ادعاء أن معجزاته – صلى الله عيه وسلم – ما هي إلا حكايات وأساطير
وجها إبطال الشبهة:
1) الرسول – صلى الله عيه وسلم – ليس بدعا من الرسل فيما أظهر الله على يديه من المعجزات، شأنه في هذا شأن سائر الأنبياء قبله، فلكل نبي من الأنبياء معجزاته الدالة على نبوته، والمبرهنة على أنه مبعوث من عند الله تعالى لإقامة الحجة على قومه.
2) معجزات النبي – صلى الله عيه وسلم – ليست أساطير، بل هي حقائق ثابتة وموثقة في كتب التاريخ والحديث المعتبرة، كما أنها وإن كانت من خوارق العادة، فإن العقل لا يحيل إمكان وقوعها؛ لأن الرابط بين الأسباب والمسببات هو الله – عزوجل – وهو القادر على كل شيء.
التفصيل:
أولا. لكل نبي من الأنبياء معجزاته الدالة على نبوته:
تعريف المعجزة:
المعجزة هي الأمر الخارق للعادة يظهر على يد مدعي النبوة عند تحدي المنكرين، فلا يستطيع البشر قاطبة الإتيان بمثلها، والمعجز في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ولكنه – عزوجل – يظهر الأمر المعجز على يد نبي، أو رسول لإثبات صدقه في ادعائه النبوة والوحي الإلهي، والله قادر على إبداء المعجزة على يد مظهرها؛ لأنه هو الذي يختبره الناس ويوقنون بصدق دعواه [1].
تأييد الأنبياء بالمعجزات سنة من سنن الله:
“جرت سنة الله في عباده المرسلين أن يؤيدهم بالمعجزات الباهرة، والدلائل الساطعة التي لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثلها في وقتها ولا بعد وقتها، وذلك للدلالة على صدقهم، وإثبات أنهم مبعوثون من قبل الله – سبحانه وتعالى – لإقامة الحجة على أقوامهم بهذه المعجزات” [2].
وقد كان من حكمة الله – عزوجل – أن يكون كل المكلفين بتبليغ الديانات السماوية للبشر مؤيدين بالمعجزات، حتى يصدقهم أتباعهم، فكل من موسى والمسيح ومحمد – صلى الله عليه وسلم – أتوا بالمعجزات أمام أتباعهم، والمعجزات موهبة خاصة إعجازية قائمة في كل الأديان السماوية، وهذه المعجزات فوق مستوى التحليل العقلي البشري أو التحليل المنطقي، لها أسرارها التي لا يدركها إلا الله، وهي عقائد إيمانية وجدانية، ليس للعقل أو المنطق فيها مجال، وهذه المعجزات وقعت بقوة الله على خرق الناموس الطبيعي للحياة على الأرض، فالمعجزات يجب أن تكون خارقة للناموس[3]، فكان كل نبي يأتي بمعجزة من جنس ما اشتهر به قومه؛ ليكون التحدي أوقع وأشد، ويكون تأثيرها حاسما في نفوس من تتنزل عليهم.
فلما كان المصريون بارعين في السحر، وكان كهنة المعابد الفرعونية متخصصين فيه، يستخدمونه ليبهروا به أعين الناس، ومن ثم يستعبدونهم للفرعون، وللآلهة المزعومة التي يقوم أولئك الكهنة – أو السحرة – بطقوس العبادة لها، وأخذ الأموال والقرابين من الناس باسمها – أرسل الله موسى بمعجزة من جنس ما اشتهر به أولئك السحرة؛ ليبطل سحرهم، ويتبدى الفرق بين ما يقدر عليه البشر، وما يقدر عليه خالق البشر.
وهذا ما حكاه القرآن في غير موضع، ومنه قوله عزوجل: )وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119) وألقي السحرة ساجدين (120) قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون (122)( (الأعراف).
ولما كان السحرة أدرى الناس بحقيقة السحر وحدوده؛ كانوا أول من تبين الحقيقة، وأن ما يصنعه موسى – عليه السلام – ليس سحرا، إنما هو شيء فوق طاقة البشر، وإن كان من جنس ما يقومون به هم من السحر، لذلك خروا ساجدين، اعترافا بالآية التي تثبت أن موسى – عليه السلام – رسول من عند الله.
