ادعاء أن حروب الردة دافعها السياسة لا الدين
وجها إبطال الشبهة:
1) حركة الردة هي الحركة التي نبذت الإسلام بعد إيمانها جملة أو تفصيلا، متخذة أشكالا ثلاثة: ادعاء النبوة، ومنع الزكاة، وترك الدين جملة، وكلها تمثل خروجا عن الإسلام وإنكارا له أو لركن من أركانه، وهذا ما يمنح أصحابها لقب “مرتدين” عن جدارة واستحقاق، فكان قتالهم حتما؛ حفظا للدين وحماية للأمة.
2) لم تكن حركة الردة محاولة للحصول على الحرية، بل كانت حركة لها دوافع أخرى، وقد مثلت خروجا على الجماعة وطعنت في الإسلام، وهو ما يعد خيانة عظمى تستوجب العقوبة.
التفصيل:
أولا. حركة الردة: نشأتها ومفهومها وضرورة مقاومتها:
حركة الردة([1]) هي الحركة التي نبذت الإسلام بعد الإيمان به، متخذة أشكالا مختلفة، كلها تمثل خروجا عن الإسلام، منكرة له جملة أو لبعض أركانه، وهذا مما منح أصحابها لقب أو اصطلاح “مرتدين” عن جدارة واستحقاق؛ فكان حربهم ضرورة دينية وسياسية في آن واحد؛ حماية للدين وحفظا للأمة.
يقول د. الصلابي عن بداية الردة: “بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول – صلى الله عليه وسلم – ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها([2]) المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لما تستعلن بشكل واسع، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري، وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس، بدأ الجمر يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرئ الذين في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، وطليحة الأسدي في بلاد قومه.
ولما كان أخطر متمردين على الإسلام هما الأسود العنسي ومسيلمة – كما يبدو – على المضي في طريق ردتهما قدما دون أن يفكرا في الرجوع، هما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة – فقد أرى الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – من أمرهما ما تقر به عينه، ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده.
فقد قال يوما وهو يخطب على منبره: «بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في كفي سواران من ذهب، فكبر علي، فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة»([3]).
وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة، فقالوا: إن نفخه – صلى الله عليه وسلم – لهما يدل على أنهما يقتلان بريحه، لأنه لا يغزوهما بنفسه، وإن وصفه لهما بأنهما من ذهب دلالة على كذبهما؛ لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ السوارين علي أنهما ملكان؛ لأن الأساورة هم الملوك، ودل بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة، لكون السوار مضيقا على الذراع.
وعبر الدكتور على العتوم عن ذلك بقوله:… إن طيرانهما بالنفخ دلالة على ضعف كيدهما مهما تضاخم، فشأنهما زبد لا بد أن يئول إلى جفاء ما دام هذا الكيد مستمدا من الشيطان، فهو واهن لا محالة؛ إذ أقل هجمة مركزة في سبيل الله تحيلهما أثرا بعد عين، وكونهما من ذهب دلالة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا؛ لأن الذهب رمز لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه، وأنهما سواران إشارة إلى محاولتهما الإطاحة بكيان المسلمين عن طريق الإحاطة بهم من كل جانب تماما كما يحيط السوار بالمعصم”([4]).
ومعلوم في مصادر التاريخ أن أهل الردة كانوا على أصناف ثلاثة: متنبئين، ومرتدين، ومانعي الزكاة، وكلها إنكار للدين أو لجزء منه أو لركن من أركانه، وهو ما يوجب في حده الأدنى المقاتلة والمجاهدة؛ لتثبيت العقيدة وحفظ بيضة الدين، والحق أن الدنيوي متداخل مع الدين في الإسلام، أو أن الدين مهتم بالدنيا كما هو منصرف للآخرة، فليس روحيا تعبديا فقط، فدولة المسلمين أو الدولة الإسلامية دولة عقيدة بالأساس أقامت ملكا دنيويا على أساس ديني وللتمكين للدين في الأرض، وتوثيق صلتها بالسماء، فكل خطر على هذه الدولة وكيانها فيه زعزعة لسلطان الدين وتفريق لكلمة أهله.
