ادعاء أن رغبة العرب في العودة لدين إبراهيم – عليه السلام – هي سر نجاح الدعوة المحمدية
وجها إبطال الشبهة:
1) الإسلام لا يضره أن يكون امتدادا للحنيفية السمحة، خاصة في الجانب العقدي، وقد بعث الله بها أبا الأنبياء إبراهيم – عليه السلام -، فدين الله واحد.
2) إن العهد الذي بعث فيه محمد – صلى الله عليه وسلم – كان أبعد العصور الجاهلية عن معالم الحنيفية دين إبراهيم – عليه السلام – ومبادئها.
التفصيل:
أولا. الإسلام لا يضره أن يكون امتدادا للحنيفية السمحة، فدين الله واحد:
في البداية نود أن نشير إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس أول رسول طرق العالم، بل قد جاءت الرسل قبله، فما هو بالرجل الذي لا نظير له فيما جاء به للناس من عقائد، وخصوصا عقيدة التوحيد، يقول سبحانه وتعالى: )قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9)( (الأحقاف)، وقال سبحانه وتعالى: )ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43)( (فصلت).
“أي إنه وحي واحد ورسالة واحدة، وعقيدة واحدة، وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية، وتكذيب واحد واعتراضات واحدة، ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة وشجرة واحدة، وأسرة واحدة، وآلام واحدة، وهدف واحد في نهاية الأمر وطريق واصل ممدود” [1].
وعلى الرغم من أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – هو آخر الأنبياء – عليهم السلام – وخاتمهم، وهذا ما أجمع عليه المسلمون وعرف من الدين بالضرورة – إلا أن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن ما يأتي به لا بد أن يكون جديدا كل الجدة، ومختلفا كل الاختلاف عما جاء به الأنبياء قبله، فدين الله واحد، وهو دين الأنبياء جميعا، وإنما بعث – صلى الله عليه وسلم – ليتمم البناء الذي ابتدأه قبله الأنبياء، قال – صلى الله عليه وسلم -: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» [2].
فدعوته – صلى الله عليه وسلم – وعلاقتها بدعوات الأنبياء السابقين، قائمة على أساس التأكيد والتتميم، كما يدل عليه الحديث المذكور.
وبيان ذلك أن دعوة كل نبي تقوم على أساسين اثنين: الأول: العقيدة، والآخر: التشريع والأخلاق، فأما العقيدة فلم يختلف مضمونها منذ بعثة آدم – عليه السلام – إلى بعثة خاتم النبيين محمد – صلى الله عليه وسلم – إنما هي الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من الصفات، والإيمان باليوم الآخر، والحساب، والجنة والنار، فكان كل نبي يدعو قومه إلى الإيمان بهذه الأمور، وكان كل منهم يأتي مصدقا لدعوة من قبله ومبشرا ببعثة من سيأتي بعده، وهكذا فقد تلاحقت بعثتهم إلى مختلف الأقوام والأمم ليؤكد الجميع حقيقة واحدة أمروا بتبليغها وحمل الناس على الإذعان لها، ألا وهي الدينونة لله – عز وجل – وحده، وهذا ما بينه الله تعالى بقوله في كتابه الكريم: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: ١٣).
بل إنه لا يتصور أن تختلف دعوات الأنبياء الصادقين في شأن العقيدة؛ لأن أمور العقيدة من نوع الإخبار، والإخبار عن شيء لا يمكن أن يختلف ما بين مخبر وآخر إذا فرضنا الصدق في خبر كل منهما[3].
ويتضح مما سبق أنه لا توجد أديان سماوية متعددة، وإنما توجد شرائع سماوية متعددة، وقد استقرت كل هذه الشرائع السماوية بمجيء خاتم الأنبياء والرسل أجمعين محمد – صلى الله عليه وسلم -.
