ادعاء أن معجزات عيسى – عليه السلام – سحر وشعوذة وخداع
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يصنع عيسى – عليه السلام – المعجزات، ولكنها ظهرت على يديه تأييدا من الله تعالى له، وابتدأت منذ البشارة به وهو جنين في بطن أمه.
2) ما جرى على يد عيسى هو ما أجري على يد موسى – عليهما السلام – من المعجزات، وادعاء أنها سحر وخداع مردود؛ لأن الساحر لا يقوى على الإتيان بمثلها.
التفصيل:
أولا. لم يصنع عيسى – عليه السلام – المعجزات، ولكنها ظهرت على يديه تأييدا له من الله تعالى، وابتدأت منذ البشارة به وهو جنين في بطن أمه:
آية النبي لا بد أن تكون خارقة للعادة، أي: تخالف مألوف عادات الناس وما درجوا عليه، فإن فقدت هذا الشرط فإنها حينئذ لا تكون مختصة بالنبي، بل مشتركة بينه وبين غيره، وبهذا احتج العلماء على أنه لا بد أن تكون المعجزة خارقة للعادة.
لكن ليس في هذا ما يدل على أن كل خارق للعادة آية، فالكهانة والسحر أمر معتاد للكهان والسحرة، وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم، كما أن ما يعرفه أهل الطب، والنجوم، والفقه، والنحو معتاد لنظرائهم، وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم.
ويجب في معجزات الأنبياء ألا يعارضها من ليس بنبي، فكل من عارضها وليس من جنس الأنبياء، فليس من آياتهم؛ ولهذا طلب فرعون أن يعارض ما جاء به موسى – عليه السلام – لما ادعى أنه ساحر، فجمع السحرة ليفعلوا مثلما ما يفعل موسى، فلا تبقى حجته مختصة بالنبوة، وأمرهم موسى أن يأتوا أولا بخوارقهم، فلما أتت، وابتلعتها عصاه التي صارت حية، علم السحرة أن هذا ليس من جنس مقدورهم، فآمنوا إيمانا جازما. ولما قال لهم فرعون: )ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا( (طه).
فكان من تمام علمهم بالسحر أن السحر معتاد لأمثالهم، وأن معجزة موسى – عليه السلام – ليست من جنس السحر[1].
وسيدنا عيسى – عليه السلام – لما بعث، وأظهر المعجزات كان الله – عز وجل – يخلق الحياة في الجسم بقدرته عند نفخة عيسى – عليه السلام – فهو – سبحانه وتعالى – القائل: )الذي خلق الموت والحياة( (الملك: ٢).
وما حدث من معجزات – على سبيل تأييد الرسل والأنبياء بها كانت كلها بقدرة الله – عز وجل – وبهذا اعترف عيسى – عليه السلام – بنفسه في قوله: )بإذن الله( (آل عمران: 49)؛ أي: بتكوين الله – عز وجل – وتخليقه لقوله سبحانه وتعالى: )وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله( (آل عمران: ١٤٥).
أي: إلا بأن يوجد الله الموت، وإنما ذكر عيسى – عليه السلام – هذا القيد إزالة للشبهة، وتنبيها على أنه لا يتعدى بعمله التصوير، فأما خلق الحياة فهو من الله – عز وجل – على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل.
وروي أن مداواته الأكمه والأبرص كانت بالدعاء وحده، وأنه – عليه السلام – أحيا عاذر – وكان صديقا له – ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيا، وقوله: )بإذن الله( رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلهية.
وهذا كلام الله – عز وجل – عن نبيه عيسى – عليه السلام – قال سبحانه وتعالى: )وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني( (المائدة: ١١٠). وهذا الكلام المنزل من عند الله في هذه الآية لم يخترعه المسلمون إنما هو وحي من عند الله – عز وجل – ولم يأت به المسلمون من تلقاء أنفسهم. وهذه المعجزات ليست إحياء للميت من قبل عيسى – عليه السلام – ولا نسبة الخلق له، فالآية تعني: أنه يخلق كهيئة الطير، أي يصنع من الطين ما يشبه الطير، كما أمره الله، وينفخ في هذا الذي صنع كما أمره الله – عز وجل – فيكون طيرا بإذن الله تعالى، فهو لم يفعل أكثر من مباشرة الأسباب، عندما أذن الله له بها، ولم يدع عيسى – عليه السلام – أنه يخلق الطير أو يوجد الحياة، ولكنه قال عليه السلام: )أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله( (آل عمران:٤٩).
