ادعاء رد صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص “الصادقة”
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن لصحيفة عبد الله بن عمرو مكانة عظيمة عند علماء الحديث، وقد أثنوا عليها وأشادوا بها، واعتبروها أصدق وثيقة تاريخية تثبت تدوين الحديث وكتابته في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – واعتمدوا تسميتها بالصادقة.
2) إن عمرو بن شعيب – راوي هذه الصحيفة – ثقة، وثقه معظم الحفاظ وأئمة الحديث، مثل أحمد بن حنبل، وعلي ابن المديني، والحميدي، وإسحاق ابن راهويه، والبخاري وغيرهم. وإنما كان اختلاف العلماء فيه لروايته عن أبيه عن جده، وهو طريق في حقيقته حسن مقبول.
3) إن العلماء الذين طعنوا في الصحيفة، يحمل طعنهم فيها على أنها جاءت عن طريق الوجادة[1] لا عن طريق السماع، وكانوا لا يعتبرون إلا الحديث الذي جاء مشافهة، ولا يعجبهم الحديث الذي ينقل كتابة، وهذا الكلام محل نظر، فإذا صح اتصال سند الصحيفة فهي بذلك جاءت عن طريق السماع، أو بعضها سماع وبعضها وجادة. وهذا من شأنه أن يثبت صحة الصحيفة لا يضعفها.
4) إن الصحابي الجليل “عبد الله بن عمرو” وهو الحبر العلامة، لا يمكن اتهامه بالكذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – وتدليس أحاديثه، وقد ثبتت أمانته، وثقته في نقله وروايته، إذ إن كل الصحابة عدول.
التفصيل:
أولا. صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص لها مكانة عظيمة عند العلماء:
إن صحيفة الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص من أشهر الصحف المكتوبة في العصر النبوي، وقد كتبها – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مباشرة، وصرح بهذا كما جاء عن طاوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: “الصادقة صحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”[2].
وهنا تكمن أهمية هذه الصحيفة؛ فهي أصدق وثيقة تاريخية تثبت كتابة الحديث على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – ويزيدنا اطمئنانا إلي صحة هذه الوثيقة أنها كانت نتيجة طبيعية محتومة لفتوى النبي – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن عمرو وإرشاده الحكيم له؛ فقد جاء عبد الله يستفتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شأن الكتابة بعد أن اعترض عليه الصحابة – رضي الله عنهم – في كتابته عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الرضا والغضب، فأقره النبي على ذلك ولم يمنعه عن الكتابة، فقد روى الإمام أحمد من طريق الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في الغضب والرضا! فأمسكت حتى ذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج منه إلا الحق»[3].
ويمكن القول: إن عبد الله بن عمرو قد أخذ في كتابة الأحاديث بعد هذه الفتوى الصريحة من الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وتلك الصحيفة الصادقة كانت ثمرة هذه الفتوى[4].
وهكذا، فقد سمح النبي – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – بكتابة الحديث؛ لأنه كان كاتبا محسنا، فكتب عنه الكثير، واشتهرت صحيفة عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – بالصحيفة الصادقة كما أراد كاتبها أن يسميها؛ لأنه كتبها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهي أصدق ما يروي عنه”[5].
وهكذا كان أمر الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو في صحيفته، فقد كتبها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان يعتز بها جدا، وظل محافظا عليها حتى موته، وسماها بالصادقة، لمدى توثيق وصدق ما جاء فيها؛ لأنه سمعها من النبي – صلى الله عليه وسلم – مباشرة، ومما يبين حفاظ عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – على هذه الصحيفة: ما جاء عن مجاهد بن جبر أنه قال: «أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة من تحت مفرشه، فمنعني، قلت: ما كنت تمنعني شيئا، قال: هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليس بيني وبينه أحد؛ إذا سلمت لي هذه وكتاب الله – سبحانه وتعالى – والوهط، فما أبالي ما كانت عليه الدنيا»[6].
وهكذا يتبين لنا مدى حرص هذا الصحابي الجليل على هذه الصحيفة، ومدى اعتزازه بها، والمحافظة عليها، ومنع الآخرين من التدخل فيها، وجعلها مع كتاب الله والوهط؛ وهي أرض كان يقوم عليها وتصدق بها، مما يرغبه في الحياة.
