استنكار وجود بعض الآيات المكية في السور المدنية والعكس
وجوه إبطال الشبهة:
1) وجود بعض الآيات المدنية في السور المكية، والعكس، لا ينال من وحدة القرآن؛ إذ إنه متسقة أجزاؤه، متناسب ترتيبه.
2) ترتيب الآيات والسور على هذا النحو أمر “توقيفي” إلهي، فعله المسلمون كما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
3) تصنيف الآيات إلى مكية ومدنية تصنيف تاريخي، اهتم به العلماء من أجل خدمة القرآن الكريم وعلومه.
التفصيل:
أولا. القرآن مرتب متناسق، وليس هناك ما ينافي وحدته:
لقد أقر بإعجاز القرآن وبلاغته العجم قبل العرب، فلا يملك المنصفون العقلاء وأصحاب الذوق الرفيع إلا أن يقروا بدقة القرآن واتساقه وإعجازه؛ لأن الناظر في القرآن إذا قرأه وهو لا يعلم أنه قد نزل منجما، ولا يعلم أن بعض سوره المكية تحوي آيات مدنية والعكس، لا يمكن أن يتوصل إلى أن القرآن نزل مفرقا منجما؛ لدقته وإحكامه فلا يجد فرقا بين السور التي نزلت جملة، والسور التي نزلت منجمة، من حيث إحكام الربط في كل منهما، ومن حيث نظام المبنى ودقة المعنى، وتمام الوحدة، وكذلك الأمر بالنسبة للآيات، بل إن من العلوم القرآنية الجليلة علما يسمى علم المناسبة، يوضح أن السور والآيات في القرآن بديعة في نظامها، متناسبة في ترتيبها، يأخذ بعضها برقاب بعض، مما لا يصح معه التقديم أو التأخير أو الإبدال.
القرآن الكريم كلام الله – عز وجل – نزل خطابا للناس كلهم في سائر العصور والقرون، لذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي أن يكون متعاليا في نظامه ومنهجه وأسلوبه عن التقليد والاتباع، وأن لا يأتي مصبوغا في ذلك بصبغة عصر دون غيره، إذ هو خطاب لهم جميعا، جيلا بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وبناء على ما سبق كانت الطريقة المثلى التي تقود الناس إلى أن يكونوا عبيدا لله بسلوكهم الاختياري، كما قد خلقوا عبيدا له بواقعهم الاضطراري – هي التي سلكها القرآن إلى عقول الناس ونفوسهم، وهي جذبهم إلى هذا المحور الكلي الذي تنزل القرآن من أجله، من خلال جميع ما يعرضه من البحوث والموضوعات المختلفة من تشريع وقصة وأمثلة ووعد ووعيد وغيرها، بحيث تكون هذه الموضوعات مذكرة للقارئ بالمحور الكلي جاذبة إليه، لا حاجزا يشغل عنه، وملهاة تصرف فكره عنه.
إن هذا الكتاب الرباني ليس كتابا في علم التشريع والقانون، ولا كتابا في علم التاريخ والقصص، ولا كتاب يعرف السماوات والأرض والأفلاك، وإنما هو تعريف للإنسان بهويته وذاته، وسمو به إلى النهوض بالوظيفة التي خلق من أجلها.
إن كل ما فيه من مسائل وموضوعات، إنما يدور على هذا المحور الكلي، لذا فهو عندما يذكر قصة لا يدعك تنسى، بل يمزجها بما ليس منها من نصح ووعظ، ووعد أو وعيد وتهديد، تحقيقا للغرض الذي من أجله تساق القصة. وهو عندما يبين لك أحكاما في العبادات والمعاملات ونحوها يسلك المنهج نفسه، فهو يمزج البيان الإلهي الخاص بالأحكام الشرعية بآيات أخرى تتضمن حديثا عن الآخرة أو دليلا عن قيومية الله ورقابته وما يتبع ذلك من وعد ووعيد؛ لينتبه الفكر إلى المحور الكلي الجامع، وليظل مستيقظا للحقيقة الكبرى التي تدور عليها سائر المعاني والموضوعات.
ولو أن القرآن اتبع في عرض موضوعاته هذا الذي يسلكه الناس اليوم في تأليفهم، فأفرد فصولا خاصة لعرض أحكام التشريع من عبادات ومعاملات، ثم أفرد فصولا خاصة للقصص، وأخرى للمغيبات وأحداث يوم القيامة، وهكذا…. إذن لفات السبيل إلى تحقيق هذا الذي نزل القرآن من أجله، ولما أمكن أن تكون هذه الفصول المتناثرة جامعا مشتركا للمحور الكلي الذي شاء الله أن تكون سائر موضوعات القرآن خادمة له، دائرة على تحقيقه[1].
وإذا كان الأمر كذلك فإن الآيات وضعت جنبا إلى جنب لخدمة الهدف الذي أراده الله، وجاءت الآيات في إحكام بديع وتناسق بليغ دون اضطراب أو اختلال، ولذا جاءت بعض الآيات المكية بجوار المدنية والعكس، كل لخدمة الهدف مع تحقق الدقة والنظم والتناسق.
