ادعاء أن موسى – عليه السلام – كان وصيا على محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته
وجها إبطال الشبهة:
1) الأنبياء كلهم مبلغون عن الله رسالته، متآخون متناصحون. وما قاله موسى – عليه السلام – لمحمد – صلى الله عليه وسلم – كان من قبيل التناصح لا من باب الوصاية.
2) محمد – صلى الله عليه وسلم – هو أفضل الأنبياء جميعا، وقد أخذ الله الميثاق على النبيين لئن بعث وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، فلو أدرك موسى – عليه السلام – زمن محمد – صلى الله عليه وسلم – لما وسعه إلا اتباعه.
التفصيل:
أولا. ما كان بين موسى – عليه السلام – ومحمد – صلى الله عليه وسلم – من ليلة الإسراء والمعراج كان من قبيل التناصح لا من باب الوصاية:
قبل كل شيء لا بد أن نوضح أن دين الأنبياء جميعا واحد، وهو الإسلام، وأن العلاقة بين رسل الله قائمة على التآخي والتناصح فكلهم مبلغون عن الله رسالته، وهي علاقة قائمة على أساس التأكيد والتتميم، وهذا ما أبرزه النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[1].
لذا نجد أن طريق الأنبياء واحد، وهدفهم واحد، وهو تبليغ رسالة ربهم إلى الناس، وقد جعل الله تعالى من ديدن الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال تعالى: )وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81)( (آل عمران).
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه”[2].
ولقد ضرب لنا النبي – صلى الله عليه وسلم – مثلا يؤكد على علاقة الأخوة القائمة بين الأنبياء جميعا في قوله صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد»[3].
وانطلاقا مما سبق نستطيع أن نفسد حديث المراجعة الذي دار بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين موسى – عليه السلام – ليلة الإسراء والمعراج، والذي يتخذه بعض المتوهمين دليلا على وصاية موسى – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى أمته، ولكي تظهر الحقيقة جلية لا بد أن نذكر نص هذا الحديث كما روته كتب السنة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «.. ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت إلى موسى فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي»[4].
إن المتأمل لهذا الجزء من حديث الإسراء والمعراج، لا يجد ما يدعيه هؤلاء من أن موسى – عليه السلام – جعل من نفسه وصيا على محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته، وإنما يشير هذا الحديث إلى نصح موسى – عليه السلام – للنبي – صلى الله عليه وسلم – بحكم خبرته وتجربته مع بني إسرائيل ومعالجتهم، فأشفق على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – رحمة بهم في أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل، قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في تعليقه على هذا الحديث: “والظاهر من السياق أن الذي حمل موسى – عليه السلام – على ما ذكر من طلب تكرار المراجعة هو رحمة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – والشفقة عليهم، فجزاه الله خيرا”.
ويقول القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى – عليه السلام – بمراجعة النبي – صلى الله عليه وسلم – في أمر الصلاة لعلها لكون أمة موسى – عليه السلام – كلفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى – عليه السلام – على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – من مثل ذلك، ويشير إلى ذلك قول موسى – عليه السلام – في الحديث السابق: “وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة”.
وذكر السهيلي: أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية من هو منهم[5].
إذن فالأمر لم يكن أمر وصاية من موسى – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته كما يتخيل هؤلاء، بل هي الرحمة التي جعلها الله في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، فخشي أن تقع أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – فيما وقعت فيه أمته من التقصير في أداء حقوق الله تعالى، فنصح النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يسأل ربه التخفيف، ولا شك أن هذا يدل على ما سبق أن ذكرناه من أن طريق الأنبياء واحد وغايتهم واحدة وهي الدعوة إلى الله، فلا عصبية لأمة ولا لجنس ولكن عصبية الأنبياء لا تكون إلا لله تعالى، وهو يدل أيضا على علاقة الأخوة بين الأنبياء جميعا، هذه العلاقة القائمة على الحب والتناصح لا التباغض والحسد وفرض الإرادة والوصاية كما يزعمون.
ثانيا. محمد – صلى الله عليه وسلم – هو أفضل الأنبياء جميعا، ولو أدرك موسى – عليه السلام – زمنه – صلى الله عليه وسلم – لما وسعه إلا اتباعه:
لقد أمر الله تعالى المسلمين في القرآن الكريم بالإيمان بكل الرسل وعدم التفريق بينهم: )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)( (البقرة)، والتفريق المنهي عنه في الآية الكريمة هو التفريق في أصل النبوة لا في ذات الأنبياء؛ لأن منازل الأنبياء متفاوتة وقد فضل الله بعض النبيين على بعض كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم( (البقرة: 253).