ومما يشهد لعبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – بكتابة هذه الصحيفة وغيرها من فم النبي – صلى الله عليه وسلم – قول الصحابي الجليل أبي هريرة: «ما من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب»[7].
وعلى هذا فقد اعتبر العلماء هذه الصحيفة من أهم الوثائق العلمية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأوثقها في هذا العصر، فقد كتبها الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – عنه مباشرة، ليس بينه وبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أحد، وقد أخبر بنفسه عن هذا كما سبق أن أشرنا.
كما أنهم اعتمدوا تسميتها بالصادقة، واشتهر هذا المسمى بينهم كما أراده كاتبها نفسه، لما فيها من توثيق كبير، وصدق متناه في الدقة في جمع هذه الأحاديث وتدوينها في هذه الصحيفة، فكأنها أصدق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. عمرو بن شعيب – راوي صحيفة عبد الله بن عمرو – ثقة عند العلماء، وطريق روايته عن أبيه عن جده حسن مقبول:
دار خلاف بين أئمة الجرح والتعديل حول رواية “عمرو بن شعيب”؛ فهناك من وهن حديثه، وهناك من وثقه واحتج به، وكان لهم أقوال مختلفة في روايته عن أبيه عن جده، وهو الطريق الذي جاءت به صحيفة عبد الله بن عمرو.
إلا أن هذه الخلافات في نهايتها لا تطيح برواية عمرو بن شعيب مطلقا، ولا تجعله في مصاف الضعفاء، وإنما ترتفع به إلى درجة الحسن المقبول، إذا لم ترتفع به إلى درجة الصحيح.
وقد رد الحافظ الذهبي في “ميزان الاعتدال” على كثير من الاعتراضات التي تدور حوله، وعلى بعض المآخذ التي أخذها العلماء عليه، وذكر أن كثيرا من العلماء وثقوه، فقال: “ووثقه ابن معين، وابن راهويه، وصالح جزرة، وقال الأوزاعي: ما رأيت قرشيا أكمل من عمرو بن شعيب”[8].
كما أن الإمام البخاري في تاريخه يؤكد على توثيق عمرو بن شعيب، وأن هناك من العلماء الثقات من يحتجون بحديثه، فيقول: “كان قتادة وعمرو بن شعيب لا يعاب علهيما شيء إلا أنهما كانا لا يسمعان شيئا إلا حدثا به، ورأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد الله المديني، والحميدي، وإسحاق بن إبراهيم، يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه”[9].
وعلى هذا نجد أن كثيرا من العلماء الثقات قد اعتبروه ثقة حجة، واحتجوا بروايته عن أبيه، وعلى هذا فإن الطعن في عمرو بن شعيب نفسه غير مقبول لدينا، وإنما هو ثقة روى عنه جمع كبير من الأئمة الثقات.
ومما يؤكد ذلك ما جاء في “ميزان الاعتدال”، قال الذهبي: “وقال أبو حاتم: سألت يحيى بن معين عن عمرو بن شعيب، فقال: ما شأنه؟ وغضب، وقال: ما أقول فيه! قد روى عنه الأئمة”[10].
ولعل السبب في الخلاف الشاجر بين المحدثين وعلماء الجرح والتعديل حول عمرو بن شعيب يرجع إلى رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهل تحقق سماعه عن جده فعلا؟ ومن المقصود بجده هنا؟ هل جده الأقرب”محمد” وهذا لم يوثقه أحد، أم جده الأكبر “عبد الله بن عمرو”؟ بالإضافة إلى أنه كان يروي عن الصحيفة التي وجدها عن أبيه.
كل هذه الاستفسارات والإشكاليات جعلت علماء الحديث تأتي أحكامهم مختلفة فيه، فمن تحقق له أن المقصود جده الأكبر وثقه واحتج به، ومن اعتبر غير ذلك جعله مدلسا، وجعل حديثه مقطوعا ومرسلا.
وذلك كما قال أبو زرعة الرازي: “إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده، وقالوا: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها”[11].
وكذلك قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: “إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتاب، ومن هنا جاء ضعفه، وإذ حدث عن سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار، أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء”[12].
