ادعاء طمع داود – عليه السلام – في زوجة قائد جيشه، والتآمر على قتله
وجوه إبطال الشبهة:
1) ألصقت التوراة بداود – عليه السلام – نقائص يأبى كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها، فكيف يأتيها نبي اصطفاه ربه واختاره ليصلح به المفسد؟!
2) الآيات التي سبقت قصة الخصمين اللذين تسورا المحراب، والآيات اللاحقة لها، تقضي لداود – عليه السلام – بالبراءة مما نسب إليه مما لا يليق بنبي من أنبياء الله عز وجل.
3) لم يرد حديث صحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجب اتباعه فيما نسب إلى داود – عليه السلام – من التآمر لقتل قائد جيشه والظفر بزوجته.
التفصيل:
أولا. ألصقت التوراة بداود – عليه السلام – نقائص يأبي كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها، فكيف يرتكبها نبي اصطفاه ربه واختاره؟!
من أجل الأعمال وأعظمها مثوبة عند الله الجهاد في سبيله والقتال لإعلاء كلمته، ولا أقل من أن يكافأ المجاهد – الذي باع نفسه لله – بتوفير الأمن لأهله، والحفاظ على عرضه. ولكن العهد القديم ينسب إلى داود – عليه السلام – أنه لم يراع أقل واجب نحو مجاهد مخلص لدينه وأمته، بل جازاه بالتي هي أسوأ، حيث خانه في عرضه، واعتدى على شرفه؛ ولم يكتف بذلك، بل كاد له ليقتل من أجل الظفر بامرأته، والاستيلاء على زوجته.
من يقرأ القصة التي أوردتها التوراة عن سيدنا داود وقائد جيشه نجد أنها تلصق بداود – عليه السلام – عدة نقائص:
- النظر إلى امرأة غيره، فضلا عن كونه ينظر إليها وهي عارية.
- حسد زوجها عليها.
- الزنا بها.
- سقي زوجها خمرا.
- التسبب في قتله، وقتل بعض الجنود معه.
وهذه الذنوب يأبى كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها، فما بالك بها جميعا إذا صدرت من نبي اصطفاه ربه واختاره ليصلح به المفسد، ويقوم به المعوج، إن هذا غير معقول!! كما أنه ليس من المعقول كذلك أن يكون العقاب الذي عاقب به الرب داود – عليه السلام – كما أوردت التوراة – هو تسليط أبشالوم بن داود على نساء أبيه يزني بهن، ويهتك أعراضهن علانية أمام جميع بني إسرائيل كما زعم ذلك سفر صموئيل الثاني: “فقال ناثان لداود: «أنت هو الرجل! هكذا قال الرب إله إسرائيل: أنا مسحتك ملكا على إسرائيل وأنقذتك من يد شاول، وأعطيتك بيت سيدك ونساء سيدك في حضنك، وأعطيتك بيت إسرائيل ويهوذا. وإن كان ذلك قليلا، كنت أزيد لك كذا وكذا. لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه؟ قد قتلت أوريا الحثي بالسيف، وأخذت امرأته لك امرأة، وإياه قتلت بسيف بني عمون. والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد، لأنك احتقرتني وأخذت امرأة أوريا الحثي لتكون لك امرأة. هكذا قال الرب: هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك، فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس. لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس». فقال داود لناثان: «قد أخطأت إلى الرب». فقال ناثان لداود: «الرب أيضا قد نقل عنك خطيتك. لا تموت. غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون، فالابن المولود لك يموت»”. (صموئيل الثاني 12: 7 – 14).
بيد أن السؤال المطروح الآن على أولئك المؤمنين بهذا الكتاب المقدس هو: ما عقوبة الزاني عندكم؟ أليس هو الرجم؟ يقول الكتاب المقدس: “وإذا زنى رجل مع امرأة، فإذا زنى مع امرأة قريبه، فإنه يقتل الزاني والزانية. وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه، فقد كشف عورة أبيه. إنهما يقتلان كلاهما. دمهما عليهما”. (اللاويين 20: 10 – 12)، ولماذا لم ينفذ هذا الحد فيه لو صح وقوع هذه الجريمة منه؟ ومن ثم فعدم تطبيق حد الفحشاء على سيدنا داود – عليه السلام – وحاشاه ذلك – دليل على كذب دعواهم وبطلان افترائهم.
