ادعاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يخرج عما كان عليه قومه من حب المجون وكره التنسك
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد كانت خلوة النبي – صلى الله عليه وسلم – في غار حراء قبل بعثته لعبادة الله على ما كان يعرف من دين إبراهيم عليه السلام، وللتأمل في خلقه عز وجل، وكانت عزوفا عما كان يجري في المجتمع الجاهلي من مساوئ ومنكرات.
2) إن خلوة النبي – صلى الله عليه وسلم – وتعبده، وتفكره في الكون وخالقه قبل بعثته ـ صاحبها حفظ من الله – عز وجل – لنبيه مما اتصف به غيره من اللهو، والعبث، وعبادة الأصنام وتقديسها.
3) إن ما حفلت به حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة من سفر للتجارة، ومن قبلها رعي للأغنام – من شأنه أن يربي في شخص النبي – صلى الله عليه وسلم – ملكات خاصة، وهذا من قبيل إعداد الله – عز وجل – لنبيه صلى الله عليه وسلم.
4) نحن لا ننكر مشاركة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحياة الاجتماعية لأهل مكة، لكنها مشاركات قليلة، وكانت مع قلتها تنم عن فطرة سامية، تنأى عن أفعال الجاهلية وانحرافاتها.
التفصيل:
أولا. خلوة النبي – صلى الله عليه وسلم – في غار حراء كانت للعبادة والتأمل لا للهروب من حر مكة:
من المعروف أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقيم بغار حراء – قبل البعثة – الليالي ذوات العدد؛ للتأمل والعبادة على ما كان يعرف من دين إبراهيم أبي الأنبياء – عليهم السلام – وكانت خلوته – صلى الله عليه وسلم – عزوفا عما كان يجري في المجتمع الجاهلي من مساوئ ومنكرات، والتأمل في صنع الله بعيدا عن الناس أقصر طريق لصقل القلوب، وتصفية النفوس وتقوية صلتها بالله.
هذه المعاني الرفيعة، والمقاصد النبيلة، والملامح الوضيئة من سيرة خاتم الرسل – صلى الله عليه وسلم – يحاول هؤلاء المدعون أن يطمسوها، ويثيروا حولها سحبا من الضباب الكثيف القاتم، فيزعمون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما كان يذهب إلى غار حراء لتفادي حر مكة؛ لأنه كان من الفقراء الذين لا يملكون القدرة على الذهاب إلى الطائف.
وهذا افتراء محض منهم، والواقع وسيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – يكذبان ذلك، وذلك للاعتبارات الآتية، كما يفندها د. عبد العظيم المطعني:
- مما لا يماري فيه أحد أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يكن هو الفقير الوحيد في مكة، فلماذا ترك الفقراء الآخرون محمدا – صلى الله عليه وسلم – يتمتع وحده. بهذا المصيف الرائع؟!
- ثم إن مكة مليئة بالجبال؛ فلماذا لم يشتهر عن الفقراء الآخرين أنهم كانوا يفرون إلى الجبال الأخرى كما فر محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى جبل حراء؟!
- إن هذا الجبل الذي كان يلجأ إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – ما أصعب الصعود إليه، وما أصعب الهبوط منه، كما أن هذا الغار – حراء – لم يكن في سفح الجبل “بل كان أعلى من ذلك، ولا يصل إليه قاصده إلا بمرتقى صعب، وليس بالسهل، والناظر إليه الآن لا يجد الوصول إليه بغير شق النفس” [1]؛ أي أن رحلة الصعود إليه تتطلب جهدا مضنيا، فلماذا كان – صلى الله عليه وسلم – يتحمل هذا العناء؟ ألم يكن يكفيه أن يلجأ إلى ظل شجرة أو ظل حائط إن كان فعلا يفر من شدة الحرارة؟!
ثم إن أهل مكة قديما كانوا يبنون منازلهم على شكل قباب لها نوافذ تسمح بمرور الهواء وترطيبه، كما كانوا يرشون الأرض بالماء، ترى هل كان محمد – صلى الله عليه وسلم – يعجز أن يصنع مثل صنيعهم إن كان يضايقه حر مكة كما يزعمون؟
- من الثابت – كما روت كتب السيرة – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يتزود أثناء خلوته تلك إلا بالماء والتمر والخبز الجاف، فأين الاستجمام وطلب المتعة الحسية في هذا الاعتزال؟!
