ادعاء تناقض القرآن بشأن المغفرة لمن أشرك
وجها إبطال الشبهة:
1) الله – عز وجل – لا يغفر لمن مات وهو مشرك.
2) مقولة إبراهيم – عليه السلام – لفت لأنظار قومه إلى فساد عقيدتهم، وكان ذلك في مقام المناظرة لهم، ولم يكن إيمانا منه بربوبية الكوكب أو القمر أو الشمس.
التفصيل:
أولا. الله – سبحانه وتعالى – لا يغفر لمن أصر على شركه:
يبين الله – عز وجل – في قوله: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)( (النساء)، أنه تعالى يغفر كل الذنوب التي يقترفها العبد ما لم يشرك بالله أحدا، ولكن هذا لا يعني تشجيع الناس على المعصية ما دام الله يقبل التوبة منهم ما لم يشركوا معه غيره من خلقه، وهذا المشرك إن تاب إلى الله – سبحانه وتعالى – يقبل توبته، ولكنه إن أصر عليه يستحق اللعنة والعذاب يوم القيامة.
“وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك، الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح، وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به كما قال تعالى:)ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1)( (الأنعام)، وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار.
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك. يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض[1] خطايا ثم لقيتني لا تشرك به شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة»[2].
فقوله: “ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ” شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهي السلامة من الشرك؛ كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله عز وجل، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى: )يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89)( (الشعراء).
قال ابن القيم – رحمه الله – في معنى الحديث: ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده – ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض.
وعليه، فلا يجوز أن يحمل قوله سبحانه وتعالى: )ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( (النساء: ٤٨)، على التائب، فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى: )قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53)( (الزمر)، فها هنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتب”[3].
ثانيا. مقولة إبراهيم – عليه السلام – لفت لأنظار قومه إلى فساد عقيدتهم، وكان ذلك في مقام المناظرة لهم:
أفاض د. محمد أبو النور الحديدي في هذه المسألة، وكان مما قاله فيها: يقول الله ـ سبحانـه وتعالـى ـ: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران)، هذه الآية الكريمة وأمثالها تدل على أن إبراهيم – عليه السلام – لم يكن مشركا في أي وقت؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله: )وما كان من المشركين (67)( يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي.
وقد جاء في آيات أخرى ما يوهم أنه اعتقد ربوبية الكوكب والقمر والشمس، كما في قوله سبحانه وتعالى: )فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78)( (الأنعام).
وفي الإجابة عن هذا التوهم نقول: إن هذا القول من الخليل – عليه السلام – كان في مقام المناظرة لقومه والدليل على ذلك:
- أن القول بربوبية الكواكب كفر، والكفر غير جائز عن الأنبياء بالإجماع، قال الخطيب الشربيني: “لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد، وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء”.
- إن الله – سبحانه وتعالى – أخبر عنه قبل هذه الواقعة أنه قال لأبيه آزر: )وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74)( (الأنعام). فهذا يدل على أن إبراهيم – عليه السلام – عرف ربه قبل هذه الواقعة؛ إذ لا يدعو غيره إلى الله إلا إذا كان عارفا به موحدا له.
- إن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السماوات والأرض، وقد أكسبته تلك الإراءة يقينا:)وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)( (الأنعام)، ثم قال بعده: )فلما جن عليه الليل رأى كوكبا( (الأنعام: ٧٦)، والفاء تقتضي الترتيب، فدل هذا على أن هذه الواقعة وقعت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربهم.
- النص في أكثر من آية على أن هذه المحاجة كانت مع قومه، منها قوله: )يا قوم إني بريء مما تشركون (78)( (الأنعام)، وقوله: )وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون (80)( (الأنعام)، فهذا يدل على أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا عليه من الشرك، لا ناظرا لنفسه.
- إخبار الله تعالى عنه بأنه آتاه رشده من قبل، وكان عالما باستحقاقه الرسالة لتجنبه الشرك، وسوء الفعال، وقبيح الصفات، قال سبحانه وتعالى: )ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52)( (الأنبياء)، وقال عنه أيضا: )إذ جاء ربه بقلب سليم (84)( (الصافات)، أي: لم يشرك قط.
- ما جاء عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله سبحانه وتعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم»[4]، فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ناظرا في هذا المقام، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية[5] المستقيمة بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلا شك ولا ريب.
فإبراهيم – عليه السلام – كان في هذا المقام مناظرا لقومه، لا ناظرا لنفسه، ويكون قوله – عليه السلام – عن كل من الكوكب والقمر والشمس: )هذا ربي( من قبيل استدراج الخصم بإظهار موافقته ليسمع الحجة، ويتم إلزامه؛ فإنه – عليه السلام – كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم، وبعد طباعهم عن قبول الحق، أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى، وإبطال ربوبية الكواكب من أول الأمر لما قبلوا قوله، ولما تمكن من إقامة الدليل على إبطال معتقدهم؛ فعمد إلى هذا الأسلوب الذي يحقق مقصوده، قال أبو السعود: لو صدع إبراهيم بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام، لتمادوا في المكابرة والعناد، ولجوا [6] في طغيانهم يعمهون[7].
الخلاصة:
- الله – عز وجل – يغفر كل الذنوب لعباده، ما عدا الشرك بالله مع الإصرار عليه دون توبة إلى الله، وهذا لا يعني فتح باب المعصية أما الناس؛ بل يعني سعة رحمة الله للناس جميعا، وفتح باب التوبة لكل عاص لكي يرجع إلى الله.
- ليس صحيحا أن إبراهيم – عليه السلام – أشرك بالله بزعم إيمانه بربوبية الكوكب والقمر والشمس؛ لأن هذا الكلام من إبراهيم – عليه السلام – كان على سبيل مناظرة قومه واستدراجهم لكي يؤمنوا بالله عز وجل، وليس أدل على هذا من الآثار التي تنفي الشرك عن رسل الله، وتؤكد أن ما فعله إبراهيم كان محاجة لقومه وأنه – عليه السلام – أفضل رسل الله بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يصح في حق نبي كإبراهيم اتهامه بالشرك بالله؟!
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. قراب الأرض: أي بما يقارب ملأها.
[2]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده (3540)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2805).
[3]. عقيدة أهل السنة والجماعة، د. أحمد فريد، مكتبة فياض، مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص97: 99 بتصرف.
[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (7386).
[5]. السجية: الطبيعة والخلق.
[6]. عقيدة أهل السنة والجماعة، د. أحمد فريد، مكتبة فياض، مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص236: 239 بتصرف.
[7]. لج في الأمر: لزمه وأبى أن ينصرف عنه.