ادعاء أن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر يتنافى مع عصمته
وجوه إبطال الشبهة:
1) مما لا شك فيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بشر له صفات البشر، ويتعرض لما يتعرض له سائرهم من المرض والشفاء، والحزن والفرح، والعسر واليسر، فلماذا ينكرون عليه أن يسحر، والسحر مرض كغيره من الأمراض؟!
2) تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر ثابت في أصح كتب السنة، بيد أن سحره لا يتعارض مع عصمته؛ لأنه لم يؤثر في قواه العقلية أو صفته الشرعية، وإنما أثر في شيء من نشاطه البدني فحسب.
3) إن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا يتعارض مع آية واحدة في القرآن الكريم، بل إن بعض آيات القرآن تؤيد حدوث هذا الأمر مثل المعوذتين.
4) لقد شاء الله – عزوجل – أن يقع هذا السحر على النبي – صبى الله عليه وسلم – لحكمة عظيمة، وهي أن تستفيد الأمة، وتتعلم ماذا تفعل إن حدث لأحد أفرادها شيء مثل هذا.
التفصيل:
أولا. النبي – صلى الله عليه وسلم – بشر؛ يتعرض لما يتعرض له البشر من المرض والشفاء، والحزن والفرح، والسحر من جملة تلك الأمراض:
نقر في البدء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وسائر الأنبياء والرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – بشر كغيرهم من الناس، يطرأ عليهم ما يطرأ على سائر البشر من حيث الظاهر، فيجوز تعرضهم للآفات المنفرة والتغيرات من انقباض وبسط، وفرح وغم، وسائر الحالات من آلام، وأسقام، وتعرض للموت الزؤام، وهذا كله ليس بنقيصة فيهم، ومما يؤكد هذا أن الأنبياء قبله – صلى الله عليه وسلم – تعرضوا للعوارض البشرية فقتلوا تقتيلا كيحيى بن زكريا – عليهما السلام -، ونشروا بالمناشير كزكريا عليه السلام.
ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات، ومنهم من عصمه الله من القتل كعيسى عليه السلام؛ إذ تمالأت اليهود على قتله، فرفعه الله إليه، وطهره من صحبتهم، كما عصم نبينا من الناس، وحماه الله من عبد الله بن قمئة الذي جرح وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت حلقتان من حلق المغفر[1] في وجنته يوم أحد، وحجبه الله عن عيون أعدائه – أهل الطائف – عند دعوتهم إلى توحيد الله، وحماه الله من بطش أشداء المشركين من قريش يوم الهجرة عند خروجه من بيته إلى غار ثور عن يمين مكة، حين أرادوا قتله، فخرج عليهم وقرأ: )وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9)( (يس)، وأمسك الله تعالى عن نبيه – صلى الله عليه وسلم – سيف غورث بن الحارث، وحفظه من أبي جهل – فرعون هذه الأمة – حين حمل صخرة ليطرحها على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو ساجد، فلزقت بيده، كما حفظه من شر سراقة بن مالك فغاصت أقدام فرسه بالأرض، ووقاه الله من أثر سحر لبيد بن الأعصم اليهودي كما في رواية البخاري، كما وقاه ما هو أعظم، وهو سم اليهودية بخيبر.
وهكذا سائر الأنبياء، منهم المبتلى كأيوب – عليه السلام – ومنهم المعافى من كثرة الأسقام وشدة الآلام، وكان ابتلاؤهم من تمام حكمة الله – عزوجل – ليظهر الله شرفهم في هذه الأحوال المتفاوتة، ويبين أمرهم، ويتم كلمته فيهم، ولتتحقق مقتضيات بشريتهم، ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم، لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب (خوارق العادات الغرائب) على أيديهم، كبرد النار على إبراهيم الخليل، وقلب العصا حية لموسى الكليم، وخلق الطير من الطين، وإحياء الموتى على يد عيسى، وانشقاق القمر لنبينا، لتكون حياتهم ومحنتهم عبرة لأممهم وإيناسا بسيرتهم وزيادة لأجورهم عند ربهم[2].
