ادعاء أن الهجرة إلى المدينة كانت هروبا ً
وجها إبطال الشبهة:
1) الهجرة سنة الأنبياء جميعا، وهي جهاد إيجابي وحفظ للدين، وقد كانت هجرة المسلمين ابتلاء ومحنة، ولم تكن قط هروبا من مسئولية تحمل الدعوة.
2) كانت الهجرة عملا واجبا؛ تكثيرا لسواد المسلمين، ومفارقة لأرض العدو المحارب، ونصرة للمسلمين في مجتمعهم الجديد، وأخذا بالأسباب لإقامة دولة الإسلام في البيئة المناسبة.
التفصيل:
أولا. الهجرة سنة الأنبياء جميعا، فهي جهاد إيجابي في صورة محنة وابتلاء، ولم تكن قط هروبا من الواقع أو تنصلا من المسئولية الدعوية:
لقد اعترفت الكتب المقدسة التي يدين بها أصحاب الشبهة بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وهجرته، وأنه خرج من بين السيوف، لكن الترجمة الحديثة لهذه الكتب هي التي سمتها هروبا.
ألم يتفكر هؤلاء في فداحة التضحية بترك الدار والمال، والأهل، والبلد؟
أكل من هاجر من الأنبياء يعدونه هاربا؟ وإذا كان كذلك، فما قولهم في هجرة إبراهيم، وصالح، وهود، ولوط، وموسى، وعيسى، عليهم السلام ـ؟
كيف يمدح عيسى المطرودين بأن لهم ملكوتا في السماء ثم يذم أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – لأنهم خرجوا من ذل الاستضعاف إلى القوة والعزة الذي ساعدهم على نشر دينهم؟!!
إن الهجرة جهاد إيجابي يستجمع فيه صاحبه قدرته ليواجه مواجهة شاملة.
هذا ولم يفكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الهجرة إلا بعد أن اشتد به وبأصحابه أذى قريش واضطهادها لهم، فهاجروا إلى المدينة فرارا بدينهم وعقيدتهم من هذا الاضطهاد، وقد هاجر المسلمون قبل ذلك إلى الحبشة، لذات السبب رغم بعد الشقة([1]) واختلاف اللسان والبيئة والدين، ولكن المدينة هذه المرة تقدم للرسول – صلى الله عليه وسلم – وللمسلمين ما لم تقدمه الحبشة من لسان مشترك، وبيئة واحدة، بل وأهم من ذلك كله تقدم لهم أنصارا في دين الله.
وقد كان الفرار بالدين والعقيدة من أرض الاضطهاد والتعذيب إلى أرض توجد فيها عوامل الحرية والتسامح، لإقامة شعائر الدين، هي سنة الله مع أنبيائه جميعا، فقد خرج موسى – عليه السلام – فرارا من فرعون وبطشه، وهرب نوح – صلى الله عليه وسلم – ومن آمن معه في الفلك، واعتزل هود وصالح قومهما لما كفروا وعتوا، وهرب لوط ومن آمن معه من فسق قريته، وتعرضهم له بالأذى، وهرب عيسى فرارا بدينه من بطش بني إسرائيل.
وكذلك كانت هجرة المسلمين، فلم تكن هربا من الدعوة، بل كانت محنة جديدة في الإسلام، “وإنما كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – في مكة فتنة الإيذاء والتعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان السخرية، فلما أذن لهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالهجرة، أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودورهم.
ولقد كانوا أوفياء لدينهم، مخلصين لربهم أمام الفتنة الأولى والآخرة؛ فقابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد، حتى إذا أشار لهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالهجرة إلى المدينة توجهوا إليها، وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع ونشب، ذلك أنهم خرجوا مستخفين متسللين، ولا يتم ذلك إلا إذا تخلصوا من الأمتعة والأثقال، فتركوا كل ذلك في مكة ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عنه بمنح الإخوة الذين ينتظرونهم في المدينة ليئووهم وينصروهم.
وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله، لا يبالي بالوطن ولا بالمال والنسب في سبيل أن يسلم دينه.
هذا عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مكة، أما أهل المدينة الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم ونصروهم، فقد قدموا المثل الصادق للإخوة الإسلامية والمحبة في الله عز وجل.