وفي زماننا المعاصر ألا يعد الخروج على سلطان الدولة خرقا لدستورها، وتهديدا للنظام الذي قامت عليه، يستوجب أقصى العقاب؟! ثم ألم يعد انحلال الاتحاد السوفيتي وانهيار دول المنظومة الاشتراكية في شرقي أوربا انهزاما للفكرة الشيوعية والعقيدة الماركسية التي تأسست عليها هذه النظم؟! فلم تعد الردة خروجا سياسيا لا انتفاضا دينيا؟ ومقاومتها حفاظا على سلطان السياسة لا هيبة الدين؟!
والمشهور المتواتر في المصادر التاريخية أن الصحابة والمسلمين لم يتوقفوا أمام الصنفين الأولين من أهل الردة – وهم المتنبئون والمرتدون – فردتهم عن الدين واضحة صريحة، وإنما التبس على بعضهم الأمر بخصوص مانعي الزكاة المقرين لبقية الأركان، فقد سأل عمر أبا بكر الصديق – رضي الله عنهما – حين أصر أبو بكر – رضي الله عنه – على التسوية بين الصنف الأخير – مانعي الزكاة – وبين الصنفين الأولين، وعلى ضرورة مجاهدتهم جميعا قائلا: «كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله”. فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن قد شرح صدر أبي بكر – رضي الله عنه – للقتال فعرفت أنه الحق»([5]).
وفي هذا يقول د. حمدي شاهين: “ورأي أبي بكرـ رضي الله عنه – هنا يعبر عن الفهم الشامل للإسلام، وأن للعقيدة محتواها المادي الذي ينبغي أن تعبر عنه، ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أن أهل الردة من مانعي الزكاة كانوا هم البادئين بالعدوان على المدينة وعلى المسلمين الذين ظلوا على إسلامهم من قبائلهم، فضلا عن امتناعهم المسلح عن طاعة الخليفة.
ولذلك فهم يعدون في التشريع الإسلامي بغاة، وهم الجماعة التي تنصب القتال لولي الأمر، وقد قال بعض علمائنا: إن من جحد شيئا مما جاء به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودعي إليه فامتنع ونصب القتال يجب قتاله وقتله إذا أصر، وإن أبا بكر – رضي الله عنه – إنما قاتلهم ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، فلما أصروا قاتلهم”([6])، فالأمر كله إذن ينطلق من الدين وإليه يرجع وحوله يتمحور وعلى حفظ أركانه يركز.
ويقول د. هاشم عبد الراضي: “ومما هو جدير بالذكر أن حركة الردة جاءت على ثلاث صور، الأولى منها: المتنبئون، وهم الذين ادعوا النبوة، والثانية: المرتدون، أي: الذين تركوا الإسلام وعادوا لأديان الجاهلية، والثالثة: مانعو الزكاة، وهم الذين توقفوا عن دفع الزكاة، وهذه الأسماء وإن كانت مختلفة، إلا أنها يجمعها جميعا هدف واحد، وهو التمرد والعداوة للإسلام، ومحاولة القضاء على نفوذه”([7]).
ثانيا. دوافع الردة وأصنافها:
ظل انتشار الإسلام محدودا محصورا في بقاع معينة حتى فتح الله على المسلمين مكة، فكان فتحا مبينا؛ إذ فشا الإسلام في شبه جزيرة العرب، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وجاءت النبي – صلى الله عليه وسلم – وفود القبائل تعلن إسلامها، كل ذلك تم في عجالة سريعة في السنتين الأخيرتين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي النبي – صلى الله عليه وسلم – والإسلام لما تترسخ عقيدته بعد في قلوب كثير من حديثي العهد به، خصوصا في أطراف الجزيرة؛ فلم يزل إيمانهم هشا ضعيفا. روى ابن الأثير في أخبار الردة: أنه حين انهزم الناس عن طليحة الأسدي أسر عيينة بن حصن الفزاري، فقدم به على أبي بكر رضي الله عنه، فكان صبيان المدينة ينخسونه([8])، ويقولون له وهو مكتوف: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين([9]).