ومن هنا نعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت تجري عليه كل النواميس المعتادة التي كتبها الله على بني آدم من جملة البشر بما فيهم الأنبياء والرسل بطبيعة الحال.
ثانيا. تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر ثابت في أصح كتب السنة:
لا غضاضة في تعرضه – صلى الله عليه وسلم – للسحر، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك؛ لأنه بشر يجوز أن يتعرض لهذا المرض كما يجوز عليه أي مرض، ولكن الله – عزوجل – عصمه من تأثير السحر في عقله، وجعل تأثيره منحصرا في نشاطه البدني فقط. فعن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – قالت: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، فقال: “يا عائشة، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان[3]، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم رجل من بني زريق، حليف لليهود، كان منافقا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر، تحت رعوفة[4] في بئر أروان”، قالت: فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – البئر حتى استخرجه، فقال: “هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين”، قال: فاستخرج، قالت: فقلت: أفلا أحرقته؟ فقال: “أما والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا» [5].
ومن هذا الحديث يتبين لنا أن تعرضه – صلى الله عليه وسلم – لسحر لبيد بن الأعصم لا يتنافى مع عصمته صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأثير هذا السحر كان مقتصرا على بعض قوى النبي البدنية، وهي قوة الجماع، وهذا يتضح من قول السيدة عائشة – رضي الله عنها -: «حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» [6].
وفي رواية أخرى: «مكث كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي» [7].
إن ما تعرض له النبي – صلى الله عليه وسلم – من باب المرض البدني، ولم يكن له أي تأثير على قواه العقلية، فقد تكفل الله بحفظها عليه صلى الله عليه وسلم.
إن سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – من لبيد على هذا النحو وتلك الكيفية – لو أدرك هؤلاء الغلاة – يؤكد بشريته صلى الله عليه وسلم، ويرفع قدر نبوته في الوقت ذاته، يقول د. عماد الشربيني: إن سحر الرسول – صلى الله عليه وسلم – يرفع من مقام النبوة وشرفها، ولا يحط من شأنها، ولا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن معصوما من الأمراض، فلقد كان يأكل ويشرب ويمرض، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان رجلا مسقاما، وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم»[8]. وكانت تجري عليه كل النواميس المعتادة التي كتبها الله على ولد آدم، وليس في السحر على الهيئة الواردة ما ينقص من قدره وعصمته بوصفه إماما لسائر الأنبياء والمرسلين، ما دام السحر واقعا على بعض قواه البدنية فقط[9].
يقول القاضي عياض: “فقد استبان أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه، ويكون معنى قوله: «يخيل إليه أنه يأتي أهله، ولا يأتيهن»، أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن، كما يعتري من أخذ واعترض، ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السحر، ويكون قول عائشة في الرواية الأخرى: إنه يتخيل إليه فعل الشيء وما فعله، من باب ما اختل من بصره كما ذكر في الحديث؛ فيظن أنه رأى شخصا من بعض أزواجه أو شاهد فعلا من غيره، ولم يكن على ما خيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره لا لشيء طرأ عليه في ميزه (تمييزه)، وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له، وتأثيره فيه ما يدخل لبسا، ولا يجد به المعترض الملحد أنسا” [10].
“ومن الثابت أن واقعة السحر ثابتة على الجسد فقط، وأن السحر لم يؤثر في الرسول – صلى الله عليه وسلم – في شئون تبليغ الوحي الإلهي والشرع إلى الأمة، وإنما اقتصر تأثير السحر على بعض حواسه، أو قدراته المتعلقة بشئون الدنيا من جماع وغيره” [11]، أما ما يتعلق بأمر النبوة، فقد عصمه الله في ذلك، وحرس وحيه أن يلحقه الفساد والتبديل، فلا ضرر لحقه من السحر على نبوته، ولا نقص فيما أصابه منه على دينه وشريعته، كما أن مدة هذا السحر لم تطل، بل عوفـي – صلى الله عليه وسلم – برقية جبريل – عليه السلام – له.