- لقد نسي هؤلاء أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – وقتذاك كان زوجا لخديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – وأنها كانت من أثرى أثرياء قريش، ولو كان – صلى الله عليه وسلم – يريد الهروب من حر مكة – كما يزعمون – لاستطاع أن يقيم هو وزوجه وأولاده منها في قصر منيف بالطائف فيه ما لذ وطاب من المأكول والمشروب والمنظور، وما كانت خديجة – رضي الله عنها – لتبخل عليه بمالها، وله عندها منزلة ما حظي بها زوج من زوج.
- من المعروف أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يختلي في غار حراء مرة في العام، وكانت هذه المرة تكون في شهر رمضان خاصة، ومن المعروف أيضا أن شهر رمضان من الشهور القمرية، ولا يشترط أن يكون في كل عام في الصيف.
- وأخيرا فإن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يكن بدعا من الرسل وبعض الصديقين في هذا الأمر؛ فزكريا – عليه السلام – كان يعتزل قومه، ومريم الصديقة كانت تعتزل قومها، وكل منهما أوتي في عزلته فضلا وآيات من الله. زكريا بشر في خلوته بيحيى – عليه السلام – بعد عقم، ومريم أنجبت رسول الله عيسى – عليه السلام – من غير أب ليكون آية للناس، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – تلقى في تلك الخلوة مراسم الرسالة الخالدة. إنها خلوات كانت بتدبير من ذي الجلال والإكرام، وليست لطلب الملذات الدنيا، ولا الهروب من معاناة ظروف الحياة كما يزعمون.
إننا نعجب من هؤلاء الذين سكتوا عن عزلتي زكريا ومريم – عليهما السلام – وتناولوا عزلة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالتشويه، ليس لشيء إلا لأنه رسول الإسلام فحسب[2].
ثانيا. التحنث[3] والخلوة والتفكر في الكون وخالقه، صاحبها حفظ من الله – عز وجل – لنبيه:
لقد كان من الأسباب التي دعت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الخلوة والتحنث ـ الهرب من الانحلال الأخلاقي والضلال الديني اللذين سادا العرب آنذاك، ويتضح لنا ذلك من خلال النظرة السريعة لأحوال تلك البيئة في ذلك الوقت، “ففساد العقيدة يسود في كل مكان، إذ العقائد السائدة – حتى السماوية منها – لا تملك القدرة على السمو بالإنسان، إما لتحريفها عن أصولها الأولى السليمة، أو لتسفلها وارتباطها بالمادية المغرقة.
وسوء الحالة الاقتصادية نتيجة لقسوة الطبيعة من جهة، ولسوء توزيع الثروة من جهة منعت كل تطور مدني في المنطقة، حتى بقيت البيئة العربية تسيطر عليها البداوة على الرغم مما وجد فيها من ممالك.
والأمية والجهل عقلا[4] الفكر عن الانطلاق والتفتح، وجعلاه أسير عادات متخلفة بالية، وعقائد خرافية زائفة، يضيق بها أحيانا، ولكنه لا يتخذ من هذا الضيق مخرجا.
وفساد التركيبة الاجتماعية ابتداء من نظم الزواج المسئولة عن تكوين الخلية الأولى في المجتمع، وانتهاء بالعصبية القبلية التي جعلت شعارها: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما” [5].
وغياب الدولة السياسية التي تجمع القبائل وتظلها بمظلة واحدة، جعل القوي من القبائل يأكل الضعيف، وقانون الغاب هو الذي يحكم.
وجو القلق والخوف الذي يسيطر في كل بقعة من أنحاء الجزيرة العربية، استل السعادة من النفوس، وجعل الأعصاب مشدودة دائما” [6].
“ذلك هو الضلال الذي أحزن محمدا – صلى الله عليه وسلم – وأرقه، وجعله لا يستطيع الصبر على رؤيته، وهو ضلال ليس في طوقه إزالته؛ لأنه متأصل عميق، ولأنه عام شامل، وهو جالب لا محالة على مواطنيه عقاب السماء الرهيب، يعصف بهم كما عصف بعاد وثمود؛ لهذا كان يلجأ إلى الأماكن الخالية من بني البشر، حتى لا يختلط بهم، وحتى يزيل من ذاكرته شبح ما هم فيه من ضلال بشع أليم.