فالدين الحق واحد، بعث الأنبياء كلهم للدعوة إليه، وأمر الناس بالدينونة له منذ آدم – عليه السلام – إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – ألا وهو الإسلام الذي بعث الله به إبراهيم، وإسماعيل، ويعقوب… وسائر الأنبياء، يقول تعالى: )ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)( (البقرة). فالأنبياء كلهم بعثوا بالإسلام الذي هو الدين عند الله، فهو الدين الذي ارتضاه الله للبشرية: )ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)( (آل عمران: ٨٥).
وخلاصة هذه الحقيقة أن الإسلام لا يضره أن يكون امتدادا للحنيفية السمحة التي بعث الله بها أبا الأنبياء إبراهيم – عليه السلام – فدين الله واحد، وهذه حقيقة لا ننكرها، وقد صرح كتاب الله – عز وجل – بذلك في آيات كثيرة؛ منها: )وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل( (الحج: ٧٨)، وقوله سبحانه وتعالى: )قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)( (آل عمران)، وقوله سبحانه وتعالى: )ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا( (النحل: ١٢٣).
ولا عجب في ذلك؛ فإبراهيم – عليه السلام – هو أبو الأنبياء، وقد جعله الله للناس إماما، يقول سبحانه وتعالى: )وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما( (البقرة: ١٢٤). وقد ادعى كل من اليهود والنصارى أن إبراهيم – عليه السلام – ينتمي إلى أديانهم، وقد نفى الله ذلك في قوله سبحانه وتعالى: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما( (آل عمران:٦٧).
وإبراهيم – عليه السلام – هو من دعا الله – عز وجل – أن يبعث نبيا من نسله الذين يسكنون بجوار البيت الحرام، يقول عز وجل: )ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم( (البقرة: ١٢٩).
وقد استجاب الله لدعوة خليله إبراهيم – عليه السلام – فأرسل محمدا – صلى الله عليه وسلم – ليخرج قومه من الظلمات إلى النور، ويتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، فأنار شعلة الدين الحنيف من جديد، وأقبل الوحي الإلهي إلى كل ما قد تكثف من ضلال وظلمات فمحاه، وأنار مكانه بقبس الإيمان والتوحيد ومبادئ العدالة والحق، وأقبل إلى تلك البقايا التي امتدت بها الحياة إلى مشرق النور الجديد، مما كان قد بعث به إبراهيم – عليه السلام – وأقرته الشرائع الإلهية، فأقرها وجدد الدعوة إليها[4].
وعليه فكون الإسلام امتدادا للحنيفية دين إبراهيم – عليه السلام – هو شيء معروف بالبداهة، لمن اطلع على التاريخ، وهو شيء ثابت بداهة، لمن درس شيئا من الإسلام، غير أننا في عصر نضطر فيه إلى أن نضيع كثيرا من الوقت في تأكيد البدهيات وتوضيح الواضحات، ويجدر في النهاية أن نؤكد أن هذه الحقيقة لا تنقص من قيمة الإسلام شيئا، ولكنها تؤكد أنه الدين الحق الذي ارتضاه الله لكل عباده من لدن آدم – عليه السلام – حتى قيام الساعة.
ثانيا. بعد العصر الذي بعث فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – عن معالم الحنيفية:
لا يجهل أحد أن العرب هم أولاد إسماعيل – عليه السلام – بن إبراهيم – عليه السلام – وقد توارثوا ملة أبيهم ومنهاجه الذي بعث به من توحيد الله وعبادته، والوقوف عند حدوده، وتقديس حرماته، وفي مقدمة ذلك تعظيم البيت الحرام وتقديسه، واحترام شعائره والذود عنه والقيام بخدمته[5]، فقد كانت قريش ومن يتبعونها على الدين الذي جاء به أبو الأنبياء إبراهيم – عليه السلام -، فكانوا في أصلهم موحدين لا يعبدون غير الله تعالى، فلا يعبدون صنما، ولا حجرا، ولا حيوانا، وليس فيهم ألوهية لمخلوق إلا ما كان ممن وفدوا إليهم من النصارى، كنصارى نجران ونصارى تغلب وغيرهم، وقد كان يقوي توحيدهم صلتهم بإبراهيم – عليه السلام – وشرفهم في الانتساب إليه عن طريق ولده إسماعيل عليه السلام[6].
