ادعاء أن يوسف – عليه السلام – خان إخوته وأساء إلى أبيه بحبسه أخاه بنيامين
وجها إبطال الشبهة:
1) طلب يوسف – عليه السلام – أخاه من إخوته، ثم حبسه عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحق أباه من الحزن إنما هو وحي من الله تعالى، والدليل على ذلك قوله تعالى: )كذلك كدنا ليوسف( (يوسف: 76) [4] فالأمر أمر الله والصنع صنع يوسف – عليه السلام -.
2) أحداث الموقف عظات وعبر لأصحاب العقول، وقد بان هذا في فعل يوسف – عليه السلام – ورد أبيه، إذ كان رده – على بنيه – رد المؤمن الواثق بالله: )عسى الله أن يأتيني بهم جميعا (83)( (يوسف).
التفصيل:
أولا. يوسف – عليه السلام – نبي من أنبياء الله – عز وجل – وتصرف الأنبياء لا يكون إلا بوحي، أو لحكمة قدرها الله:
يوسف – عليه السلام – فعل ما فعل، من طلب أخيه من إخوته وحبسه عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحق أباه من الحزن، كان بوحي من الله – عز وجل – إليه زيادة في امتحان أبيه، ولم يعلم أباه خبره – لتسكن نفسه ويزول حزنه – بأمر من الله إمعانا في الابتلاء لسيدنا يعقوب عليه السلام.
وأما جعل السقاية في رحل أخيه، فالغرض منه التسبب في احتباس أخيه عنده، ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى.
ويذهب ابن حزم الظاهري إلى أن يوسف – عليه السلام – فعل ما فعل ليعود إليه إخوته، ويكون ذلك سببا لاجتماعه بهم وجمع شملهم جميعا، وما قصد أن يحزن بهذا أباه عليهما الصلاة والسلام.
ولا يستبعد أن يكون يوسف – عليه السلام – قصد بهذا أمرين:
الأول: الرفق بأخيه الشقيق والحفاظ عليه، فهو يعلم أنه أثير[5] عند والده قريب إلى قلبه، وربما حمل هذا بقية الإخوة على الكيد له كما كادوا ليوسف، فأراد – عليه السلام – أن يضم إليه أخاه رفقا به، وحفاظا عليه.
الثاني: أن يجمع شمل الأسرة عنده باحتجاز أخيه الشقيق عنده، ثم مجيء الإخوة الباقين إليه راجين إطلاقه معهم فيعلمهم بنفسه، ويطلب إليهم إحضار أهلهم أجمعين، فتجتمع الأسرة بعد الفرقة.
وأما نداء المنادي بأنهم سارقون، فإما أن يكون من قبل المؤذن بناء على ظنه عندما فقد الصواع؛ وعليه فلا إشكال.
وإما أن يكون بأمر يوسف – عليه السلام – وهو الأرجح، ويراد بالسرقة أخذهم يوسف – عليه السلام – من أبيه على وجه الخيانة كالسرقة[6]، قال الزمخشري: “وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى المصالح، ومنافع دينية كقوله لأيوب عليه السلام: )وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث( (ص)؛ ليتخلص من جلدها ولا يحنث[7]، وكقول إبراهيم – عليه السلام – عن زوجته: هي أختي لتسلم من يد الكافر، وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد أعلم الله – عز وجل – في هذه الحيلة التي لقنها يوسف – عليه السلام – مصالح عظيمة فجعلها سلما وذريعة إليها فكانت حسنة جميلة، وانزاحت عنها وجوه القبح”[8].
ثانيا. أحداث الموقف عظات وعبر لأصحاب العقول:
لما دخل إخوة يوسف – عليه السلام – عليه بعد أن أحضروا أخا لهم من أبيهم كما طلب منهم، رأى يوسف – عليه السلام – أمارات الحزن والأسى بادية على شقيقه، فشاركه بنفسه طعامه وشرابه، وأجلسه معه على فراشه، وجاذبه أطراف الحديث، فلما رأى أنه لا زال يعاني من الكرب والغربة، ولا يزال يأسف على فراق شقيقه يوسف – عليه السلام – أفصح له عن نفسه وأخبره بحقيقة أمره، وحدثه عما وقع منذ خروجه من بيت أبيه مع إخوته، حتى الساعة التي هو فيها الآن، ففرح بنيامين فرحا لم يفرح مثله قط، وتبدد حزنه وزال همه وأحس بالأمان. وفي ذلك يقول الله عز وجل: )ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون (69)( (يوسف).
