ادعاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وخديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – وورقة بن نوفل اختلقوا القرآن والإسلام
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن أول لقاء بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وورقة بن نوفل كان بعد إعلامه – صلى الله عليه وسلم – بالنبوة من قبل أمين الوحي جبريل – عليه السلام – ولم يتكرر مثل هذا اللقاء مرة أخرى؛ بسبب موت ورقة، فكان هذا اللقاء هو الأول والأخير، فهل يعقل أن يستقي النبي – صلى الله عليه وسلم – تعاليم دينه من ورقة في لقاء واحد لم يطل؟!
2) لم ينقطع الوحي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بسبب موت معلمه ورقة بن نوفل كما يدعي المدعون، ولكن انقطاعه كان نوعا من الرياضة الروحية، ومرحلة لإعداده إعدادا نفسيا لتلقي الرسالة الكبرى.
3) ليست السيدة خديجة – رضي الله عنها – صانعة نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – فلقد تزوجت السيدة خديجة برجلين قبل النبي صلى الله عليه وسلم. فلماذا لم تعد أحدهما لهذه النبوة، بل لماذا لم تنسب هذه النبوة لابنها هند بن أبي هالة إن كانت هي صانعة النبوة كما يزعمون؟
4) لـما أخذت سن النبي – صلى الله عليه وسلم – تدنو نحو الأربعين، حبب الله – عز وجل – إليه – صلى الله عليه وسلم – العزلة والاختلاء في غار حراء، وكأنه تعالى يعده ليكون الرسول الخاتم، وكان ذلك قبل أن يلتقي – صلى الله عليه وسلم – بورقة بن نوفل، فهل يعقل أن يدعى أن ورقة هو الذي دفعه إلى العزلة والاختلاء، وحببهما إليه؟!
5) لم كان النبي – صلى الله عليه وسلم – من بين ثلاثة الأعضاء الذين اشتركوا في تلفيق الإسلام والقرآن – النبي الخاتم؟! ولم لم يؤثر العضوان الآخران – ورقة بن نوفل وخديجة – نفسيهما بهذا الأمر العظيم؟!
التفصيل:
أولا. لقاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بورقة: تداعياته وملابساته:
إذا تأملنا دعوى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد تلقى القرآن من ورقة بن نوفل ابن عم زوجته خديجة – رضي الله عنها – فإننا لا نجد دليلا يسندها، فهذه هي كتب السيرة، وكتب التاريخ، بالإضافة إلى المصادر الإسلامية من القرآن الكريم، والسنة النبوية، لا يوجد فيها أي ذكر، ولو من باب النفي عن تعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – من ورقة بن نوفل، كما لم يرد مثل هذا الاتهام على لسان كفار قريش، وقد كانوا ينتهزون أي فرصة للنيل من النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى زعموا أنه كان يتلقى الوحي من أحد الحدادين الروم في مكة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل).
ومن ثم يمكن أن نتساءل: إذا كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – علاقة وثيقة – كما يدعي هؤلاء – بورقة بن نوفل، فلماذا لم يتهمه المشركون بالتعلم منه، على الرغم من أن حجتهم في ذلك ستكون أقوى بكثير من اتهامهم إياه بتعلمه من الحداد الرومي؛ فابن نوفل قرشي عربي، ولديه المادة واللسان المفصح عما يشاء؟!
ألا يدل هذا على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم تكن له أية علاقة بهذا النصراني – ورقة بن نوفل – باستثناء هذا اللقاء الوحيد الذي تم بينهما بعد بدء نزول الوحي، بحضور السيدة خديجة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – وبنت عم ورقة بن نوفل، فعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث[1] فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: “اقرأ”، قال: “ما أنا بقارئ”، قال: “فأخذني فغطني[2] حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ”، قال: “فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3)( (العلق)”، فرجع بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرجف[3] فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – فقال: “زملوني[4]، زملوني”، فزملوه حتى ذهب عنه الروع[5]، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: “لقد خشيت على نفسي”، فقالت خديجة: “كلا والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل،[6] وتكسب المعدوم، وتقري[7] الضيف، وتعين على نوائب الحق”. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: “يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك”، فقال لي ورقة: “يا ابن أخي، ماذا ترى”؟ فأخبره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خبر ما رأى، فقال له ورقة: “هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا،[8] ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أومخرجي هم”؟ قال: “نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا”، ثم لم ينشب[9] ورقة أن توفـي، وفتر الوحي» [10] [11].