كان يستسلم إذن لرغبة قوية عنيفة تسيطر على نفسه، وتتجه به نحو الوحدة والعبادة، فيسير في الشعاب الرملية حسب منحنيات الوديان وتعاريجها، أو يصعد الجبال الصخرية ليجلس على قمتها ويترك بصره وخياله يسترسلان في الفضاء الجدب القاحل، الذي يبدأ عند قدميه ثم يسترسل، ويسترسل حتى يختفي في لا نهائية الأفق” [7].
ويذكر الإمام محمد أبو زهرة: “أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان يجتهد في العبادة بعد أن اطمأن على رزقه ونظم تجارته في مال خديجة… وكان كلما تقدمت به سن الشباب ازداد نسكا واختلاء وانصرافا عن الملاذ والشهوات، وقد اتخذ لنفسه شهرا من أشهر السنة يختلي فيها بغار حراء، “وكان حراء نسكا للعرب في جاهليتهم، كما جاء في “البداية والنهاية” لابن كثير، فقد قال: وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخرج إلى حراء في كل عام شهرا ينسك فيه، وكان من نسك قريش في الجاهلية” [8]؛ أي: أنه كان من الأماكن التي تعتبرها قريش من النسك في الجاهلية، ولعلهم كانوا يضيفونها إلى نسك الحج، وقد رأى محمد – صلى الله عليه وسلم – أن هذا خير مكان لعبادته؛ لأنه لا يطرق طول العام، ولم يكن كالبيت الحرام، إذ يطاف بالكعبة المشرفة فيه كل يوم، ويظهر أنه بمضي الزمان قد هجر اتخاذه نسكا.
وقد جاءت الأحاديث الصحاح بأنه – صلى الله عليه وسلم – كان يتحنث – أي يتعبد على الحنيفية السمحة – الليالي ذوات العدد، وكان يتخذ دائما شهر رمضان من كل عام يتزود لذلك، ويبتدئ بالذهاب إلى البيت الحرام يطوف به، ويتصدق بالصدقات العظيمة ويطعم الطعام، ثم يذهب إلى غار في جبل حراء، حتى إذا أتم الشهر – رمضان – عاد إلى بيته، وقبل أن يأوي إليه يمر بالبيت الحرام، فيطوف، ويتصدق بما بقي معه من زاد، ويطعم الطعام مما بقي له، ثم يأوي إلى خديجة زوجته الطاهرة” [9].
كان من المفترض أن يلف التيار الجارف محمدا – صلى الله عليه وسلم – ويدفع به في مساره، كما لف سائر شباب العرب ودفع بهم في مساره، ولكن محمدا – صلى الله عليه وسلم – شخص ليس كبقية الأشخاص، فقد حباه الله – عز وجل – عقلا راجحا لا نظير له في رجالات العرب، فما كان له أن يهجر عقله ويتبع غيره؛ ولذلك فإنه كان ينظر إلى العادات والأعراف، والتصرفات السائدة في البيئة التي نشأ فيها نظرة فكر وتأمل، فإذا كانت صالحة كان أول الآخذين بها والمشجعين عليها.
أما إذا كانت العادة السائدة في هذه البيئة لا تتفق مع عقل ولا منطق، ولا خلق كريم، فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتأثر بها تأثرا عكسيا، فيقف ضدها ويحاربها ويعمل على إزالتها.
لقد أنكر محمد – صلى الله عليه وسلم – عبادة الأصنام منذ أن عقلها، فلم يسجد لصنم قط، بل كان يكره الأصنام منذ نعومة أظفاره، وإننا لا ننسى جوابه للراهب “بحيرا” يوم استصحبه عمه أبو طالب معه إلى بصرى من بلاد الشام وعمره آنذاك تسع سنوات، حيث نزلوا قريبا منها، فدعاهم الراهب “بحيرا” إلى طعام، ولما حضروا بدأ يتفحص الطفل محمدا ببصره، ثم قال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى ألا أخبرتني عما أسألك عنه، فما كان من الطفل محمد إلا أن انتفض غضبا وأجاب: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما”.
