ادعاء أن ما في بطون الأنعام خالص للذكور ومحرم على الإناث
وجه إبطال الشبهة:
التحريم والتحليل من خصوصيات المشرع – عز وجل – ولا يختص به أحد من البشر، والمولى – عز وجل – لم يحرم من هذه الأنعام شيئا كما يتوهم هؤلاء الجاهليون.
التفصيل:
التحريم والتحليل من خصوصيات المشرع – عز وجل – ولا يختص به أحد من البشر:
هذا ضرب من أحكام العرب الجاهليين السخيفة في التحريم والتحليل، وهو خاص بما في بطون بعض الأنعام من اللبن والأجنة، وروي أن المراد بالأنعام هنا البحائر وحدها، أو هي والسوائب، كانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث، وكانت إذا ولدت ذكرا حيا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث، وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث، وإذا ولدت أنثى تركوها لأجل النتاج، وبعض مفسري السلف لم يقيدوا هذه الأنعام بالبحائر والسوائب، فيمكن حمل المطلق[1] على المقيد[2]، يحتمل أنهم كانوا يقولون ذلك في أنعام أخرى يعينونها بغير وصف البحيرة أي مشقوقة الأذن، والسائبة التي تسيب، وتترك للآلهة فلا يتعرض لها أحد[3].
وقد رد الله عليهم بقوله: )سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139)( (الأنعام)، والمعنى: سيجزيهم الله بمقتضى حكمته في الخلق وعلمه بشئونهم وأعمالها ومناشئها من صفاتهم، بأن يجعل عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي.
ومن رد القرآن عليهم ما بينه من جهلهم في تحريمهم بعضها دون بعض بلا مخصص، وجعلها أجزاء وأنواعا: بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا.. وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار، فبين – عز وجل – أنه أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشا، ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم، وهي بياض وهو الضأن، وسواد وهو المعز، ذكره وأنثاه، وإلى إبل ذكورها وإناثها، وبقر كذلك، وذكر أنه لم يحرم شيئا من ذلك ولا شيئا من أولادها، بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلا وركوبة وحمولة وحلبا وغير ذلك من وجوه المنافع، كما قال عز وجل: )وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج( (الزمر: 6)، وقال – عز وجل – في الرد عليهم: )ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (142) ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (144) قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)( (الأنعام)، وهذا رد عليهم في قولهم: )وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139)( (الأنعام).
والرد هنا فيه تبكيت وتجهيل لهم، فهو يقول لهم: أحرم الله الذكرين من كل واحد من الزوجين وحدهما أم الأنثيين وحدهما، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما، سواء كانت ذكورا أو إناثا؟ والاستفهام هنا إنكاري، فالله لم يحرم شيئا من هذه الثلاث، وبهذا السؤال التفصيلي يظهر للمتفكر فيه منهم أنه لا وجه لهم يعقل لقولهم؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف بالذكورة أو الأنوثة أو الحمل يكون لغوا أو جهالة فاضحة إذا لم يكن تعليلا، والتعليل بهذه الأوصاف لا وجه له ويلزمه ما لا يقولون به، وبعدمه يلزمهم التحكم في أحكام الله، وكون الافتراء عليه بغير أدنى علم ولا عقل؛ ولذا قال: )نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143)( (الأنعام)، أي: أخبروني بعلم أو يقين يؤثر عن أحد رسل الله أو بينة متلبسة بعلم يركن إليه العقل، كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه، وإلا كان تخصيص ما حرمتم دون أمثاله جهلا محضا كما أنه افتراء كذب.
ثم بعد حصول التعجيز عن الإتيان بعلم يؤثر عن أحد من رسل الله بتحريم ما زعموا، ألزمهم الله ادعاء تحريم الله إياه عليهم بوصية سمعوها منه، فقال عز وجل: )أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (144)( (الأنعام)، فالعلم عن الله، إما أن يكون برواية رسول له يخبر بوصية عنه، أو بتلقي ذلك منه سبحانه وتعالى بغير واسطة رسول، فهل شاهدتم ربكم فوصاكم بهذا التحريم مباشرة بغير واسطة؟! وهم لا يدعون هذا ولا ذاك، وإنما يفترون على الله الكذب بدعوى التحريم افتراء مجردا من كل علم، ويقلد بعضهم بعضا خلفا عن سلف في قولهم: إن الله أمرهم بتحريم ما حرموا واقتراف ما اقترفوا، كما قال – عز وجل – فيهم: )وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)( (الأعراف)، والاستفهام في الآية للتهكم بهم، ثم إنه إذا كان الأمر كذلك، وقامت عليكم الحجة به، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا بتحريم ما لم يشرعه، وتحليل ما لم يشرعه، ليضل الناس به بحملهم على اتباعه فيه مع نسبته إلى الله – عز وجل – بغير علم ما يكون حجة له فيه[4].
الخلاصة:
- استطرد المشركون في أوهامهم وتصوراتهم الفاسدة والنابعة من الشرك والوثنية إلى أن أمر التشريع بالحل والحرمة عائد إلى كبارهم، فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام: إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج، محرمة على الإناث إلا أن تكون ميتة، فيشارك فيها الإناث الذكور، وذلك بلا سبب ولا دليل ولا تعليل إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضا متلبسا في الأفهام.
- رد المولى – عز وجل – على هؤلاء الجاهليين ردا فيه تبكيت وتجهيل لهم قائلا: أحرم الله الذكرين من كل واحد من الزوجين وحدهما أم الأنثيين وحدهما، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء كانت ذكورا أو إناثا. والاستفهام إنكاري يبطل معتقداتهم ويسخر من عقولهم.
(*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (الأنعام/ 139).
الآيتان اللتان ورد فيهما الرد على الشبهة: (الأنعام/ 140: 143).
[1]. المطلق: ما دل على الماهية من غير أن يكون له دلالة على شيء من قيودها.
[2]. المقيد: ما فيه صفة أو شرط أو استثناء، فهو نقيض المطلق.
[3]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج8، ص128.
[4]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ص144.