ادعاء افتقاد تاريخ المسلمين الإبداع العلمي والفكري
وجوه إبطال الشبهة:
1) الثقافة – في أشهر تعريفاتها – ضرب من السلوك،أي: كيف تعامل من حولك وما حولك، وكيف تعامل ربك ونفسك، وقد كان المسلمون – لا سيما في القرون الأولى – آية عظمى في السلوك السوي في جميع مناحي حياتهم.
2) إن أول ما نزل من القرآن أمر بالقراءة: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق)، والقراءة – كما هو معلوم – مفتاح كل ثقافة وأداتها.
3) لقد نبغ من المسلمين الأوائل كثير من العلماء في مختلف المجالات النظرية والتطبيقية، وهذا وحده يكفي لدحض هذه الفرية.
4) لقد كان المسلمون حلقة وصل في تاريخ الحضارة الإنسانية.
التفصيل:
أولا. الثقافة – في أشهر تعريفاتها – ضرب من السلوك،أي كيف تعامل من حولك وما حولك، وكيف تعامل ربك ونفسك:
كان المسلمون آية عظمى في السلوك السوي في جميع مناحي حياتهم. وإليك بعضا من تلك الجوانب المشرقة التي أفاد الإسلام الثقافة الإنسانية بها:
إن الإسلام نشر بين العرب كثيرا من التعاليم التي حفظت للإنسان كرامته، ووفرت له أسباب السعادة والطمأنينة، ونشر كذلك كثيرا من أحوال الأمم السابقة، فقص القرآن الكريم مثلا قصة آدم ونوح وإبراهيم ويوسف، وغيرهم من الأنبياء – عليه السلام – فكان في ذلك كله نوع من الثقافة أفاد المسلمين ووسع مداركهم، كما شرح الإسلام بالإضافة إلى أحكام العقيدة أحكام المعاملات، والأخلاق والآداب، وما ينظم أمور المسلمين في شتى المجالات.
قال أبو الحسن على الندوي: “بهذا الإيمان الواسع العميق، والتعليم النبوي المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة، وبشخصيته الفذة، وبفضل الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الإنسانية المتحضرة حياة جديدة. عمد إلى الذخائر البشرية، وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها، ولا يعرف محلها، وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض، فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة، وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحد في محله، فكأنما خلق له، وكأنما كان المكان شاغرا لم يزل ينتظره ويتطلع إليه، وكأنما كان جمادا فتحول جسما ناميا وإنسانا متصرفا، وكأنما كان ميتا لا يتحرك، فعاد حيا يملي على العالم إرادته، وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق، فأصبح قائدا بصيرا يقود الأمم: )أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (122)( (الأنعام) [1].
فالإسلام قد ارتقى بسلوك العرب، وهذب أخلاقهم، ورفع منزلتهم، وأعزهم وحضرهم وعلمهم، ويلخص عمر بن الخطاب أثر الإسلام على العرب بصفة خاصة فيقول: «إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزة بغيره».[2]
وجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – السلوك الحسن والأخلاق الرفيعة سببا للقرب وعلو المنزلة فقال: «أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا»[3].
من هنا يتبين أن المسلمين كانوا على قدر واسع من الثقافة والمعرفة، وأبرز مظاهر هذه الثقافة كانت تتجلى في سلوكهم وأخلاقهم التي هذبها القرآن وقومها.
ثانيا. إن أول ما نزل من القرآن الكريم أمر بالقراءة)اقرأ( (العلق:1)، والقراءة كما هو معلوم هي مفتاح كل ثقافة وأداتها:
وقد كرم الله – عز وجل – العلم وكرم القراءة، وكرم القلم.. وإذا تأملت أول آيات نزلت من كتاب الله – عز وجل – على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)( (العلق). أدركت أن منهج الإسلام يدعو إلى التحضر والتقدم، وأن أفكاره لا تناقض العقل ولا التطور العلمي.
إنها نقلة إسلامية وتحول معرفي، وعمل في صميم العقل من أجل تشكيله بالصبغة التي تمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود، بالحجم نفسه، والطموح نفسه، الذي جاء الإسلام لكي يمنحها الإنسان.
إنها حركة تحول معرفي بدأت منذ الكلمة الأولى للوحي “اقرأ”، واستمرت عبر المسيرة الطويلة، مسيرة الاثنين والعشرين سنة؛ إذ كانت آيات تتنزل بين الحين والحين، وقد استمر التأكيد نفسه لتعميق الاتجاه، وتعزيز هذه النقلة المعرفية وتحويلها إلى واقع يومي معيش.
