ادعاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مخادعا يستميل قلوب الناس بالمال
وجوه إبطال الشبهة:
1) نحن لا ننكر ذكاء النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كان أرجح الناس عقلا، ولكن هذا لا يعني أنه كان مخادعا، فالذكاء شيء والخداع شيء آخر.
2) كان النبي – صلى الله عليه وسلم – مؤمنا إيمانا تاما بالرسالة التي بعثه الله – رضي الله عنه – بها لكي يبلغها إلى الناس كافة، ولاقى في سبيل تبليغ دعوته هذه العديد من أنواع الأذى والاضطهاد، ورغم ذلك لم ينصرف عنها.
3) هل من يقرأ قصة إسلام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يجد فيها أية إشارة لمال دفعه له النبي – صلى الله عليه وسلم – لكي يسلم؟! وهل كان عمر بن الخطاب فقيرا قبل الإسلام حتى يسلم طمعا في المال؟! وهل كان لدى النبي – صلى الله عليه وسلم – مال في بداية الدعوة لكي يستميل به الناس؟!
التفصيل:
أولا. الذكاء شيء والخداع شيء آخر:
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أرجح الناس عقلا، وأسرعهم بديهة، فالعقل لم يتوفر لإنسان كما توفر لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو لم ينزل عليه الوحي ويخاطب من السماء لكان عقله وحده كافيا لأن ينشئ دولة، ويقيم مجتمعا فاضلا، فما كانت الرسالة تجيء لغير عقل كامل، وفكر مدرك، وشخصية كريمة، وما كانت الكفاية العقلية في أسمى علوها بمغنية عن الرسالة؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون وحده كافيا في تدبير الحاضر والقابل إلى يوم الدين، إنما العقل يدبر ما يحيط به، وهو من غير هداية الوحي لا يفكر إلا فيما بين يديه.
وقد ظهرت رجاحة عقل النبي – صلى الله عليه وسلم – وذكائه في صغره وبعد بعثته، وليس معنى هذا أنه كان مخادعا، فالذكاء شيء والخداع شيء آخر، وقد تنزه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن مثل هذه الصفات السيئة؛ إذ قال فيه ربه – رضي الله عنه – في آية جامعة مانعة: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم).
لقد اشتهر النبي – صلى الله عليه وسلم – بين قومه بالصدق والأمانة، وقد شهد له أعداؤه قبل أصدقائه بذلك، فهل يمكن لرجل وصف بهذه الصفات أن ينشر دعوته بالخداع؟ هذا مالا يقوله عاقل منصف.
لقد جاهد – صلى الله عليه وسلم – حتى زلزل العقائد الفاسدة، وقضى على العادات المرذولة، وما غرس في قومه أو القبائل الأخرى وعدا كاذبا، أو ادعى الألوهية، أو أحاط نفسه بمظاهر الأبهة من الحرس والحشم للتهويل في نفوس الناس وإرهابهم وإنما كان يصارح قومه، ويجاهرهم بأنه رسول رب العالمين، جاء لهم مبشرا ونذيرا، جاء بالمعجزات الكثيرة، ولكنه ما ادعى أنه قادر على الإتيان بها، بل كان يقول بلسان القرآن: )قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (188)( (الأعراف).
نعم فقد جرد نفسه من كل ما من شأنه أن تستمال به الناس؛ فلم يتخذ وسائل الإغراء، ولم يجعل همه كسب صداقة الناس، بل قصد أن يبلغ ما أرسل إليه من عند الله؛ رحمة بالإنسانية، وإقامة لملك الله في أرضه، وقصدا لتوحيد بني الإنسان، وجعلهم أمة واحدة مرتبطين برابطة الإخاء[1].
ثانيا. إيمان النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعوته:
إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان أشد الناس إيمانا بالدين الذي جاء به من عند الله، وإلا لما رفض عرض قريش، الذي عرضه عليه عتبة بن ربيعة – وهو من أسياد قريش ـ؛ إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من الشطر في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك في أمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا، تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا[2] تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه.
