ادعاء أن حكومة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خرجت عن الأحكام النبوية
وجها إبطال الشبهة:
1) كان عمر – رضي الله عنه – حريصا على الاتباع، والتزام السنة دائما، وكان مؤهلا للاجتهاد فيما لا نص فيه.
2) كان لفترة خلافة عمر طبيعة خاصة؛ لكثرة الفتوحات، واتساع الدولة، وتعدد الأجناس والأمم التي كانت تحت حكمه، ولتلك الطبيعة الخاصة، والظروف الجديدة الطارئة على الأمة كان لا بد من الاجتهاد في إطار الكتاب والسنة.
التفصيل:
أولا. حرص عمر – رضي الله عنه – على اتباع السنة وأهليته للاجتهاد فيما لا نص فيه:
حرص عمر – رضي الله عنه – على الاتباع، وعدم مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما كان يأمر به ولاته وأمراءه؛ فيقول في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء: “… الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق… “.
وفي رسالته إلى شريح القاضي يقول: “إذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله ولم يتكلم فيه أحد، فأي الأمرين شئت فخذ به”.
وفي رواية: “فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا لك”[1].
ومن أعظم صور الاتباع والالتزام الكامل بمنهاج النبوة ما نراه في الرواية التالية:
عن عابس بن ربيعة «عن عمر – رضي الله عنه – أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقبلك ما قبلتك».[2] إنه الاتباع في أحسن صوره، وأجمل معانيه؛ قال ابن حجر: قال الطبري: إنما قال ذلك عمر؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه الحجر اتباع لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال ابن حجر: وفي قول عمر هذا تسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع، فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة منه، وقد كان هذا الخلق – اتباع السنة والحرص عليها – من أخلاق النصر في جيل الصحابة – رضي الله عنهم – فقد علموا بأنه لا بد من اتباع السنة كي يحبوهم الله بالنصر والتأييد[3].
لقد كان الفاروق – بإيمانه العميق، وعلمه الوافر، وبصيرته النافذة – حريصا على كمال الدين وبقاء راية السنة مرتفعة، مجتمعا حولها الناس، ولهذا كان حربا على البدع والحوادث، وكان داعية إلى الاستمساك بالسنة والالتزام بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله وفعله؛ وقد قال عمر – رضي الله عنه – على المنبر: ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا إذ سألهم الناس أن يقولوا: لا ندري، فعاندوا السنن برأيهم، فضلوا وأضلوا كثيرا، والذي نفس عمر بيده، ما قبض الله نبيه ولا دفع الوحي عنهم حتى أغناهم عن الرأي، ولو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان أسفل الخف أحق بالمسح من ظاهره، فإياك وإياهم، ثم إياك وإياهم[4].
- وعن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: أتى عمر بن الخطاب رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا فيه كلام معجب، قال: أمن كتاب الله؟ قال: لا. فدعا بالدرة فجعل يضربه بها وجعل يقرأ: )الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)( (يوسف)، ثم قال: إنما هلك من كان قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم، وتركوا التوراة والإنجيل، حتى درسا، وذهب ما فيهما من العلم[5].
- وعن الحسن البصري: أن عمران بن حصين رضي الله عنه، أحرم من البصرة فقدم على عمر فأغلظ له ونهاه عن ذلك، وقال: لا يتحدث الناس أن رجلا من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – أحرم من مصر من الأمصار[6].
- وعن أبي وائل قال: كنت جالسا على كرسي شيبة بن عثمان في الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر، فقال: لقد هممت ألا أدع فيه صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها، فقلت: ما كنت لتفعل، قال: ولم؟ قلت: إن صاحبيك لم يفعلا. قال: هما المرآن أقتدي بهما[7].
هذا من جانب، ومن جانب آخر ينبغي أن نقر له – رضي الله عنه – بقدرة فائقة على الاجتهاد؛ فقد كان عمر – رضي الله عنه – يملك من درجة العلم وقوة الإيمان ما يعينه على نفاذ الرأي، وإصابة السنة، فقد جاء في منزلة إيمانه – رضي الله عنه – ما رواه عبد الله بن هشام أنه قال: «كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر»[8].