وكما أنكر – صلى الله عليه وسلم – عبادة الأصنام التي كانت منتشرة في بيئته قبل أن تنزل عليه النبوة، أنكر أيضا اضطهاد المرأة والتعير منها، ووأدها وهي حية، وأنكر هتك حرمة شرف الكلمة على لسان شعراء لا يرعون لشرف الكلمة حرمة، يتخذونها عدة للباطل وسلاحا على الحق، فبغض إليه قول الشعر، فلم يعرف عنه أنه قال شعرا، أو أنشأ قصيدة، أو حاول ذلك؛ لأن ذلك لا يتلاءم ومقام النبوة، وأنكر التعصب للنسب والقبيلة والتفاخر بهما، وأنكر سوء توزيع الثروة بين الناس.
لقد أنكر – صلى الله عليه وسلم – عادات كثيرة سادت في البيئة التي نشأ فيها، ولم تستطع هذه العادات – رغم تمكنها في هذه البيئة – أن تلفه ثم تجرفه في تيارها كما جرفت الآلاف من شباب العرب؛ لأن التيارات لا تجرف إلا الهش الضعيف، وما سمعنا قط أن تيارا جرف جبلا، ومحمد جبل أشم؛ ولذلك تحطمت عليه التيارات[10].
ثالثا. رعي الأغنام والسفر للتجارة، أمور من شأنها أن تربي في نفس صاحبها ملكات وصفات خاصة، وهذا من قبيل إعداد الله – عز وجل – لنبيه – صلى الله عليه وسلم -:
اشتغل النبي – صلى الله عليه وسلم – في صباه برعي الغنم: رعاها لأهله، ورعاها لبعض أهل مكة، وبذلك ضرب مثلا عاليا منذ صغره في اكتساب الرزق بالكد والتعب، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم ـيذكر ذلك في كبره وهو مغتبط مسرور، روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: “افتخر أهل الإبل والغنم عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال النبي: «الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم».[11] وقال: «بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت أنا وأنا أرعى غنما لأهلي بأجياد».[12] وقال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم”، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: “نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» [13].
ولا شك أن ما في رعي الغنم من قضاء نهاره وبعض ليله في البادية، يتمتع بالسماء الصافية، والشمس المشرقة، والهواء النقي، ويطيل التأمل والنظر في السماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والجبال ذات الألوان – لا شك أن ذلك يجعل التأمل والتدبر ملكة من ملكات النفس” [14].
ومن الثابت تاريخيا أن الحرفة الرئيسة لأهل مكة كانت التجارة؛ وذلك لما تتمتع به من مكان متميز، وكانت لهم رحلتان في العام: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – ورث حرفة آبائه، فلما بلغت سنه – صلى الله عليه وسلم – الثانية عشرة خرج مع عمه أبي طالب في تجارة له إلى الشام، وكانت هذه هي المرة الأولى التي سافر فيها إلى الشام.
“ولما بلغت سنه – صلى الله عليه وسلم – خمسا وعشرين سنة سافر إلى الشام المرة الثانية، وذلك أن خديجة بنت خويلد الأسدية، كانت سيدة تاجرة ذات مال وشرف تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، فلما سمعت عن محمد من الأمانة وصدق الحديث ما لم تعرفه في غيره، حتى سماه قومه الأمين، استأجرته ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل مما كانت تعطي غيره، فسافر مع غلامها ميسرة، فباعا وابتاعا وربحا ربحا عظيما، وظهر للسيد الكريم في هذه السفرة من البركات ما حببه إلى قلب ميسرة غلام خديجة” [15].
وهكذا عاش النبي – صلى الله عليه وسلم – حياته قبل البعث حياة جادة لا مجال فيها للهو والعبث والمجون، فقد ابتدأ برعي الغنم صبيا، فلما تجاوز الصبا إلى المراهقة اتجه إلى صناعة أشراف مكة، وهي التجارة، وقد كان – صلى الله عليه وسلم – في حياته الأولى – راعيا للغنم، أو تاجرا – مثالا للأمانة والصدق والوفاء بالعهد، ولطف العشرة.