حتى إذا فـرغ عـتـبـة، قـال لـه رسـول الله صـلى الله عـلـيـه وسـلـم: “فـرغـت يـا أبـا الـولـيـد؟ “قـال: نـعـم، قـال: ”فـاسمع مـني”، قـال: أفـعـل، فـقـال صـلـى الله عـلـيـه وسـلـم: )حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بـشـيرا ونـذيـرا فـأعـرض أكـثـرهـم فـهـم لا يـسـمـعـون (4)( (فصلت)، فمضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرؤها، فلما سمع بها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى آية السجدة منها فسجد، حتى قال: “يا أبا الوليد”، قال: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: “فأنت وذاك”، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي والله إني سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم[3].
وفي رواية أن عتبة قال لهم: أنذرنا صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب[4].
ومما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – مع عمه أبي طالب، فعندما أكثرت قريش ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكروا في مفاوضة أبي طالب، فمشوا إليه وقالوا: «إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا ومسجدنا، فانهه عن إيذائنا، قال: يا عقيل، ائت محمدا فادعه، فذهبت، فأتيته به، فجاء في نصف النهار يتخلل الفيء[5]، فجلس عند أسكفة الباب[6]، وقريش عند أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن ذلك، قال: فحلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بصره إلى السماء، ثم قال: “هل ترون هذه الشمس”؟ قالوا: نعم، قال: “ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا لي منها شعلة”، قال: فقال أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي فارجعوا، قال: فرجعوا» [7].
ولننظر إلى قوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصدق إيمانه في تبليغ دعوته، تلك القوة المعنوية العظيمة أمام شعب معاد معاند، وشدة تمسكه بمبدئه إلى النهاية.
لا ريب في أن هذا دليل واضح على أن الدعوة ملكت عليه حواسه وقلبه؛ فهان معها ما لقيه من التأنيب والتكذيب، والإيذاء والإرهاب، ومحال – عقلا – أن يصبر داع على مثل هذه الأهوال إن كان مرتابا في صدق دعوته” [8].
فلو كان محمد – صلى الله عليه وسلم – غير واثق بدعوته – وذلك لأنه كان يستميل قلوب الناس بالمال كما يدعي هؤلاء ليدخلوا في الإسلام – لانساق وراء أقل المغريات والعروض، ولآثر أن يكون سلطانا على العرب، وذلك أفضل من احتمال حدوث فشل أو خيبة أمل له في دعوته، لكنها الثقة في صدق دعوته، وفي تأييد الله له.
تلك الثقة التي ملأت قلب موسى – عليه السلام – عندما كان البحر أمامه، وفرعون وجنوده من خلفه، حتى قال أصحاب موسى: )إنا لمدركون (61)( (الشعراء)، فقال والثقة تملأ قلبه: )قال كلا إن معي ربي سيهدين (62)( (الشعراء)، فأية هداية يهدى إليها موسى في مثل هذا الموقف؟! إنها هداية الله له وثقته بالله وبرسالته: )فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63)( (الشعراء) فعبر موسى ومن معه: )وأزلفنا ثم الآخرين (64)( (الشعراء)، ولم يفعل الله – عز وجل – هذا عبثا بدون سبب: )إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (8)( (الشعراء)، آية للمؤمنين ليثقوا بوعد الله سبحانه وتعالى، حتى وصل الأمر إلى أن سيدنا إبراهيم – عليه السلام – وهو في النار عندما قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى الله فهو أعلم بحاجتي، فنجاه الله – سبحانه وتعالى – من النار: )قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (70)( (الأنبياء)، وكذلك كان ثبات النبي – صلى الله عليه وسلم – أشد من الجبال رسوخا وثقة في نصر الله، فقد بشر سراقة – وكان – صلى الله عليه وسلم – مطاردا من أهله – بسواري كسرى، وأخذهما سراقة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي غزوة الأحزاب، والمسلمون في أحلك الظروف؛ من البرد القارس، والجوع القاتل، والظلام الشديد، وتجمع الأعداء، وهم يحفرون الخندق – إذ “بصخرة بيضاء صلدة شق عليهم كسرها، فذهب سلمان إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرق منها برقة أضاءت ما بين لابتيها – أي: جانبي المدينة – حتى كأنها مصباح في ليل مظلم، فكبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكبر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، فسألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك، فقال: “لقد أضاءت لي من الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، فأخبرني جبريل – عليه السلام – أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا”. فاستبشر المسلمون وقالوا: موعود صادق.
