ادعاء أن سلمان الفارسي هو الذي علم النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن
وجها إبطال الشبهة:
1) قصة سلمان – رضي الله عنه – كما تثبتها المصادر التاريخية ليس فيها ما يؤيد هذا الادعاء.
2) ليس في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا فيما أوحي إليه من القرآن ما يصح دليلا على أنه – صلى الله عليه وسلم – تلقى دعوته عن بشر.
التفصيل:
أولا. قصة سلمان الفارسي وما ترشد إليه([1]):
إن الفرق بين التقول الصرف والرأي العلمي في دراسة التاريخ هو ثبوت شاهد وجيه يشهد الدعوى فيرفعها إلى رتبة الاحتمال، فماذا قدم التاريخ عن سلمان وما قدمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل قدم ما يسوغ أن نخرج بهذه النتيجة العسيرة، وهي أنه علم محمدا – صلى الله عليه وسلم – القرآن وجملة ما جاء به في دعوته؟
إن قصة سلمان – على ما تثبتها الروايات – يصح أن نميز فيها بين ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وهي ما يمكن أن نسميه بمرحلة التكوين؛ فعن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: حدثني سلمان الفارسي – من فيه – قال: «كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، من أهل قرية يقال لها: “جي”، وكان أبي دهقان([2]) قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية، حتى كنت قطن النار([3])، الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة».
وهذه الرواية تدل على أن سلمان كان مجوسيا على دين آبائه.
المرحلة الثانية: وهي ما يمكن أن نسميه بالمرحلة الانتقالية، فسلمان انتقل في هذه المرحلة من المجوسية إلى النصرانية، وفي رواية ابن عباس: «وكان أبي صاحب ضيعة، وكان له بناء يعالجه، فقال لي يوما: يا بني، قد شغلني ما ترى فانطلق إلى الضيعة، ولا تحتبس فتشغلني عن كل ضيعة بهمي بك. فخرجت لذلك فمررت بكنيسة النصارى، وهم يصلون، فملت إليهم وأعجبني أمرهم، وقلت: هذا والله خير من ديننا، فأقمت عندهم حتى غابت الشمس، لا أنا أتيت الضيعة، ولا رجعت إليه، فاستبطأني وبعث رسلا في طلبي، وقد قلت للنصارى حين أعجبني أمرهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى والدي. فقال: يا بني، قد بعثت إليك رسلا، فقلت: مررت بقوم يصلون بكنيسة فأعجبني ما رأيت من أمرهم، وعلمت أن دينهم خير من ديننا، فقال: يا بني، دينك ودين آبائك خير من دينهم، فقلت: كلا والله، فخافني وقيدني، فبعثت إلى النصارى وأعلمتهم ما وافقني من أمرهم وسألتهم إعلامي من يريد الشام، ففعلوا؛ فألقيت الحديد من رجلي وخرجت معهم حتى أتيت الشام، فسألت عن عالمهم فقالوا: الأسقف، فأتيته وأخبرته، وقلت: أكون معك أخدمك وأصلي معك. قال: أقم. فمكثت مع رجل سوء كان يأمرهم بالصدقة، فإذا أعطوه شيئا أمسكه لنفسه، حتى جمع سبع قلال([4]) مملوءة ذهبا وورقا([5])، فتوفي فأخبرتهم فزجروني، فدللتهم على ماله فصلبوه، ولم يغيبوه([6]) ورجموه، وأجلسوا مكانه رجلا فاضلا في دينه، زهدا ورغبة في الآخرة وصلاحا، فألقى الله حبه في قلبي، حتى حضرته الوفاة فقلت: أوصني، فذكر رجلا بالموصل، وكنا على أمر واحد، حتى هلك، فأتيت الموصل فلقيت الرجل، فأخبرته بخبري، وأن فلانا أمرني بإتيانك، فقال: أقم، فوجدته على سبيله وأمره حتى حضرته الوفاة، فقلت له: أوصني، فقال: ما أعرف أحدا على ما نحن فيه إلا رجلا بعمورية([7])، فأخبرته فأمرني بالمقام وثاب لي شيئا واتخذت غنيمة وبقرات، فحضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ قال: لا أعلم أحدا اليوم على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك نبي يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، مهاجره بأرض ذات نخل وبه آيات وعلامات لا تخفى، بين منكبيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة»([8]).
المرحلة الثالثة: مرحلة الوصول إلى الحقيقة، بعد أن علم سلمان بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – وأوصافه من صاحبه شد سلمان رحيله إلى وادي القرى، ثم إلى المدينة، حتى لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – وعرفه بعلاماته وآمن به.