رابعا. قلة مشاركات النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحياة الاجتماعية لأهل مكة:
لقد عاش النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أهل مكة معيشة تجلت فيها الكثير من الصفات الإنسانية العالية والمتميزة، والتي جعلتهم جميعا يشهدون له بالعقل ورجاحته، ويلقبونه بـ “الصادق الأمين”، ومن ثم لم ينقطع – صلى الله عليه وسلم – عن قومه في أعمالهم الجماعية إذا كانت تتعلق بالتعاون على خير يقومون به، فإذا كانوا على أمر جامع ذهب إليه وشارك فيه ما وسعته المشاركة، من غير أن يرضى بباطل، أو يجور على حق، إنما كان دائما مع الحق يستبشر به، وضد الباطل ينغض[16] رأسه به، من غير صخب[17] ولا شحناء، فما كانت الشحناء من شأنه، ولا المباغضة من خلقه، بل هو في كل أحواله الودود الحليم، والنفس الطيبة، وكان يحضر “دار الندوة” إذا انعقدت، ويستمع إلى كبراء العرب، فما يرضيه من قول الحق يستشرف[18] إليه ويستبشر به، وما لا يكون حقا يبدو نفوره منه ولا يرتضيه[19].
ويدل على مشاركته – صلى الله عليه وسلم – قومه في الخير حله لمشكلة وضع الحجر الأسود، حين جمعت القبائل القرشية الحجارة لبناء الكعبة، “كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البناء موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحازبوا[20] وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد الحرام، وتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم – وكان عامئذ أسن قريش كلها – قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه، ففعلوا.
فكان أول داخل عليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: “هلم إلي ثوبا”، فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: “لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب”، ثم ارفعوا جميعا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده، ثم بنى عليه” [21].
يتضح لنا مما سبق أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يشارك قومه في الأمور الاجتماعية، بيد أنها كانت مشاركات قليلة، كذلك كانت هذه المشاركات في حدود معينة – حدود الأخلاق الفاضلة – ولم تكن مشاركات في الانحرافات السائدة عندهم.
أضف إلى ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مشهورا بينهم بالأمانة، حتى إن القرشيين كان يضعون الأمانات عنده لثقتهم في أمانته وإخلاصه وصدقه، وكان القرشيون على استعداد لأن يمنحوا من لقبوه بالأمين من مراتب الشرف ما تطمح إليه النفوس وما تعتز به، وأن يمكنوه من مركز اجتماعي سام، غير أن نفسه – وهي بمعزل عن العجب والطمع – كانت ترفض في ازدراء كل عرض من هذا النوع[22].
ومن ثم فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أمة وحده في أخلاقه؛ ولهذا رأى من آمن من قومه أو غيرهم في أخلاقه – صلى الله عليه وسلم – أكبر دليل على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
مما سبق يتضح لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم “لم يكن صاحب لهو ولا عبث، كان كذلك غلاما، ثم شابا، ثم أصبح بعد ذلك عاكفا زاهدا، منصرفا عن الناس إلا ما يوجبه حق المجتمع عليه، من عطاء يقدمه لمحتاج، أو معاونة لمستعين، أو إغاثة لملهوف، أو حمل لكل[23]، أو قرى[24] لضيف، أو صلة لرحم… وغير ذلك، فكان المتحمل للواجبات، المعتزل الذي يؤثر العزلة عن الاندماج في غمار الناس، حتى لا يصيبه شيء مما يخبثون به؛ لأنه الطاهر الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكانت حياته قبل البعثة مرشحة لحياته بعدها[25].
الخلاصة:
- من المعلوم من سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقيم في غار حراء عدة ليال من شهر رمضان كل عام بعيدا عن منكرات المجتمع الجاهلي؛ وذلك للتعبد والتأمل في خلق الله، أما ما يزعمونه من أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يفعل ذلك هروبا من حر مكة فإن الواقع يكذبه لعدة اعتبارات منها:
o أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن الفقير الوحيد في مكة، فلماذا لم يفعل الفقراء الآخرون مثله.
o أن الناظر إلى غار حراء الآن يجد أنه لا يمكنه الوصول إليه إلا بشق الأنفس؛ فلماذا يتحمل النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا العناء إذا كان يريد المتعة الحسية. كان الأولى به أن يلجأ إلى ظل شجرة، أو ظل حائط.
o لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – متزوجا من السيدة خديجة، وهي من أثرى أثرياء قريش، فلو أراد الهروب من حر مكة، لاشترت له قصرا منيفا في الطائف مصيف مكة.
- كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ـ قبل البعثة – يحب الانزواء عن قومه، لما يراهم عليه من عبادة الأصنام، فكان يخلو – صلى الله عليه وسلم – بنفسه، فكان يصعد إلى غار حراء شهرا من كل عام، يخلو فيه بنفسه ويعبد الله، وقد عصمه الله – عز وجل – من الكذب، والخيانة، حتى عرف بين قومه بالصادق الأمين، وعصمه من تعظيم الأصنام، وعصمه من المشاركة في لهو الجاهلية ومجونها.
- اشتغل النبي – صلى الله عليه وسلم – برعي الأغنام، وسافر للتجارة إلى بلاد الشام، وهذه الأمور من شأنها أن تربي ملكات خاصة في نفس النبي – صلى الله عليه وسلم – تعاونه في تحمل أعباء الدعوة، كما أن فيها الدليل على حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – الجادة منذ صباه، فلم يقضها – صلى الله عليه وسلم – في اللهو والمجون كما يزعمون.
- لقد شارك النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحياة الاجتماعية لأهل مكة، ولكنها مشاركات قليلة، مثل: دوره في حادث بناء الكعبة، وحمله للأمانات، وكانت هذه المشاركات مع قلتها تنم عن فطرة سامية، تنأى عن أفعال الجاهلية وانحرافاتها.
(*) محمد في مكة، مونتجمري وات، ترجمة: د. عبد الرحمن الشيخ، حسين عيسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م. افتراءات المستشرقين على الإسلام:عرض ونقد، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1413هـ/ 1992م. محمد رسول الله، أتيين دينيه، ترجمة: د. عبد الحليم محمود، الشركة العربية للطباعة، القاهرة، د. ت. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ / 1998م.
[1]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص 266.
[2]. افتراءات المستشرقين على الإسلام، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص7، 8 بتصرف.
[3]. التحنث: التعبد والتنسك.
[4]. عقل: قيد.
[5]. لقد صحح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا المفهوم الجاهلي، فجعل نصرة الظالم منعه من الظلم، وهذا ما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: « انصر أخاك ظالما أومظلوما، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره ». أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه (6552)، وفي مواضع أخرى.
[6]. دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، د. محمد رواس قلعجي، دار النفائس، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص 36.
[7]. محمد رسول الله، أتيين دينيه، ترجمة: د. عبد الحليم محمود، الشركة العربية للطباعة، القاهرة، د. ت، ص 105.
[8]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، مصر، د. ت، ج2، ص7.
[9]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص 266 بتصرف.
[10]. دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، د. محمد رواس قلعجي، دار النفائس، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص39: 42 بتصرف.
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن (4127).
[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (11937)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب المريض، باب الإبل عز لأهلها (577)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (450).
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط (2143).
[14]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص 209، 210 بتصرف يسير.
[15]. نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، الشيخ محمد الخضري، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ص8: 11 بتصرف.
[16]. ينغض: يعرض.
[17]. الصخب: ارتفاع الصوت واختلاله.
[18]. يستشرف: يتطلع إليه.
[19]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص 132 بتصرف يسير.
[20]. تحازبوا: صاروا أحزابا؛ أي: جماعات.
[21]. الرسول صلى الله عليه وسلم، سعيد حوى، دار السلام، القاهرة، ط2، 1410هـ/ 1990م، ص 206، 207.
[22]. محمد رسول الله، أتيين دينيه، ترجمة: د. عبد الحليم محمود، الشركة العربية للطباعة، القاهرة، د. ت، ص 103 بتصرف.
[23]. الكل: الضعيف والمتعب.
[24]. قرى الضيف: إطعامه.
[25]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص265.