والمتأمل في فضائل الأنبياء الكرام، وقصصهم مع أقوامهم، كما ذكرها القرآن الكريم والسنة المطهرة يجد أنه لا خلاف أن أولي العزم من الرسل هم أفضل من غيرهم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد – صلوات الله وسلامه عليهم – ولا خلاف أيضا أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – أفضل منهم جميعا قال سبحانه وتعالى: )وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7)( (الأحزاب). فبدأ في هذه الآية بمحمد – صلى الله عليه وسلم – الخاتم؛ لشرفه وكرمه وفضله عند ربه، ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم[6].
وقد خص الله محمدا – صلى الله عليه وسلم – بست لم يعطها أحدا من الأنبياء قبله؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون»[7].
والمتأمل في الفضيلة السادسة التي أعطيها النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي كونه خاتم الأنبياء يجد أن المعنى هو: أن الله لا يبعث رسولا من بعده يغير شرعه، ويبطل شيئا من دينه[8].
مما سبق نستطيع أن نقرر أن الله قد فضل محمدا – صلى الله عليه وسلم – على سائر الأنبياء، وجعل شريعته مهيمنة على سائر شرائعهم الأنبياء، بل لقد أخذ الله ميثاق جميع الأنبياء والرسل إن هم أدركوا زمن محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يؤمنوا به وينصروه كما سبق أن أشرنا.
ومن ثم فإنه من العجيب حقا أن يتوهم بعضهم أن موسى – عليه السلام – وصي على محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى أمته، والحق الذي لا مراء فيه أن موسى – عليه السلام – لو أدرك زمن محمد – صلى الله عليه وسلم – لما وسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:«لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني»[9]، وكذلك روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله إني أمرت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال عبد الله – راوي الحديث – فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولا، قال: فسري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: «والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى – عليه السلام – ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين»[10].
فالرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – خاتم الأنبياء صلوات الله عليه وسلامه إلى يوم الدين، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر، لكان هو الواجب طاعته، المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان – صلى الله عليه وسلم – إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس[11].
ولا عجب في هذا، فلقد جمعت شريعته – صلى الله عليه وسلم ـالخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالا وجلالا، وهذا ما أشار إليه القرآن في غير موضع كقوله سبحانه وتعالى: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل:89)، وقوله سبحانه وتعالى: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38).
وعليه فإن من الخطأ البين أن يوصف طلب موسى – عليه السلام – من محمد – صلى الله عليه وسلم ـمراجعة ربه في عدد الصلوات وسؤاله له التخفيف – بالوصاية؛ لأن الأمر لا يعدو كما قررنا أن يكون نصيحة من نبي لأخيه، إشفاقا منه على أمته ورحمة وضعها الله في قلبه.
الخلاصة:
- إن العلاقة بين رسل الله جميعا قائمة على التآخي والتناصح، فدينهم جميعا واحد، وطريقهم واحد، وهدفهم واحد وهو تبليغ رسالة الله إلى الناس؛ لهذا نجد موسى – عليه السلام – بحكم تجربته مع بني إسرائيل ومعالجته لهم، يطلب من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يسأل ربه التخفيف في عدد الصلوات، وهذا من باب النصح للنبي – صلى الله عليه وسلم – والشفقة على أمته، فقد جعل الله في قلوب أنبيائه رحمة لم يجعلها في قلوب غيرهم.
- لا خلاف أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – هو أفضل الأنبياء جميعا وخاتمهم إلى يوم الدين، وقد أخذ الله الميثاق على النبيين وأممهم لئن بعث – صلى الله عليه وسلم – وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه، فلو وجد – صلى الله عليه وسلم – في أي عصر لوجب اتباعه، ولو وجد أي نبي في عصره للزمه طاعته، لهذا قال – صلى الله عليه وسلم ــ كما تقدم: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني»[12]؛ ومن ثم فلا وصاية لأحد من البشر – وإن علا قدره – على النبي – صلى الله عليه وسلم – أو على أمته.
(*) المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410هـ/ 1990م.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، (3342)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه خاتم النبيين (6101).
[2]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، 1426هـ/ 2006م، ص54.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها ( (مريم:١6) (3259)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام (6281).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3674)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـإلى السموات وفرض الصلوات (434)، واللفظ للبخاري.
[5]. أضواء على أحاديث الإسراء والمعراج، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، ص73: 75 بتصرف.
[6]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير البشر وأمته خير الأمم، محمد أحمد محمد، مكتبة التراث الإسلامي، مصر، ط1، 1419هـ/ 1998م، ص88، 89 بتصرف يسير.
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1195).
[8]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426هـ/ 2005م، ص218، 219 بتصرف.
[9]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (14672)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 199) برقم (176)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1589).
[10]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث عبد الله بن ثابت رضي الله عنه (15903)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1589).
[11]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير البشر وأمته خير الأمم، محمد أحمد محمد، مكتبة التراث الإسلامي، مصر، ط1، 1419هـ/ 1998م، ص90، 91 بتصرف.
[12]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (14672)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 199) برقم (176)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1589).