لقد صدق الله نبوءة نبيه، فكانت معجزة ظاهرة من معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ لم يمض على هذه الحادثة إلا نحو ربع قرن حتى فتحت هذه البلاد كلها، ودخلت تحت لواء الإسلام، ولذلك كان أبو هريرة – رضي الله عنه – يقول حين فتحت هذه الأمصار: “افتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما فتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله – عز وجل – محمدا – صلى الله عليه وسلم – مفاتيحها قبل ذلك” [9].
لقد كان انتشار الإسلام – بشكل لم يسبق له مثيل – في أقل من قرن آية كبرى على صدق نبوته – صلى الله عليه وسلم – وصحتها؛ فقد رحبت له القلوب، وتسابقت إليه النفوس، وعم نوره الأرجاء، وعقد شعاعه الشمال بالجنوب، والشرق بالغرب؛ فأصبح لدولة العرب قدم في الهند، وأخرى بالأندلس، وانتفع العالم دهورا كثيرة بما في هذه الدعوة المحمدية من النبل والبأس، والنجدة والحق، والهدى والمدنية الصحيحة.
هل يصدق عاقل بعد كل هذا أن مخادعا مدعيا يمكن أن يصنع كل هذا في نفوس ملايين البشر؟!
ثالثا. كان إسلام سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن اقتناع تام منه بالإسلام:
يحدثنا د. علي الصلابي عن حياة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قبل الإسلام فيقول: كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يشتغل بالتجارة، وربح منها ما جعله من أغنياء مكة، وكسب معارف متعددة من البلاد التي زارها للتجارة، فرحل إلى الشام صيفا، وإلى اليمن شتاء، واحتل مكانة بارزة في المجتمع المكي الجاهلي، وأسهم بشكل فعال في أحداثه، وساعده تاريخ أجداده المجيد، فقد كان جده نفيل بن عبد العزى تحتكم إليه قريش في خصوماتها، فضلا عن أن جده الأعلى كعب بن لؤي كان عظيم القدر والشأن عند العرب، فقد أرخوا بسنة وفاته إلى عام الفيل، وتوارث عمر عن أجداده هذه المكانة المهمة التي أكسبته خبرة ودراية، ومعرفة بأحوال العرب وحياتهم، فضلا عن فطنته وذكائه، فلجئوا إليه في فض خصوماتهم، يقول ابن سعد: “إن عمر كان يقضي بين العرب في خصوماتهم قبل الإسلام”.
وكان – رضي الله عنه – رجلا حكيما، بليغا، حصيفا، قويا، حليما، شريفا، قوي الحجة، واضح البيان، مما أهله لأن يكون سفيرا لقريش، ومفاخرا ومنافرا لها مع القبائل، قال ابن الجوزي: “كانت السفارة إلى عمر بن الخطاب، إن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر، بعثوه منافرا ومفاخرا، ورضوا به رضي الله عنه”.
وكان يدافع عن كل ما ألفته قريش من عادات وعبادات ونظم، وكانت له طبيعة مخلصة تجعله يتفانى في الدفاع عما يؤمن به، وبهذه الطبيعة التي جعلته يشتد في الدفاع عما يؤمن به، قاوم عمر الإسلام في أول الدعوة، وخشي أن يهز هذا الدين الجديد النظام المكي الذي استقر، والذي يجعل لمكة بين العرب مكانا خاصا، ففيها البيت الذي يحج إليه والذي جعل قريشا ذات مكانة خاصة عند العرب، والذي صير لمكة ثروتها الروحية، وثروتها المادية، فهو سبب ازدهارها وغنى سراتها[10]، ولهذا قاوم سراة مكة هذا الدين، وبطشوا بالمستضعفين من معتنقيه، وكان عمر من أشد أهل مكة بطشا بهؤلاء المستضعفين.
ولقد ظل يضرب جارية أسلمت، حتى أعيت يداه، ووقع السوط من يده، فتوقف إعياء، ومر أبو بكر فرآه يعذب الجارية، فاشتراها منه وأعتقها.