- احتياله في ضم أخيه إليه:
وقد طمع بنيامين في البقاء مع أخيه، وطمع يوسف – عليه السلام – فيما طمع فيه أخوه، فعلمه الله حيلة يحتال بها على تحقيق هذه الرغبة، تتمثل في وضع السقاية في رحل أخيه قبل انصراف إخوته من مصر، ثم يبعث مؤذنا ينادي في العير: )إنكم لسارقون (70)( (يوسف)، فإذا ما سمعوا هذه المقولة فسيعودون حتما إلى ساحة يوسف – عليه السلام – لإثبات براءتهم، فيبدأ يوسف في التفتيش عن السقاية – كما يسميها الخاصة – أو الصواع – كما يسميها العامة – بأوعيتهم، ثم يفتش وعاء أخيه بنيامين فيستخرج منه السقاية، فيكون بذلك قد جاز له أن يبقيه عنده على حسب ما تقضي به شريعة يعقوب – عليه السلام – فإن السارق يسترق[9]، فيكون جزاؤه عند المسروق منه عبدا رقيقا يتصرف فيه كيف شاء.
يقول الله عز وجل: )فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73) قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)( (يوسف) [10].
والجواب قد سجله الله في قوله: )كذلك كدنا ليوسف(، فالأمر أمر الله والصنع صنعه، فهو الذي دبر هذا الكيد، وقام يوسف – عليه السلام – بتنفيذه لحكمة يعلمها الله – عز وجل – ولعل الله أراد ذلك ليشفي صدر يوسف – عليه السلام – من هؤلاء الذين كادوا له كيدا تأباه الفطر السليمة، وتنفر منه الطباع المستقيمة.
وليعلم يعقوب – عليه السلام – ببصيرته وثاقب فكره[11]وحسن تقديره للأمور وجودة فهمه لقرائن الأحوال أن يوسف – عليه السلام – حي، ويتوقع أنه هو الذي يحكم مصر، ولو على سبيل الظن والتخمين، كما يدل عليه قوله عز وجل: )يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)( (يوسف).
ولا يقال: إن يوسف – عليه السلام – قد اتهم أخاه بالسرقة، وإنما جرت هذه التهمة على لسان المنادي، ولذلك أقبلوا عليه وعلى من معه فقالوا: ماذا تفقدون؟ ولم يقولوا: ماذا سرق منكم، وكأنهم بالعدول عن لفظ السرقة يريدون أن يعلموا هذا المنادي ما ينبغي أن يقال، إذ كان ينبغي عليه أن يقول: فقدنا صواع الملك، ولعله دخل في رحل واحد منكم سهوا أو نسيانا، وما أشبه ذلك من الكلام المقبول، ولقد تعلموا فعلا منهم ما ينبغي أن يقال، فقالوا: نفقد صواع الملك، ووعدوا من جاء به أن يعطى حمل بعير من الحبوب، وقال المنادي: أنا بهذا الحمل كفيل.
وقد يقال: إن يوسف – عليه السلام – هو الذي أمر المنادي أن يقول: إنكم لسارقون على سبيل التعريض، فقد كانوا سارقين فعلا عندما أخذوه من أبيه وألقوه في الجب، والله أعلم بما كان.
وقد رفع الله مكانة يوسف – عليه السلام – في العالمين بالحلم والتعفف والعلم والحكمة والنبوة والملك، ورد إليه أخاه تمهيدا لجمعه بأبويه وسائر أهله وذويه.