كذلك أرسل عيسى – عليه السلام – في قوم برعوا في الطب، وكانوا يأتون فيه بما يبهر أعين الناس، فناسب أن تكون المعجزة التي أرسل بها عيسى – عليه السلام – خارقة في نفس الميدان الذي برع فيه هؤلاء؛ ليتبينوا هم أولا، ويتبين الناس من ورائهم، أن المعجزة شيء آخر غير ما يصنعون هم، شيء يعجزون هم عنه على الرغم من براعتهم، فلا بد أن يكون آتيا من مصدر غير بشري، أي: من عند الله؛ لذلك كان من معجزاته معهم إبراء الأكمه، والأبرص بغير دواء ولا علاج، وفي التو واللحظة أمام ناظرهم، وهو أمر يخالف صنع البشر، ثم زاد على ذلك في نفس الاتجاه معجزة إحياء الموتى.
فهم قد يعالجون المرضى بأي وسيلة فيتحقق الشفاء على أيديهم، أما إحياء الموتى فلا يقدر عليه إلا الله، أو إنسان مرسل من عند الله بالمعجزة.
ولقد بعث الرسول – صلى الله عليه وسلم – في العرب، وهم أهل فصاحة وبيان، يتباهون بفصاحتهم، ويتيهون بها على الأمم حتى إنهم ليسمون غيرهم عجما – أي: أن لسانهم غير مبين فهم أشبه بالعجماوات التي لا تنطق ـ؛ لذلك ناسب أن تكون معجزة الرسول – صلى الله عليه وسلم – معجزة بيانية، من نوع ما برعوا فيه، ولكن على مستوى يدركون هم أنفسهم – وهم أهل الصنعة – أنها فوق مستوى البشر، ويقرون بأنها لا بد أن تكون من عند الله[4].
إن معجزاته – صلى الله عليه وسلم – الحسية – بل وشتى معجزاته – ليست في نطاق البشر ومقدورهم؛ وذلك لأن موجدها الله – عزوجل – وحده الذي أجراها على يديه – صلى الله عليه وسلم – بهدف إثبات صدق نبوته، وليس نتيجة، أو استجابة لأي تحد قائم. اللهم إلا معجزته الكبرى – القرآن الكريم – التي تحدى بها الله عزوجل – كل فصحاء العرب، ولكنهم عجزوا عجزا بينا جعلهم يقفون أمامها مكتوفي الأيدي والألسن، منبهرين من إعجازه وبيانه الذي ليس له مثيل عندهم، وهذه المعجزة هي من أقوى المعجزات الدالة على نبوته – صلى الله عليه وسلم – إن لم تكن أقواها وأظهرها على الإطلاق، وكذلك فإنها المعجزة التي انفرد بها – صلى الله عليه وسلم – عن باقي الأنبياء، ولكن مثيري هذه الشبهة وأمثالهم لم يؤمنوا بهذه المعجزة ظنا منهم أنها ليست حسية خارقة للعادة.
عجز البشر عن أن يأتوا بمعجزة من عند أنفسهم:
ولما كانت المعجزات الحسية خارجة عن نطاق البشر ومقدورهم انتفى بذلك كونها من عند بشر ولو كان نبيا مرسلا، أو ملكا مقربا! وشأن المعجزة في حق النبي كشأن الوحي، فهل يستطيع أي نبي أو رسول أن يأتي بالوحي من تلقاء نفسه؟! كذلك المعجزة، لا يمكن لنبي أو رسول أن يأتي بها من عند نفسه، وذلك لسببين:
- أن المعجز واحد وهو الله عزوجل.
- عجز البشر عن ذلك، يقول الأستاذ أحمد جاد المولى: “والرسول لا يستطيع أن يأتي بالمعجزة من نفسه؛ إذ الأمور التي تقع بها إنما هي مما تفرد به الله جل شأنه، واختص بها تعالى وحده، فهو المتفرد بالعلم )أحاط بكل شيء علما (12)( (الطلاق). واختص بالغيب )إن الله على كل شيء قدير (20)( (البقرة) )قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50)( (الأنعام)، وأن يرد علم الساعة إليه تعالى جل شأنه )يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي( (الأعراف: ١٨٧).