لقد عاش عمر في الجاهلية وسبر أغوارها، وعرف حقيقتها وتقاليدها وأعرافها، ودافع عنها بكل ما يملك من قوة، ولذلك لما دخل في الإسلام عرف جماله وحقيقته، وتيقن الفرق الهائل بين الهدى والضلال، والكفر والإيمان، والحق والباطل، ولذلك قال قولته المشهورة: “إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية” [11].
وقصة إسلام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ثابتة في معظم كتب السيرة، وليس فيها أية إشارة إلى مال دفعه النبي – صلى الله عليه وسلم – له كي يسلم كما يدعي هؤلاء؛ فالثابت أن عمر رضي الله عنه – قبل إسلامه – أراد أن يقتل النبي – صلى الله عليه وسلم – وانطلق لتحقيق مراده، فقابله نعيم بن عبد الله النحام، فقال له: أين تريد يا عمر، فأخبره عمر بمراده، فقال له نعيم: فإني أخبرك أن أهلك وأهل ختنك قد أسلموا وتركوك وما أنت عليه من ضلالتك، فحول حينئذ مساره وانطلق إلى بيت أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد، وحدثت بينهم مناقشة طويلة انتهت إلى طلب عمر بن الخطاب ملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع خباب – رضي الله عنه – ذلك خرج من البيت – وكان مختفيا – وقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون قد سبقت فيك دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الإثنين: «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب”، فكان أحبهما إلى الله عمر بن الخطاب»[12].
قال: دلوني على مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عرفوا منه الصدق قالوا: هو في أسفل الصفا، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته وجلوا ولم يجترئ أحد منهم أن يفتح له، لما قد علموا من شدته على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما رأى حمزة – رضي الله عنه – وجل القوم، قال ما لكم؟ قالوا: عمر بن الخطاب؟ قال: عمر بن الخطاب؟ افتحوا له، فإن يرد الله به خيرا يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا، ففتحوا، وأخذ حمزة ورجل آخر بعضديه[13] حتى أدخلاه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: أرسلوه، ونهض إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأخذ بحجزته[14] وبمجمع ردائه ثم جبذه[15] جبذة شديدة، وقال: “ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ والله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة”[16] فقال له عمر: يا رسول الله، جئتك أومن بالله ورسوله وبما جئت به من عند الله، قال: فكبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم، فلو لم يكن مقتنعا بالإسلام – وهو من هو في قومه – لما أسلم.
دخل عمر – رضي الله عنه – في الإسلام بإخلاص متناه، وعمل على تأكيد الإسلام بكل ما أوتي من قوة، ولقد أعز الله الإسلام والمسلمين بإسلام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقد كان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره، وامتنع به أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبحمزة.
وتحدى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مشركي قريش، فقاتلهم حتى صلى عند الكعبة وصلى معه المسلمون، وحرص – رضي الله عنه – على أذية أعداء الدعوة بكل ما يملك، ففي رواية عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: «لما أسلم عمر لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنشأ[17] للحديث؟ فقالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه، وأنا معه أتبع أثره، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه فقال: يا جميل، إني قد أسلمت، قال: فوالله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدا إلى المسجد، فنادى أندية قريش، فقال: يا معشر قريش – وهم في أنديتهم حول الكعبة – إن ابن الخطاب قد صبأ، فقال عمر: كذب، ولكنني أسلمت وآمنت بالله وصدقت رسوله، فثاوروه فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رءوسهم حتى فتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو تركناها لكم، فبينما هم كذلك إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص قومسي[18]، قال: ما بالكم؟ قالوا: إن ابن الخطاب قد صبأ، قال: فمه؟ امرؤ اختار دينا لنفسه، أتظنون أن بني عدي تسلم إليكم صاحبهم؟ فكأنما كانوا ثوبا انكشف عنه، فقلت له بعد بالمدينة: يا أبت، من الرجل الذي رد عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل السهمي» [19].
لقد كان لإسلام عمر – رضي الله عنه – أثر كبير على الدعوة الإسلامية، وقد شهد الصحابة – رضي الله عنهم – بذلك، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلي، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا، فصلينا وطفنا، وقال أيضا: كان إسلام عمر فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي.