والمتأمل في هذا الحديث، وفي حياة ورقة بن نوفل يتبين له عدة أمور يستحيل معها أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – تعلم من ورقة، وهي:
- أن هذا اللقاء الذي تم بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة، قد تم بواسطة السيدة خديجة – رضي الله عنها – فلم يلجأ النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى ورقة بن نوفل من تلقاء نفسه، وهذا يدل على عدم وجود أية صلة بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة بن نوفل قبل هذا اللقاء، وصيغة الكلام والحوار بينهما تشهد وتدل على عدم وجود سابق لقاء بينهما.
- أن هذا اللقاء كان اللقاء الأول بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة؛ إذ لم ترو كتب السيرة، أو الحديث أي خبر عن لقاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بورقة بن نوفل قبل هذا اللقاء، حتى في قصة زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – بخديجة، فقد ورد في كتاب “الكامل” للمبرد أن ورقة بن نوفل كان غائبا وقت خطبة محمد – صلى الله عليه وسلم – وخديجة: “ويروى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لـما خطب خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ذكر ذلك لورقة بن نوفل، فقال: محمد بن عبد الله يخطب خديجة بنت خويلد، الفحل لا يقذع أنفه” [12] [13].
فنرى في هذا الخبر أن خطبة محمد لخديجة تمت أولا، ثم نرى الخبر يذكر بعد ذلك لورقة بن نوفل، ربما لكونه ابن عمها ويهمه العلم بذلك. والعبرة من ذلك أن ورقة بن نوفل كان غائبا عن محفل خطبة زواج محمد – صلى الله عليه وسلم – وخديجة – رضي الله عنها ـ[14]، ومن ثم لا نجد في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – أي لقاء بينه وبين ورقة بن نوفل قبل هذا اللقاء.
- أن موقف ورقة بن نوفل في تلك الحادثة يؤكد أنه لا يمكن أن يكون معلما لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في يوم من الأيام؛ فقد كان موقفه موقف المستفسر المستطلع لما حدث مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غار حراء، فلما أخبره كان موقفه التبشير والتصديق والإيمان بنبوته والتطلع للتضحية والمناصرة.
- أن ورقة لم يلبث زمنا طويلا بعد هذه المقابلة على قيد الحياة؛ إذ توفي بعد ذلك بوقت قصير، فلو كان هو مصدر العلوم والمعارف لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمن أين له – صلى الله عليه وسلم – بالتعاليم التي جاء بها بعد موته؟! وإن قيل إنه كتب القرآن له جملة واحدة ثم أعطاه له، فليس لذلك أساس من الصحة، ولا يقول ذلك عاقل، والقرآن نفسه يكذب ذلك؛ لأنه نزل مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة، على حسب الوقائع والأحداث، فمن أين لورقة هذه المعرفة بهذه الحوادث، ففي القرآن آيات عن غزوة بدر وأحد وحادثة الإفك… إلخ، فهل عرف ورقة هذه الحوادث كلها حتى يؤلف فيها قرآنا، ثم إن القرآن تضمن كثيرا من العلوم والمعارف التي لم يصل البشر إلى معرفتها إلا في زمن قريب، فمن أين لورقة بهذا[15]؟!
