ادعاء وصف الله تعالى بالمكر والخداع
وجه إبطال الشبهة:
هذه الأفعال أطلقها الله تعالى على نفسه على سبيل الجزاء العدل، والمقابلة، وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال، لكن لا يجوز أن يشتق منها أسماء ولا تطلق عليه – عز وجل – في غير ما سيقت له من آيات.
التفصيل:
لقد فهم البعض خطا الآيات التي توهم وصف الله تعالى بصفات نقص:
قال الله تعالى سبحانه وتعالى: )ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)( (الأنفال)، والمكر – في أصل معناه – هو نوع من الشجر، فروعه ملتفة بعضها حول بعض، بحيث لا تستطيع أن تنسب ورقة منها إلى أصلها من الفروع من كثرة الالتفاف والكثافة، والمكر من الرجل يعني المراوغة، والمكار هو الرجل الذي يراوغك في معاملتك، فأما إذا كانت مراوغته ليعلم حقيقة من الحقائق، فهي الحيلة، وليست المكر، كالقاضي الذي يكثر من الأسئلة على المتهم ليصل إلى الحقيقة، وإن كانت المراوغة بقصد الضرر فهي المكر، وإن كانت لغير الضرر فهي الحيلة: )ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله( (فاطر:43). إذن فهناك مكر حسن، ومكر سيئ.
وقد يكون المكر مدحا، كما أنه يكون ذما، فإن كان المكر في مقابلة من يمكر فهو مدح؛ لأنه يقتضي أنك أنت أقوى منه، وإن كان في غير ذلك فهو ذم ويسمى خيانة.
فالمكر يكون من الضعيف؛ لإخفاء نيته، فقد يظهر الحب وهو مبغض، ويريد أن يزين لك عملا ليمكر بك، فيزين لك مثلا أن تخرج معه إلى مكان ما، ويزين لك محاسن المكان؛ ليشجعك على الخروج إليه، ومن ثم تقع في الفخ الذي نصبه لك.
والقوي حين يظفر بخصمه، فمن الممكن أن يطلقه؛ لأن قوته تستطيع اللحاق به في أي وقت، أما الضعيف فحين يملك قويا فإنه يقول: هذه فرصة لا تتكرر، ولو لم يكن ضعيفا لواجه خصمه دون مراوغة ومكر.
ومن يمكر يظن أن من أمامه لا يستطيع أن يمكر، فإن علم منه العقل والذكاء لم يمكر عليه، وما دامت المسألة تبييتا، فمعناه أن تعلم شيئا يخفى على الغير، فإذا أراد خصوم المنهج الإلهي أن يمكروا، فعلى من يمكرون؟ هل على الرسول وحده في المعركة، أم على الله سبحانه وتعالى وهو القاهر فوق عباده: )والله يكتب ما يبيتون( (النساء: 81).
والله حين يبيت لهم شيئا، فلن يستطيعوا أن يكشفوه: )والله خير الماكرين (54)( (آل عمران)، وإذا جاء الوصف بهذه الصياغة في هذا السياق، فاعلم أنه جاء للمشاكلة، فما دام هذا مكرا وتبييتا منكم، فالله سبحانه وتعالى يمكن أن يفعل ما تفعلونه دون أن تفطنوا إليه.
وأسماء الله سبحانه وتعالى، توقيفية، فإذا وجدت فعلا من أفعال الله تعالى في القرآن فليس بالضرورة أن يشتق منه صفة له تعالى، ودع الفعل يقابل الفعل من أفعال البشر.
فحين يقول سبحانه وتعالى: )ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)( (الأنفال) أو يقول في المنافقين: )يخادعون الله وهو خادعهم( (النساء: 142)، فإياك أن تقول إن من أسماء الله تعالى الماكر، أو المخادع، فإذا رأيت فعلا من الله جاء في مقابلة فعل من البشر؛ ليدلهم على قصور أفعالهم، بالنسبة لأفعاله، فاعلم أنه جاء للمشاكلة فقط، ليدلهم على أنهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله ولا أن يمكروا به، لذا فلا يجوز أن نشتق منه وصفا، بل يظل الفعل فعلا كما هو.