والله – عز وجل – قد جعل أخوة الدين أقوى من أخوة النسب؛ ولذلك كان الميراث في صدر الإسلام على أساس وشيجة([2]) الدين، وأخوته، والهجرة في سبيله، ولم يستقر حكم الميراث على أساس علاقة القرابة إلا بعد أن تكامل الإسلام في المدينة، وصارت للمسلمين دار إسلام قوية منيعة.
يقول الله عز وجل: )إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72)( (الأنفال) ([3]).
ولأن الهجرة لم تكن أمرا سهلا، بل كانت بلاء جديدا، فقد ذم الله تعالى من تخلف عنها حين أمر الله بها، ويوضح لنا الشيخ سيد قطب – رحمه الله – كيف كانت الهجرة شاقة على النفوس، وكيف كانت محنة في حد ذاتها، إذ يقول: وهكذا نزلت هذه النصوص تسمي هؤلاء القاعدين؛ محافظة على أموالهم ومصالحهم، أو إشفاقا من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق، تسميهم: )ظالمي أنفسهم( (النحل: 28)، بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة، وألزموها الحياة في دار الكفر، تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة، وتوعدهم: )جهنم وساءت مصيرا (115)( (النساء)، مما يدل على أنها تعني الذين فتنوا عن دينهم بالفعل هناك… وتسألهم الملائكة: )فيم كنتم( (النساء:97)، فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع!
ويجيب هؤلاء المحتضرون – في لحظة الاحتضار – على هذا الاستنكار جوابا كله مذلة، ويحسبونه معذرة على ما فيه مذلة: )قالوا كنا مستضعفين في الأرض( (النساء) كنا مستضعفين يستضعفنا الأقوياء، كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا.
وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية([4])، وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة، فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم، بل يواجهونهم بالحقيقة الواقعة، ويؤنبونهم على عدم المحاولة والفرصة قائمة: )قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها( (النساء: 97).
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم – إذن – على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان، إنما كان هناك شيء آخر وهو حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم – يمسكهم في دار الكفر وهناك دار الإسلام، ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة، والهجرة إليها مستطاعة مع احتمال الآلام والتضحيات. وهنا ينتهي المشهد المؤثر، بذكر النهاية المخيفة: )فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97)( (النساء).
ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر، والتعرض للفتنة في الدين، والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف والنساء والأطفال، فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته. بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار: )إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98)( (النساء)، ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان، متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين، وفي بيئة معينة، يمضي حكما عاما، يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض، وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته، أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها، متى كان هناك – في الأرض في أي مكان – دار للإسلام؛ يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها عباداته، ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة.
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية، التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها، وتشفق من التعرض لها، وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معا. فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة – سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه – في حالة الهجرة في سبيل الله، وبضمان الله للمهاجر منذ أن يخرج من بيته مهاجرا في سبيله، ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق، فلا تضيق به الشعاب والفجاج([5]):)ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (100)( (النساء).
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة وهي تواجه مخاطر الهجرة في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة، والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين.
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة؛ فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف والأخطار – بما في ذلك خطر الموت -، ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمان الله سبحانه وتعالى.
فهو أولا يحدد الهجرة بأنها )في سبيل الله( وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام، فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة، ومن يهاجر هذه الهجرة – في سبيل الله – يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة للنجاة وللرزق والحياة: )ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة( (النساء).
ولكن المنية قد توافي الإنسان في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله، والموت – كما تقدم في سياق السورة – لا علاقة له بالأسباب الظاهرة؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم، وسواء أقام أم هاجر، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر.
ويخلص لنا من استعراض محنة الهجرة هذه أن النفس البشرية هي النفس البشرية، وأنها قد تحجم([6]) أمام الصعاب، أو تخاف أمام المخاطر، وتكسل أمام العقبات في خير الأزمنة وخير المجتمعات، وأن منهج العلاج في هذه الحالة، ليس هو اليأس من هذه النفوس، ولكن استجاشتها وتشجيعها وتحذيرها وطمأنتها في آن واحد، وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم([7]).
ثانيا. لقد كانت الهجرة تصرفا واجبا، فيه مفارقة لبلاد الحرب وتكثيرا لسواد المسلمين في مجتمعهم الجديد، وأخذا بالأسباب؛ لإقامة دولة الإسلام في البيئة المناسبة:
روى القرطبي عن ابن العربي: “أن هذه الهجرة كانت فرضا في أيام النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح إنما هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن بقي في دار الحرب عصى”([8]). ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة، ومما يستدل به على ذلك قوله تعالى: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98)( (النساء).