فلما امتدت بهم القرون، وطال عليهم الأمد، أخذوا يخلطون الحق الذي توارثوه بكثير من الباطل الذي تسلل إليهم، شأنهم شأن سائر الأمم والشعوب، عندما يغشاها الجهل، ويبعد بها العهد ويندس بين صفوفها المشعوذون والمبطلون، فدخل فيهم الشرك واعتادوا عبادة الأصنام، وتسللت إليهم التقاليد الباطلة، والأخلاق الفاحشة، فابتعدوا بذلك عن ضياء التوحيد، وعن منهج الحنيفية، وعمت بينهم الجاهلية التي رانت عليهم أمدا من الدهر، ثم انقشعت عنهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم [7].
وعليه فليس صحيحا أن المجتمع الجاهلي قبيل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يتجه للعودة إلى دين إبراهيم – عليه السلام -. وأن هذا الاتجاه كون لديهم رغبة ملحة للعودة إليه، وأن هذه الرغبة الشديدة هي السر الذي يقف وراء نجاح الدعوة المحمدية.
إن كل وقائع التاريخ الصادقة تؤكد أن هذا العصر الذي بعث فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – كان أبعد العصور عن الحنيفية السمحة دين إبراهيم – عليه السلام – وليس العكس كما يزعمون، ولعل في هذا ما يفسر استنكار أهل مكة والعرب لهذه الدعوة المحمدية، وتصديهم لها بكل الوسائل والحيل، ويكفي ما عرضه القرآن من أقوالهم عند دعوتهم لعبادة الله – عز وجل – في قوله عز وجل: )وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (5) وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7)( (ص)، وقوله سبحانه وتعالى: )ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24)( (المؤمنون).
فأين العرب ورغبتهم في العودة إلى دين إبراهيم عليه السلام؟!
إن هذا الزعم ما هو إلا قلب للحقيقة وطمس لليقين الذي لا يماري فيه أحد.
الخلاصة:
- لا يضر الإسلام أن يكون امتدادا لدين إبراهيم عليه السلام؛ فدين الله واحد، وهو دين الأنبياء جميعا، وإنما بعث – صلى الله عليه وسلم – ليتمم البناء الذي ابتدأه الأنبياء قبله.
- لقد صرح النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه بعث بالحنيفية السمحة، وكذلك جاء في آيات كثيرة من القرآن الكريم الأمر للنبي – صلى الله عليه وسلم – وللمسلمين باتباع ملة إبراهيم – عليه السلام – ولا عجب؛ فإبراهيم – عليه السلام – هو أبو الأنبياء وقد جعله الله للناس إماما.
- لا ينكر أحد أن العرب أولاد إسماعيل بن إبراهيم – عليهما السلام – قد توارثوا ملة أبيهم ومنهاجه الذي بعث به، ولكنهم بمرور الزمن تناسوا هذه الملة، وأصابهم ما يصيب الأمم من فساد وانحراف عن الحق، فعبدوا الأوثان، وبدلوا شريعة إبراهيم – عليه السلام – فلما بعث محمد – صلى الله عليه وسلم – كانوا أبعد الناس عن ملة إبراهيم – عليه السلام – وهديه.
(*) مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، مصر، 1415هـ/ 1995م.
[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج5، ص3127 بتصرف. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، 2006م، ص52.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3342)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه خاتم النبيين (6101)، واللفظ له.
[3]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص36، 37 بتصرف.
[4]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص38: 41 بتصرف.
[5]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص39: 41 بتصرف.
[6]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص26.
[7]. للمزيد انظر: فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص40 وما بعدها. السيرة النبوية، د. علي الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج1، ص22 وما بعدها.