وقال صهيب بن سنان: “لما أسلم عمر بن الخطاب ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه”، ولقد صدق في عمر – رضي الله عنه – قول القائل:
هو أظهر الإسلام بعد خفائه
ومحا الظلام وباح بالكتمان
أعني به الفاروق فرق عنوة
بالسيف بين الكفر والإيمان[20]
فهل يعقل – بعد ما سبق – أن يدعي مدع أن عمر – رضي الله عنه – لم يدخل الإسلام رغبة فيه، ولكنه دخله تلبية لحبه للأموال التي عرضها عليه النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهو من أغنياء قريش! ثم إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يمتلك شيئا من الأموال حتى يوزعها على تابعيه، كي يثبتوا معه، بل إنهم دفعوا مقابل ثباتهم أرواحهم وأنفسهم دفاعا عن عقيدتهم.
فكيف يقال بعد ذلك: إنه – صلى الله عليه وسلم – كان يخادع أصحابه، أو إن أصحابه انخدعوا له؟ بل كيف ينخدع الناس في رجل حتى تزهق أرواحهم، وتفنى أموالهم، ويحاربوا قومهم، ويتركوا ديارهم؟!!
الخلاصة:
- صدق النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل رسالته وبعدها من أسرار نجاح الدعوة الإسلامية، ولو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – مخادعا – كما يدعون – لما انتشرت دعوته، ولما استطاع أن يدافع عنها، ولفشلت مثل غيرها من الدعوات الأخرى، وقد شهد له أعداؤه قبل أصحابه بصدق الحديث، وشدة الأمانة.
- كان النبي – صلى الله عليه وسلم – واثقا في دعوته، يحارب من أجلها، ويتحمل الصعاب والشدائد في سبيلها، وقد استعمل المشركون كل أنواع الحيل والمساومات والاضطهاد والتعذيب ليثنوه عن دعوته، فما رده ذلك كله، بل كان يسير بخطى ثابتة، واثقا من نصر الله – عز وجل – له ولدعوته.
- كان إسلام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نصرا أعز الله به المسلمين، وكان إسلامه عن اقتناع وثقة بصدق النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحة الدين الجديد، وقد أنفق ماله في سبيل الله عز وجل، فكيف يدعون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يواليه بالعطايا والمنح حتى أسلم؟!! لقد أسلم عمرـ رضي الله عنه – في بداية الدعوة الإسلامية، ولم يكن للنبي – صلى الله عليه وسلم – مال يوزعه، وكان عمر بن الخطاب من أغنياء قريش، فما كان في حاجة إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – وماله إن كان عنده مال.
(*) اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2000م. الإسلام وتصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق، مكتبة وهبة، القاهرة، 1407هـ/ 1987م. شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م.
[1]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثل الكامل، أحمد جاد المولى، مكتبة دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص37، 38 بتصرف يسير.
[2]. الرئي: التابع من الجن.
[3]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، مصر، د. ت، ج2، ص68.
[4]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص57، 58 بتصرف.
[5]. الفيء: الظل.
[6]. أسكفة الباب: عتبته.
[7]. حسن: أخرجه البزار في مسنده، مسند عقيل بن أبي طالب (2170)، وأبو يعلى في مسنده، مسند عبد الله بن جعفر الهاشمي (6804)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (92).
[8]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثل الكامل، أحمد جاد المولى، مكتبة دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص94 بتصرف.
[9]. السيرة النبوية في ضوء القرآن السنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص 279، 280.
[10]. السراة: السادة.
[11]. فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص 20، 21.
[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (5696)، وعبد بن حميد في مسنده، أحاديث ابن عمر (759)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3681)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2907).
[13]. العضد: الكتف.
[14]. الحجزة: مكان عقد السراويل والإزار .
[15]. جبذ: جذب.
[16]. أورده أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة، في ذكره إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1/ 371).
[17]. أنشأ للحديث: أنقل له.
[18]. قومسي: نوع من الثياب ينسب إلى قومس من بلاد فارس.
[19]. إسناده قوي: أخرجه أحمد في فضائل الصحابة، باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (372)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم بذكر أسمائهم (6879)، وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقات صحيح ابن حبان: إسناده قوي.
[20]. فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص 22: 30 بتصرف.