- موقفه وموقف إخوته بعد استخراج السقاية:
ولما رأى الإخوة السقاية قد استخرجت من رحل بنيامين سقط في أيديهم، وتحركت الأحقاد القديمة في قلوبهم؛ فتفوهوا [12] بمقالة سوء ينفون بها عن أنفسهم العار الذي ظنوا أنه لاحق بهم، فاحتملها يوسف – عليه السلام – منهم، وأخفى وقعها من نفسه عنهم، وأنبأهم بما هم عليه من مكان لا يحمدون فيه، ومن شر هم مواقعوه، قال عز وجل: )قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77)( (يوسف).
قالوا ذلك سبة لأمهما “راحيل” إذ أنجبت ولدين كلاهما سارق، يريدون أن يتنصلوا[13] بذلك من هذا العار الذي ظنوا أنه لاحق بهم جميعا، وهم على قمة الشرف والطهر.
وقعت هذه المقالة من نفس يوسف – عليه السلام – موقعا آلمه وأحزنه، لكنه تحلم وصبر واحتسب، واحتفظ بالرد المناسب في الوقت المناسب، وقال في نفسه: أنتم شر مكانا حيث سرقتم أخاكم من أبيكم، وفعلتم به ما فعلتم، ثم طفقتم [14] اليوم تفترون على البريء فتتهمونه بما كان بكم ألصق، والله وحده هو الذي يعلم بما تنسبونه إليه ظلما وزورا.
وهذا الموقف يظهر لنا ما تحلى به يوسف – عليه السلام – من حلم ورباطة جأش[15]، وقدرة فائقة على كظم الغيظ [16]، والعفو عن المسيء وهو قادر على الانتقام؛ إذ أبت عليه نفسه الزكية أن يواجه إخوته بالحقيقة المرة في غير أوانها وهم في موقف كرب وبلاء ومعاناة نفسية بلغت بهم حدا لا يؤاخذون فيه على ما يصدر منهم.
وطمع الإخوة في إحسان يوسف – عليه السلام – فطلبوا منه أن يتجاوز إحسانه حد الوفاء في الكيل وإكرام النزلاء [17] إلى شيء أعظم عندهم من ذلك بكثير، وهو أن يرد إليهم أخاهم، ويأخذ منهم من يشاء عوضا عنه، رحمة بأبيهم الشيخ الكبير.
قال تعالى: )قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين (78)( (يوسف)، فهم لا يستشفعون لأخيهم في الحقيقة – كما يفهم من الآية – وإنما يستشفعون لأبيهم الذي بلغ من الكبر عتيا [18]، وهم من وراء ذلك أيضا يستشفعون لأنفسهم؛ ليكونوا أوفياء بالميثاق الذي أخذه عليهم أبوهم.
وقد تلطفوا به فاسترحموه بقولهم: )إن له أبا شيخا كبيرا(، واستنزلوه عن حقه في استرقاق أخيه بقوله: )إنا نراك من المحسنين (78)(، لكن يوسف – عليه السلام – كان يريد أن يلقنهم درسا في الأخلاق الفاضلة، فقال كما حكى القرآن عنه: )قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون (79)( (يوسف).
أي عياذا بالله أن نبرئ مذنبا وندين بريئا، فنأخذ البريء بذنب المسيء، إن ذلك ظلم لا يلتقي أبدا مع الإحسان الذي تدعونني باسمه، فلما رأوا أن العزيز متمسك بمن وجد متاعه عنده كفوا عن التحدث معه في شأنه، وعكفوا على تدبير أمرهم، وتشاوروا فيما بينهم على كيفية مواجهة أبيهم بهذا الأمر الجلل الذي لم تكن لهم فيه إرادة ولا عزم.
قال تعالى: )فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين (80) ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81) واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون (82)( (يوسف).
وقوله عز وجل: )فلما استيأسوا( معناه: لما بلغ منهم اليأس مبلغا، بسبب استعاذته بالله مما طلبوه، وهذا التعوذ يدل على أنه أمر في غاية الكراهة عنده، وإنه ظلم ينبغي التعوذ منه، والاحتراز من فعله، فلما قطعوا الأمل من أخذ بنيامين، خلصوا نجيا [19]، أي خلص بعضهم إلى بعض، واجتمعوا بعيدا عن الناس يتناجون في أمرهم هذا.