وتحدى كفار قريش محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات، فما استطاع إلا أن يعلن بشريته، ويرد صفات الكمال إلى الله سبحانه وتعالى: )وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)( (الإسراء).
ولكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد يمنحه الله من صفاته ما يريد، ويجري على يديه من المعجزات ما يشاء، في ملابسات خاصة، وأحوال مقصودة، فأحيانا يسمعه ما لا يسمع غيره، كما وقع لموسى عليه السلام، ومرة يقدره على ما لم يقدر عليه سواه، كما حدث من إبراء الأكمه لعيسى عليه السلام، وآونة يطلعه من غيبه على ما لم يطلع عليه غيره، كما أخبر محمدا – صلى الله عليه وسلم – بكثير من الغيوب” [5].
وعليه فإن ظهور المعجزة على يد النبي من أكبر الأدلة على صدقه، وهي وإن كانت دليلا قويا على النبوة، إلا أنها في نفس الوقت ليست مرتبطة بإرادة النبي نفسه، بل بإرادة الله تعالى، فهو معطي المعجزات لأنبيائه إن شاء أعطاها وإن شاء منعها، فقد تكون للنبي معجزة واحدة أو اثنتان أو ثلاث أو أكثر، ويهب الله لأنبيائه المعجزات كما يشاء، وكما يريد[6]. وليس المقصود منها بحال من الأحوال إعجاز العقل، وإنما هي دليل على صدق دعوة الأنبياء وهي توضح ارتباطهم بالله جل جلاله وأنهم مؤيدون به، والآيات القرآنية التي دلت على تأييد الله أنبياءه بالمعجزات المختلفة كثيرة ومعروفة ولا حاجة إلى سردها، أما في السنة المطهرة ففي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» [7].
ثانيا. معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم – ليست أساطير، بل هي حقائق ثابتة موثقة:
إن معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم – ليست أساطير بل هي حقائق ثابتة، وموثقة في كتب التاريخ، والحديث المعتبرة، فهو – صلى الله عليه وسلم – أكثر الأنبياء معجزة، وأبهرهم آية، وأظهرهم برهانا، وهي في كثرتها لا تحد، ولا تحصى عددا، وأبرز تلك المعجزات القرآن الكريم، الذي تحدى الله به الجن والإنس، وأكد أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثله، وإن اجتمعوا على ذلك، فعجز فرسان الفصاحة وأئمة الكلام أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، مما يدل على عظمة تلك المعجزة وقوتها.
ومعجزاته – صلى الله عليه وسلم – قسمان:
الأول: ثابت قطعا أو يقينا (القرآن الكريم): نقل إلينا تواترا فمن أنكر هذا القسم فهو معاند جاحد، فهو كإنكار وجود محمد – صلى الله عليه وسلم – في الدنيا، والإعجاز فيه ودليله الواضح معلوم بداهة، كما شهد به الأعداء الخبراء كالوليد بن المغيرة، إذ قال فيه حين سمع بعضه: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة[8]، وإن أسفله لـمغدق[9]، وإن أعلاه لمثمر، وما هو من كلام البشر» [10].
أما إعجازه البدهي: فسلاسة مبناه، وجزاله معناه، ونظم آياته، وألفة كلماته، وصباحة فواتحه وخواتمه، في بدء آياته ونهاياتها، في أعلى مراتب البلاغة، وأسمى مناقب الفصاحة.
وأما إعجازه العقلي أو الفكري: ففيما اشتمل عليه من آيات كونية معجزة بما فيها من غنى فكري، وخصوبة نظر وتفكر وتأمل.
وذلك يدل قطعا وبداهة على ثبوت الإعجاز، كما نعلم قطعا ثبوت أخبار شهيرة في التاريخ، مثل جود حاتم الطائي، وشجاعة عنترة العبسي، وحلم الأحنف بن قيس التميمي؛ لاتفاق الأخبار الواردة عن كل واحد منهم[11].