في هذه الأثناء كانت العصبية القبلية ما تزال مستحكمة في هذه النفوس حديثة العهد بالإسلام ضعيفة الإيمان مما عجل بارتدادها عنه عند أول بادرة. وقد جمع ابن الأثير أخبار الردة في حوادث العام الحادي عشر للهجرة فكان مما قال في أسبابها: “وأما أخبار الردة فإنه لما مات النبي – صلى الله عليه وسلم – وسير أبو بكر جيش أسامة ارتدت العرب وتضرمت الأرض نارا، وارتدت كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشا وثقيفا، واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة، واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد، وارتدت غطفان تبعا لعيينة بن حصن، فإنه قال: نبي من الحليفين – يعني أسدا وغطفان – أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد – صلى الله عليه وسلم – وطليحة حي، فاتبعه وتبعته غطفان([10]).
حتى انتهى إلى البحرين فوجد المنذر بن ساوي في الموت، ثم خرج عنه إلى بلاد بني عامر فنزل بقرة بن هبيرة، وقرة يقدم رجلا ويؤخر أخرى، ومعه عسكر من بني عامر منيع له، وأكرم مثواه، فلما أراد الرحلة خلا به قرة، وقال: يا هذا إن العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة، فإن أعفيتموها من أخذ أموالها فتسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم، فقال له عمرو: أكفرت يا قرة؟ أتخوفنا بالعرب”؟!
ويقول في موضع آخر عن مسيلمة الكذاب: “وقيل: جاءه طلحة النمري فسأله عن حاله فأخبره أنه يأتيه رجل في ظلمة، فقال: أشهد أنك الكاذب وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، فقتل معه يوم عقرباء([11]) كافرا. ولما بلغ مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بعقرباء، وخرج إليه الناس، وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأرا لهم في بني عامر، فأخذه المسلمون وأصحابه، فقتلهم خالد، واستبقاه لشرفه في بني حنيفة، وكانوا ما بين أربعين إلى ستين، وترك مسيلمة الأموال وراء ظهره!!
فقال شرحبيل بن مسيلمة: يا بني حنيفة، قاتلوا، فإن اليوم يوم الغيرة، فإن انهزمتم تستردف النساء([12]) سبيات وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم([13]).
ويصف د. الصلابي أسباب الردة ودوافعها بقوله: “إن الردة التي قامت بها القبائل العربية بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لها أسباب، منها: الصدمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقة الدين والسقم في فهم نصوصه، الحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، التفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، العصبية القبلية، الطمع في الملك، التكسب بالدين والشح بالمال، التحاسد، المؤثرات الأجنبية، كدور اليهود والنصارى والمجوس.
وأما أصنافها: فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلا وعاد إلى الوثنية، وعبادة الأصنام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من دعا إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة، ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمت بموت الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة([14])، وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير.
قال الخطابي: إن أهل الردة كانوا صنفين: صنفا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر، وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم.
وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – مدعية النبوة لغيره. والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين، وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية. والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام.
وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بها ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك وقبضوا أيديهم على ذلك.
وقريب من هذا التقسيم لأصناف المرتدين تقسيم القاضي عياض، غير أنهم عنده ثلاثة: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكل منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الإسلام، ولكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقسم د. عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدين إلى أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة: الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها، ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر رضي الله عنه ([15]).
وواضح من هذه النصوص المتتابعة أن دوافع الردة كانت عصبية قبلية متمكنة من نفوس غضة الدين هشة الإيمان تعودت الاستقلالية، وعدم الخضوع لسلطة مركزية وحكومة عادلة؛ فليس الأمر إذن أمر كفاح من أجل نيل حرية سلبت أو كرامة اغتصبت؛ فلم تكن الحكومة الإسلامية – أي الحكم الإسلامي – زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – سلطة احتلال واستعمار جاثمة على صدور البلاد، والعباد يتحينون الفرصة لنيل حريتهم من استعبادها لهم ويضحون في سبيل ذلك.