إن نداءات القرآن المنبثقة من فعل القراءة والتفكير، والتعقل والتفقه والتدبر في نسيج كتاب الله، لم تخفف نبرتها أبدا هناك في العصر المكي أو هنا في العصر المدني.
وليس عبثا أن تكون كلمة “اقرأ” هي الكلمة الأولى التي نزلت من كتاب الله، وليس عبثا أن تتكرر في آيات ثلاث.. وليس عبثا – كذلك – أن ترد كلمة “علم” ثلاث مرات، وأن يشار بالحرف إلى القلم: الأداة التي يتعلم بها الإنسان.
وبعدها، وعبر المدى الزمني لتنزل القرآن، ينهمر السيل ويتعالى النداء المرة تلو المرة: اقرأ، تفكر، اعقل، تدبر، تفقه، انظر، تبصر… إلخ.
ويجد العقل المسلم نفسه ملزما، بمنطق الإيمان نفسه، بأن يتحول؛ ليتلاءم مع هذا التوجه المعرفي الذي أراده الدين الجديد” [4].
والله – عز وجل – قد قرن الإيمان بالعلم، إشارة إلى أن العلماء أعلى مقاما، وأرفع منزلة من غيرهم، قال تعالى: )يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (11)( (المجادلة).
والرسول – صلى الله عليه وسلم – جعل طالب العلم في منزلة المجاهدين لإعلاء كلمة الله من حيث المنزلة والأجر، قال صلى الله عليه وسلم: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع». [5]
والرسول – صلى الله عليه وسلم – عد الطريق الذي يسلكه طالب العلم في تحصيله سبيلا مؤدية إلى الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة».[6]
والعلم في الإسلام يشمل كل علم نافع، سواء أكان دينيا أم دنيويا، نظريا أو تجريبيا، فرض عين أم فرض كفاية، ما دام في خدمة الدين والدنيا، وما دام لرفع منار المدنية والحضارة، وما دام لصالح الحياة والإنسانية، فالله – عز وجل – حين يقول: )وقل رب زدني علما (114)( (طه)، لم يقيد ذلك بعلم الدين، ولا بعلم الدنيا، وإنما أطلق اللفظ ليشمل الأمرين معا، ليشمل كل علم نافع في الحياة.
والمتأمل في كتاب الله العظيم يجد كثيرا من الآيات القرآنية التي تحض على التأمل والتفكر في خلق السماوات والأرض، وهي في حقيقتها حض على العلم التجريبي في كل صوره وأنواعه، وذلك أن المسلم حينما يتأمل في أسرار الطبيعة، ويتعمق في خفايا الكون، ويبحث عن نواميس الحياة؛ يزداد إيمانا بعظمة هذا الخالق العظيم، وبإبداعه الرائع وبقدرته الفائقة.
وبهذا يتضح أن العلم في الإسلام هو مفتاح كبير من مفاتيح الحضارة عبر الزمان والمكان، وهو يواكب ويساير حركة الحضارة الإسلامية بمعناها الواسع حيثما حلت.
ثالثا. لقد نبغ من المسلمين كثير من العلماء في مختلف المجالات النظرية والتطبيقية، وقد شهد لهم التاريخ وسجل مآثرهم. فمنهم الفلاسفة، والعباقرة المفكرون المتبحرون في مختلف العلوم والفنون:
وسوف نذكر هنا أمثلة لبعض هؤلاء العلماء، وأول من يقابلنا في حقل الفلاسفة “الكندي”، وهو أول المتفلسفين من المسلمين والعرب، وقد بلغت مؤلفاته مائتين وواحدا وأربعين مؤلفا في الفلسفة والرياضيات والفلك، والهندسة، والطب، والسياسة وغيرها، والفارابي لا ينكر أثره في البحوث النفسية والسياسية والفلسفية والطبعية والمنطقية، وقد لقب بالمعلم الثاني بسبب نجاحه في توضيح منطق أرسطو طاليس، والرازي في الفلسفة والطب والكيمياء، وابن سينا في الفلسفة والطب وعلم النفس. وغيرهم كثيرون.