وعليه، فلا يحق لأحد أن يدعي أن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر في بدنه يتنافى مع عصمته – صلى الله عليه وسلم – في أمر الدين.
ثالثا. تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا يتعارض مع آية واحدة في القرآن الكريم، بل إن بعض آيات القرآن تؤيد وقوعه للنبي صلى الله عليه وسلم:
أما ما يزعمه هؤلاء المغالون من أن القول بتعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر يتعارض مع بعض آيات القرآن الكريم، فهو زعم لا يقوم على دليل؛ وإنما هو تفسير خاطئ لآيات الكتاب الحكيم، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
- عصمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – الواردة في قوله تعالى: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)( (المائدة)، المراد بها: عصمته – صلى الله عليه وسلم – من القتل والاغتيال، والمكائد المهلكة، فضلا عن عصمته من الغواية والهوى والضلال، وعدم الوقوع في المعاصي والمنكرات، ولا يدخل في العصمة هنا عصمته من الأمراض كما سبق أن بينا؛ لأن الأنبياء جميعا غير معصومين من المرض، فهم جميعا تجري عليهم كل النواميس المعتادة التي أودعها الله في ولد آدم، وعلى ذلك فالآية ليست على عمومها.
ولو كانت على عمومها ما استطاع أحد أن يتطاول عليه – صلى الله عليه وسلم – ولا أن يناله بأذى، وها هم أعداؤه يخطئون في حقه ويتطاولون عليه – صلى الله عليه وسلم – كثيرا؛ بوصفه بالجنون، والكهانة، والسحر، وينالون منه في المعارك بكسر رباعيته، وشج رأسه، وحديثا بسبه ومحاولة تشويه صورته والطعن في سيرته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الآية في عصمته من القتل، والغواية، والضلال، فلا تعارض بينها وبين سحره صلى الله عليه وسلم، أو لحوق الأذى به – قديما وحديثا – كما هو ثابت ومشاهد ومعلوم.
- أما القول بأن الحديث معارض للقرآن الكريم، ويصدق المشركين في قولهم: )إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8)( (الفرقان)، فهو قول مردود؛ لأننا نعلم يقينا أن الكفار لا يريدون بقولهم هذا أن يثبتوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أثبته هذا الحديث من تعرض بدن النبي للسحر مدة وجيزة، لما قام فلان من اليهود بسحره بضعة أيام، فأدركه شيء من التغير، وخيل إليه أنه يفعل بعض الشيء، وهو لا يفعله، ثم إن الله شفاه من ذلك، هم لا يريدون هذا، بل يريدون أن ما يصدر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما يصدر عن خيال وجنون، وأنه لم يوح إليه شيء، فإذا آمنا بما دل عليه الحديث لم نكن مصدقين للمشركين في دعواهم، فمفهوم الحديث من تعرضه للسحر شيء، ودعواهم تلك شيء آخر[12].
- أما الزعم أن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر، وهو من عمل الشياطين، وصنع النفوس الشريرة الخبيثة، يتعارض مع قوله عزوجل: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)( (الحجر).
فهذا الزعم مردود عليهم بما ورد في القرآن الكريم من آيات تثبت تعرض الشيطان للأنبياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله – عزوجل – بعدم تمكنه من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين، وتأمل قوله – عزوجل – في حق سيدنا أيوب عليه السلام: )واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41)( (ص)، وقوله – عزوجل – في حق سيدنا آدم وزوجته: )فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه( (البقرة: 36)، ومن هنا لا يلزم من وقوع السحر في حق الأنبياء إضلالهم وإغواؤهم، فإن ذلك ظن فاسد، وتأمل قوله عزوجل: )قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66) فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69)( (طه).