وأما عن علمه – رضي الله عنه – فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بينما أنا نائم شربت – يعني: اللبن – حتى أنظر إلى الري يجري في ظفري – أو في أظفاري – ثم ناولت عمر”. فقالوا: يا رسول الله، فما أولته؟ قال: العلم»[9].
والمراد بالعلم في الحديث: سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر رضي الله عنه، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان رضي الله عنه، فإن مدة أبي بكر – رضي الله عنه – كانت قصيرة، فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فقد ساس عمر فيها – مع طول مدته – الناس بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعا في خلافة عثمان – رضي الله عنه – فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر – رضي الله عنه – في طواعية الخلق له، فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله، واستخلف علي – رضي الله عنه – فما ازداد الأمر إلا اختلافا والفتن إلا انتشارا.
وأما عن دينه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره”، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين»[10] [11].
وهذا الإيمان، وذاك العلم هما اللذان أورثا عمر الفاروق ذلك النور الذي غمر بصيرته وفاض من روحه كياسة وفطنة في الفراسة، وموافقة للوحي، وصدقا على اللسان.
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – فيه: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»[12].
ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر»[13].
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما رأيت عمر قط إلا ويخيل إلي أن بين عينيه ملكا يسدده».[14] وبنحو هذا قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.
ولهذا كان الشيطان يخاف عمر رضي الله عنه؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: “إني لأحسب أن الشيطان يفرقه، فإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر”. [15] وقد سبقت له شهادة النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك في قوله:«والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك»[16].
وكان عمر – رضي الله عنه – لهذه المناقب – ملهما محدثا، وهذا ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – بنفسه، وبشر به عمر رضي الله عنه، فقال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون؛ فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر».[17] وفي هذا الحديث منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه، وقد اختلف العلماء في المراد بالمحدث؛ فقيل: المراد بالمحدث: الملهم. وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل: مكلم؛ أي: تكلمه الملائكة بغير نبوة؛ بمعنى: أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلما في الحقيقة، فيرجع إلى الإلهام. وفسره بعضهم بالتفرس.
قال ابن حجر: والسبب في تخصيص عمر – رضي الله عنه – بالذكر؛ لكثرة ما وقع له في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – من الموافقات التي نزل القرآن مطابقا لها، ووقع له بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – عدة إصابات[18].
وعن هذه الموافقات يتحدث عمر نفسه؛ فيقول: «وافقت ربي في ثلاث؛ فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزلت: )واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى( (البقرة: 125)، وآية الحجاب؛ قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن؛ فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي – صلى الله عليه وسلم – في الغيرة عليه، فقلت لهن: )عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن( (التحريم: 5)؛ فأنزلت هذه الآية»[19].
وقال عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: «ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه ابن الخطاب – أو قال عمر – إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر»[20] [21].
لقد كان عمر – رضي الله عنه – ملهما من ربه، مسددا في آرائه، موفقا في توجهاته؛ ولهذا استطاع قيادة دولة الإسلام بنجاح مع ما جد عليها من تطورات، وظهر من ظروف، ولا غرو فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لو كان بعدي نبي لكان عمر»[22].
ثانيا. فترة خلافة عمر – رضي الله عنه – بما فيها من فتوح وظروف طارئة؛ أوجبت عليه الاجتهاد في إطار الكتاب والسنة:
ومن نافلة القول أن نحيط هؤلاء المدعين لتلك الشبهة علما بأن فترة خلافة عمر – رضي الله عنه – كانت مرحلة جديدة من مراحل الدولة الإسلامية؛ حيث كثرت فيها الفتوح، وساحت فيها الجيوش في مناكب الأرض تحمل الهدى والنور، حتى تضاعفت مساحة الدولة الإسلامية في عهد عمر – رضي الله عنه – عدة أضعاف. خرج المسلمون بدينهم من نطاق جزيرة العرب ففتحوا بلاد الشام، وانطلقوا غربا فدخلوا مصر وما وراءها من بلاد إفريقية، وانطلقوا شرقا فاقتحموا بلاد الفرس وثلوا عرشهم وورثوا ملكهم، وأوغلوا في بلاد العجم، فدان للمسلمين من بالمشرق والمغرب.