ومما يبين هذا الخلاف – أيضا – ما يقوله الحافظ ابن حجر العسقلاني، يقول: “قلت: عمرو بن شعيب ضعفه ناس مطلقا، ووثقه الجمهور، وضعف بعضهم روايته عن أبيه عن جده حسب، ومن ضعفه مطلقا فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ “عن”، فإذا قال: حدثني أبي فلا ريب في صحتها… وأما رواية أبيه عن جده فإنما يعني به الجد الأعلى عبد الله بن عمرو، لا محمد بن عبد الله، وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله في أماكن، وصح سماعه منه كما تقدم”[13].
هنا يبين لنا العلامة ابن حجر سبب خلاف العلماء حول عمرو بن شعيب أنه راجع لروايته عن أبيه عن جده، التي يحتمل فيها الانقطاع، ولا يثبت فيها السماع، فإذا قصدنا هنا بالجد الأكبر وهو الصحابي “عبد الله بن عمرو” رضي الله عنهما فهنا تقبل روايته؛ لأن ” شعيبا” سمع من جده ” عبد الله بن عمرو” رضي الله عنهما.
فأخرج الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا عبد الله حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أيما امرأة نكحت على صداق، أو حباء،[14] أو عدة، قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه…»[15].
وهذا حديث إسناده صحيح، وأمثلة هذه الأحاديث كثيرة مما ثبت فيها تحديث شعيب عن جده عبد الله.
وأما محمد فلم يذكر له أي حديث يحدث به، إلا حديثين، ذكر ابن حجر أنه لا يعول عليهما، فثبت يقينا أن الجد هو عبد الله دوما.
قال الحافظ المزي: “ولم يذكر أحد منهم – أي علماء الحديث – أنه يروي عن أبيه محمد، ولم يذكر أحد لمحمد بن عبد الله (والد شعيب) ترجمة. فدل ذلك على أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيح متصل، إذا صح الإسناد إليه، وأن من ادعى فيه خلاف ذلك فدعواه مردودة حتى يأتي عليها بدليل صحيح يعارض ما ذكرناه”[16].
وفي ذلك يقول الذهبي: “وقد ذكر البخاري، وأبو داود، وغير واحد أنه – أي شعيب – سمع من جده، وفي حديث محمد بن عبيد الله، والدراوردي كلاهما عن عبيد الله بن عمر، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه: أنه سمع عبد الله بن عمرو يسأل عن محرم وقع على امرأته؛ ففي هذا الخبر أنه سمع من جده ومن ابن عباس وابن عمر، وصرح البخاري في ترجمة شعيب بأنه سمع من جده عبد الله؛ وهذا لا ريب فيه.
أما رواية شعيب عن أبيه محمد بن عبد الله، فما علمتها صحت؛ فإن محمدا قديم الوفاة، وكأنه مات شابا.
وقال ابن عدي: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة، إلا إذا روى عن أبيه، عن جده، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – يكون مرسلا؛ لأن جده عنده محمد بن عبد الله بن عمرو، ولا صحبة له.
قلت: هذا لا شيء؛ لأن شعيبا ثبت سماعه من عبد الله، وهو الذي رباه حتى قيل: إن محمدا مات في حياة أبيه عبد الله، فكفل شعيبا جده عبد الله، فإذا قال: عن أبيه، ثم قال عن جده، فإنما يريد بالضمير في جده أنه عائد إلى شعيب”[17].
مما يؤكد هذا القول ما ذكره الحاكم في المستدرك، قال: “قد أكثرت في هذا الكتاب الحجج في تصحيح روايات عمرو بن شعيب إذا كان الراوي عنه ثقة… وكنت أطلب الحجة الظاهرة في سماع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو، فلم أصل إليها إلا هذا الوقت.
ثم ساق بسنده من طريق الدارقطني، عن عبد الله بن عمرو، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، ما يدل على صحة سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. وذلك في قصة الرجل الذي جاء إلى عبد الله بن عمرو، يسأله عن محرم وقع بامرأة؟ فأشار عبد الله بن عمرو إلى ابن عمر، وابن عباس، فذهب الرجل يسألهما، ومعه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، يدله عليهما. فذكر الحديث.
ثم قال الحاكم: هذا حديث رواته ثقات حفاظ، وهو كالأخذ باليد في صحة سماع شعيب بن محمد من جده عبد الله بن عمرو”[18].