- أن طبيعة اللقاء بينه – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة لم تكن تسمح بالتعلم أو التلقي، بل إنها لتنفي إمكانية حصول ذلك؛ لأن اللقاء كان عابرا قصيرا، فهل يسمح هذا اللقاء القصير بتلقي مثل هذا القرآن المعجز جملة أو حتى شيء منه؟
- أن ورقة نفسه لم يكن متمكنا في الديانة النصرانية؛ إذ إنه كان وثنيا على دين قريش ثم تنصر، وهذا واضح في حديث البخاري: “وكان امرأ تنصر في الجاهلية”، وقصة تنصره معروفة، وذكرت في كثير من المصادر التاريخية الإسلامية، والراجح أن ذلك قد حدث في وقت متأخر من حياة ورقة بن نوفل، ولم يكن لديه من العلم مهما بلغ ما يميزه عن غيره من رهبان نصارى العرب، بدليل سفره إلى الشام، وطلبه للنصرانية هناك، ثم عودته إلى مكة، واعتزاله أهلها، وما هم فيه من ضلال وعبادة أوثان، ولم يسمع عنه أنه دعا قومه للنصرانية أو ترك عبادة الأوثان، وكذلك لم تكن له أية محاولة لإصلاح مجتمعه الوثني، بل اكتفى بالعزلة والابتعاد عن الناس والاجتهاد في التعبد لإحساسه بدنو أجله.
ومن ثم فلم يكن لورقة أي هدف دعوي أو إصلاحي سوى التمني ومطالعة كتب الديانات القديمة التي تبشر بنبي سوف يمحو الله – عز وجل – به الظلمة، ويقيم على يديه الملة العوجاء، ولا نريد بذلك الطعن في ورقة بن نوفل؛ لأن الخطأ لم يكن خطأه بل خطأ بيئة مكة، فلم يكن أهلها الوثنيون ليسمحوا لورقة أو لغيره بتسفيه عقولهم وسب آلهتهم، وليس ما تعرض له زيد بن عمرو بن نفيل – صديق ورقة القديم – من اضطهاد وتعذيب ونفي خارج مكة بعيدا عن ناظري ورقة.
من كل هذه الحقائق التي ذكرناها يتضح لنا استحالة تعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – من ورقة بن نوفل؛ لأن هذه دعوى بغير دليل، فلا يمكن أن ننسخ حكم التاريخ والشهود الثقات، والقرائن الحاسمة، لنأخذ بدعوى ساقطة منقوضة الأصل والأساس، فمهما بلغ عقل ورقة بن نوفل، ومهما كان صاحب نظر ثاقب، ومهما كان عبقريا فذا، فلم يكن بمقدوره، ولا مقدور غيره من البشر، أن يأتي بمثل سورة من القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومن ثم فلا يمكن لعاقل أن يزعم أن ورقة بن نوفل هو مصدر الوحي المحمدي؛ لأنه لو كان كذلك فلماذا لم ينسب هذا الوحي لنفسه؟! ولماذا يتنازل عن هذا الكنز الثمين – القرآن والنبوة – لمحمد بن عبد الله؟ وإذا كان لقائل أن يقول: إن سن ورقة وإصابته بالعمى قد حالت بينه وبين ذلك، فلماذا لم يختر رجلا من قومه – بني أسد – ليقوم بهذه المهمة، ويكون الشرف كله لهم؟!
ثانيا. نفي كون السبب في انقطاع الوحي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – موت ورقة:
إن فترة الوحي وانقطاعه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من الأمور الثابتة التي روتها أحاديث عديدة، ونحن نقبل ذلك ولا ننكره، ولكن الذي لا نقبله هو القول بأن هذه الفترة كانت بسبب موت ورقة بن نوفل؛ فقد علل بعض العلماء لفترة انقطاع الوحي هذه بأنها كانت “ليذهب ما كان يجده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الرعب والاضطراب بسبب بدء تجربة الوحي، وليحصل له بانقطاع الوحي بعدها التشوق إلى العود” [16]، وذلك يؤدي إلى قدرة أكبر على تحمل العناء في وجود هذا الشوق، بعد أن تطمئن نفسه ويهدأ قلبه، ويزول أثر المفاجأة الكبرى، فيتطلع مرة أخرى إلى تكرار هذه التجربة العظيمة التي يتصل فيها الإنسان بقوى من عالم الغيب.