وقد أجمل دوافع الردة الحقيقية وملابساتها د. أحمد شلبي في قوله: رأينا في حديثنا عن الغزوات، وانتشار الإسلام أن الإسلام بدأ ينتشر بعد صلح الحديبية، أي بعد السنة السادسة للهجرة، وأنه بعد هزيمة هوازن وثقيف بدأت الوفود ترد إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – معلنة إسلامها، وكان ذلك في العام التاسع، ومن هذا يتضح لنا أن كثيرين ممن دخلوا الإسلام آنذاك لم يدخلوه عن اقتناع تام، فمنهم من دخله مع الداخلين دون دراسة ودون إيمان، ومنهم من رأى الحروب ولم يفهم أنها دفاعية فدخل الإسلام تجنـبا لخوض الحروب ضد المسلمين، ومنهم من دخل الإسلام طمعا في مغنم أو جاه، فلما توفي الرسول – صلى الله عليه وسلم – أبرز هؤلاء ما كانوا يخفون، وضعاف الإيمان هؤلاء كانوا يظهرون عدم ولائهم للإسلام كلما سنحت لهم فرصة، كما فعل المنافقون بعد غزوة بني المصطلق، وفي مطلع غزوة تبوك، وكالأعراب الذين وصف القرآن إيمانهم في قوله تعالى: )قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم( (الحجرات: ١٤)، ولكن وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت أعظم فرصة لهؤلاء ليظهروا ما أخفوا، وليعلنوا ارتدادهم.
وبجانب عدم التعمق في الإسلام كانت هناك العصبية، وقد حارب الإسلام العصبية ودعا لتكوين أسرة واحدة هي أسرة الإسلام، ولكن العصبية كانت تتجدد من حين لآخر، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – عدو العصبية يهجم عليها بعنف كلما ظهرت، ومع ذلك لم تمت العصبية، بل ظلت تظهر كلما أتيحت لها فرصة، وكان كثيرون من العرب يرون في الإسلام وسيلة فرضت عليهم سلطان قريش، فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهر للعرب أن قريشا أخذت السلطة ولن تدعها، قويت هذه الحركات واشتدت، فظهر في كثير من القبائل من ادعى النبوة وأيده قومه باسم العصبية، مع أنه كان واضحا لهم كذبه وبهتانه. وهناك فريق ثالث أساء تأويل بعض آيات القرآن، وبخاصة تلك المرتبطة بالزكاة، أو أساء فهمها، فضل واتبع طريقا غير طريق المسلمين.
ولهذه الأسباب نجد الجزيرة العربية تنقلب على عقبيها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونجد الإسلام يواجه أزمة قاسية أوشكت أن تقوض أركانه، فهنا جماعة ارتدوا عن الإسلام، وهناك آخرون أعلنوا أنهم أنبياء وتبعهم حواريون وأشياع، وفريق ثالث منعوا الزكاة، وتمردوا على ما سموه “الإتاوة والضريبة”. وهكذا ظهر المرتدون والمتنبئون ومانعو الزكاة، وشمل هؤلاء أغلب الجزيرة، ولم يبق متبع لدين الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف، وقد قامت هذه المدن بواجبها خير قيام، في إعادة الحق إلى نصابه، ولم تبخل بشيء لإعادة مجد الإسلام.
وكان التنبؤ ظاهرة تدعو لسخرية الباحث بهؤلاء المتنبئين؛ لأن العرب وجدوا أنه في رحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – تحققت معجزة لم يصل لها خيال العرب، وهي وحدة العرب، وبذلك ظهر المتنبئون متخذين ادعاء النبوة وسيلة لجمع الناس حولهم، وقد بدأ ذلك الاتجاه في أواخر حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما بدأ نجاح رسالته يظهر، وقوي ذلك الاتجاه بعد وفاة الرسول -، صلى الله عليه وسلم – وانتشار الفتن في الجزيرة([16]).
وبهذا يتبين أن الحروب للمرتدين كانت لأهداف دينية في المقام الأول، لا سياسية فقط.
الخلاصة:
- لم تكن العرب زمن النبوة مستعبدة حتى تكافح لنيل حريتها واستقلالها، وإنما اندفعت بعض قبائل العرب – خصوصا في مناطق الأطراف من شبه الجزيرة – إلى الردة بدوافع عصبية قبلية تمكنت من نفوس هشة الدين غضة الإيمان، لم تتعود الخضوع لحكومة مركزية وسلطة عامة.
- كان كثير ممن دخلوا الإسلام قبل وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – مباشرة لم يفهموا الإسلام فهما صحيحا، ولم تترسخ عقيدته في قلوبهم، وبخاصة ممن كانوا يسكنون في أطراف الجزيرة، فكان أكثر المرتدين من هؤلاء.