نخلص من هذا التفصيل في توثيق عمرو بن شعيب، وفي الحديث حول روايته عن أبيه عن جده إلى أن عمرو بن شعيب ثقة، صدوق؛ كما جاء في “تقريب التهذيب” أن “عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص صدوق، من الخامسة مات سنة ثماني عشرة ومائة”[19]؛ وهو بذلك تقبل روايته ولا يمكن القول بضعفه مطلقا، ثم طريق روايته عن أبيه عن جده – إذا اعتبرنا كلام الذهبي وابن حجر في ذلك – فهو طريق مستقيم، متصل، صحيح مقبول، لا انقطاع فيه ولا إرسال، وهو بهذا مقبول لا غبار عليه، وإن لم يكن في أعلى أقسام الصحيح فهو من قبيل الحسن.
ثالثا. الطعن في الصحيفة لأنها جاءت عن طريق الوجادة لا عن طريق السماع فيه نظر:
مر بنا آنفا في ثنايا الكلام أن هناك من العلماء من أخذ على “عمرو بن شعيب” روايته عن الصحيفة، وترددوا في الاحتجاج به لذلك، وقالوا: إن ما جاء من طريقه عن أبيه عن جده فهو كتاب غير مقبول عندهم، وكان مرد ذلك إلى أن علماء الحديث – طيب الله ثراهم أجمعين – كانوا لا يعتبرون إلا الحديث الذي يؤخذ مشافهة، أما الحديث الذي ينقل كتابة فلم يكن يعجبهم رغم الثقة التي حازها فيما بعد عند المتأخرين[20].
من هنا يتبين أن طعن علماء الحديث في صحيفة عبد الله بن عمرو أنها رويت عن طريق الوجادة، لا عن طريق السماع، وإنما كان دليلهم على ذلك أنها جاءت من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإذا كانت الهاء في جده عائدة على عمرو، فجده محمد بن عمرو، وهذا تابعي ولم يلق النبي – صلى الله عليه وسلم – وبهذا يكون الحديث مرسلا، أما إذا قصد جده الأعلى، فإن شعيبا لم يلق عبد الله فيكون الخبر منقطعا، وفي الحالتين كلتيهما تكون الرواية ضعيفة.
هذا خلاصة ما قلناه آنفا، وما خرجنا به من قول الذين طعنوا في هذه الصحيفة.
وقد فندنا طرفا من هذا الطعن فيما سبق، فقد ثبت لدينا سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – وروايته عنه، ونقل ذلك كثير من العلماء الحفاظ مثل البخاري وأبي داود من المتقدمين، وابن حجر والذهبي من المتأخرين، كما سبق أن أشرنا، إذن فالسند متصل، والسماع محقق، ولا شك أن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – الذي حافظ على هذه الصحيفة واعتنى بها أشد العناية – قد روى ما فيها لحفيده – شعيب – وحفظه إياها، وقد روى عنه ولده “عمرو بن شعيب”، وبهذا تكون روايته الصحيفة عن طريق السماع لا الوجادة، أو على الأقل بعضها سماع، وبعضها وجادة.
وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: “وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن جده، وقالوا: هي نسخة. وشعيب؛ هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص – وقالوا: عن جده الأدنى محمد: فهو مرسل؛ فإنه لم يدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – وإن عنى جده الأعلى فهو منقطع، فإن شعيبا لم يدركه، وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح النقل إليه، مثل مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، قالوا: الجد هو عبد الله، فإنه يجيء مسمى، ومحمد أدركه، قالوا: وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – كان هذا آكد لها وأدل على صحتها؛ ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب من الأحاديث الفقهية التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء المسلمين”[21].
ولا يسعنا بعد هذا إلا أن نقطع بأن رواية الصحيفة من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواية صحيحة مقبولة لا غبار عليها، وكون عمرو بن شعيب سمع بعضها وأخذ بعضها وجادة، وهي أحد طرق تحمل الحديث وأخذه، فإن هذا يؤكد صحة الصحيفة ويثبتها ولا يطعن فيها، ومما يؤكد ذلك قول الحافظ ابن حجر في “تهذيب التهذيب”: “فإذا شهد له ابن معين أن أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل، والله أعلم”[22].