فقد صرحت الآيات بأن سحر أولئك السحرة، قد أوقع نبي الله موسى في التخييل، حتى تغيرت أمامه الحقائق، فحسب الحبال حيات، والساكنات متحركات، وعندما أوجس في نفسه خيفة، كانت عصمة ربه له بالوحي إليه بعدم الخوف؛ لأنه رسول الله حقا، وعليه إلقاء ما في يمينه – يعني عصاه – فإذا هي حية تلقف ما صنعوا، فتأمل ما في الآيات من إثبات تعرض بعض الأنبياء للسحر، مع عصمتهم من آثاره المضرة بدعوتهم[13].
وهكذا يتضح أن الحديث لا يتعارض مع أية آية من القرآن الكريم، بل إن آيات القرآن الكريم تؤيده، نحو قوله عزوجل: )قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق (2) ومن شر غاسق إذا وقب (3) ومن شر النفاثات في العقد (4) ومن شر حاسد إذا حسد (5)( (الفلق)، فهذه السورة وسورة الناس، واللتان تسميان بالمعوذتين، نزلتا في قصة سحره صلى الله عليه وسلم، كما جاء من حديث ابن عباس ومن حديث عائشة أيضا ففيه من الزيادة أنه «وجد في الطلعة تمثالا من شمع، تمثال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألـما، ثم يجد بعدها راحة، حتى قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كأنما نشط من عقال[14] » [15].
وبناء عليه، فإن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا ينكره إلا من نظر نظرة تعصب، وحرص على تشويه الحقيقة التي لا مراء فيها، وغالى في وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – وتجاوز بشريته التي أثبتها القرآن له في قوله عزوجل: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي( (الكهف: 110).
أما من ينظر نظرة إنصاف فإنه يرى أن الحديث يمثل صورة طيبة، فها هو قد سحر لكنه لم يترك، وإنما سأل الله ودعا، واستجاب له ربه، وجاءه جبريل وغيره من الملائكة، وأخبره الله بحقيقة حاله، ورقاه جبريل، ورقى – صلى الله عليه وسلم – نفسه، وبرئ بفضل الله – عزوجل – سريعا، فإن دل هذا على شيء فإنما يدل أولا على بشريتهصلى الله عليه وسلم، وثانيا على عصمة الله، عزوجل – له، وكريم منزلته – صلى الله عليه وسلم – عنده وعلى عظيم عنايته تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم فإن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا يتنافى بأي حال مع عصمته صلى الله عليه وسلم، وإنما يمثل نقطة مشرقة؛ إنه سحر، لكنه لم يخرج عن دائرة الصواب، بل كان في أعلى درجات الاستقامة والهداية.
إن هذا السحر لم يؤثر في قواه العقلية، ولا في درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثرا في أداء الجسم، وهذا لا علاقة له بالرسالة والوحي، ومع أنه أمر جسدي فإن الرعاية الإلهية قد شملته، وتولاه الله بالحفظ، وسلمه وشفاه[16].
رابعا. الحكمة التشريعية التي تقف وراء سحر النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا كان لقائل أن يقول: إذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – معصوما، وإذا كانت العناية الإلهية أحاطت به فلم أثر فيه السحر؟
نقول: إن أعداءه – صلى الله عليه وسلم – كادوا له بكل ما استطاعوا:
- أثاروا الشبه، يشوهون بها الإسلام!
- رموه بكثير من الكلمات الجارحة، يريدون التقليل من شأنه.
- وصفوا ما جاء به من الهدى بصفات سيئة، حرصا على تضليل الناس.
- جاءوا بالقصص من الأمم الأخرى يصرفون بها الناس عن القرآن والإسلام.
- حاولوا صرف الناس عن سماع القرآن الكريم، وعن الإسلام بكل وسيلة.