وقد أفرزت هذه الأوضاع الجديدة واقعا إسلاميا مختلفا؛ إذ اتسعت الدولة، وتضخمت أعداد الرعية، وزادت أعباء الخليفة زيادة رهيبة، فصار يحكم إمبراطورية مترامية الأطراف، فيها المسلم والكافر، والأبيض والأسود والأحمر، والعربي والعجمي. ولم تلبث الأمور يسيرا حتى ظهرت إلى الوجود عشرات المشكلات والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والعرقية والدينية، والتي كانت تحتاج علاجا حاسما، ورأيا قاطعا، وفكرا صائبا، وشخصية حاكمة قوية، وكل هذا كان من مزايا عمر – رضي الله عنه – وملكاته وصفاته.
وعليه فقد اقتضى هذا الوضع وتلك الظروف أن يكون الخليفة قادرا على الاجتهاد ملهما محدثا، وهذا ما كان عليه عمر رضي الله عنه، الذي كان ينزل القرآن بتصديقه، وكان الشيطان يفرقه، والحق يدور معه حيث دار، وكان العبقري الذي لا يفري فريه، ولا يبلغ شأوه، ولقد اجتهد عمر – رضي الله عنه – فأصاب، أو قارب.
اجتهد فقطع شجرة الرضوان التي تمت تحتها بيعة الحديبية؛ حتى لا تتحول إلى نصب يعبد من دون الله، واجتهد فمنع الصحابة من زواج الكتابيات حتى لا يرغب عن المسلمات، وجمع الناس على صلاة التراويح استلهاما لسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – الأولى فيها، واجتهد عمر لما أصابت الناس الشدة عام الرمادة، فأجل جمع الزكاة إلى العام المقبل، ولم يقم حد السرقة؛ لأن الناس أصابتهم مجاعة، فسرق السارق عامئذ جوعا لا بغيا، واجتهد فأصدر نقدا وسك سكة؛ حتى لا يتحكم الروم والفرس في اقتصاد المسلمين.
ثم إنه لما رأى اتساع الدولة، وزيادة الأعباء فكر في فتح أبواب موارد جديدة للدولة؛ ففرض الخراج على الأراضي المفتوحة، فكان ذلك مصدرا دائما لتمويل بيت المال، وقبل – أيضا – العشور من التجار الوافدين من خارج حدود الدولة.
والتفت إلى رعيته وجنده، فدون الدواوين لاستيعاب رعاياه وشمولهم بالعطاء الذي رتبه لهم حسب سابقة كل في الإسلام وبلائه في نشره، واختط المدن الجديدة، ولم تكن تلك عادة لصاحبيه، فجعل منها قواعد للفتح، ومراكز للدعوة ونشر الدين، وتبليغ الرسالة، وعين القضاة في الأمصار الكبرى لحسم الخلافات وفض المنازعات، كما أنشأ البريد؛ ليحمل إليه أخبار ولاته، وشكاوى رعاياهم، وليبلغهم توجيهاته وأوامره.
واجتهد عمر في كثير من المسائل الفقهية، ففرض القيود على الملكية، حتى لا يقع تعسف في استعمالها، وأمضى طلاق الثلاث بلفظ واحد، لما رأى الناس استعجلوا الطلاق، وكانت لهم فيه أناة، فأحب أن يغلظ عليهم؛ ليخفف تلك العجلة، كما قضى في كثير من مسائل الميراث التي لم يقض فيها قبله، وأشهرها المسألتان العمريتان، كما استحدث عقوبات لجرائم جديدة، فضرب من زور خاتم الدولة الرسمي ثلاثمائة جلدة وحبسه ونفاه، وصلب ذميا اغتصب مسلمة؛ لأنه نقض عهده، ورجم امرأة تزوجت ولها زوج كتمته، وأسقط الحد عمن تسرت بغلامها جهلا، وحد القاذف بالتعريض، وقتل الجماعة بالواحد، وقتل الساحر، وغير ذلك من الأحكام التي كان عمر – رضي الله عنه – أبا عذرتها تنفيذا أو تأسيسا وابتكارا على أصل الاجتهاد.