وهذا مما يتفق مع طبيعة الأمور، وواضح من مجموع الروايات كلها أن تجربة بدء الوحي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالآيات الأولى من سورة (اقرأ)، كان لها أثر هائل في نفسه انعكس في شعور يجمع بين الرعب والفزع – من التجربة غير المألوفة – والتطلع إلى استكمال جوانبها ومعرفة أبعادها، وذلك لما أوتيه الإنسان – على وجه العموم – من رغبة اكتناه سر المجهول والاتصال به، وهو ما يعرف بـ “غريزة حب الاستطلاع”، وأيضا فإن محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – كان يجمع إلى هذه الرغبة الأصيلة في الإنسان شعورا قويا وملحا نما وتمكن على مر الأيام في نفسه، بأن ما عليه قومه من وثنية وعادات اجتماعية ليس هو الحق، ولعله – بعد أن مرت به تجربة بدء الوحي، وبعد ما حدثه به ورقة – تطلع إلى استكمال أسرار هذه التجربة النادرة العظيمة، على الرغم مما اقترن بها من رعب وفزع واضطراب.
“وما نظن أن فترة الوحي وانقطاعه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على هذا النحو، إلا كانت نوعا من الرياضة الروحية، ومرحلة من إعداده النفسي لتلقي الرسالة الكبرى، خاتمة رسالات الله إلى البشر، وما نظن – أيضا – أن الأحداث غير المألوفة التي مرت به من قبل – والتي تمثلت في تفرده وانعزاله عن كثير من مفاهيم بيئته وعقائدها، انتهت به إلى العزلة والرؤيا الصادقة – إلا كانت مراحل سابقة في إعداده لتلقي رسالة الله.
حتى إذا ما بلغ به الشوق إلى معاودة هذه التجربة، وزال عنه رعبها ومفاجأتها، وثبت لديه يقين قاطع بأن ما أتاه إنما كان حقا من الله، وأنه مقدمة لما بعده – جاءه الأمر من الله وعاودته التجربة الهائلة مرة أخرى تأمره بأن يقوم، وأن يطهر ثوبه؛ لينهض إلى إنذار الناس بما أتاهم مما نزل عليه” [17].
ومن ثم فلم يكن موت ورقة بن نوفل، هو سبب فتور الوحي وانقطاعه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يزعم هؤلاء، وإلا لانقطع الوحي تماما لموت ورقة بن نوفل، وهذا ما لم يكن، فسرعان ما تتابع الوحي على النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد هذه الفترة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه لم ينزل من القرآن في حياة ورقة إلا سورة العلق فقط، وهي سورة نزلت بنفس أسلوب سائر السور التي نزلت بعد وفاة ورقة، كما أنه لم يعاصر التسلسل التاريخي للحوادث الواردة في القرآن، فأين ورقة من سؤال يسأله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنرى الإجابة قد وجدت في حينها، وجاء القرآن يشرحها ويحدد موقفه منها؟ وكيف لورقة – أو غيره – أن يعرف حوادث جرت بعد وفاته بعشرات السنين[18]؟
ونخلص مما سبق كله إلى أن العلاقة التي تربط بين انقطاع الوحي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين موت ورقة بن نوفل، لا تتعدى مجرد الارتباط التزامني بين حدثين تاريخيين.
ثالثا. ليست خديجة – رضي الله عنها – صانعة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد عاشت أمنا السيدة خديجة – رضي الله عنها – مع زوجها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر من عشر سنوات قبل البعثة، فلو صح ادعاء المدعين أن لها – رضي الله عنها – دورا كبيرا في صناعة نبوته – صلى الله عليه وسلم – وفي تلفيق الدين الذي جاء به، فلماذا – إذن – سكتت عن تثقيفه وتعليمه وتأهيله للنبوة هذه المدة الطويلة؟!