- جاءوا بمشاهير الحساد، كي يحسدوه، كما قال تعالى: )وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون (51) وما هو إلا ذكر للعالمين (52)( (القلم).
- خططوا لقتله مع تفريق دمه في كل القبائل.
- جيشوا الجيوش لحربه، والقضاء على أمة الإسلام، كما في بدر وأحد، وغيرهما.
وكل هذه الوسائل لم تؤثر فيه صلى الله عليه وسلم، وإنما نصره الله وأيده.
وشاء الله أن يؤثر السحر فيه مرة، ليعلمنا تبارك وتعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ماذا نفعل إذا وقع لنا شيء من السحر.
لقد استفدنا من هذا الحديث – الذي يتحدث عن وقوع السحر له – صلى الله عليه وسلم – أننا نعالج أنفسنا من السحر بثلاثة أمور:
- الصبر على الحال، فإنه – صلى الله عليه وسلم – حينما أحس بما عليه حاله، فوض وسلم أمره إلى ربه، يرجو بذلك الأجر والمثوبة.
إنه يؤمن أن كل شيء بإذن الله، وأن كل شيء بقدر الله، كما قال عزوجل: )قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51)( (التوبة)، وقال سبحانه في شأن السحرة: )وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله( (البقرة: 102).
إنه – صلى الله عليه وسلم – يؤمن أن الصبر على البلاء يؤجر عليه المسلم، ومن هنا صبر واحتسب، إنه لم يخف السحر ولم يضطرب؛ فالأمور بيد الله عزوجل، وهو الواثق بالله المتوكل عليه، ومن هنا صبر يحتسب أجر ذلك عند الله تعالى.
- كثرة الدعاء، ففي الحديث الذي معنا صبر – صلى الله عليه وسلم – مدة، ثم دعا، وألح في الدعاء، وفي هذا تعليم للمسلم أنه في مثل هذه الحالات يكثر من الدعاء، فإنه ببركة الدعاء يفرج الله عنه ما هو فيه، قال عزوجل: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم( (غافر: 60)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القضاء إلا الدعاء» [17].
- الرقية، وذلك بقراءة سورتي الفلق والناس؛ ففي بعض روايات حديث السحر هذا أنه – صلى الله عليه وسلم – رقي بهاتين السورتين، وكلما رقي بآية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، وشفي بفضل الله تماما، وفي سورتي الفلق والناس – واللتان تسميان بالمعوذتين – يقول صلى الله عليه وسلم: «ما تعوذ متعوذ بمثلهما»[18].
وهكذا يتضح أن الله – عزوجل – شاء له ذلك ليعلم الأمة ماذا تفعل في مثل هذه الحالة.
والعلماء على هديه يسيرون، يستشفون بهذه الأمور، أما الجهلة فإنهم يذهبون إلى أماكن الدجل والشعوذة، ولولا أن الله شاء بنبيه ذلك، لذهب الجميع إلى الشعوذة والدجل.
على الرغم من أن تأثير السحر فيه – صلى الله عليه وسلم – هو درجة أقل من درجته صلى الله عليه وسلم، لكن قد يقع له ما هو أقل من درجته للتشريع، ليس هذا في السحر فقط، وإنما وقع في أمور أخرى كسهوه – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة، فقد سها في الصلاة، والسهو أقل من درجته صلى الله عليه وسلم، لكنه سها ليعلمنا ماذا نفعل إذا سهونا، ونام أصحابه عن وقت الصلاة وهو معهم، وليس هذا من شأنه، ولا هو باللائق بدرجته، ولكن شاءه الله ليشرع لنا ماذا نفعل إذا نمنا عن الصلاة، أو خرج وقتها.
إنها أحوال أقل من درجته صلى الله عليه وسلم، شاءها الله – عزوجل – ليعلم الأمة دينه سبحانه، من واقع أحوال رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهو المصطفى لتبليغ الرسالة، وتوضيح معالم دينه عزوجل.