ولذا فإن ما ينسب إلى داود – عليه السلام – كذب وافتراء، إذ لا يليق بنبي من أنبياء الله أن يطمع في امرأة متزوجة، ويتحايل في ضمها إلى ما عنده من نساء، لا شك أن داود – عليه السلام – يستحي من ربه أن يراه طامعا في امرأة متزوجة، ويستحي من الناس أيضا أن يجدوا نبيهم الذي يدعوهم إلى القناعة وملكهم الذي يزجرهم عن الاعتداء على حقوق الآخرين غير قنوع وغير مراع حقوق غيره. ومعلوم أن الله – عز وجل – ملأ قلوب الأنبياء – عليهم السلام – غنى وقناعة بما عندهم[1].
ثانيا. الآيات السابقة واللاحقة لقصة الخصمين تقضي لداود – عليه السلام – بالبراءة مما نسب إليه:
وذلك من عدة أوجه هي:
- أنه قبل ذكر نبأ الخصم أمر الله – عز وجل – نبينا محمدا – صلى الله عليه وسلم – أن يصبر على ما يفتريه عليه كفار مكة، وأن يقتدي بداود وغيره من الرسل في الصبر على مشاق تبليغ الدعوة: )اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17)( (ص). ولو أن داود – عليه السلام – ارتكب الكبائر ما أمر نبينا بالاقتداء به في الصبر؛ إذ كيف يقتدي في الصبر بمن لم يصبر – صلى الله عليه وسلم – عن المعصية؟!
- أنه لو صحت هذه الحادثة يكون داود – عليه السلام – باحتياله على قتل أوريا قاتلا له، ولو كان هذا لندم داود واستغفر منه، والقرآن لم يحك له استغفارا من قتل أوريا. وإنما استغفاره – على فرض صحة هذه الحادثة – من الاستيلاء على زوجته، فهل يترك الاستغفار من الذنب الأشد، ويستغفر مما هو أقل منه؟!
- أن الله – عز وجل – مدح داود – عليه السلام – قبل ذكر الخصمين اللذين تسورا المحراب بأوصاف حميدة لا يتناسب معها صدور هذه المعصية منه، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )اصبـر على مـا يقولـون واذكـر عبدنـا داوود ذا الأيـد إنـه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)( (ص). ومن كان بهذه الصفات لا يجور على إنسان – مهما كان – ولا يهضم حقه.
- ما ذكر بعد قصة نبأ الخصمين يدل على براءة ساحة داود – عليه السلام – مما نسب إليه؛ إذ إن داود قال: )وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا( (ص: ٢٤)، فاستثنى الذين آمنوا من البغي، ولو كان مرتكبا ما ذكرته القصة لكان باغيا، فيلزم الحكم على نفسه بعدم الإيمان – أو نقصه – ولا يجوز هذا على نبي. وقال الله – عز وجل – في حقه أيضا: )وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)( (ص)، فهذا إنما يستقيم لمن يفعل المأمورات، ويجتنب المنهيات، أما من يسعى في قتل غيره والعدوان عليه في زوجته، فلا يستحق القربى وحسن المرجع في الجنة؛ إذ كيف يبتعد عن الله بمعصيته ويزيده الله رفعة ومثوبة؟!
- قبل هذه القصة صفات مدح، وبعدها صفات مدح، فلو كانت تقتضي الذم؛ لاختلط المدح بالذم بطريقة لا تتفق وما عرف عن القرآن الكريم من حسن الترتيب، وروعة التنسيق.
ومن هذا يتضح بطلان القصة – على النحو السابق – ويتعين براءة داود – عليه السلام – مما نسب إليه فيها[2].