فقد قال كبيرهم هذا: أنسيتم أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أن تأتوه بابنه سالما: )ومن قبل ما فرطتم في يوسف(؟ أي: هل نسيتم ما فعلتموه بيوسف من قبل؟ فكيف تواجهون أباكم، وبماذا تعتذرون إليه؟ وكيف يكون وقع الخبر عليه؟ إلى آخر ما وقع بينهم من همس ومشافهة، وأخذ ورد طواه القرآن لعدم جدواه.
وقول كبيرهم بعد هذا التذكير المفجع والكلام الموجع: )فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين (80)( (يوسف) [20]ـ يعد تنصلا من المسئولية، وخذلانا عن مواجهة الواقع، تخلصا من هذا الموقف العصيب، وإن بدا في كلامه حسن الاستسلام لأمر الله – عز وجل – وإظهار الرضا بقضائه وقدره.
إنه يريد أن يبقى مكانه فى أرض مصر بعيدا عن المواجهة القاسية التي سوف يلقاها إخوته، فقال لهم ما حكى القرآن عنه: )ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق( (يوسف: 81) إلى آخر هذه المقولة التي أوصاهم بها، وفيها خبر وشهادة، وإقرار واستيثاق.
فقولهم: )إن ابنك سرق( (يوسف: 81) إقرار بشيء لم يقع، وما كان ينبغي أن يقول لهم: قولوا ذلك؛ لما في هذا القول من جفاف وجفاء، وشدة وقع على نفس يعقوب – عليه السلام – إن قولهم: ابنك مات أو قتل أخف عليه من قولهم: إن ابنك سرق، لكنها الغلظة التي عرفت في طباعهم، لن يستطيعوا التخلي عنها أو التخلص منها.
وقال لهم كبيرهم: قولوا له معتذرين بعد أن تخبروه بهذا الخبر: )وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81)( (يوسف) أي فإن سألكم هل علمتم أنه سرق ببينة لا تقبل الجدل، أو كيف حكمتم بأنه سرق، وعلى أي شيء استندتم، فقولوا: ما أقررنا بذلك إلا حين رأينا العزيز، أو أحد فتيانه قد استخرج صواع الملك من رحله، وقد سئلنا قبل التفتيش عن الصواع عن حكم السرقة عندنا فأجبناهم بما علمنا من شريعتنا، فوقع لأخينا ما وقع بقضاء الله – عز وجل – و أمر مغيب عنا: )وما كنا للغيب حافظين (81)( (يوسف). أي ما كنا ندري عواقب الأمور، ولا بواطن الأحوال، فإن كنت في شك من أمرنا، فاسأل القرية التي كنا فيها، وهي عاصمة مصر، واسأل العير التي أقبلنا فيها لتعلم صدقنا وصحة قولنا.
وانظر إلى ما قالوه هنا، وما قالوه عند اعتذارهم عن فقد يوسف، لقد قالوا هنا: )وإنا لصادقون (82)( (يوسف)، فأكدوا قولهم بأن واللام والجملة الاسمية. وقالوا هناك بشيء من التمني والتحسر والشك والمدارة: )وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17)( (يوسف)[21]. فانظر إلى موقفهم هنا وقد جاءوا إلى أبيهم بالصدق كله، وإلى موقفهم من قبل مع يوسف، وقد جاءوا إلى أبيهم بالكذب كله.
وكان من حقهم في هذه المرة أن يقولوا: )وإنا لصادقون (82)( (يوسف) بصيغة الجزم؛ لأنهم يعلمون أن أباهم لا يصدقهم لما عرف من كذبهم في المرة الأولى، ومن عرف بالكذب لم يصدقه أحد، وكان من حقهم أيضا أن يقيموا على صدقهم الشواهد والبينات، والحق أبلج [22] كما يقولون.