في خاتمة القول لا نقول أكثر مما قاله الذهبي من قبل، قال: “قد أجبنا عن روايته عن أبيه عن جده، بأنها ليست بمرسلة ولا منقطعة، أما كونها وجادة، أو بعضها سماع وبعضها وجادة، فهذا محل نظر، ولسنا نقول: إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح بل هو من قبيل الحسن”[23].
رابعا. سماع عبد الله بن عمرو بن العاص لأحاديث الصحيفة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإقرار النبي له في كتابتها:
لا يتوقف طعن الحاقدين الحاسدين عند حد، ولا يذعنون لحقيقة ولا ينذرهم نذير، بل امتد طعنهم الأثيم ليمس أشرف وأعظم جيل في البشرية كلها؛ ألا وهو جيل الصحابة، وهم من هم؟! أخلص الناس قلوبا، وأعظمهم وفاء، وأصدقهم لسانا، وأقواهم عزيمة، وأنقاهم نفسا، وأكثرهم تورعا.
وتتمثل طعون هؤلاء في أن صحيفة عبد الله بن عمرو التي تروى عنه، لا تضم أحاديث للنبي – صلى الله عليه وسلم – وإنما هي كتابات ظفر بها هذا الصحابي من أهل الكتاب، وادعى سماعها من الرسول وكتابتها عنه.
إن ما ذكرناه من قبل في شأن هذه الصحيفة، وثناء العلماء عليها، وإشادتهم بها، وبيان أنها أوثق وثيقة تاريخية تثبت كتابة الحديث على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما يساند ذلك من قول الصحابي الجليل أبي هريرة عن كتابة عبد الله بن عمرو للحديث، وكان بذلك أكثر رواية منه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما جاء عن عبد الله بن عمرو من حفاظه الشديد على هذه الصحيفة، وجعلها مع القرآن الكريم والوهط مما يرغبه في الدنيا، كل هذه الأدلة تؤكد لدينا أن هذه الصحيفة كتبها الصحابي الجليل من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعلا، وقد أجازه النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك.
وغاية ما يقال في هذا الطعن أنه طعن باطل، لا دليل عليه، وحجته عرجاء لا أصل لها، “فقد ثبت أن عبد الله بن عمرو كان أمينا في نقله وروايته، لا يحيل ما روى عن النبي على أهل الكتاب، كما لا يحيل ما روى عن أهل الكتاب على النبي – صلى الله عليه وسلم – ويكفي عبد الله بن عمرو فخرا أنه كان أول من دون الحديث بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بإذنه وفي مختلف أحواله، في الغضب والرضا”[24].
إن الأمانة العظمى والعناية الإلهية الكبرى التي حفت الصحابة جميعا في ظاهر أمرهم وباطنه، من شأنها أن تمنع ادعاء مثل هذا، فكيف لصحابي جليل مثل عبد الله بن عمرو أن يدعي – كذبا – نسبة أحاديث لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنه سمعها منه، وهي في الأصل كتابات من أهل الكتاب؟! هذا لا يمكن لعاقل يقدر للصحابة قدرهم، ويعرف لهم مكانتهم ويقرأ تاريخهم أن يقول مثل هذا القول.
ثم أين هذه الإسرائيليات التي في الصحيفة؟ وقد قال فيها الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب من الأحاديث الفقهية التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام”[25].
هذا ما جاءت به صحيفة عبد الله بن عمرو في حقيقة أمرها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد جاءت بالأحاديث الفقهية التي جاءت بمقدرات احتاج إليها عامة علماء الإسلام.
ولا يسعنا في ختام القول إلا أن نقول: إن الحق أبلج والباطل لجلج، وتبقى صحيفة الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – صحيحة السند، جيدة المتن، لا يتخلل إليها طعن، ولا تنفذ إليها دعوى، وتبقى عدالة الصحابة رغم كل كيد عدو، ويحفظ الله دينه، وتبقى سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – مصونة عن كل كذب، ومحفوظة عن أي تدليس.