والآخر: لم يبلغ مبلغ القطع واليقين، وهذا القسم نوعان:
الأول: نوع مشتهر رواه العدد الكثير من الصحابة والتابعين، وشاع عند المحدثين، وأهل السير، والأخبار، أو الأحاديث والرواة المتأخرين، مثل نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه وسلم، وتكثير الطعام المأكول والمشروب، وحنين الجذع، وكلام الضب والذراع – ذراع الشاة المسمومة – مما رواه الشيخان وغيرهما، فقد رواه الثقات والعدد الكثير عن العدد الكثير من الصحابة.
الآخر: غير المشتهر ولا الشائع الذي اختص بنقله الواحد والاثنان ورواه العدد اليسير، ولم يشتهر كالنوع الأول، لكنه ثابت المعنى مؤكد الحصول، مثل مجيء الشجر إليه، وتسليم الحجر عليه، وتسبيح الحصى في يديه، فهو وإن نقل إلينا بالآحاد ثابت قطعا لتواتره المعنوي، وكثرة الرواة من طرق مختلفة صريحة وأسانيد صحيحة، وذلك أيضا مثل انشقاق القمر على يديه بمكة حين سأله كفار قريش آية، فالقرآن نص صراحة على وقوعه، في قوله تعالى: )اقتربت الساعة وانشق القمر (1)( (القمر). فلا يلتفت بعدئذ إلى تشكيك مشكك وسخافة مبتدع، وجحود كافر، فهذا القسم بنوعيه ملحق بالقطعي اليقيني من معجزاته صلى الله عليه وسلم [12].
أما ما يدعيه بعضهم من أن العقل يرفض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها من الأمور الخارقة للعادة، فإننا نقول لهم: إن المعجزات حقا من الأمور الخارقة للعادة، ولكن العقل لا يحيل إمكان وقوعها؛ ذلك لأن استمرار الظواهر الطبيعية على نسقها المألوف الذي نراه ليس شيئا ضروريا يفرضه العقل فرضا، وإنما هو ما نسجته العادة وتكون بفعل الأسباب الجعلية. وما يلحق هذه الخوارق من التعجب منها أو الاستنكار لها إنما هو بسبب غرابتها عن المشاهد والمألوف[13].
المعجزة في ميزان العلم.
إن الميزان المحكم على كل حال هو العقل السليم الحر. أو قل: إنه العلم اليقيني الذي لا يشوبه الوهم، فالنتيجة واحدة.
ونحن عندما نتساءل عن حكم العلم في حق المعجزة وإمكانها، نقصد بالعلم أولا إطلاقه الخاص الذي يطلقه المختصون بالعلوم الطبيعية المختلفة، ثم نقصد به بعد ذلك العلم بإطلاقه العام، وهو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع بدليل.
فما حكم العلم، بمعناه الأول، في المعجزة ومدى إمكان وقوعها؟
يجيب العلم – بمعناه الأول طبعا – أن لا شأن له بالخوارق والبحث في إمكانها من الناحية العملية؛ ذلك أن العلم بإطلاقه الخاص هذا، ليس إلا ممارسة لتجارب خارجية بعيدة في مرحلتها الأولى عن وحي العقل أو التفكير، متعلقة بموضوعات مادية معينة، ثم إنها تفرض نفسها على العقل طبق ما دلت عليه المشاهدة والتجربة، وليس مهمة العقل بعد ذلك إلا أن يتولى تفسيرها وتحليلها كما هي عليه في الواقع، فإن رحت تسأل هذا العلم، أي هذه الممارسة المعينة، عن رأيه في المعجزة قال لك بلسان الحال: ليست المعجزة من موضوعات بحثي، فلا حكم لي عليها بشيء، اللهم إلا إذا وقعت خارقة من ذلك أمامي فإنها تصبح في تلك الحال موضوعا جاهزا للنظر والتجربة ثم التفسير والشرح، وبإمكاني أن أحكم عندئذ عليه. أي أن أتناوله بالتحليل والشرح, أما أن أفرض حالة معينة في الذهن تنفصل فيها النار عن قوة الإحراق مثلا، ثم أحكم عليها أي أحللها وأصفها كما هو شأني وعلمي، فذلك متناقض مع طبيعتي واختصاصي وما حصرت عليه نفسي.