وقوله تعالى: )خير الماكرين( أي أقواهم في المكر، وأنفذهم للكيد، وأقدرهم على إيصال الضرر.
والآيات الدالة على المكر هي: )ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54)( (آل عمران)، وقوله )ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50)( (النمل) وقوله: )ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)( (الأنفال)، وهذه الآيات نزلت طمأنينة للمؤمنين، ودفعا للمشركين والمنافقين واليهود، فالآية الأولى: نزلت لما اشتد مكر اليهود بعيسى – عليه السلام – حين أراد اليهود قتله أو صلبه، فألقى الله شبه عيسى على الرجل اليهودي الذي دلهم على مكان عيسى؛ فصلبوه ظنا منهم أنه عيسى، وقد رفع الله عيسى إليه، وطهره من رجسهم، وهذا مكر لا غضاضـة[1] فيــه: )ومكـروا ومكــر الله والله خيــر الماكريـــن (54)( (آل عمران).
الآية الثانية: فقد نزلت في التسعة من أهل مدينة سيدنا صالح – عليه السلام – الذين أرادوا أن يقتلوه ليلا، فإذا طلع النهار قالوا: ما شهدنا مهلك أهله، وخرجوا ليقتلوه، ولما كانوا بالطريق لجئوا إلى غار ينتظرونه فيه بالليل، فانطبق عليهم، فهلكوا، وصالح وأهله لم يمسهم سوء، )قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49)( (النمل).
والآية الثالثة: نزلت في تدبير المشركين لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – أو قتله أو إخراجه، فجاءهم إبليس في صورة رجل نجدي فقال لهم: انتخبوا عشرة شبان من قبائل قريش، وأعطوا كل واحد منهم سيفا، ثم ليعمدوا إلى بيت محمد – صلى الله عليه وسلم – فيضربوه ضربة رجل واحد، فيضيع دمه بين القبائل فلا تستطيع بنو هاشم أخذ ثأره، ويقبلون الدية، وتسلمون منه. فقالوا: نعم هذا الرأى! وأجمعوا على ذلك. فهم يمكرون، والله تعالى يمكر بهم، وهو خير الماكرين: )وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)( (الأنفال).
وقد تقدم أن هذه الأفعال هي فيما سيقت فيه مدح وكمال، لكن لا يجوز أن يشتق لله – عز وجل – منها أسماء، ولا تطلق عليه في غير ما سيقت فيه من آيات، منها: )ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54)( (آل عمران)، وقوله تعالى: )نسوا الله فنسيهم( (التوبة: 67)، وقوله: )الله يستهزئ بهم( (البقرة: 15)، فلا يجوز أن يطلق على الله – عز وجل – لفظ ماكر، أو ناس، أو مستهزئ، أو مخادع، أو نحو ذلك مما يتعالى الله عنه، فهذه الأسماء ليست ممدوحة مطلقا بل تمدح في موضع وتذم في آخر، فينبغي – لذلك – أن تقيد بمواضع ورودها في كتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة:
- المكر من العباد مراوغة وخداع للوصول إلى أهدافهم الخبيثة، وأما المكر من الله فهو من باب المشاكلة والمقابلة؛ ليكشف لهؤلاء المعاندين ضعفهم وقصورهم في التدبير والمكر.
- قد يكون المكر مدحا إذا كان من باب المقابلة والمشاكلة “الجزاء من جنس العمل”، وقد يكون ذما إذا كان من باب المراوغة لإلحاق الضرر بالآخرين، ومكر الله – عز وجل – من باب المشاكلة والمقابلة.
- وهذه الأفعال مقيدة بمواضع ورودها في سياقاتها، ولا يشتق منها لله – عز وجل – أسماء، فلا يقال: ماكر وناس ومخادع؛ إذا لم ينعت نفسه بذلك بإطلاق، بل ذلك مقيد في حقه على سبيل المقابلة لأفعال بعض عباده جزاء لهم.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات.
[1]. الغضاضة: العيب أو المنقصة.