ومن الثابت تاريخيا أنها – رضي الله عنها – تزوجت قبل النبي – صلى الله عليه وسلم – برجلين، فلماذا إذن لم تنسب هذه النبوة وذلك الدين لأحد زوجيها أو كليهما؟ بل ولماذا لم تنسب ذلك كله إلى ابنها من أبي هالة: هند بن أبي هالة أو حتى تنسبه لنفسها؟! ولماذا لم تنقطع التعاليم الدينية التي جاء بها النبي – صلى الله عليه وسلم – والتي يزعمون أنها – رضي الله عنها – علمته إياها، بعد وفاتها – رضي الله عنها ـ؟! ولا أحد ينكر الدور الذي قامت به السيدة خديجة – رضي الله عنها – في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة وبعدها، إلى أن توفيت، وهو عنها راض كل الرضا، ولها وفي كل الوفاء.
رابعا. إن الله – عز وجل – هو الذي حبب إلى نبيه – صلى الله عليه وسلم – العزلة والاختلاء، وكان ذلك قبل أن يلتقى – صلى الله عليه وسلم – بورقة:
لا مجال لادعاء مدع أن ورقة بن نوفل هو الذي درب النبي – صلى الله عليه وسلم – على العزلة والاختلاء وحببهما إليه؛ وذلك أن المطالع لكتب السيرة والتاريخ يتأكد أنه صلى الله عليه وسلم “لـما أخذت سنه تدنو نحو الأربعين، نشأ لديه حب للعزلة بين الفترة والأخرى، وحبب الله – عز وجل – إليه الاختلاء في غار حراء – جبل يقع في جانب الشمال الغربي من مكة – فكان يخلو فيه، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرة وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، ثم يعود إلى بيته فلا يكاد يمكث فيه قليلا، حتى يتزود من جديد لخلوة أخرى، ويعود الكرة إلى غار حراء، وهكذا إلى أن جاءه الوحي، وهو في إحدى خلواته تلك” [19].
إن انعزال النبي – صلى الله عليه وسلم – عن كثير من مفاهيم بيئته وعقائدها، وخلوته في غار حراء – يدلان على أن الله – عز وجل – يهيئه ويعده لتلقي الرسالة الكبرى، فإذا علم من هذا أن اختلاء النبي – صلى الله عليه وسلم – في غار حراء كان يسبق بداية نزول الوحي عليه، وأن اللقاء الوحيد الذي جمع بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وورقة بن نوفل كان بعد نزول جبريل عليه السلام – فإن ذلك ينفي نفيا قاطعا أن يكون لورقة أدنى تأثير في حب النبي – صلى الله عليه وسلم – للاختلاء والعزلة.
خامسا. لم كان النبي صلى الله عليه وسلم – من بين الأعضاء الثلاثة – النبي الخاتم؟!
إن العقل يقضي بأن المرء الذي يفتري على الله – عز وجل – بأن يختلق دينا جديدا ويلفقه ويدعي أنه دين سماوي، ثم يواصل افتراءاته عليه – عز وجل – فيؤلف لهذا الدين الجديد كتابا يدعي أنه كتاب سماوي منزل من قبله عز وجل – إن هذا العقل يقضي بأن هذا المرء لا يتورع عن أن يؤثر نفسه دائما على الآخرين، ولو كانوا أولي قرباه، وأن يتصاعد هذا الإيثار إلى أبعد مدى. وترتيبا على هذا فإننا نتوجه إلى مثيري هذه الشبهة بالتساؤلات الآتية:
إذا كان لورقة بن نوفل وخديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – مشاركة فعالة في صنع نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وإذا كان الثلاثة اتفقوا على تلفيق الإسلام والقرآن، فلماذا وقع الاختيار على محمد – صلى الله عليه وسلم – دون العضوين الآخرين، مع أن لهما – كما يدعون – الأثر المباشر والأكثر فعالية في صنع نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم؟! ولم لم يؤثر أحدهما نفسه بهذا الأمر العظيم؟! وإذا كان ورقة وقتها شيخا كبيرا أعمى، تقعد به آفة العمى، وتقعد به شيخوخته عن أن يقوم بأعباء الرسالة، فلماذا لم يختر أحد أقاربه، فيخصه بهذا الأمر العظيم؟! وإذا كانت خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – شريكة في ذلك الأمر، فلماذا لم تنسب لنفسها ذلك الفضل كذلك، ألم تكن ذات وجاهة اجتماعية في قومها، وعندها من المال ما قد يساعدها في تحقيق ذلك؟!