ولننظر في بعض هذه المسائل، نجعلها مثالا نكتفي به عن تفصيل الباقي، لنرى كيف عالجها عمر رضي الله عنه، وكيف اجتهد فيها اجتهادا حكيما لم يخالف به النصوص، ولم يأت فيه ببدعة؛ فهذه هي قضية الأراضي المفتوحة، وموقف عمر – رضي الله عنه – منها، ولننظر إلى المسألة من جذورها التاريخية – حسبما أوردها – د. محمد بلتاجي: “إن التاريخ يقرر أنه بعد فتح العراق طلب المحاربون من قائدهم سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – أن يقسم بينهم ما فتحوه بسيوفهم من الأرض وغيرها. وأنه بعد فتح الشام طلب المحاربون من قائدهم أبي عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه – أن يقسم بينهم المدن وأهلها، والأرض وما عليها، وأنه لما فتحت مصر قام الزبير بن العوام – رضي الله عنه – ممثلا لاتجاه عام بين المحاربين – فطلب من عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قائد الجيش أن يقسمها بين أفراده.
والتاريخ يقرر كذلك أن هؤلاء رفضوا أن يقدموا على هذا الأمر الخطير، قبل أن يصدر إليهم الأمر من الخليفة عمر رضي الله عنه، فكتب كل منهم إليه بالمشكلة التي تواجهه، وجمع عمر – رضي الله عنه – الصحابة، وشاورهم في قسمة الأرضين التي أفاء الله على المسلمين، فتكلم قوم فيها، وأرادوا أن يقسم لهم حقوقهم وما فتحوا؛ فقال عمر رضي الله عنه: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء، وحيزت؟ ما هذا برأي. فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم. فقال عمر: ما هو إلا كما تقول، ولست أرى ذلك، والله.. لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟
فأكثروا على عمر رضي الله عنه، وقالوا: تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم، ولأبناء أبنائهم، ولم يحضروا؟ فكان عمر – رضي الله عنه – لا يزيد على أن يقول: هذا رأي. قالوا: فاستشر؛ فاستشار عمر – رضي الله عنه – المهاجرين الأولين، فاختلفوا. فأما عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم، ورأى عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة وعبد الله بن عمر – رأى عمر رضي الله عنهم. فأرسل إلى عشرة من الأنصار – خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج – من كبرائهم وأشرافهم، فلما اجتمعوا: حمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق – خالفني من خالفني ووافقني من وافقني – ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق. فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق.
قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين. فقال عمر رضي الله عنه: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم. وإني أعوذ بالله أن أركب ظلما؛ لئن كنت ظلمتهم شيئا وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكني رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم، فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها، فتكون فيئا للمسلمين، المقاتلة والذرية ولمن يأتي من بعدهم.. أرأيتم هذه الثغور؟ لا بد لها من رجال يلزمونها. أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر؟ لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم. فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟
فقالوا جميعا: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال، وتجري عليهم ما يتقوون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم.
وهكذا استقر رأى كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار على رأي عمر، بعد أن بين لهم الظروف التي تجعل عدم تقسيم الأرض المفتوحة على المقاتلين أمرا واجبا وضروريا؛ لأن أمور الدولة سوف تضطرب اضطرابا خطيرا إذا قسمت الأرض، وبالطبع كان هؤلاء الذين استشارهم عمرـ رضي الله عنه – وشرح لهم وجهة نظره هم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، الذين كانوا يمثلون (مجلس الشورى) الذي يجمعه لأمور الدولة الخطيرة، التي لا يستطيع أن يتحمل وحده مسئولية الحكم فيها.