والتعبير عن تشكيل الطين على هيئة الطير بالفعل “خلق” لا يفيد مشاركة عيسى – عليه السلام – لله – عز وجل – في الخلق؛ لأن “خلق” هنا بمعنى قدر، وليس بمعنى أوجد من عدم، وخلق بمعنى قدر، جاء في لغة العرب، قال الشاعر العربى:
فلأنت تفري ما خلقت
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري[2]
لقد أظهر الله – سبحانه وتعالى – المعجزات على أيدي الأنبياء؛ لتكون دليل صدقهم أمام أقوامهم، وبرهانا على نبوتهم، وعيسى – عليه السلام – في هذا كبقية الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فالمعجزات دليل نبوة لا دليل ألوهية.
ولقد بدأت معجزات سيدنا عيسى – عليه السلام – منذ البشارة به وهو جنين، فقد قيل: إن أمه لم تشعر بآلام الحمل والولادة كغيرها من النساء الحوامل، وكذلك تكلمه في المهد وهو لا يزال طفلا وليدا، بل إن المعجزة العظمى في ولادته بدون أب، فكيف يقال: إن معجزات عيسى لم تقع قبل الثلاثين؟! ولا يقال: إن الكلام في المهد وغيره لم يكن من معجزات عيسى – عليه السلام – بل كانت كرامات لأمه؛ لحمايتها من سوء الظن، فإن المعجزة تشمل مريم وعيسى – عليهما السلام – قال سبحانه وتعالى: )وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (50)( (المؤمنون)؛ حيث يوجد لفظ مفرد، ولكنه يشمل الطرفين جميعا، فقوله سبحانه وتعالى: )وجعلنا ابن مريم وأمه( يفيد أن الآية ليست من واحد منهما، ولكنها من مجموع الاثنين معا؛ لأن الآية هنا أن عيسى ولد من غير أب، ومريم أنجبت من غير أن يمسسها بشر لا بزواج ولا زنا، فالمسألة متعلقة بكل منهما[3].
ثانيا. ما جرى على يد عيسى هو ما أجري على يد موسى – عليهما السلام – من المعجزات، وادعاء أنها سحر وخداع مردود:
إن دفاع المسلمين عن نبوة عيسى – عليه السلام – لا يقل درجة عن دفاعهم عن نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وغيره من الأنبياء والرسل؛ لأنهم مأمورون بالإيمان بهم جميعا، والكفر بعيسى – عليه السلام – وتكذيبه كفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – قال سبحانه وتعالى: )بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37)( (الصافات).
فاليهود يكفرون بعيسى – عليه السلام – والنصارى يكفرون بمحمد – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون يؤمنون بجميع رسل الله – عز وجل – وأنبيائه؛ قال تعالى على لسان المؤمنين: )لا نفرق بين أحد منهم( (آل عمران: 84)، وقال أيضا: )لا نفرق بين أحد من رسله( (البقرة: ٢٨٥).
وزعم بعضهم – ولا سيما اليهود – أن معجزات عيسى – عليه السلام – سحر وشعوذة زعم باطل؛ لأن السحر مهما بلغ لا يصل إلى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالغيب في أمور محدودة، ولو كان ما جرى على يد عيسى سحرا لكان الذي جرى على يد موسى – عليهما السلام – من قلب العصا ثعبانا، وخروج اليد بيضاء من غير سوء، وانفلاق البحر، من قبيل السحر أيضا.
ولبطلت رسالة موسى بمثل ما أبطلوا به رسالة عيسى – عليه السلام – والمتواتر عن اليهود، هو تكذيبهم لعيسى – عليه السلام – وإيذاؤهم له، ومحاولة قتله، والمتواتر أيضا صدق عيسى – عليه السلام – وزهده وتقواه، بحيث لا يكذب على الناس، ولا على الله – عز وجل – ومن المتواتر أيضا تأييد الله – عز وجل – لعيسى – عليه السلام – بالمعجزات المبهرة التي تؤيد دعواه النبوة.