أما في العلوم والفنون، فنذكر هنا: جابر بن حيان، وأبا الريحان البيروني، الذي يقول عنه ديورانت:”إن البيروني هو مثال العالم المسلم في أرقى مراتبه”. وكذلك الخوارزمي الذي كان عالما رياضيا، وفلكيا جغرافيا، كان له فضل السبق في نقل نظام الأعداد إلى أوربا، وعرف علم الحساب عدة قرون باسمه. وابن خلدون صاحب علم الاجتماع، الذي يقول عنه نيكلسون: ” لم يسبقه أحد إلى اكتشاف الأسباب الخفية للوقائع، أو إلى عرض الأسباب الخلقية والروحية التي تكمن خلف سطح الوقائع.
هذه بعض أمثلة للكثيرين من نوابغ المسلمين، وحسبك أن تعرف أن ما ترجم من كتب الطب عن المسلمين، ظل العمدة في دراسة هذا الفن في جامعات أوربا، حتى أواسط القرن السابع عشر.
رابعا. لقد كان المسلمون بثقافتهم وعلمهم حلقة وصل في تاريخ الحضارة الإنسانية:
ويبرز هذا الأمر “التأثر والتأثير” في العصر العباسي، وهو عصر النضج والارتقاء؛ حيث اكتملت الحضارة الإسلامية واتسعت رقعتها، ومن المعروف بداهة أن الحضارة البشرية أدوار متتابعة يؤثر السابق في اللاحق، وهذا بدوره يؤثر فيمن يليه، والمسلمون لم يكونوا انعزاليين منغلقين متقوقعين على أنفسهم، بل الحكمة ضالتهم ينشدونها أنى وجدت، وقد استفادوا من الحضارات السابقة عليهم: صينية وهندية، وفارسية ورومية، عبر ترجمة تراث هذه الأمم، وهو ما بلغ الاوج في العصر العباسي.
ولكنهم لم يتوقفوا عند حد اقتباس ما لدى الآخرين، بل استوعبوه وهضموه وشكلوا منه ومن مقومات الحضارة الأصيلة لديهم طابعا حضاريا خاصا بهم أثر فيمن بعدهم تأثيرا بالغا، وخاصة في الغرب في مطالع نهضته الحديثة، فكانت لهم شخصيتهم الحضارية الأصيلة ذات الملامح المتفردة، والكتابات في هذه مشهورة معروفة، منها على سبيل المثال: جوستاف لوبون في كتاباته عن حضارة العرب والمسلمين، وزيغريد هونكه في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب”… إلخ.
فالحضارات الحية كالكائنات الحية، لا أحد منها يولد كاملا مستقلا عن غيره، ولا أحد منها يفنى دون أن يضيف شيئا أو يترك تأثيرا ما في المحيط الذي عاش فيه.
الخلاصة:
- الثقافة سلوك، أي: كيف تعامل نفسك ومن حولك وما حولك، وقد كان المسلمون – لا سيما في القرون الأولى – آية عظمى في السلوك السوي في جميع مناحي حياتهم، وحسبك بها من ثقافة عالية.
- إن أول ما أمر به الله في القرآن: )اقرأ( (العلق: ١)، والقراءة – كما هو معلوم – مفتاح الثقافة والعلوم، والأداة الرئيسة في تحصيلها.
- نبغ من المسلمين كثير من العلماء في مختلف المجالات النظرية والتطبيقية، وهذا وحده كاف لدحض هذه الفرية؛ إذ انكب المسلمون على العلوم يعبون منها ويضيفون إليها حتى أصبحوا أعلاما في جميع المجالات.
- المسلمون بثقافتهم الأصيلة وعلمهم كانوا بمثابة حلقة الوصل في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولا يمكن لمنصف أن يتجاهل أثر المسلمين والعرب وفضلهم على الحضارة الغربية الحديثة.
(*) الغارة على العالم الإسلامي، شاتليه، ترجمة: محب الدين الخطيب، مساعد اليافي ، القاهرة، سنة 1385هـ.
[1]. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن علي الندوي ، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1418هـ/ 1997م، ص80.
[2]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب التاريخ، باب في توجيه عمر إلى الشام (33847)، والحاكم في مستدركه، كتاب الإيمان (208)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (51).
[3]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الأدب، باب ما ذكر في حسن الخلق وكراهية الفحش (25320)، والترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، باب معالي الأخلاق (2018)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (2018).
[4]. مدخل إلى الحضارة الإسلامية، د. عماد الدين خليل، المركز الثقافي العربي ، المغرب، الدار العربية للعلوم، بيروت، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص23، 22 بتصرف يسير.
[5]. حسن لغيره: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب العلم، باب فضل طلب العلم (2647)، والطبراني في المعجم الصغير، حرف الحاء، باب الحاء، من اسمه الحسن (380)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (88).
[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (7028).