- قد تعددت دوافع المرتدين عن الإسلام، فكان من هذه الدوافع العصبية القبلية، سوء فهم الإسلام و مبادئه، الطمع في مغنم أو جاه،.. فلما توفي الرسول – صلى الله عليه وسلم – أظهروا ما في قلوبهم المريضة و أعلنوا ارتدادهم عن الإسلام.
- إن الإسلام أعطى الحرية لمعتنقيه، وأيضا لمخالفيه، ولم يجبر أحدا على اعتناقه )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29)، فلم يفرض الإسلام على أحد، ولم يقيد حرية أحد حتى يبحث عن حريته وينتهز الفرصة للحصول عليها.
- الإسلام لا يفرق بين الدين والدنيا والسياسة؛ فالدين هو مرجعية الدنيا والسياسة، والدولة فيه دولة لها عقيدة، والاعتداء عليها وتهديدها تهديد للعقيدة نفسها، ودفع هذا الاعتداء جهاد ورباط.
- ولهذا لم يفرق الصحابة والمسلمون بين صنوف أهل الردة، من متنبئين ومرتدين ومانعي زكاة، فكلها إنكار للدين أو لركن منه، وهو ما يستلزم المجاهدة والمقاتلة، فالأمر ينطلق كله من الدين وإليه يرجع وعلى الحفاظ على أركانه ينصب.
- إن حروب الردة حروب دينية وسياسية في الوقت نفسه؛ فهي دينية لإنكار المرتدين للدين أو لركن من أركانه، وهي سياسية لضرورة مواجهة كل ما من شأنه زعزعة نظام الدولة الإسلامية، و بخاصة في مرحلتها الأولى.
- إن الخروج على جماعة المسلمين من شأنه تفريق الكلمة وشق الصف، من هنا فإن مواجهة أمثال هؤلاء ضرورة للحفاظ على وحدة الأمة و توحيد الكلمة، لذلك أحل الرسول – صلى الله عليه وسلم – دم المسلم في ثلاث حالات كان من بينها: التارك لدينه المفارق للجماعة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، و الثيب الزاني، و المفارق لدينه التارك للجماعة»([17]).
(*) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.
[1]. عرف النووي الردة بأنها: قطع الإسلام بنية أو قول كفر أو فعل، سواء قاله استهزاء أو عنادا أو اعتقادا، فمن نفى الصانع أو الرسل، أو كذب رسولا أو حلل محرما بالإجماع، كالزنا وعكسه، أو نفى وجوب مجمع عليه أو عكسه أو عزم على الكفر أو تردد فيه، كفر.
وعرفها عليش المالكي: بأنها كفر المسلم بقول صريح أو لفظ يقتضيه أو بفعل يتضمنه. وعرفه ابن حزم الظاهري بأنه: كل من صح عنه أنه كان مسلما متبرئا من كل دين حاشا دين الإسلام، ثم ثبت عنه أنه ارتد عن الإسلام وخرج إلى دين كتابي أو غير كتابي أو إلى غير دين.
ومعنى هذا أن المرتد: هو كل من أنكر معلوما من الدين بالضرورة، كالصلاة والزكاة والنبوة وموالاة المؤمنين، أو أتى بقول أو فعل لا يحتمل تأويلا غير الكفر. (أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص233).
[2]. الأصقاع: النواحي، ومفردها صقع.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال (4116)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي (6075).
[4]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص237، 238.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1335)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله (133).
[6]. الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، د. حمدي شاهين، مكتبة النصر، القاهرة، د. ت، ص57.
[7]. قضايا ومواقف من تاريخ الراشدين، د. هاشم عبد الراضي، دار النصر، القاهرة، 1999م، ص192.
[8]. ينخسونه: يهيجونه ويزعجونه.
[9]. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج2، ص235.
[10]. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج2، ص231.
[11]. عقرباء: هي مدينة الجولان بدمشق.
[12]. استردف: طلب من غيره أن يردفه أو يركبه خلفه على دابة أو نحوها، والمقصود من تستردف النساء: أي تأخذ وتأسر.
[13]. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج2، ص245.
[14]. الدبرة: الهزيمة.
[15]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص235، 236.
[16]. موسوعة التاريخ الإسلامي، د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط6، 1982م، ج1، ص577، 578.
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قوله تعالى: ) النفس بالنفس والعين بالعين ( (المائدة: ٤٥) (6484)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم (4470).