وعندئذ تتحول عنه لتسأل العلم – بمعناه الثاني الأعم – عن رأيه في المعجزة وحكمه عليها. فيقول لك: تسألني عن إمكان المعجزة التي هي الأمر الخارق للعادة. وقد سألتني قبل الآن عن وجود الله – عزوجل – فأجبتك بأنه واجب الوجود وهو الذي لا شبهة ولا شك في ذاته؟! أتراني – وقد أوضحت لك وجود الله – عزوجل – بقواطع الأدلة والبراهين الساطعة، وبينت لك أنه هو الخالق للأشياء وأسبابها وانتظاماتها – أناقض نفسي وأقول: إن المعجزة – التي ليست أكثر من خرق للعادة – قسم من المستحيل الذي لا يمكن وقوعه! وكيف تنتظر من العلم أن يناقض ذاته، فيثبت مرة أن الله هو المسبب للأسباب والرابط بينها وبين مسبباتها ثم ينفي ذلك أخرى ليقول: إن نظام الأسباب والمسببات واجب لا يمكن أن ينخرم، كيف تنتظر من العلم أن يقول لك: إن نظام الكون من قبيل الواجب؟!
أجل.. هذا هو جواب العلم في كلمات مختصرة واضحة. وهو جواب يستطيع أن يسمعه ويعيه كل عاقل أخلص للعلم على وجه الأرض.
يقول الفيلسوف مالبرانش: “إنما نرى نحن توالي الحادثات ولا نرى الرابطة التي تربط أحد الطرفين بالآخر، فلماذا تبقى هذه الرابطة متخفية عنا؟ لكونها شيئا إلهيا لا يوجد مثله في المخلوق”.
واسمع ما يقوله العالم الإنجليزي وليم جونز: “القدرة التي خلقت العالم. لا تعجز عن حذف شيء منه أو إضافة شيء إليه. ومن السهل أن يقال عنه: إنه غير متصور عند العقل، ولكن الذي يقال عنه إنه غير متصور، ليس غير متصور إلى درجة وجود العالم”.
أي أنه لو لم يكن جزء من هذا العالم موجودا. وقيل لواحد ممن ينكر المعجزات والخوارق ولا يتصور وجودها: سيوجد عالم بالشكل الفلاني، فإنه سيبادر قائلا: إن هذا غير متصور، ويأتي نفيه لذلك أشد من نفي المعجزة التي ينكرها، مع أنها بعد وجودها لا تحرك شيئا من الاستغراب أو الدهشة في عقله، وينظر إليها دون أن يقول: إن وجود هذا الشيء أمر غير ممكن أو متصور!
أما إن كنت لا تؤمن بوجود الله – عزوجل – أصلا، فلك الحق كله في أن تنكر المعجزات ولا تتصور وقوعها. ولكن ليس لك حينئذ أن تسأل عن ذلك العلم، أو أن تتكلم باسمه أو تروي شيئا عنه، اعتقد ما شئت وعبر عن اعتقادك كما تشاء. ولكن دون أن تلوث كلمة (العلم) في فمك أو تجمل به شيئا من حديثك.
إن العلم لا يلبث أن يقول لك عند أول مقابلة معه: إن هذا الذي تراه في الأشياء مما تسميه نظام السببية ليس أكثر من رابطة مطردة تراها بعينك.. وهيهات أن يكون ذلك مستلزما لوجوب الاستمرار واستحالة الانفكاك عن المسبب الأول لا يعجزه شيء عن إبطال هذا التلازم والترابط الصوري الذي تراه، وإن كان طول الإلف واستمرار الاتصال يثير فيك العجب والاستغراب من وقوع ذلك.
بل العلم يقول لك: إنك لو تأملت، لرأيت أن المألوف وغير المألوف من مظاهر الكون معجزة في الحقيقة إذا ما غفلت عن ملاحظة الخالق العظيم.
فالكواكب معجزة، وحركة الأفلاك معجزة، وقانون الجاذبية معجزة، والنباتات معجزة، والعقل البشري معجزة، والمجموعة العصبية في الإنسان معجزة والدورة الدموية فيه معجزة، والإنسان في ذاته معجزة! غير أنك تنسى – لطول الإلف واستمرار الرؤية وجه المعجزة في هذا كله، فتحسب جهلا وغرورا أن المعجزة ليست إلا تلك التي تفاجئ ما اعتدته وألفته بالمعاكسة والتغيير.