وفي أرض السواد استشار عمر – رضي الله عنه – الناس، فرأى عامتهم أن يقسمه، وكان بلال بن رباح – رضي الله عنه – من أشدهم في ذلك. وكان رأي عمر ألا يقسمه، فمكثوا يومين أو ثلاثة، ثم قال عمر رضي الله عنه: ” إني قد وجدت حجة؛ قال الله – عزوجل – في كتابه: )وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير (6)( (الحشر) حتى فرغ من شأن بني النضير، فهذه عامة في القرى كلها. ثم قال عزوجل: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7)( (الحشر)، ثم قال عزوجل: )للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8)( (الحشر) ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: )والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)( (الحشر)، فهذا – فيما بلغنا، والله أعلم – للأنصار خاصة، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: )والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10)( (الحشر) كانت هذه عامة لمن جاء من بعدهم، فقد صار هذا الفيء بين هؤلاء جميعا، فكيف نقسمه لهؤلاء وندع من تخلف بعدهم بغير قسمة؟فأجمع على تركه وجمع خراجه.
اتفق رأي المسلمين إذن – أو على الأقل رأي غالبيتهم – على ألا تقسم الأرض المفتوحة بين المحاربين، فكتب عمر – رضي الله عنه – إلى قواده في البلاد المفتوحة بذلك.
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: أما بعد فقد بلغني كتابك، تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإن أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به إلى العسكر، من كراع ومال، فاقسمه بين من حضر من المسلمين. واترك الأرضين والأنهار بعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء.
وكتب إلى الشام ومصر بمثل ذلك، وكان مما كتبه إلى عمرو بن العاص قائده بمصر: أقرها (أي دعها كما هي ولا تقسمها) حتى يغذو منها حبل الحبلة (أي حتى يكون لأبناء الأبناء منها نصيب). وهكذا وضع الخراج على الأرض المفتوحة، وتركت في أيدي زارعيها من السكان الأصليين، وأخرجت من مفهوم الغنيمة التي تقسم بين المحاربين”[23].
“وبهذا ننتهي إلى أن التشريع الذي نفذه عمر بن الخطاب – ووافقه عليه كبار الصحابة – في الأرض المفتوحة، لم يخالف نصا في القرآن أو السنة، وإنما كان تشريعا يدخل في نطاق ما أحاله الإسلام إلى أولي الأمر في كل عصر، ليراعوا فيه المصلحة العامة على ضوء ظروفهم، ثم هو في نهاية الأمر استعمال لحق، أو تحمل لمسئولية، وقد رأينا أن مفاهيم النصوص تستقيم مع الوقائع التاريخية، بحسب هذه النتيجة، بحيث يختفي كل اضطراب أو تناقض ويبدو كل شيء مفهوما. لكن، هل حقق ما أمضاه عمر – رضي الله عنه – مصالح الناس العامة؟
إن مراجعة النتائج العظيمة لهذا التشريع تدل بوضوح على أنه لم يكن هناك تشريع آخر يمكن أن يحقق مصالح الناس – مسلمين وغير مسلمين – بما يقارب ما تحقق فعلا، نتيجة لما أقره عمر – رضي الله عنه – ولا تقتصر هذه النتائج على النواحي المادية أو التنظيمية؛ إذ إنها تتجاوزها إلى ما هو أعظم وأخلد، وأعني ما قصده المسلمون – من أول الأمر – من نشر دين الله الحق في الأرض المفتوحة رغبة واختيارا، وقد تحقق هذا المقصد في هذه الأرض في مدة زمنية قصيرة، إلى حد يثير الدهشة، مما جعل الكثيرين يتساءلون: هل كان إبقاء الأرض في أيدي زارعيها، من سكان البلاد الأصليين، عاملا حاسما في رغبة هؤلاء في التعرف على تلك العقيدة، التي جعلت القبائل العربية الفاتحة مخلصين وهداة، لا مستعمرين ولا مستغلين؟ وهل كان من نتائج هذه الرغبة في التعرف، إقبال السكان على الدخول في الإسلام – عن اقتناع صادق وإرادة حرة – في هذا الزمن القصير؟
لعل أبا يوسف – وقد كان أقرب منا زمنا – قد أجاب عن ذلك في قوله: “والذي رأي عمر – رضي الله عنه – عن الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها، عندما عرفه الله – عزوجل – ما كان في كتابه من بيان ذلك – توفيقا من الله كان له فيما صنع، وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين. وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم؛ لأن هذا لو لم يكن موقوفا على الناس في الأعطيات والأرزاق، لم تشحن الثغور، ولم تقو الجيوش على السير في الجهاد، ولما أمن من رجوع أهل الكفر إلى مدنهم إذا خلت من المقاتلة”.
