ادعاء تناقض القرآن حول تفضيل بعض الرسل على بعض
وجوه إبطال الشبهة:
1) لا تناقض بين آيات القرآن الكريم؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين التفضيل بين الأنبياء والتفريق بينهم، فالتفاضل بين الأنبياء جائز؛ لأنهم متفاوتون في درجاتهم وقربهم من الله، أما التفريق فيعني الإيمان ببعضهم دون بعض.
2) لقد جعل الله الأنبياء درجات، وفضل بعضهم على بعض، وحق التفضيل هذا له وحده لا للمسلمين ولا لغيرهم.
3) المسلمون لا يتعصبون لنبيهم – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم يفضلون من فضله الله تعالى، وصيغة الصلاة والسلام على النبي إنما هي امتثال لأمر الله تعالى، ولم يبتدعها المسلمون من عند أنفسهم.
التفصيل:
أولا. لا تناقض بين آيات القرآن الكريم؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين التفضيل بين الأنبياء والتفريق بينهم:
إن المتأمل قوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( (البقرة: ٢٥٣)، وقوله سبحانه وتعالى: )لا نفرق بين أحد من رسله( (البقرة: ٢٨٥) لا يجد هذا التناقض الذي يدعيه هؤلاء، فقوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( إخبار أن الله – عز وجل – فضل بعض النبيين على بعض، فالتفضيل من الله وليس من غيره، فقوله: )تلك الرسل( استئناف مشعر بالترقي: )فضلنا بعضهم على بعض( بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست لبعضهم الآخر.
وقيل: المراد التفضيل بالشرائع، فمنهم من شرع ومنهم من لم يشرع، وقيل: هو تفضيل بالدرجات الأخروية، )منهم من كلم الله( تفصيل للتفضيل المذكور وهذا التفضيل كان لموسى عليه السلام: )ورفع بعضهم درجات( أي: ومنهم من رفعه الله – سبحانه وتعالى – على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة، وتغيير الأسلوب لترتيب ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف.
إذن فهناك تفاوت بين الرسل كتفاوتهم في قدمهم في الجهاد، والصبر على المحن والبلاء، ومتفاوتون في أعمارهم التي أفنوها في سبيل الله، فالتفضيل حسب جهد كل واحد منهم، وجهاده في الدعوة إلى دين الله، وتحمل المشاق والبلاء في سبيلها، كأولي العزم من الرسل، وليس التفضيل محاباة من الله – عز وجل – لأحد.
إذن فقد شاء الله – عز وجل – أن يكون الرسل والأنبياء الذين بعثهم على مر العصور متفاوتين في درجاتهم وقربهم من الله عز وجل.. والجامع المشترك بينهم أنهم جميعا مؤيدون بالوحي من الله – عز وجل – وأن على الناس أن يؤمنوا بهم جميعا، أي: أن يؤمنوا بأنهم رسل أرسلوا إلى أقوامهم، وأنهم جميعا بعثوا بعقيدة واحدة[1].
أما قوله سبحانه وتعالى: )لا نفرق بين أحد من رسله( (البقرة: ٢٨٥) فإن المراد بالتفريق بين الرسل هنا هو أن يؤمن الإنسان ببعض الرسل ويكفر ببعض، كما فعل أهل الكتاب – اليهود والنصارى – حيث آمنوا برسالة بعض الأنبياء، وكفروا برسالة آخرين، ففرقوا بين الرسل، وقد وضح الله – سبحانه وتعالى – هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)( (النساء). [2]
إذن فليس المراد من النهي عن التفريق بين الرسل في القرآن الكريم هو النهي عن التفضيل بينهم؛ لأنه – كما رأينا – هناك فرق كبير بين التفريق بين الرسل والتفضيل بينهم؛ وعليه فيجوز التفضيل بين الأنبياء، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال التفريق بينهم في الإسلام.
ثانيا. لقد جعل الله الأنبياء درجات، وفضل بعضهم على بعض، وحق التفضيل هذا لله وحده:
إن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله، وليست بمعلومة عند البشر والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا، وهذا مفضولا، لا العلم ببعضها، أو بأكثرها، أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له، وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا في القرآن إخبارنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفاضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوا بين أنبياء الله».[3]
وجاء أن عفريتا تفلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – ليقطع عليه الصلاة، وبعد زجره عدة مرات أمكنه الله منه، وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى ينظر إليه جميع الصحابة، فقال: «ثم ذكرت قول أخي سليمان: )قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي( (ص:٣٥)».[4] وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى»[5]. والقرآن يخبر أن الله فضل بعض الأنبياء على بعض، ويبين أن الإيمان بهم يكون بلا تفضيل؛ لأنهم جميعا أنبياء الله سبحانه وتعالى.
