الله عليه وسلم، فكيف يزعم الزاعمون أنه تنبأ بقيام الساعة في حياته؟! لا شك أن هذا الزعم مجرد تشويش على الحقائق وتزييف للحق الناصع.
الخلاصة:
- علم الساعة غيب اختص الله – عز وجل – به نفسه، فلم يطلع أحدا على وقت قيامها، لحكم يعلمها الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: )إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)( (لقمان)، فهذه الغيبيات الخمس لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه وتعالى: )يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63)( (الأحزاب)، فعلم الساعة موكول إلى الله – سبحانه وتعالى – فلا يعلمه مخلوق إلا بقدر ما يطلعه الله – عز وجل – عليه.
- ما يتوهمه بعضهم من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخبر أن الساعة ستقع في حياته لا شاهد عليه, أما ما توهموا أنه شاهد وهو قوله عز وجل: )واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)( (الحجر), حيث فسروا اليقين بمعنى: القيامة، فلا يصح؛ لأنه تفسير شاذ ولم يذكره أحد من العلماء من قبل، بل اليقين هنا معناه: الموت.
- لقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – ببعض العلامات التي تدل على قيام الساعة في بعض أحاديثه، ولم يحدد وقت قيامها لعدم علمه به، ومن هذه العلامات ما وقع فعلا أيام الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو في حياة أصحابه، ومنها ما وقع بعده بقرون، ومنها ما لم يقع حتى الآن وسيقع بإذن الله عز وجل، ومنها إخباره – صلى الله عليه وسلم – بأن موته إحدى علامات الساعة مما يبطل مزاعم الطاعنين بأنه كان يتنبأ أن قيام الساعة سيكون في حياته صلى الله عليه وسلم.
(*) الإسلام والغزو الفكري، د. عبد المنعم خفاجي، د. عبد العزيز شرف، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ/ 1991م.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإيمان والإسلام (50)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله (106).
[2]. القيامة الصغرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص124.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الأنعام (4351)، وفي مواضع أخرى.
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3272).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب (532)، وفي مواضع أخرى.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “بعثت أنا والساعة كهاتين” (6138).
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة (7592).
[8]. أسن: رقد وجمد.
[9]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2231.
[10]. أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3485)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (6878).
[11]. افتراءات المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص188، 189 بتصرف.
[12]. قعاص الغنم: داء يأخذ الغنم ويؤدي إلى موتها.
[13]. بنو الأصفر: الروم.
[14]. الغاية: الراية.
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب ما يحذر من الغدر (3005).