ومسألة الأرض المفتوحة هذه إنما هي حالة واحدة من حالات ومواقف كثيرة كان عمر فيها ينظر إلى مصالح المسلمين متأملا كتاب الله وسنة نبيه، فلا يلبث حتى يوفقه الله إلى الخير والسداد. لقد اجتهد عمر، وتوخى مصلحة المسلمين دائما في كل ما يعرض له، وما يجد في سلطانه من حوادث وظروف، وكان رائده في هذا كله يقينه وعلمه، وفراسته وبصيرته، وفهمه وعقله وأمام عينه في كل هذا كتاب الله – عزوجل – وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يعيهما ويتمثلهما ويستلهم توجيهاتهما، وينطق عقله وقلبه ولسانه بروح منهما[24].
الخلاصة:
- كان عمر – رضي الله عنه – من أحرص الناس على اتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – والسير على هديه، وبهذا كان يأمر عماله وقضاته ويناصحهم، وكان يجتهد بعد ذلك فيما لم يرد فيه نص، وقد زكاه النبي – صلى الله عليه وسلم – وزكى عقله ورأيه، فقال:«قد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب». [25] وقال: «لو كان بعدي نبي لكان عمر» [26].
- كانت فترة خلافة عمر – رضي الله عنه – ذات طبيعة خاصة لكثرة الفتوح، واتساع الدولة، وتعدد الأمم، واختلاف الأجناس التي كانت تحت حكم الخليفة وسلطانه ومسئوليته، ولأجل هذه الطبيعة الخاصة، وتلك الظروف الجديدة الطارئة على الأمة كان لا بد من الاجتهاد في إطار الكتاب والسنة، وقد فعل عمر – رضي الله عنه – ذلك، فاجتهد في كثير من المسائل والقضايا التي عرضت له في خلافته، فألغى سهم المؤلفة قلوبهم، ومنع الصحابة من الزواج بالكتابيات، وأصدر النقد، وفرض العشور، ووضع الخراج على الأرض المفتوحة، إلى غير ذلك من الإجراءات التي كان فيها مصيبا في اجتهاده، مسددا في آرائه.
(*) المفترون: خطاب التطرف العلماني في الميزان، فهمي هويدي، دار الشروق، مصر، 1416هـ/ 1996م.
[1]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص380: 382.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1520)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود (3129).
[3]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص210.
[4]. أخرجه أبو الفضل المقرئ في أحاديث في ذم الكلام وأهله (2/ 104) برقم (259).
[5]. ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (1631)، وعزاه إلى نصر المقدسي في الحجة.
[6]. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 107) برقم (204).
[7]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص212، 213 بتصرف.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (6257).
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3478)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (6341).
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3488)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (6340).
[11]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص81، 82.
[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (5145)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3682)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2908).
[13]. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/ 222) برقم (20380)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 167) برقم (8739).
[14]. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/ 168) برقم (8852)، وأبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة (1/ 210) برقم (180).
[15]. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/ 336) برقم (482).
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3120)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (6355).
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3282).
[18]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص83.
[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب ما جاء في القبلة (393)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (6359).
[20]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3682)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2908).
[21]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص762، 763.
[22]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث عقبة بن عمار الجهني (17441)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3686)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5284).
[23]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 2003م، ص112: 116.
[24]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، ص145، 146 بتصرف.
[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3282).
[26]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث عقبة بن عمار الجهني (17441)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3686)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5284).