ثالثا. لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما نسب إلى داود – عليه السلام – حديث يجب اتباعه وتصديقه؛ ولذا لم يذكر هذه القصة أحد من أصحاب الكتب الستة:
لم يثبت في أي من كتب السنة الصحيحة خبر يؤكد هذه القصة المفتراة، أما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم فغير صحيح السند؛ لأن في إسناده ابن لـهيعة، ويزيد الرقاشي وكل منهما ضعيف؛ قال السيوطي: “القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس – رضي الله عنه – مرفوعا، وفي إسناده ابن لهيعة – وحاله معروف – عن ابن صخر عن يزيد الرقاشي، وهو ضعيف، وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا”.
وعلى هذا يكون من ذكرها من المفسرين إنما أخذها عن الإسرائيليات. قال ابن كثير: “قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل؛ فإن القرآن حق، وما تضمنه حق أيضا. وما ذكر موقوفا منها على بعض الصحابة – كابن عباس – فلا يستبعد – لو صح السند إليه – أنه أخذه عن التوراة، أو عمن حكى عنها”.
وجدير بالذكر أن اليهود يتعمدون هذا في حق داود رضي الله عنه؛ ليصلوا من ذلك إلى الطعن في عيسى عليه السلام؛ لأنه من ذريته. قال البقاعي في تفسيره: “وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود، وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام؛ لأن عيسى – عليه السلام – من ذريته؛ ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه”.
وعلى هذا فهذه القصة – على النحو السابق – لم ينص الله – عز وجل – في القرآن الكريم عليها، ولم ترد عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – في حديث صحيح ولا حسن، فهي – إذن – مـختلقة مفتراة للنيل من نبي الله داود – عز وجل – فلا يصح أن ننخدع بها، وإنما نتشدد على من يروجها ويشيعها كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال أبو السعود: “وأما ما يذكر من أن داود – عليه السلام – دخل ذات يوم محرابه… إلى آخر القصة – فإفك مبتدع مكروه، ومكر مـخترع مكروه، تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، ويل لمن ابتدعه وأشاعه، وتبا لمن اخترعه وأذاعه؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: من حدث بحديث داود – عليه السلام – على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين، وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم [3].
وأما من ناحية المضمون: فهذه القصة تضمنت نسبة هذه المعاصي الكبيرة إلى داود عليه السلام:
- نظره إلى زوجة رجل آخر بقصد سيئ.
- حسده الرجل على زوجته، والرغبة فيها لنفسه.
- الاحتيال لقتل زوجها حتى قتل بغير حق.
وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء من الكبائر، مما يحكم بالبطلان على أي قصة تتضمن وقوع كبيرة من أحدهم.
وتأسيسا على ما سبق نخلص إلى نتيجة مفادها أن داود – عليه السلام – بريء مما نسبه إليه اليهود من المعاصي والأفعال السيئة، والشواهد التي سبقت والأدلة العقلية كذلك خير من يبرئ ساحة هذا النبي النقي الأواب.
الخلاصة:
- ألصقت التوراة بداود عدة نقائص هي: النظر إلى امرأة غيره وهي عارية، وحسد زوجها عليها، والزنا بها، وسقاية زوجها خمرا، والتسبب في قتله، وقتل بعض الجنود معه، وهذه الذنوب يأبى كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها، فكيف يأتيها نبي اصطفاه ربه واختاره؛ ليصلح به المفسد ويقوم به المعوج؟!
- الآيات التي سبقت قصة الخصمين اللذين تسورا المحراب، من أمر النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يصبر على ما يفتريه عليه كفار مكة، وأن يقتدي بداود وغيره من الرسل في الصبر، تدل دلالة عقلية على كذب وافتراء القوم، وبطلان ادعائهم، وأن القرآن لم يحك له استغفارا من قتل أوريا، وأن الله – عز وجل – مدحه بصفات حميدة لا يتناسب معها صدور هذه المعاصي.
- لم ينص الله – عز وجل – في القرآن الكريم، ولم ترد عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – في حديث صحيح ولا حسن، قصة داود وامرأة أوريا، فهي – إذن – مختلقة للنيل من نبي الله داود عليه السلام، وهذه القصة تضمنت نسبة هذه المعاصي الكبيرة إلى داود عليه السلام، وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء من الكبائر.
(*) عصمة الأنبياء، الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1986م.
[1]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص214: 218 بتصرف.
[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص356، 357.
[3]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص353: 355.