على أننا ننبه أن نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه والمسلمين من بعدهم عن التفضيل بين الأنبياء في هذه الأحاديث، إنما هو التفضيل القائم على الحمية والعصبية والانتقاص، أو التفضيل الذي يمكن أن يؤدي إلى خصومة أو فتنة بين المسلمين وأهل الكتاب، وعليه فهذا النهي ليس مطلقا ولا يتعارض مع آيات القرآن التي جاء فيها ذكر لتفضيل بعض الأنبياء على بعض، فمن الثابت أن هؤلاء الأنبياء الأطهار ليسوا بدرجة واحدة من الفضل والمكانة، بل بعضهم أفضل من بعض، وقد جعلهم الله – عز وجل – درجات، فأفضل الرسل هم أولو العزم، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد – عليهم الصلاة والسلام – فمنهم من فضل بتكليم الله مباشرة؛ مثل موسى – عليه السلام – على جبل الطور، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – في ليلة المعراج، قال سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات( (البقرة: 253).
قال المفسرون: أراد بقوله: )ورفع بعضهم درجات( محمدا – صلى الله عليه وسلم – لأنه بعث إلى الأحمر والأسود، أي: العرب والعجم، وظهرت على يديه المعجزات الكثيرة، وأحلت له الغنائم، ولم تحل لأحد قبله، وليس أحد من الأنبياء أعطي فضيلة أو كرامة إلا وقد أعطي محمد – صلى الله عليه وسلم – مثلها. ومن فضائله: أن الله – عز وجل – خاطب الأنبياء بأسمائهم مثل: يا آدم، ويا نوح، ويا إبراهيم، ويا موسى، ويا عيسى، وخاطب نبينا بالنبوة والرسالة في كلامه القديم، فقال: )يا أيها النبي( و )يا أيها الرسول( وأمر الله المؤمنين بمخاطبته بوصف الرسالة في قوله: )لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا( (النور: ٦٣)[6].
وورد في القرآن الكريم جملة أخبار تبين عظم قدر النبي – صلى الله عليه وسلم – وشريف منزلته وتفضيله على بقية الأنبياء، منها قوله سبحانه وتعالى: )وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81)( (آل عمران).
قال أبو الحسن القابسي: اختص الله تعالى محمدا – صلى الله عليه وسلم – بفضل لم يؤته غيره، أبانه به وهو ما ذكره في هذه الآية. قال المفسرون: أخذ الله الميثاق بالوحي، فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا – صلى الله عليه وسلم – ونعته، وأخذ عليه ميثاقه: إن أدركه ليؤمنن به.
إن آيات كثيرة تضمنت فضل النبي – صلى الله عليه وسلم – وفضائله من وجوه متعددة، منها قوله سبحانه وتعالى: )وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7)( (الأحزاب). ومنها قوله سبحانه وتعالى: )إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165) لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166)( (النساء).
قال عمر – رضي الله عنه – في كلام أبكى به النبي صلى الله عليه وسلم: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن بعثك آخر الأنبياء، وذكرك في أولهم، فقال: )وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7)( (الأحزاب).
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك، وهم بين أطباقها يعذبون: )يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66)( (الأحزاب)، أي: فلم يصبنا هذا العذاب. تمنوا حيث لا ينفعهم التمني من جميع الأبواب.[7] قال أبو الليث السمرقندي: في هذا تفضيل نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – لتخصيصه بالذكر قبلهم، وهو آخرهم بعثا.
والمعنى: أخذ الله – عز وجل – عليهم الميثاق إذ أخرجهم من ظهر آدم كالذر [8] بأن يؤمنوا بمحمد – صلى الله عليه وسلم – ويتبعوه.
دلت هذه النصوص القرآنية على تفضيل النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – على جميع الأنبياء، وإن كان متأخرا عنهم في الزمان، ويؤكدها أحاديث؛ منها: ما جاء عن أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله – عز وجل – فضلني على الأنبياء»[9].