ومن ثم فتعرضه – صلى الله عليه وسلم – للسحر ثابت، وكذلك عصمته – صلى الله عليه وسلم – ثابتة، وكما لا يلتفت إلى من يستغل هذه الحادثة للتنقيص من عصمته والتشويش على الأمة في أمرها، فإنه لا يلتفت – ولا يحتاج النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أحد يغالي في وصفه لإثبات عصمته صلى الله عليه وسلم، وحسبه أنه خير البشر، وإمام المرسلين، وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين[19].
مما سبق يتضح لنا أن وقوعه – صلى الله عليه وسلم – في السحر وتأثره به كان في نشاطه البدني فقط، ولا تأثير له على العقل، وفي هذا دليل على عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – ودليل على بشريته في الوقت نفسه.
الخلاصة:
- إن النبي – صلى الله عليه وسلم – وسائر الأنبياء بشر كغيرهم من الناس، فيطرأ عليهم ما يطرأ على سائر البشر من حيث الظاهر، فيجوز تعرضهم للآفات والتغيرات من مرض وسحر ظاهري ونحوه.
- إن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر ثابت في السنة الصحيحة، ولا يمكن التشكيك فيه، وتعرضه – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا ينافي عصمته؛ لأن السحر لم يؤثر في قواه العقلية، ولا في درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثرا في أداء بدنه، وهذا ليس له علاقة بالرسالة والوحي.
- القول بأن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر يتعارض مع آيات في القرآن الكريم، قول لا يقوم على دليل، بل هو تفسير خاطئ لآيات الكتاب الحكيم، بل إن آيات القرآن الكريم تثبت تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر، مثل المعوذتين اللتين نزلتا في سحره صلى الله عليه وسلم.
- لقد شاء الله أن يقع السحر على النبي – صلى الله عليه وسلم – لكي تتعلم الأمة من بعده كيفية علاج السحر، ولا تلجأ إلى الدجل والشعوذة، إذ أرشدتنا حادثة وقوعه – صلى الله عليه وسلم – في السحر إلى ثلاث وسائل لعلاج السحر، هي:
o الصبر على الحال، والتسليم لقضاء الله، وعدم الجزع من السحر والثقة بالله عزوجل.
o كثرة دعاء الله لرفع هذا البلاء، فلا يرد القضاء إلا الدعاء.
o الرقية وذلك بقراءة المعوذتين.
(*) السنة النبوية الشريفة، د. أحمد محمود كريمة، مكتبة الأزهر، القاهرة، 1418هـ.
[1]. المغفر: غطاء ينسج من الدروع على قدر الرأس لحمايتها في الحرب.
[2]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص525، 526 بتصرف يسير.
[3]. رجلان: أي ملكان في صورة رجلين.
[4]. الرعوفة: صخرة تكون أسفل البئر.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر (5432)، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب السحر (5832).
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر (5432).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى ) إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ( (النحل: 90) (5716).
[8]. إسناده صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الطب (7426)، وصحح إسناده ووافقه الذهبي في التلخيص.
[9]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص250 بتصرف.
[10]. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج2، ص182، 183.
[11]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص530.
[12]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص251، 252 بتصرف.
[13]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص252، 253.
[14]. العقال: الحبل.
[15]. صحيح: أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، كتاب جماع أبواب غزوة تبوك، باب جماع أبواب كيفية نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم (3018)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2761).
[16]. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، مصر، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص91، 92 بتصرف.
[17]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب القدر، باب لا يرد القدر إلا الدعاء (2139)، والبزار في مسنده، المجلد الثاني، مسند سلمان الفارسي (2540)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (154).
[18]. صحيح: أخرجه الحميدي في مسنده، حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه (851)، وأبو داود في سننه، كتاب الوتر، باب في المعوذتين (1465)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1299).
[19]. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، مصر، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص92: 94 بتصرف.