ويظهر من هذا السياق أن غاية الأمر أن شابا فارسيا نشأ على المجوسية، ثم تحول إلى النصرانية وظل عليها حتى هدي إلى الإسلام وأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليأخذ عنه، فهل نحن واجدون فيما دعا إليه محمد – صلى الله عليه وسلم – ما يشبه عقائد الفرس التي نشأ عليها سلمان؟ ذلك ما لا يظنه أحد، بل لا موضع لمثل هذا وقد تحول سلمان نفسه عنها إلى النصرانية. فهل أخذ الإسلام – إذن – عن النصرانية التي ظل عليها سلمان حينا؟ هذا – كسابقه – لاموضع له، فإن في الجزيرة من حول النبي – صلى الله عليه وسلم – نصارى عرفوا دعوته وأتوا إليه ليجادلوه بمكة من قبل أن يعرف سلمان ورحلاته التي تقصها علينا الروايات.
على أن سلمان – رضي الله عنه – إنما أدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة بعد هجرته، فقد لقيه – إذن – بعد أن صدع([9]) بدعوته، وأعلن عقيدته في الله – سبحانه وتعالى – مرة واحدة في غير تدريج أو مهادنة، وبعد أن نزل عليه القرآن المكي كله وجانب من المدني وقسم من الشرائع والأحكام، فما هذا الذي جاء به سلمان وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم؟
وقد تعلق بعض من يجتهدون في التفتيش عن شيء يأخذونه على الإسلام ورسوله بكلمة جاءت عن عائشة – رضي الله عنها – هي قولها: «كان لسلمان مجلس من رسول الله بالليل حتى غلبنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم» ([10])، فعلى فرض صحة هذه الرواية التي لم ترد في أي من كتب السنة فإن المتعلم هو سلمان – رضي الله عنه – وليس النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو الواضح من السياق؛ إذ كان هو الذي يقتطع الوقت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو المتعلم وهو ما يقتضيه المنطق، ويمتنع تماما على منصف مستقل الفكر أن يفهم من مثل هذا أن سلمان الذي سعى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا السعي الصابر الطويل إنما كان يخلو به ليعلمه ما بقي برأسه من ديانات الفرس والنصارى، ذلك ما لا يبدر إلى ذهن قارئ ألبتة؛ فإن سلمان الذي تعلق قلبه بالحقيقة الدينية وسعى لها سعيها كان يلازم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتسكن إليه نفسه بعد تطوافه العسير، وهذا ما تفيده العبارة لا ما تسبق إليه خواطر المحرفين، ولا شك أن إسلام سلمان – رضي الله عنه – حجة قائمة على صدق ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الإلهي بعد أن اطلع على علامات نبوته كما أخبره بها الرهبان، ثم إذا كان سلمان باحثا عن الحقيقة، بذل فيها قصارى جهده، ينتقل من هذا إلى ذاك من البشر العاديين كي يظفر بما ليس بعده شك – فماذا يفعل إن لقي من لا يقول إلا صدقا، ومن هو متصل بالسماء، لا شك أنه سيلازمه ملازمة طويلة ماكثا معه الساعات الطوال متعلما، وهذا ما كان يحدث، وعكسه قياس معكوس ومحض افتراء([11]).
ثانيا. لم يتلق النبي علما عن أحد من البشر:
ليس هذا سياق القول في السيرة النبوية وخصائصها التي لم تتفق لداعية أو مصلح قط في التاريخ الإنساني بجملته، لكننا نبرز هنا سمة الوضوح في هذه السيرة، فإن المصنفات التي وضعها المسلمون في سيرة نبيهم – صلى الله عليه وسلم – تتجاوز ميلاده نفسه إلى حيث تبدأ بآبائه وأجداده، ثم تتتبع حياته طورا طورا تسجل أفعاله وأقواله جميعا حتي تنتهي بلحوقه بالرفيق الأعلى.
هذه الحياة التي تقدم للناس بتفصيلاتها ودقائقها ليس فيها أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – اختلف يوما إلى معلم يأخذ عنه علمه، بل لا يعرف عنه أنه دخل في شيء مما كان قومه يتعاهدونه من فنون الشعر والنثر، ومكث على حاله هذه نحوا من أربعين عاما، فإذا هو يخرج على قومه بهذا القرآن الكريم.
ولقد كان القرآن معجزا يوم نزل، أعجز قوما كانت بضاعتهم من بين الأمم بضاعة القول البليغ، ولقد ظل يجود على المؤمنين بما يثبت قلوبهم من إخبار بغيب في الزمان أو المكان، وإخبار بما تكنه السرائر ويهجس في الخواطر والقلوب، ولقد مضى عليه اليوم ما يجاوز أربعة عشر قرنا وإذا هو يعجز في تلميحاته العلمية، فيسبق بآياته ما بلغته الكشوف بعد عناء وطول بحث.