يقول سيد قطب – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين، أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق، وهم قادرون – لو أرادوا واعتزموا التضحية – أن يهاجروا، حتى يحين أجلهم، وتأتي الملائكة لتتوفاهم، يتحدث عنهم فيصورهم صورة مزرية منكرة؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته، وبمصيره عند ربه.
لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية – في مكة وغيرها – بعد هجرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقيام الدولة المسلمة، فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا، حبستهم أموالهم ومصالحهم – حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجرا يحمل معه شيئا من ماله – أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة – حيث لم يكن المشركون يدعون مسلما يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق – وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلا للهجرة.
وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه، ومنعهما من الهجرة، وبعد قيام الدولة المسلمة، وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم، فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألوانا من العذاب والنكال، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد.
وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلا، واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية([9])، ومشاركة المشركين عبادتهم، وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها – متى استطاعوا – فأما بعد قيام الدولة، ووجود دار الإسلام – فإن الخضوع للفتنة، أو الالتجاء للتقية، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام، والحياة في دار الإسلام – أمر غير مقبول([10]).
ومعلوم وجوب الهجرة لنصرة المسلمين بعضهم بعضا مهما اختلفت ديارهم، فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين في أي جهة من جهات الأرض ثم لم يفعلوا ذلك، فقد باءوا بإثم كبير.
يقول أبو بكر بن العربي: إذا كان في المسلمين أسراء أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى منا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك”([11]).
وكما تجب موالاة المسلمين بعضهم لبعض، فإنه يجب أن تكون هذه الموالاة فيما بينهم، ولا يجوز أن يشيع شيء من الولاية أو التناصر أو التآخي بين المسلمين وغيرهم، وهذا ما يصرح به كلام الله – عز وجل – إذ يقول: )والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (73)( (الأنفال).
يقول ابن العربي: “قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم”.
ولا ريب أن تطبيق مثل هذه التعاليم الإلهية هو أساس نصرة المسلمين في كل عصر وزمن، كما أن إهمالهم لها وانصرافهم إلى ما يخالفها هو أساس ما نراه اليوم من ضعفهم وتفككهم وتألب([12]) أعدائهم عليهم من كل جهة وصوب([13]).
ولقد كانت الهجرة أخذا بالأسباب لإقامة دولة الإسلام في البيئة المناسبة؛ “إذ إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن التمكين: سنة الأخذ بالأسباب؛ ولذلك يجب على الأفراد والجماعات العاملة للتمكين لدين الله من فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع، والتوكل على الله – سبحانه وتعالى – لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما أمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها.
“ولقد قدر الله – سبحانه وتعالى – لدينه أن ينتصر، وللمسلمين أن يمكنوا، وللمشركين أن ينهزموا، ومع ذلك فهل قال الله تعالى للمسلمين: ما دمت قدرت لكم النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا إنفاذ قدري، وهو لا بد نافذ؟ كلا، وإنما قال لهم: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم( (الأنفال: 60)، وقال عز وجل: )ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض( (محمد: 4)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7)( (محمد).
فلا بد من اتخاذ الأسباب للنصر والتمكين، وإن كان ذلك قدرا مقدورا من عند الله”، “وليس الله – سبحانه وتعالى – عاجزا عن نصرة الحق بغير الأدوات البشرية – وهو الذي يقول للشيء كن فيكون – ولكن هكذا اقتضت مشيئته، وهكذا تجري سنته”.
ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو أفضل المتوكلين، كان أوعى الناس بهذه السنة الربانية، فكان وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئا يسير جزافا، والمتتبع للسيرة النبوية يلمس ذلك تماما..”([14]).
يقول ابن إسحاق: “فلما أذن الله تعالى له – صلى الله عليه وسلم – في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن تبعه وآوى إليه من المسلمين، أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: “إن الله – عز وجل – قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها”، فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة”([15]).
لقد قيلت مثل هذه الكلمة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للمسلمين يوم دعاهم للهجرة إلى الحبشة: «إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده»([16])، واليوم يقول: “إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها”.