ويقول لك العلم: أي قيمة لعقل عاقل يتخذ مما قد اعتاد أن يراه مقياسا لإيمانه بالأشياء وكفره بها؟ إنه لجهل عجيب من الإنسان مهما زعم أنه يترقى صعدا في مدارج المدنية والثقافة والفهم[14].
الخلاصة:
- ليس النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعا من الرسل في تأييده بالمعجزات؛ لأن شأنه فيما يظهره الله على يديه من المعجزات والآيات كشأن سائر الأنبياء قبله.
- لقد كانت معجزة كل نبي مناسبة للعصر الذي كان يعيش فيه ذلك النبي، ومن جنس ما اشتهر به، حتى يكون خرقها للعادة الجارية أوضح لإقامة الحجة عليهم، ومن هذه المعجزات مثلا: معجزة موسى – عليه السلام – وهي قلب العصا إلى حية، وتغيير لون يده، وأما معجزة عيسى – عليه السلام – فكانت خلق الطير من الطين بإذن الله، وإبراء ذوي العاهات المزمنة، كالعميان والبرصان، وإحياء الموتى بإذن الله، وكل هذه المعجزات وردت في التوراة والإنجيل، ولم ينكرها أحد، فلماذا ينكرون معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؟
- معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم – ليست أساطير، بل هي حقائق ثابتة وموثقة في كتب التاريخ، والحديث المعتبرة، ولم يقل أحد: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – ساحر، ولا كاهن، إلا الكفار من قومه، وبديهي أن يقولوا عليه ساحر، وكاهن؛ لأنه أفحمهم بمعجزته الباقية الخالدة – القرآن الكريم – وعجزوا عجزا تاما على أن يأتوا بسورة قصيرة من مثله.
- لم يعط أحد من الأنبياء والمرسلين معجزة ولا فضيلة إلا وقد أعطى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثلها وأبلغ منها، بل قد أعطى المعجزة الخالدة منفردا بها عن كل الأنبياء قبله، ألا وهي القرآن الكريم.
- إن معجزاته – صلى الله عليه وسلم – الحسية ليست في نطاق البشر ومقدورهم؛ وذلك لأن موجدها الله – عزوجل – وحده الذي أجراها على يديه صلى الله عليه وسلم، وعلى يدي الأنبياء قبله – صلوات الله وسلامه عليهم – بهدف إثبات صدق نبوتهم ورسالتهم.
- المعجزات حقا من الأمور الخارقة للعادة، ولكن العقل لا يحيل إمكان وقوعها؛ ذلك لأن استمرار الظواهر الطبيعية على نسقها المألوف الذي نراه ليس شيئا ضروريا يفرضه العقل، لأن المتأمل يجد أن كل مظاهر الكون – المألوف وغير المألوف منها – هي في الحقيقة معجزة، ولكن لجهل الإنسان وغروره يظن أن المعجزة ليست إلا تلك التي تخالف ما اعتاده وألفه من مظاهر.
(*) حضارة الإسلام، جوستاف لوبون، فون جرونباوم، ترجمة: عبد العزيز جاويد، وعبد الحميد العبادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1994م.
[1]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص237 بتصرف.
[2]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/1991م، ص119.
[3]. عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، د. نبيل لوقا بباوي، دار البباوي للنشر، مصر، ص87، 88 بتصرف.
[4]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص360، 361.
[5]. محمد المثل الكامل، أحمد جاد المولى، دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص124: 126.
[6]. قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/2002م، ص292 بتصرف.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل (4696)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس (402).
[8]. الطلاوة: الحسن والرونق.
[9]. المغدق: المعطاء الذي لا يجف عطاؤه.
[10]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة المدثر (3872)، والبيهقي في شعب الإيمان، باب في الإيمان برسل الله صلوات الله عليهم (134)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية، ص158.
[11]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص238، 239 بتصرف يسير.
[12]. المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص239، 240.
[13]. كبرى اليقينيات الكونية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط25، 1426هـ/ 2005م، ص214 بتصرف.
[14]. كبرى اليقينيات الكونية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط25، 1426هـ/ 2005م، ص228: 231.