على أن ادعاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلمه بشر ادعاء قديم، ولقد ذكره القرآن غير مرة في آياته، ومن ذلك قوله تعالى: )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل). يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير الآية: “وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم، وقد يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامتهم ولا يجهرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف وأن الله أطلع المسلمين على ذلك، فقد كان بمكة غلام رومي كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه “جبر” كان يصنع السيوف بمكة، ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثاله من عامة النصارى من دعوات الصلوات؛ فاتخذ زعماء المشركين من ذلك تمويها على العامة، فإن معظم أهل مكة كانوا أميين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرفة أو يكتب حروفا يتعلمها يحسبونه على علم، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – لما جانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام ،وكان قد أظهر الإسلام، فقالت قريش: هذا يعلم محمدا ما يقوله” ([12]).
فهذه – إذن – دعوى قد عرف مروجوها أنها قول باطل مفترى، وإنما يبثونها بين عامتهم من الأميين، وهي دعوى لا يزيدها مرور العصور والأجيال إلا بطلانا وتهافتا، وهذا الذي نناقشه هنا هو نفسه الذي أجاب عنه القرآن من قبل، فإن سلمان هذا أعجمي أيضا كذلك الغلام القديم الذي تحدث عنه المشركون، فلنحتج اليوم بما قاله القرآن من قبل: )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل)، ثم إننا لم نسمع في تاريخ المشركين أنهم زعموا هذا، وهم الذين بذلوا قصارى جهدهم في محاربة النبي – صلى الله عليه وسلم – والقرآن، وقد تقولوا في ذلك بأقصى ما بلغته عقولهم، فهل توصل إليه اليوم عمالقة الفكر من المستشرقين؟!!
وإذا كان سلمان الفارسي – رضي الله عنه – عنده مثل هذا العلم الغزير والحقائق التي ليس لها مثيل، فلماذا يؤثر بهذا محمدا – صلى الله عليه وسلم – وهو الأمي الذي لا يعرف القراءة أو الكتابة؟! بل لماذا يؤثر بها أحدا من العرب، وخاصة إذا علمنا أن الفرس كانوا ينظرون إلى العرب نظرة دونية، ويرون أنهم لاحظ لهم من الحضارة والرقي والعلم، ألم يكن من كمال السخرية منهم أن يتيهوا عليهم بمثل هذا الشرف العظيم؟!
الخلاصة:
- ليس في قصة سلمان الفارسي – رضي الله عنه – ما يسوغ أن يكون دليلا على أنه كان يعلم النبي القرآن أو غيره من مبادئ الشرع والعقيدة، وذلك أنه إنما أدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد الهجرة، وقد نزل القرآن المكي وجانب من المدني، وتحددت العقائد وقسم من الأحكام، بل – فوق هذا وذاك – إن الثقافة الدينية لسلمان على تقدير إحاطته بعقائد الفرس والنصرانية – لا يوجد لها أثر فيما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – بل قد جاء – صلى الله عليه وسلم – بما يرد الأصول الاعتقادية الكبيرة في هذه الديانات.
- السيرة النبوية على وضوحها وبيانها ليس فيها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يختلف إلى معلم يأخذ عنه، ومن ذا كان يملك حينذاك ما جاء به القرآن من وجوه الإعجاز، ولقد ساق المدعون تلك الدعوى نفسها التي ساقها المشركون قديما من أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – إنما يعلمه غلام أعجمي، ولقد أجابهم الله – سبحانه وتعالى – بقوله: )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)(، وهو جوابنا الآن نفسه فإن سلمان – رضي الله عنه – إنما كان أعجميا كذلك.
(*) شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، خليل عبد الكريم، سينا للنشر، القاهرة، 1997م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م.
[1]. انظر: عظمة الرسول والرد على الطاعنين في شخصه الكريم، محمد بيومي، دار مكة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص88: 93. محمد رسول الله، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص50: 52.
[2]. الدهقان: هو زعيم الفلاحين العجم، ورئيس الإقليم.
[3]. قطن النار: خادمها.
[4]. القلال: جمع قلة، وهي إناء مصنوع من الفخار للشرب وغيره.
[5]. الورق: الفضة.
[6]. يغيب: يدفن.
[7]. عمورية: بلد من بلاد الروم، فتحها المعتصم سنة 223هـ.
[8]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث رفاعة بن شداد عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه (23788)، والطبراني في المعجم الكبير، باب السين، سهيل بن حنظلة (6065)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (894).
[9]. صدع: جهر.
[10]. أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 192).
[11]. انظر: اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض،، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م، ص225 وما بعدها.
[12]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج7، ص286.