والفرق بين المركزين والمنطلقين واضح:
- فمن حيث الموقع: نجد الحبشة بعيدة، ولا تصلح لأن تكون مركزا لإقامة الدولة بعيدا عن الأرض والبيئة العربية، ومهما قويت فستبقى محصورة ضمن إطار المهاجرين أنفسهم، والحركة ستكون مشلولة للمواجهة، بينما نجد المدينة وإن كانت بعيدة نوعا ما عن مكة، لكنها تحتل موقعا حساسا بالنسبة لمكة، فهي قادرة على خنق مكة اقتصاديا؛ لأن طريق قوافل قريش عليها، والتجارة عصب الحياة لقريش، كما أن البيئة واحدة، والعرب يمكن أن تتم الدعوة في صفوفهم وأن يتقبلوها بيسر وطواعية.
- ومن حيث العنصر البشري: فالاعتماد في الحبشة على الحاكم العادل، الذي قد يتغير في أية لحظة، فيصبح المسلمون على خطر داهم، وقد رأينا أن ذلك قد وقع فعلا حين قامت الثورة ضد النجاشي، فهيأ للمسلمين سفينتين ليغادروا الحبشة إن تم النصر لعدوه، وهو يعلم أن المسلمين هم المستهدفون من هذه الثورة، بينما الاعتماد في المدينة على الإخوان فيها، على التجمع الإسلامي الكبير الذي أصبح يمثل الكثرة الكبيرة فيها.
والحركة الإسلامية عموما حين تبحث عن الأرض ليست دائما تملك الحرية التي تريدها للاختيار، فقد تضطرها الظروف إلى مكان غير مناسب تماما، ولا بد لها من قبوله ريثما تجد المكان الأفضل، لقد بقيت الحبشة مأمنا للمسلمين فترة طويلة حتى بعد وجود يثرب، ولكنها لم تكن مركزا لإقامة الدولة، وحين أتيحت الظروف في المدينة، كانت بتوفيق رباني أن قبل وفد الحجيج اليثربي الإسلام، فلو فشلت المفاوضات مثلا على الإسلام أو الحماية، أو نجحت محادثات النبي – صلى الله عليه وسلم – مع حجيج شيبان أو كندة، لكان الموقع متغيرا حسب المعطيات القائمة، وأدى هذا إلى رحيل عائلات بأكملها، فقبيلة بني غنم من بني أسد رحل أربعة عشر رجلا منهم وسبع نسوة بمجرد الإذن بالرحيل، كما تحرك عمر – رضي الله عنه – وأهله وعشيرته وحلفاؤه، وتتابع المسلمون يهاجرون فلا يحس المشركون بهم إلا وهم خارج مكة([17]).
لقد كانت بيعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع بضع وسبعين من الأنصار – وهم مقدمة الأنصار في المدينةـ وانضمام قافلة جديدة إلى موكب الإيمان من قبيلة أسلم – والتي كان بريدة بن الحصيب على رأسها – يعتبر تغيرا خطيرا في مراحل الدعوة، فلم تعد المدينة وحدها صاحبة اللواء الإسلامي المرفوع؛ إذ انضم إليها حليف قوي من أسلم، بهذا التجمع الكبير والجمهرة الضخمة. وهذا يعني أن الطريق بين مكة والمدينة صار محفوفا بالمخاطر من هؤلاء، هؤلاء إن لم يتمكنوا من صد هجوم قريش فلا أقل من أن يرصدوه، ويرصدوا كل التحركات المعادية ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كان سرور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عظيما بدخول هذه القاعدة في الإسلام؛ إذ قال: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها»([18]). ويشير هذا المعنى إلى أن قوة المسلمين وظهور تجمعهم قد جعل القبائل المجاورة على استعداد لقبول الإسلام والانضمام إليه.
كما يشير المعنى كذلك إلى أن الدعوة إلى الله تعالى تبقى هي الهدف الرئيس للمسلمين، فرغم أن الظروف على الطريق إلى المدينة لم تكن ظروفا مؤهلة للخوض في تفاصيل الإسلام، لكن الهدف الرئيس دائما تتجاوز الظروف من أجله، وعلى الدعاة إلى الله أن يكونوا دائما على أهبة([19]) الاستعداد للدعوة إلى الله على بصيرة([20]).
ومما يزيد الأمر وضوحا: أن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له، وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلموا إلى يثرب!! فلم تكن الهجرة تخلصا فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاونا عاما على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.
وأصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة – بعد الهجرة إليها – نكوصا عن تكاليف الحق، وعن نصرة الله ورسوله، فالحياة بها دين؛ لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها([21]).
ويؤكد د. مونتجمري وات على أن الهجرة لم تكن هروبا من الاضطهاد وإنما لفتح آفاق جديدة للدعوة الإسلامية، وإقامة دولة إسلامية في وطن مهيأ لذلك بعد بيعتي العقبة الأولى والثانية، وتكوين ركيزة مؤمنة هناك في المدينة تعتمد عليها الدعوة، وتقوم على أكتافها الدولة الناشئة وفق التعاليم الإسلامية، يقول: أما وقد بايع أهل المدينة محمدا على دعمه وتأييده، فإنه لم يضيع وقتا، فشرع في تنفيذ خططه، لقد ظلت البيعة سرية وكان لا بد من إنجاز أكبر قدر ممكن قبل القيام بأعمال واضحة صريحة تعطي لأعداء محمد – صلى الله عليه وسلم – دلالات على ما يريد عمله، وعلى هذا، فقد أمر أتباعه بمغادرة مكة إلى المدينة. ورواية ابن إسحاق توضح أن دوافع النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه لذلك كانت هي إمكانية ازدهار الحركة في المدينة، أما قول عروة بن الزبير أنهم هاجروا للمدينة هربا من الاضطهاد، فالتركيز على ذلك يعطي انطباعا خاطئا، فلم تكن هناك سلسلة جديدة متواصلة من الاضطهاد قبل الهجرة، اللهم إلا إذا استثنينا من ذلك حالة أبي سلمة، والإهانات التي لاقاها محمد – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر الصديق، لكن ربما تحركت نوازع الاضطهاد بعد ذلك عندما تحقق زعماء قريش مما سيفعله محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي ظل هذه الظروف، يمكننا أن نفترض أن توجيهات محمد – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه كانت حثا وتشجيعا ونصحا وليست أوامر، فقد بقي في مكة نعيم النحام وكان مسلما بارزا، وبقي آخرون، ولم يكن ذلك يعني ارتدادهم عن الإسلام، وقد أشار القرآن الكريم على ذلك فقال: )إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72)( (الأنفال).
وهكذا يتبين لنا أن هجرة المسلمين من أرض الاضطهاد إلى أرض القوة والحرية؛ لإقامة شعائر الدين، هو انتصار للدين والعقيدة وليس هروبا.
الخلاصة:
- إن الهجرة ليست هروبا، بل إنها تضحية كبيرة بترك الدار والمال والأهل والبلد، ولا تستطيعها إلا النفوس الكبار، لذلك فإنها كانت سنة الله مع أنبيائه، فأغلبهم هاجر من أرض الاستضعاف إلى أرض القوة والحرية، ولا شك أن المهاجر وجد في مكان الهجرة ما لم يجده في موطنه الأول من القوة والحرية والأنصار والتسامح، لإقامة شعائر دينه، فالهجرة تمثل أسمى درجات الإيجابية والقوة في مواجهة الطغيان والاستبداد، وقد ذم القرآن هؤلاء الذين استكانوا للذل والاضطهاد وعاب عليهم عدم التحرك للقيام بعمل حاسم يخرجهم مما هم فيه من الاستضعاف.
- كانت هجرة المسلمين إلى المدينة تصرفا استراتيجيا واجبا؛ حيث فارق المسلمون بلاد الكفر ودياره، وهاجروا إلى مجتمعهم الجديد، ليأخذوا بالأسباب لإقامة دولة الإسلام في البيئة المناسبة.
- الهجرة ليست هروبا كما يدعون، ولو كانت كذلك، فهل نطلق على هجرة الأنبياء والرسل قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – هروبا؟! أمثال: نوح وإبراهيم ولوط وهود وموسى ويونس وعيسى – عليهم السلام -، كل ما يمكن أن يطلق على هذه الهجرة أنها كانت صورة من صور الولاء والبراء، وبحثا مشروعا عن أرض جديدة وأفق جديد، تنطلق منه دعوة الإسلام الخالدة، وتجد فيه المتنفس الصالح والجو المناسب لقيام الدين والشريعة.
(*) دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، الشيخ محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، 2002م.
[1]. الشقة: السفر البعيد.
[2]. الوشيجة: الصلة.
[3]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص137، 138 بتصرف.
[4]. الزراية: الاحتقار.