- موقف أبيهم بعد سماع الخبر:
وما كاد يعقوب – عليه السلام – يسمع من أبنائه هذا الخبر المؤلم حتى واجههم بما واجههم به في المرة الأولى حين جاءوه يلقون إليه بالخبر المفجع في يوسف، إنهم متهمون عنده في الحالين؛ لأنه كان يتوقع منهم أن يسيئوه [23] في يوسف – عليه السلام – وفي أخيه، ففي يوسف يقول لهم: )قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13)( (يوسف).
وعن ابنه الآخر يقول لهم: )قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (64)( (يوسف). وهكذا يأخذهم بحدسه[24] فيهم وظنه بهم وقد صدقه حدسه في الأولى، وتحقق ظنه في الثانية، فوقع المكروه في الحالين: )قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83)( (يوسف)[25]. هي كلمته ذاتها يوم فقد يوسف – عليه السلام – ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل.
ومن ثم تتضح لنا العظة والعبرة من هذه القصة، فسيدنا يوسف – عليه السلام – لما علم حال بنيامين وحال يعقوب عليهما السلام وما أصابهما من الحزن والقهر على غياب يوسف – عليه السلام – قرر أن يخفف عن أخيه الهم والكرب فكشف عن حاله، ثم إنه أراد أن يلقن إخوته درسا ويذكرهم بما فعلوه في يوسف – عليه السلام – وما كان من أمرهم، أضف إلى ذلك أن سيدنا يوسف فعل ذلك بوحي من الله – عز وجل – وحتى تكون هذه الأحداث سببا منطقيا في جمع شمل الأسرة مرة ثانية بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته من قبل.
الخلاصة:
- يوسف – عليه السلام – نبي من أنبياء الله ولا يتصرف إلا بوحي أو حكمة يراها، والأنبياء بصيرتهم مشرقة، فهم يرون بنور الله، ومعلوم أن الطاعة سبب في ذلك حتى مع غير الأنبياء، فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول عن رب العزة عز وجل: «وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»[26]، فالراجح أن يوسف – عليه السلام – فعل ما فعل بوحي من الله – عز وجل – والدليل قول الله عز وجل: )فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)( (يوسف) فتعبير: )كدنا ليوسف( يوحي بأن الأمر وحي من الله – عز وجل – له، والله أعلى وأعلم.
- أحداث الموقف عظات وعبر لأصحاب العقول، لا تصيدا للأخطاء، وقد بان هذا في: فعل يوسف – عليه السلام – وفعل أبيه، ورده – رد المؤمن الواثق بالله – على بنيه: )عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83)( (يوسف)، وموقف أخيهم الأكبر الذي تعلم الدرس وأبى الرجوع إلى أن يأذن له أبوه أو يحكم الله له، والموقف العصيب الذي وضع فيه إخوة يوسف – عليه السلام – وقد تعلموا منه الكثير.
(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
[1]. السقاية: وعاء من الذهب مرصع بالجواهر.
[2]. الرحل: المتاع.
[3]. العير: الدواب التي تحمل المتاع.
[4]. كدنا: دبرنا.
[5]. أثير: مفضل.
[6]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص327، 328.
[7]. حنث في يمينه: لم يوفها.
[8]. الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، ج2، ص383.
[9]. يسترق: يصير من العبيد.
[10]. دين الملك: سلطته.
[11]. ثاقب فكره: فكره البعيد الراشد الصائب.
[12]. تفوهوا: نطقوا.
[13]. يتنصلوا: يتبرأوا.
[14]. طفقتم: أخذتم.
[15]. رباطة الجأش: ثبات.
[16]. كظم الغيظ: عدم إظهار الغضب والتحكم فيه.
[17]. النزلاء: جمع نزيل، وهو الضيف.
[18]. عتى الرجل: كبر سنه.
[19]. خلصوا نجيا: انفردوا يتشاورون سرا ومناجاة.
[20]. أبرح: أذهب من هذه الأرض.
[21]. مؤمن: مصدق.
[22]. الأبلج: الواضح.
[23]. يسيء: يحزن.
[24]. الحدس: الفراسة.
[25]. سولت: حببت لكم, وأغرتكم, وهونت عليكم هذا الأمر.
[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع (6137).