الخلاصة:
- إن صحيفة عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – لها أهمية عظيمة ومكانة رفيعة عند العلماء والمحدثين، فهي أول وثيقة تاريخية تثبت كتابة الحديث وتدوينه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
- إن هذه الصحيفة سميت بالصادقة؛ لصدق ما جاء بها، ولأنها جاءت مباشرة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دون واسطة، فقد سمعها عبد الله من فم النبي صلى الله عليه وسلم.
- إن عمرو بن شعيب راوي هذه الصحيفة ثقة عند أغلب أئمة الحديث، واختلاف العلماء في توثيقه راجع لاختلافهم حول صحة روايته عن أبيه عن جده، وهذا لا يطعن في روايته، أو يجعله في مصاف الضعفاء فإن لم يصل به إلى درجة الصحيح، فهو من باب الحسن المقبول.
- إن طريق رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده طريق متصل صحيح، لا مقطوع ولا مرسل، والهاء في “جده” هنا عائدة على شعيب، وقد ثبت سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – وثبت سماع عمرو من أبيه شعيب، وبهذا يكون الطريق متصلا، ويكون إسناد الصحيفة صحيحا.
- إن العلماء الذين طعنوا في الصحيفة مثل “الضبي” يحمل طعنهم فيها على أنها جاءت عن طريق الوجادة، ورواية الحديث كتابة لا تعجبهم، وهذا – أيضا – فيه نظر، فإذا ثبت لدينا اتصال السند؛ فالسماع محقق، وبهذا فعلى الأقل أن هذه الصحيفة روي بعضها سماعا وبعضها وجادة، وهذا يؤكد صحتها لا ضعفها.
- قد ثبت لدينا ثناء العلماء على هذه الصحيفة، واعترافهم بفضلها في تدوين السنة، وبهذا فقد سمعها الصحابي عبد الله بن عمرو عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحافظ عليها، وقال الإمام ابن تيمية: إنها جاءت بالأحاديث الفقهية التي فيها مقدرات مما احتاج إليه عامة علماء الإسلام، وبهذا يبطل دعوى أنها من عند أهل الكتاب، كما أن عدالة الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو، وثقته المتناهية، وأمانته في نقله، تفند هذا الكلام؛ فيذهب قول المدعين الطاعنين أدراج الرياح.
(*) الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، محمد حمزة، المركز الثقافي العربي، المملكة المغربية، ط1، 2005م.
[1]. الوجادة: أن يجد المرء حديثا، أو كتابا بخط شخص، بإسناده إلى نفسه، فيحدث به ولم يلقه، أو لقيه ولم يسمع منه ذلك الذي وجده. والوجادة الجيدة التي يطمئن إليها الناظر لا تقل في الثقة عن الإجازة بأنواعها. انظر: الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، مصر، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص107.
[2]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974، ص84.
[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، (11/ 56)، رقم (6802). وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[4]. علوم الحديث ومصطلحه، د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط17، 1988م، ص27، 28 بتصرف.
[5]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص348.
[6]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974، ص84.
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 249)، رقم (113).
[8]. ميزان الاعتدال، الحافظ الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 263).
[9]. التاريخ الكبير، الحافظ أبو عبد الله إسماعيل البخاري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، د. ت، (7/ 342، 343).
[10]. ميزان الاعتدال، الحافظ الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 264).
[11]. ميزان الاعتدال، الحافظ الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 264).
[12]. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، دمشق، ط1، 1404هـ/ 1984م، (8/ 44).
[13]. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، دمشق، ط1، 1404هـ/ 1984م، (8/ 45، 46).
[14]. الحباء: العطاء.
[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، (10/ 178)، رقم (6709). وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[16]. تهذيب الكمال، أبو الحجاج المزي، تحقيق: بشار معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1415هـ/ 1994م، (12/ 536).
[17]. ميزان الاعتدال، الحافظ الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 266).
[18]. المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ/ 1990م، (2/ 74).
[19]. تقريب التهذيب، الحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني، دار العاصمة، السعودية، ط1، 1416هـ، ص738.
[20]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص350 بتصرف.
[21]. مجموع الفتاوى، تقي الدين أحمد ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (18/ 8).
[22]. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، دمشق، ط1، 1404هـ/ 1984م، (8/ 48).
[23]. ميزان الاعتدال، الحافظ الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 268).
[24]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص351، 352.
[25]. مجموع الفتاوى، تقي الدين ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (18/ 8).