وأما زعم اليهود أن المعجزة تحصل بالعلم لمن باشرها، فهو زعم باطل؛ فالمعجزة لا يقتصر العلم بها على من باشرها، لكن يعلم بها العقلاء الذين يشاهدونها تظهر على يد نبي صادق، فيعرفون من معرفتهم حاله، وظهورها على يديه مع ادعائه النبوة أنه – مصدق – وكيف لا يحصل للأقوام العلم بالمعجزة، وهي موجهة إليهم؟ وإن أرادوا أنهم باشروا معجزات عيسى – عليه السلام – فهذا مردود بأنهم عادوه، ومنهم من آمن به: )فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة( (الصف: ١٤).
وما وافقت اليهود على ظهور الخوارق على يد عيسى – عليه السلام – فتارة يقولون: هي من قبيل السيمياء، وتارة يقولون: هي من قبيل الشياطين.
وعلى كل تقدير فجميع ما يقولونه يلزمهم في قلب العصا ثعبانا، واليد البيضاء، وفلق البحر، ونتق الجبل، وسائر معجزات رسلهم – عليهم السلام – هو نفسه الجواب عن معجزات عيسى – عليه السلام – حرفا بحرف.
إن نص التوراة يقتضي نبوته – عليه السلام – وأنه لا يزال الملك في اليهود من آل يهوذا، والرسل من ظهرانهيم إلى أن يأتي المسيح، وكذلك كان، فلم تزل لهم ممالك ودول إلى زمن المسيح – عليه السلام – حيث صاروا ذمة مخفورة، ورعية مأسورة، وهذا شيء لا ينكرونه.
وهذا دليل قاطع على نبوة عيسى – عليه السلام – وأن موسى – عليه السلام – أخبرهم أنهم يكونون في ذلك الوقت على باطل، وأن الحق يأتي مع المسيح – عليه السلام – فيدحض الباطل بالحق، وهذه سنن المرسلين أبدا، وسنة الله – عز وجل – في خلقه، ولذلك قال سبحانه وتعالى: )بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق( (الأنبياء: ١٨)، وفي هذا المقام كابرت اليهود واشتد عنادها، وقالت: هو المسيح الدجال الذي يأتي في آخر الزمان، ويزعمون أنه ينصر دين موسى – عليه السلام – ويظهر الحق على يده.
وتجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم إذ أثبت نبوة عيسى – عليه السلام – لم يتطرق إلى سن بعثته، وإن اتفق العلماء على أنه بعث في الثلاثين من عمره خصوصية له عليه السلام.
الخلاصة:
- إن الله – سبحانه وتعالى – قد أظهر المعجزات على يد عيسى – عليه السلام – تأييدا له، وبهذا اعترف عيسى – عليه السلام – بنفسه، فنسب معجزاته التي أجريت على يديه إلى الله في قوله: )بإذن الله( وروي أن مداواته الأكمه والأبرص كانت بالدعاء وحده، فلم يدع عيسى – عليه السلام – أنه يخلق الطير، ويوجد الحياة، وإنما اعترف بأنه يباشر الأسباب فحسب، عندما يأذن الله – عز وجل – له بذلك.
- ما أجري على يد عيسى – عليه السلام – هو ما أجري على يد موسى – عليه السلام – من المعجزات من حيث إنها تأييد من الله – عز وجل – لهما ولباقي الأنبياء، ودليل على صدق دعواهم عند أقوامهم، ولا يقتصر العلم بالمعجزة على من باشرها، لكن يعلم بها العقلاء الذين يشاهدونها.
- في التوراة أدلة قاطعة على نبوة عيسى عليه السلام. ولقد أجمع المسلمون على نبوة المسيح – عليه السلام – فالمسلمون يؤمنون بجميع الرسل والأنبياء إيمانا جازما، ولا يفرقون بين أحد من رسله، وأن معجزات الأنبياء مختلفة عن السحر والشعوذة والخداع.
(*) مـوقع الكلمة. www.alkalema.net. الأجـوبـة الفـاخـرة عـن الأسئـلـة الفـاجـرة، الـقـرافي، تـحـقـيـق: د. بكر زكي عوض، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2004م.
[1]. النبوات، ابن تيمية، تحقيق: الشحات الطحان، مكتبة فياض، المنصورة، ط1، 2005م، ص27، 28 بتصرف.
[2]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: خلق. المفردات، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، مادة: خلق.
[3]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص415.