الخلاصة:
- إن أول لقاء بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وورقة بن نوفل كان بعد نزول جبريل – عليه السلام – على النبي – صلى الله عليه وسلم – وإعلامه إياه بالنبوة، ولقد تم هذا اللقاء بواسطة خديجة – رضي الله عنها – بوصفها ابنة عم ورقة، مما ينفي وجود أية صلة بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وورقة، ولم يتكرر هذا اللقاء مرة ثانية، بسبب موت ورقة، فهل يكفي لقاء واحد قصير في أن يصنع ورقة للنبي – صلى الله عليه وسلم – نبوة، أو أن يؤلف له دينا؟!
- من الثابت تاريخيا أن الوحي انقطع عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد تجربة الوحي المشهورة، والتي أعلم فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنبوة، ولا علاقة بين هذا الحدث، وبين وفاة ورقة؛ فما هذان الحدثان إلا حدثان تاريخيان ارتبطا ارتباطا تزامنيا فحسب.
- إن السيدة خديجة – رضي الله عنها – بريئة كل البراءة مما نسبه إليها الطاعنون من مشاركتها في صنع نبوة زوجها – صلى الله عليه وسلم – وإذا كانت كما يقولون فلم صبرت عن صنيعها هذا طوال حياتها مع النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يبعث؟! ولم لم تختص أحد زوجيها اللذين تزوجتهما قبل النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذا الأمر العظيم، أمر النبوة والرسالة؟! ولم لم تنقطع التعاليم التي جاء بها النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد وفاتها؟!
- إذا علم أن اختلاء النبي – صلى الله عليه وسلم – في غار حراء كان يسبق بداية نزول الوحي إليه، وأن اللقاء الوحيد الذي جمع بينه – صلى الله عليه وسلم – وبين ورقة كان بعد نزول جبريل – عليه السلام – تأكد نفي أن يكون لورقة أي تأثير في حبه – صلى الله عليه وسلم – للاختلاء والعزلة.
- لو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وورقة وخديجة شاركوا في تلفيق الدين الإسلامي ووضع نبوته – صلى الله عليه وسلم – فلم كان – صلى الله عليه وسلم – النبي الخاتم، من دونهما؟! ولم لم يؤثر العضوان الآخران نفسيهما بهذا الأمر العظيم؟!
(*) لكن محمدا لا بواكي له، د. إبراهيم عوض، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 2001م. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1998م. الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، د. محمود ماضي، دار الدعوة، القاهرة، 1416هـ/ 1996م. فترة التكوين في حياة الصادق الأمين، خليل عبد الكريم، ميريت للنشر والمعلومات، مصر، 2001م. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/ 1978م.
[1]. التحنث: التعبد.
[2]. غطني: ضمني وعصرني.
[3]. يرجف: يخفق ويضطرب.
[4]. زملوني: غطوني ولفوني بالثياب.
[5]. الروع: الفزع.
[6]. الكل: المتعب العاجز.
[7]. تقري: تطعم.
[8]. الجذع: الشاب القوي.
[9]. ينشب: يلبث.
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (422).
[11]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص59: 61.
[12]. الفحل لا يقذع أنفه: مثل يضرب للكفء الذي لا يرد في الزواج.
[13]. الكامل في اللغة والأدب، أبو العباس المبرد، مؤسسة المعارف، بيروت، د. ت، ج1، ص93.
[14]. نقض الاشتباه بتعلم الرسول من ورقة بن نوفل، حسن يوسف الأطير، مكتبة النافذة، مصر، ط1، 2007م، ص16.
[15]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية ورد الشبهات عنها، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص474 بتصرف.
[16]. مدخل إلى الدراسات القرآنية، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، ط4، 1418هـ/ 1997م، ص76.
[17]. مدخل إلى الدراسات القرآنية، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، ط4، 1418هـ/ 1997م، ص75، 76 بتصرف.
[18]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص35.
[19]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص64.