ثانيا. ترتيب الآيات والسور توقيفي:
لقد رتبت آيات القرآن وسوره ترتيبا توقيفيا بأمر إلهي، قام المسلمون بعد موت الرسول – صلى الله عليه وسلم – بهذا العمل كما وجههم إليه، فقد اتفق العلماء على أن ترتيب آيات القرآن كان بتوقيف من النبي – صلى الله عليه وسلم – تلقاه من ربه – عز وجل – عن طريق الوحي، وقد حكى الإجماع في ذلك غير واحد من المحققين، كما ذكره الزركشي في “البرهان”، والسيوطي في “الإتقان” وغيرهما، ومن النصوص الدالة على ذلك:
- ما جاء عن ابن الزبير أنه قال: «قلت لعثمان رضي الله عنه: )والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234)( (البقرة) قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي، لا أغير شيئا منه من مكانه»[2].
- ومن النصوص الدالة على ذلك إجمالا ما ثبت من قراءته – صلى الله عليه وسلم – لسور عديدة، كسورة البقرة وآل عمران في الصلاة وغيرها بمسمع من الصحابة، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ على خلافه، فتواتر هذا الترتيب، وهذا هو الصحيح، فالله حافظ لكتابه كما وعد، وهو القادر على معاقبة العابثين.
ثالثا. فائدة هذا التصنيف والعلم به:
أما فيما يخص الآيات المكية والمدنية، فقد قام علماء المسلمين بتصنيف الآيات القرآنية تصنيفا علميا إلى آيات مكية ومدنية، حتى يتمكنوا من فهم القرآن وتفسيره على الوجه الصحيح؛ لأن معرفة مواضع النزول وأسبابه توضح المراد من الآيات بصورة جلية، ولكي يعرفوا الطرق التي سلكها القرآن في تنشئة الأمة، والخطوات التي خطاها في إقامة دولة الإسلام، ليكون في ذلك عبرة للقادة والدعاة، ومرجعا يرجعون إليه، ومنهاجا يسلكونه، ويسيرون على هديه، فهذا التصنيف إذن عمل بشري لا إلهي.
ومن هنا اختلف العلماء في المقياس المناسب لتصنيف الآيات، هل يكون مقياسا مكانيا بمعنى أن ما نزل في مكة فهو مكي، وما نزل بالمدينة فهو مدني؟ أم يكون مقياسا خطابيا، فما خاطب الناس يكون مكيا، وما خاطب المؤمنين يكون مدنيا؟ أم يكون مقياسا زمانيا، فما نزل قبل الهجرة مكي وإن نزل بالمدينة، وما نزل بعد الهجرة مدني وإن نزل بمكة، والمقياس الأخير هو الراجح لأسباب عديدة[3]، منها أنه طردي حاصر، لا يقع فيه الاستثناء كالمقاييس الأخرى، فهذا التقسيم يعود على الباحثين بالعديد من الفوائد مثل:
- تمييز الناسخ من المنسوخ، فيما لو وردت آيتان أو أكثر مختلفتان في الحكم، وعلمنا أن إحداهما مكية والأخرى مدنية، فإننا نحكم حينئذ بأن المدنية ناسخة للمكية لتأخرها عنها.
- معرفة تاريخ التشريع، والوقوف على سنة الله في التدرج بالأمة من الأصول إلى الفروع، ومن الأخف إلى الأثقل، وهذا يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الفرد والجماعة.
تفيد هذه الدراسة في الوقوف على الخصائص البلاغية لكل من المكي والمدني، والكشف عن ظواهرها المختلفة، ومقارنة بعض هذه الظواهر ببعض، والبحث عن مواضع الجمال في كل منهما من غير تفضيل ولا موازنة؛ لأن القرآن كله متساو في الفصاحة والبلاغة.
لهذا عني المسلمون عناية فائقة بتتبع ما نزل بمكة، وما نزل بالمدينة، بل عني بعضهم بتتبع جهات النزول في أماكنها وأوقاتها المختلفة، وبذلوا في ذلك جهودا مضنية، وفي ذلك دليل على سلامة القرآن من أي تحريف، فقد تلقاه الجمع الغفير من التابعين من الجمع الغفير من الصحابة عن طريق المشافهة والتلقين، وقد قال سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر).
الخلاصة:
- إن وجود بعض الآيات المدنية في السور المكية – والعكس – لا ينال من وحدة القرآن؛ إذ إنه متسقة أجزاؤه، متناسب ترتيبه، محكمة صياغته، فالسور والآيات في القرآن بديعة في نظامها، يأخذ بعضها برقاب بعض مما لا يصح معه التقديم أو التأخير أو الإبدال.
- انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذي نراه اليوم في المصاحف، كان بتوقيف من النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الله تعالى، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، بل كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها، ثم يقرؤها النبي – صلى الله عليه وسلم – على أصحابه، ويأمر كتاب الوحي بكتابتها، معينا لهم السورة التي تكون فيها الآية، وموضع الآية من هذه السورة.
- تقسيم القرآن إلى مكي ومدني تصنيف تاريخي قام به علماء المسلمين؛ وذلك للاستعانة به في تفسير القرآن، وتذوق أساليب القرآن والاستفادة منها في أسلوب الدعوة إلى الله، والوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية.
(*) موقع إذاعة صوت الغفران. www.arabic.radio.org
[1]. لا يأتيه الباطل، د. محمد سعيد البوطي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1428هـ / 2007م، ص27: 29 بتصرف.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة البقرة (4256).
[3]. انظر: دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1991م، ص48: 57.