ثالثا. المسلمون لا يتعصبون لنبيهم، ولكنهم يفضلون من فضله الله:
المسلمون ينقلون بأمانة عن الله – عز وجل – فهم شهداء على الأمم، وحينما يذكرون أحدا بالفضل، فليس ذلك راجعا لأنفسهم وأهوائهم، ولكنهم يفضلون من فضله الله.
فالمسلمون لا يتعصبون لمحمد – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم ينقلون ما خصه الله تعالى به، وعندما يذكرونه بالفضل فما ذلك إلا لأن الله تعالى هو الذي فضله وخصه بما لم يخص به أحدا من خلقه: لا من الرسل ولا من الملائكة ولا غيرهم، والله سبحانه وتعالى – يقول عن أنبيائه: )قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون (59)( (النمل)، وقال سبحانه وتعالى: )سلام على نوح في العالمين (79)( (الصافات)، وقال سبحانه وتعالى: )فتوكل على الله إنك على الحق المبين (79)( (النمل)، وقال سبحانه وتعالى: )وسلام على المرسلين (181)( (الصافات). فاكتفى سبحانه بالسلام على المرسلين فقط.
أما عن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد قال الله – سبحانه وتعالى – في حقه: )إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)( (الأحزاب)، والمسلمون لم يغيروا ولم يعدلوا، ولم يزيدوا ولم ينقصوا عما شرعه الله عز وجل.
وعليه فهم حينما يقولون عن أي نبي غير محمد: عليه السلام، وحينما يقولون عنه: صلى الله عليه وسلم، إنما يمتثلون لأمر الله تعالى لهم. والنبي – صلى الله عليه وسلم – جدير بكل تكريم، وأهل لكل تفضيل، فمن مثله جاهد؟ ومن تحمل من الأعباء مثلما تحمل؟ ومن خاطب الأمم كلها كما خاطب؟ ومن عم خيره ونفعه العالمين مثله؟ ومن أحدث تحولا في البشرية كلها كما فعل؟
فإذا نال النبي – صلى الله عليه وسلم – من ربه من الفضل ما لم ينله غيره؛ فلأنه كلف بما لم يكلف به غيره، أو تجمل بالأخلاق الجامعة بما تفرق في غيره، ثم إن الله – عز وجل – وضعه أمام مسئولياته، وسأله عن كل ما كلفه به، وهكذا فما من تشريف، إلا وهو مصحوب بتكليف.
الخلاصة:
- الإيمان بالرسل جميعا واجب على المسلم؛ إذ لا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان بهم جميعا بدون تفرقة، فمن آمن ببعضهم وكفر ببعضهم، فقد كفر بالله – عز وجل – ومن آمن بهم جميعا إلا عيسى، أو موسى، أو محمد – صلى الله عليه وسلم – فهو كافر أيضا، وأما التفضيل في قوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( فهذا التفضيل خاص بالله – سبحانه وتعالى – وليس لنا – نحن البشر – أن نفرق بينهم، إنما الواجب علينا أن نؤمن بهم جميعا، لا نفرق بين أحد منهم.
المسلمون لا يتعصبون لمحمد – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم ينقلون ما خصه الله – عز وجل – به، وعندما يذكرونه بالفضل، فما ذلك إلا لأن الله – عز وجل – هو الذي فضله وخصه، بما لم يخص به أحدا من خلقه، لا من الرسل ولا من الملائكة ولا غيرهم، والله – سبحانه وتعالى – قال عن أنبيائه: )قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى( (النمل: ٥٩)، وقال عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)( (الأحزاب).
(*) بين الدين والحياة في رحلة قطار، د. عبد الحليم حفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م.
[1]. لا يأتيه الباطل، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1428 هـ/ 2007م، ص122.
[2]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص18 بتصرف.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ) وإن يونس لمن المرسلين (139) ( (الصافات) (3233)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام (6300).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب المساجد، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد (449)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه (1237).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ) وهل أتاك حديث موسى (9) ( (طه) (3215)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر يونس عليه السلام (6310).
[6]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2006م، ص48.
[7]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2006م، ص49، 50.
[8]. الذر: هو صغار النمل.
[9]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/ 257) برقم (8001)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1780).